روضة المستبين في شرح كتاب التلقين

ابن بزيزة

بسم الله الرحمن الرحيم عونك اللهم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الحمد لله الذي أوضح منهج الحق سبيلًا، وجعل العلم إلى معرفته دليلًا، وخصنا بخير المبعوث إلى الأسود والأبيض والأحمر نبيًا ورسولًا، فهدى سبحانه (ببعثته) المباركة الأنام، وطهر من دنس الشرك (الأنام) وأزاح الرسوم المعبودة بغير حق من الأحجار، والصلبان والنيران، والأصنام، وشرح لنا وأوضح الأحكام، وبين الحلال والحرام، (وهدى) سبحانه لاتباع هديه الأمم من أرضاه واختاره لصحبته، والإيمان بما جاء به من وفقه واجتباه، جعل شريعته ناسخة لجميع الشرائع والأديان، وأنواره باقية ببقاء الدهور والأزمان، صلى الله عليه وعلى آله ما تعاقبت الملوان، وشهد

بتوحيده كل عاقل من ملة وإنسان، وسلم عليه وعليهم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فقصدنا في هذا الكتاب الكلام على كتاب التلقين للقاضي الجليل أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي -رحمه الله-، واتباع مسائله، والتعرض لضوابطه، وتفسير مشكلاته على طريق الاختصار دون الإطالة والإكثار، إذ الإطالة مدعاة (العدة) والكسل، وقد شرحه أبو عبد الله المازري شرحًا في غاية الإتقان، محيط بكليات مسائل المذهب، منفسح الأغراض، فهو في الحقيقة كتاب مذهب لا كتاب شرح، وللقاضي على مشكلاته تعليق مختصر، وعلق عليه بعض أهل عصرنا. فجعلت هذا

الكتاب مرتبًا على مسائله قاصدًا بذلك وجه الله العظيم، وجاء ثوابه الجسيم، وسميته: ((روضة المستبين في شرح كتاب التلقين)) وهو سبحانه المسؤول في إقالة العثرات، والعفو عن الزلات، والمرجو أن ينفعنا بالعلم في (ظله) الظليل في المحشر، ويؤمننا به يوم الفزع الأكبر، ويتوجنا بتاجه يومئذ حيث لا تاج إلا تاج أهل طاعته، لا تاج كسرى ولا تاج قيصر، وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة قال القاضي الجليل أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي: ((كتاب الطهارة: الطهارة من الحدث فريضة واجبة على كل من لزمته الصلاة)) إلى قوله: ((والغسل فيما (عداهما))). شرح: الطهارة في اللغة هي النظافة والنزاهة، قال الله تعالى: {وثيابك فطر*} [المدثر: 4] والمراد تطهير القلب من دنس الشرك، والخطاب حينئذ للنبي- عليه السلام- والمراد غيره، أو الثياب من النجاسات على اختلاف أهل التأويل فيه. وهي في الشرع قسمان: عينية وحكمية.

ولما انقسم ظاهر الطهارة الشرعية إلى قسمين: طهارة حدث وهي الحكمية، وطهارة خبث وهي العينية، قيد عموم اللفظ وبين مقصوده، فخرجت طهارة الخبث بقوله: ((من الحدث)): وبقى اللفظ شاملًا لطهارة الحدثين الأكبر والأصغر. وقد طال كلام الشيوخ في قوله: ((فريضة واجبة)): وقد قصد به الترادف على معنى التوكيد، والتحرز من مذهب أبي حنيفة وأبي زيد،

حيث فرقا بين الواجب والفرض، فالفرض المقصود المدرك، والواجب ما كان مظنون المدرك، وهو اصطلاح محض إذ لا يلزم من اختلاف مدرك الشيء اختلاف الشيء في نفسه وعبر عنه بعض الحنفية فقال: الواجب مخصوص على ما أوجبته السنة، ولا يكفر المخالف فيه. والفرض هو الواجب بالكتاب الذي يكفر جاحده بغير ارتياب، فكل فرض عندهم واجب، وليس كل واجب فرضًا، والصحيح أنهما اشتركا في خصوصية الرجحان الذي هو فعل الواجب، فلا فرق. ونظير ذلك في الترادف أيضًا الفاسد والباطل وكلاهما بمعنى واحد في العبادات والمعاملات عندنا. وقد قال ابن فورك في تفسير القرآن: ((الفرض بجعل جاعل،

والواجب يطلق على الواجب بالأدلة لا بجعل جاعل)) فهذه مسألة أخرى في الفرق بينهما. ولذلك لما كان من ضرورة الواجب تعلقه بالمكلف، قال: ((على كل من لزمته الصلاة)): وهو المسلم البالغ العاقل، والتمكن من الأداء شرطه. وقد تفرق العبادة على ضربين، منها ما هو مراد لنفسه، ومنها ما هو مراد لغيره كالطهارة فتجب بوجوب ما تراد له، فلذلك قال: ((على كل من لزمته الصلاة))، ولم يقل: ((على كل عاقل)) لأن الصلاة يسقط أداؤها عن العاقل لمانع كالحيض، وإذا سقط المشروط سقط شرطه، فإذا وجب عليها أداء الصلاة وجب حينئذ تحصيل شرطها فحينئذ يتناولها كلام القاضي، وتحقق عليها معنى التكليف، فهي داخلة تحت عموم لفظه خارجة عنه، باعتبار حالين. وأيضًا هل يدخل تحت لفظه الصبي المأمور بالصلاة أم لا؟ لأن الصلاة وإن كانت غير لازمة، فشرطها عند فعلها واجب ضرورة فلا تقع شرعية إلا بتحصيل شرطها، فالشرط عليه واجب، وإن كان المشروط مندوبا. وقد خالف في هذا بعض المذاكرين، ورأى أن الطهارة في حقه ندب كالصلاة إذ لو ثبت في حقه الوجوب لستحق العقاب بتركه، فيلزم القول (بتكليفه) وهو خلاف الإجماع لقوله- صلى الله عليه وسلم-: (رفع القلم عن ثلاثة) فذكر

الصبي فيهم، فاعتبره بعضهم بحكم المشروط، وقال بالمثبوت فيهما في حقه، والامتناع عندنا أنه قد يجب الشرط، وإن كان المشروط غير واجب بدليل الطهارة لمس المصحف، والطواف على ما فيه من حق القائل أن يقول: إن الصبي مكلف بالصلاة بدليل لحوق العقاب الناجز له عند بلوغ العشر سيما أنه يوقعها بقصد العبادات، وصورة الطاعة لا على معنى العبث والعادة، وهو مقتضى الأمر، فإن قال: إنما الخطاب متوجه على الولي والحاكم، ولا يكون الأمر (امرًا) (قلنا): إن لم تكن الصلاة مطلوبة من الصبي فلا معنى لأمر الولي إياه بها. فإذا صح ما ذكرناه أنه مأمور بها ندبا، ثبت في حقه قسم من أقسام التكليف، إلا أن يدعي الخصم أن المندوب ليس من أقسام التكليف، فإن قيل: إنما أمر بالصلاة للتهديد والتأنيس، قلنا: وبه نقول. وغاية ذلك أبدًا العلة، وذلك يستلزم وجود المعلول. وقد قال كثير من أهل العلم إنها واجبة (عليها) تعلقًا بلفظ الأمر، وبمقتضى الأمر الناجز الذي هو حاصله الإيجاب سيما أن التكليف حكم شرعي، وصاحب الشرع قد أمر بأمره، وصرح بتهديده وضربه. وكذلك

صلاة النافلة غير لازمة والطهارة لها عند فعلها لازمة، فقد تحقق وجوب الطهارة من الحدثين على من لم تلزمه الصلاة من المكلفين كالطائف وماس المصحف والتنفل، ومن غير المكلفين كالصبيان فيصدق حينئذ العموم والخصوص بالقضية القياسية، فيقال: كل من لزمته الصلاة لزمته الطهارة لها، وليس كل من لزمته الطهارة لزمته الصلاة كالمتنفل، وماس المصحف. والصبي، والطائف، اللهم إلا على القول بوجوبها على الصبي تعلقًا بمقتضى الأمر، فالقضية متعاكسة في حقه، والشرط والمشروط حينئذ واجبان. وقد رأى بعض فقهاء الأصوليين (أن الوضوء للنافلة وأن الوجوب فيها لا يتحقق، بدليل أنه إن قام إلى النافلة فحينئذ يتحقق إيجاب الوضوء عليه)، عند الخصم إما أن يجيزوا له الترك مطلقًا أو لا؟ فإن كان الأول سقط الوجوب مطلقًا إلى غير بدل، وذلك إبطال للنفلية، وإن كان الثاني لزم انقلاب النفل واجبًا وهو باطل. فالوضوء للنافلة حينئذ على (الأصل) النفلية، فإذا كان فعلها بدون الوضوء محرمًا كان تركها حينئذ واجبًا، وبقي حكم النفلية على أصله. والتزم بعض المتأخرين أنه واجب من حيث إنه إذا كان فعلها بغير طهارة محرمًا، كان فعل الطهارة لها واجبًا، وللقائل أن يقول: إذا كان فعلها بغير طهارة محرمًا، كان تركها حينئذ واجبًا، حملا للضد على ضده. ومنهم من لزم الفرق بين الصبي والمتنفل، فأوجب الوضوء على المتنفل دون الصبي، اعتمادًا على أن الصبي غير مكلف بخلاف المتنفل، وهو

ضعيف، لاشتراكهما في نفي (التكليف في) صور الفرض، وافتراقهما في غير ذلك لا اعتبار له في هذا المحل. وقسم بين أنواع الطهارة وحصرها- رحمه الله- في ثلاثة، وقدم الصغرى إجمالًا وتفصيلًا على مقتضى الآية (وبينها) على مسيس الحاجة على (علمها) بتكررها كل يوم وليلة. قال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] ((الآية))، تسمليًا على أنه الأكثر الأغلب، فكان تقديم بيانه أهم. قال إمام اللسان: ((كأنهم يقدمون الذي ما به أهم بهم، وهم ببيانه أعني، وإن كنا جميعًا يهمانهم ويعنيانهم)). وسمى التيمم بدلًا، وقد اختلف الشيوخ في ذلك، فسماه بعضهم بدلًا لأنه يقوم مقام المبدل منه في الاستباحة به فقط أو مطلقًا على ما روى،

وأباه بعضهم نظرًا إلى أن البدلية تقتضي التساوي كخصال الكفارة (المخيرة) فيها، والترتيب بين هاتين الطهارتين قد أتى إجماعًا، وأباه بعضهم نظرًا إلى خصوص الأحكام المذهبية، وسماه بعضهم رخصة، وفيه نظر لفقدان السبب المحرم الذي يتوقف إطلاق اسم الرخصة على (قيامه) إلا أن يثبت أن استباحة الصلاة بغير الطهارة المائية محرم بالأصل، وقد (بقي) أهل الاصطلاح تسميته رخصة بوجوبه، ظنًا (منه) أن الرخصة تنافي الوجوب وفيه ضعف، إذ أن الرخصة قد تجب في بعض الأحوال. وسماه المحققون فرضًا مستقلًا بنفسه في محله وهو الأصح عندنا، ثم لما كان من ضرورة الوضوء (محالة) تعرض لذكرها وهي أربعة إجمالًا،

وثمانية تفصيلًا، وهي ثمانية بالإجماع لا زائد عليها ومنها مفروض وما ليس بمفروض، ومنها مغسول بلا خلاف كالوجه واليدين، ومنها ممسوح بلا خلاف كالرأس، ومختلف (فيه) كالرجلين، ولم يذكر فيها غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، وهو ثابت فيها من جملة السنن، أو الفضائل على خلاف فيه. وقد انعقد إجماع الأمة على أن الصلاة لا تستباح إلا بطهارة، استنادًا إلى نص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، والمعنى: إذا أردتم القيام. قال زيد بن أسلم: معناه من المضاجع، وقال غيره: المعنى إذا قمتم محدثين، و [قد] اضطر العلماء إلى تقدير هذا المحذوف ضرورة أن الوضوء لكل صلاة غير واجب، وهو مقتضى الظاهر، ولم يقل به إلا من شذ، ولم يصح عن أحد من السلف

القول به الآن، وفي الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، والأحاديث في ذلك كثيرة متظافرة على إيجاب الوضوء (كثير) الصلاة، ولذلك اتفق العلماء عليه، وإنما اختلفوا في وقت وجوبه، والصحيح أن الطهارة إنما تجب للصلاة، والصلاة لا تجب إلا بعد دخول الوقت، فالطهارة لا تجب إلا بعد دخوله. وقد قال بعض الفقهاء إن الطهارة تجب في وقت غير معين. وقال الشافعي- من شيوخ البغداديين-

الوضوء قبل الوقت نفل يسد مسد الفرض وهو أحد أقوال الحنفية في الصلاة المعجلة في أداء الوقت، والصحيح عندنا أن النفلية متعلقة بالتقديم لا بأصل (النفل) وهو اختيار المحققين. قال القاضي- رحمه الله-: ((وأحكامه ثلاثة أنواع: فرض، وسنة، وفضيلة)). إلى قوله: ((ونحن نبين تفصيله إن شاء الله)). شرح: ذكر في هذه الجملة فرائض الوضوء وسننه وفضائله، وحصر الفرائض في ستة، والمتفق عليها الأعضاء الأربعة الثابتة بنص القرآن، وأما الماء المطلق فمتفق عليه في المذهب. وفي المذهب قولان في وجوب النية في الوضوء، والمشهور من المذهب أنها واجبة فيه، وفي جميع العبادات، بناء على أن جانب العبادات هو المقصود في الوضوء، والشاذ لا يفتقر إلى نية، بناء على أنه مفهوم المعنى المقصود منه النظافة وهو قول المخالف.

قال الإمام أبو عبد الله (والشيخ أبو الطاهر وعلى ذلك يتخرج الخلاف في الغسل، واحتج له الإمام أبو عبد الله) بقوله- عليه السلام-: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) وهو فيه نظر، لأن ذلك الوضوء عري عن النية لفظًا بما عري فيها وجودًا أو قصدًا، وإنما عولوا على تغليب الماء كما ذكروا. ولما غلب العراقيون على الوضوء حكم النظافة، ورأوا أنه مفهوم المعنى، لم (يوجبوا) النية فيه، كما أنها في إزالة النجاسة غير (واجب)

وعلل ذلك أصحابنا بوجهين، فمنهم من قال: لأنها مفهومة المعنى، والمقصود منه الإزالة، فكيف حصلت حصل المقصود، وقال بعضهم إنما لم تفتقر إزالة النجاسة إلى النية لأنها من باب التروك، فأشبهت ترك الزنا واللواط وغير ذلك من المنهيات التي لا تفتقر إلى النية. وكذلك قال كثير من الأصوليين إن الكفار مخاطبون بالمنتهيات دون المأمورات، بناء على ما ذكرناه من المتروك لا يفتقر إلى نية، وهو خطأ، لأن كثيرًا من الأفعال أيضًا كذلك، كرد الودائع والمغصوب ونحوه. وألحق بعض أصحابنا بالفرائض الفور والترتيب وهو قول الشافعي، وألحق ابن

الماجشون نقل الماء إلى الأعضاء بالفرائض، والمشهور من المذهب أن ذلك لا يلتحق بالوجبات. وحصر (السنن) في سبعة، والفضائل في ثلاثة جريًا على ما ارتضاه المذهب، وقد فصل ذلك (بعد هذا). قال القاضي- رحمه الله-: ((أما النية فقد بينا أنها من فروضه)) إلى قوله: ((كقصده استباحة جميعه)). شرح: النية في كلام العرب عبارة عن القصد، ومن كلام العرب: ((نواك الله بحفظه)) أي قصدك وقال الشاعر: إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى وهي أمس جميع وهي في الشريعة عبارة عن قصد تخليص أعمال الطاعة له سبحانه لتتبين أعمال العادات من أعمال العبادات، واختص القول في بعض أحكامه وصفاته،

ومحل القصد القلب عندنا، وعند بعض المتكلمين الدماغ وهذا لا قاطع عليه. واختلف المذهب في محله من الطهارة، فقيل عند ابتدائه في العمل المشروع فيها، حكاه القاضي أبو محمد والقاضي أبو الوليد وغيرهما عن المذهب. قال القاضي في التلقين: ((يبدأ المتوضئ بعد النية بغسل يديه))، وهذا نص على أن المراعى ابتداء العمل المشروع، وقد قيل عند ابتدائه بالعمل المفروض، وبه قال الشافعي وبعض المالكية.

قال الإمام أبو عبد الله: اختلف الناس في محلها الخفي، وفي محلها الشرعي، أما محلها الخفي فقيل القلب، وقيل الدماغ، وأما محلها الشرعي ففي المذهب قولان، فقيل المراعى أول العلم المشروع، وقيل المراعى أول العمل المفروض والأولى مراعاتها في أول العمل المشروع، واستصحابها إلى آخر العبادات وهو جمع بين القولين. والدليل على وجوب النية الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5] وقال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى: 20] فبين سبحانه أنها لا تكون نصيبًا في الآخرة إلا لمن قصدها بالعمل، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات) والخبر متواتر في المعنى ولذلك قال جمهور الفقهاء بمقتضاه،

وأوجبوا النية في الوضوء، والصلاة والصوم، وغير ذلك من أعمال الطاعات التي ظهر قصد (التعبد) [بها]. واختلفوا في وجوب النية في مواضع، منها: غسل الجمعة، وظاهر المذهب افتقاره إلى النية، تغليبًا لحكم العبادات، والقول الثاني: أنه لا يفتقر إلى النية تغليبًا لحكم النظافة، وكذلك اختلفوا في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، والذكر من المذي، فيه قولان في المذهب، وسنذكر ذلك في محله. وإذا قلنا بوجوب النية -كما ذهب إليه الجمهور -فمن شرطها أن تكون مقارنة للفعل، فإن تأخرت عنه فهي مجزئة، فإن تقدمت بالزمان الطويل فكذلك، وإن تقدمت بالزمان اليسير. ففيه قولان مبنيان على ما قارب الشيء هل حكمه كحكم الشيء أم لا؟. واختلف إذا عدمت النية عند شروعه في العمل، ففي المذهب قولان المشهور عدم الإجزاء، والشاذ الإجزاء، بناء على الاسترسال ونفيه، وقال (ابن الماجشون): يجزئه في البحر، لأنه لا يقصد غالبًا إلا لغسل الجنابة بخلاف الحمام، فإنه يقصد غالبًا للنظافة. وروى عن ابن القاسم أنه أجزأه

في البحر والحمام إذا ثبت قصده على غسل الجنابة، والذي اختاره الإمام أبو عبد الله وجوب استصحابها حكمًا لا ذكرًا، وذلك ما دام العمل متصلاً، فإن انفصل بعضه عن بعض لزم تجديد النية ذكرًا. واختلفوا هل تفرق النية على أعضاء الوضوء أم لا؟ وفيه قولان: المنصوص عدم التفريق نظرًا إلى أنها عبادة واحدة وقربة متشخصة، فكأن الأعضاء كلها عضو واحد (فاستحب) حكم النية على جميعها (استحبابه) على عضو واحد. والشاذ أنها تفرق على الأعضاء فاستقرأه القاضي أبو محمد عبد الوهاب من المدونة وفيه نظر، ومبناه على أن كل عضو مخصوص بحكمه متعبد بمسحه أو غسله، فلزم تخصيصه كسائر العبادات. قوله: "والذي يلزمه أن ينوي بوضوئه رفع الحدث (أو استباحة) فعل معين يتضمن رفع الحدث": هو كما ذكره، وبين كل واحد من القسمين بالمثال، انظر: هل يكفي الإطلاق في اعتقاد رفع الحدث أو يفتقر إلى النية بالقيد الخاص، وتعيين الحدث الموجب للطهارة، فينوي الأصغر بعينه أو

الأكبر على حكم الوجوب، فيه تأويل، والذي يجب التعويل عليه أنه مأمور باستحضار كل واحد منهما بقيده الخاص، لقيام سببه عند الشروع فيه، فإن إطلاق اللفظ والقصد من غير تقييد لفظ ولا قصد، ولم يعين حدث، فظاهر المذهب أنه لا يجزئه، وقال الشيخ أبو إسحاق: من اغتسل ينوى التطهر ولم ينو الجنابة، قال مالك مرة لا يجزئه، وقال مرة يجزئه، وعلى ذلك أكثر أصحابنا. قلت: الصحيح عندنا (لا يجمع داخل) تحت الإطلاق، لأنه أقل مسمياته، ولا يتحقق مدلول اللفظ، ومقتضى القصد دونه، ولا يدخل الأكبر مستخص قصدًا، ولا منصوصًا عليه لفظًا، ويحتمل أن يدخل لشمول اللفظ واسترسال القصد. ولو لزمه رفع الحدث الأكبر فنوى الأصغر. فلم يختلف العلماء المشترطون للنية أنه لا يجزئه في الطهارة المائية لاختلاف الموجب معًا، وأما في الطهارة الترابية ففيه قولان في المذهب الإجزاء لاتفاق الموجب ونفيه لاختلاف الموجب حكاهما القاضي أبو الوليد وغيره. انظر: لو لزمه رفع الحدث الأصغر فنوى الأكبر هل يجزئه الاندراج الجزئي تحت الكلي

أم لا؟ بخروجه عن (ميز) الشرع، وإفساده الأوضاع الشرعية بالقلب والتغير، فكأنه كالغاية، ولو قصد الطهارة المطلقة لم يرتفع عنه الحدث لصدق اللفظ على طهارة النجس فلا يدخل في ذلك رفع الحدث إلا بقصد معين، وأما المعين المتضمن لرفع الحدث فهو أن يتوضأ لاستباحة فعل معين لا يستباح إلا بعد التطهير من الحدث، وهذا الضابط يدخل تحته قسمان: الأول: الصلوات على اختلاف أنواعها إلا ما لا يستباح إلا بالطهارة بالوضوء (يتوضأ) لها (فرضًا) كانت أم نفلاً)، فإذا توضأ لاستباحة الصلاة عم أثره، ونفد حكمه إلا أن يقتصر الوضوء على صلاة بعينها معينة مثل أن يقول: أتوضأ لصلاة الظهر فقط، فأجراه الشيخ أبو الحسن بن القصار على الخلاف في رفض الوضوء هل هو مؤثر أم لا؟ فيختلف في هذه الصورة فهل يستباح بهذا الوضوء كل الصلوات نظرًا إلى أن ذلك هو مقتضى الوضوء الشرعي، فالقصد فيه مخالف لقانون الشرع، فجرت صورة الوضوء على ظاهر حكمها، وعم أثرها، وانتفى القصد بخروجها عن وضع الشرع، أو لا يستباح به شيء من الصلوات، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وحكى

في المذهب. سمعناه في المذاكرة. نظرًا إلى أن قصد النية أخرجها عن حكم النية الشرعية المشترطة في العبادات، وخصوصًا في هذا الباب، فإذا خرجت عن سنتها، وغيرت عن وضعها وقعت فاسدة، فلم يترتب عنها (أثر) مطلقًا، أو يستباح به الصلاة المعينة وحدها لقوله -عليه السلام -: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، ومن هذا النمط أن يبول ويتغوط، فيتوضأ قاصدًا لرفع حكم البول، قاصدًا أن لا يرفع حكم الغائط، فأجرى الإمام أبو عبد الله الثلاثة الأقاويل المذكورة فيه. القسم الثاني: الطواف بالبيت، ومس المصحف، والمعول عليه من مذهبنا أنه كالصلاة، فإذا توضأ لذلك استباح (به) الصلاة، لأن الوضوء مشروط في ذلك اشتراطه في الصلاة، واختلف المذهب في مسائل: الأولى: إذا نوى التبرد، ورفع الحدث معًا، ففيه قولان في المذهب، الإجزاء، ونفيه، وجعله الإمام أبو عبد الله من قسم النية المركبة، وفيه مجاز، إن النية لا تركيب فيها، وإنما التعدد في المتعلق فقط. الثانية: إذا توضأ تعلما هل يستباح به الصلاة أم لا؟ فيه نظر، وتحصيل

الأمر أنه إن نوى التعليم فقط من غير استحضار قصد رفع حكم الحدث، لم تستبح به الصلاة، وإلا استباحها، إذ رفع حكم الحدث لا يناقض التعليم. الثالثة: اختلفوا إذ توضأ لما شرعت له الطهارة استحبابًا، مثل أن يتوضأ لقراءة القرآن طاهرًا، أو للدخول على (السلطان) وللنوم ونحوه، فحكى أبو محمد أنه لا يجوز الصلاة من ذلك، وحكى ابن حبيب أنه اختلف أصحابنا في صحة الصلاة بالوضوء للنوم، ووقع في المختصر أنه يصلي بذلك، والخلاف فيه كله مشهور عندنا. في المجموعة: من توضأ للدخول على السلطان فإنه يصلي به. قال القاضي أبو الوليد: الوضوء لدخول المسجد، ولدخول مكة، وللسعي بين الصفا والمروة، وللوقوف بعرفة مستحب بالوضوء للنوم، فيجري قول ابن حبيب. قال الإمام أبو عبد الله: المشهود إذا توضأ لما تستحب الطهارة له أن حدثه لا يرتفع.

الرابعة: إذا توضأ مجددًا، ثم ذكر أنه محدث، هل يجزئه ذلك عن وضوء حدث أم لا؟ فيه قولان، والمشهور عندنا أنه لا يجزئه. وكذلك وقع في كتاب ابن سحنون، وحكى الشيخ أبو محمد في النوادر عن أشهب أن ذلك يجزئه، ومبنى المسألة على الخلاف في نية النفل هل تنوب عن نية الفرض أم لا؟ ومن ذلك نشأ الخلاف فيما إذا اغتسل للجمعة ناسيًا للجنابة، والمشهور أنه لا يجزئه وقال ابن وهب وابن كنانة

ومطرف وابن الماجشون يجزئ غسل الجمعة عن غسل الجنابة، كمن توضأ للنافلة، فإنه يصلي به الفريضة. الخامسة: إذا توضأ تبردًا هل تستباح به الصلاة أم لا؟ قولان المشهور لا تستباح بها، ويتخرج الإجزاء على القول بأن النية غير مشترطة في الوضوء وهو شاذ، حكاه ابن المنذر، ويلحق بذلك إن توضأ لما (لا) تشترط له الطهارة كالمس ونحوه. فرع: لا يلزم في وضوء ولا غسل أن يعين بنيته الفعل المستباح، ويلزم ذلك في التيمم، وحكى ابن حبيب أن ذلك مشترط على (مستعمل)، والمشهور أن ذلك على معنى الاستحباب لا على معنى الإيجاب، فانظر الفرق. قال القاضي -رحمه الله -: "وأما الوجه فالفرض إيعاب جميعه" إلى قوله: "وأما الرأس فهو ما صعد عن الجبهة". شرح: ذكر في هذا الفصل حكم الوجه، وما يتصل به، وحكم اليدين،

وقد أجمع العلماء على أنها من الأعضاء المغسولة. أما الوجه فلا خلاف في المذهب في حده طولاً في حق الأمرد، بأنه من منابت الشعر المعتاد إلى آخر الذقن. واحترز بالمعتاد من الأصلع والأقرع. وتعقب الإمام أبو عبد الله على القاضي إطلاق القول في ذلك، ورآى أن التقييد بالمعتاد واجب وهو صحيح كما ذكره، ولم يقصد القاضي غيره. واختلف في حده طولاً في حق الملتحي، وفي حده عرضًا في حقه ففيه روايتان في المذهب أحدهما: من منابت الشعر المعتاد إلى آخر الذقن كالأمرد، وهو اختيار الشيخ أبي بكر الأبهري، وثانيهما: أنه إلى آخر اللحية، وهو قول الجمهور، واختاره القاضي أبو محمد -رحمه الله -، بناء على المتصل بالشيء له حكمه، والأول أصح، بناء على التسمية اللغوية التي نزل بها القرآن، والذي نرتضيه أن حده إلى آخر الذقن، وإيجاب إمرار اليد على اللحية، وينتفي دخول اللحية في حد الوجه، وإنما دخلت من باب إعطاء الشيء حكم ما اتصل به أو جاوره، وبهذا الطريق يقع (التوفيق) بين مقتضى

اللسان والشرع، لأن العرب (مجموعون) على أن الوجه قبل ظهور اللحية يسمى وجهًا، وعلى أنه لا يقال لمن سقطت لحيته أو بعضها قد ذهب وجهه أو بعض وجهه، فدل على أنها غير داخلة تحت مسماه، ولو دخلت تحت مسماه، لوجب غسلها، وامتنع الاكتفاء بالمسح، لأن فرض الوجه الغسل، لا المسح، ففي إدخال القاضي أجزاء اللحية في حد الوجه، تجوز ظاهر عندنا. واختلف المذهب في حده عرضًا على أربعة أقوال، فقيل: (من الأذن إلى الأذن) وهو أحوط، وقيل: من العذار إلى العذار بناء على الاشتقاق، وقيل: بالتحديد الأول في حق الأمرد، وبالتحديد الثاني في حث الملتحي، وقيل: إن غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن سنة وهو اختيار أبي محمد توسطًا بين القولين وفيه نظر، لأنه إن ثبت أنه من الوجه وجب غسله، وإن كان من الرأس وجب مسحه بناء على (وجود) التعميم،

والتفريق لا دليل عليه. ثم الشعور على قسمين خفيفة وكثيفة، فالفرض مع الخفيفة باق على أصله، واختلف المذهب في الشعور الكثيفة هل الفرض الأصلي باق أو منتقل، وهو المشهور رفعًا للمشقة، وكذلك اختلفوا في تخليل الشعور في الوضوء، ومن العتبية عن مالك أنه عاب تخليل اللحية ورآه من التعمق، واستحبه ابن حبيب تحرزًا من الخلاف، وأوجب ابن عبد الحكم تخليلها في الوضوء وبه قال أبو ثور قياسًا على الغسل. وأما اليدان فالفرض غسلهما إلى المرفقين، واختلف المذهب هل يلزم إدخال المرفقين في الغسل أم لا؟ وكذلك اختلفوا في وجوب إدخال الكعبين في الرجلين. والمعتمد عليه في مذهب مالك وجوب إدخالهما في الغسل وبه قال أبو حنيفة

والشافعي وروى ابن نافع عن مالك في المجموعة أنه يبلغ بالغسل إليهما، ولا يدخلان، وهو مقتضى الغاية وذكر الشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي زيد اختلافًا في ذلك وأنكر الخلاف فيه القاضي أبو محمد، (وحكى) أنه لا قائل (في المذهب) يمنع إدخالهما، وإنما هو قول برأي، والخلاف في ذلك مشهور مبناه على اختلاف العلماء فيما بعد الغاية، هل يدخل فيما قبلها أم لا؟ فمنهم من قال يدخله مطلقًا لأنه أحوط، وعلى هذا القول يلزم أن يكون إدخالهما من باب الاحتياط، لا من باب الإيجاب، وهو اختيار الشيخ أبي الفرج وهو من باب لا يتم الواجب إلا به، ومنهم من قال لا تدخل

مطلقًا لأن مقتضى الغاية الفصل، والدخول ينافيه، وقيل إن كان من الجنس دخل وإلا فلا. وروى جابر بن عبد الله أنه رأى الماء على مرفقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وصح عن أبي هريرة أنه لما توضأ أدار الماء عليهما، وقال عند تمام وضوئه: هكذا توضأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وقال -صلى الله عليه وسلم -: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل). وفي تخليل الأصابع ثلاثة أقوال: فقيل هو واجب في الوضوء

والغسل، وقيل ليس بواجب في الوضوء والغسل، وقال ابن وهب هو واجب في اليدين، ومستحب في الرجلين، لأن أصابعهما متصلة، بخلاف اليدين، والظاهر وجوبه مطلقًا، لأن ما بين الأصابع داخل تحت محل الغسل، ولا يتم الغسل حقيقة إلا به فكان واجبًا، إذ لا معنى للغسل إلا بإمرار الماء على جميع العضو المغسول. وقال -عليه السلام -: (خللوا بين أصابعكم لا يخللها الله بالنار) وفي حديث لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: (إذا توضأت فأسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع).

واختلف المذهب في تحريك الخاتم في الوضوء والغسل، فقيل يحركها فيهما لأن ذلك مظنة تكميل الواجب، وقيل يحركها مطلقًا، وقيل إن كان ضيقًا حركها وإلا فلا، وقيل يحركها في الوضوء دون الغسل ويحركه في التيمم. وروى الدارقطني أن النبي -عليه السلام -: (إذا توضأ حرك خاتمه). قال القاضي -رحمه الله -: "وأما الرأس فهو ما صعد عن الجبهة إلى آخر القفا طولاً وإلى الأذنين عرضًا". شرح: وهذا كما ذكره، ولا خلاف في حد الرأس طولاً وعرضًا، وإنما اختلفوا في تعميمه، والشعر المتصل به هل يعطى حكمه أم لا؟ وفي الأذنين هل هما منه أم لا؟ كما ذكره القاضي. أما وجوب تعميمه فيه، في المذهب خلاف، المشهور وجوبه، وأنه إن

اقتصر على بعضه لم يجزه بناء على أن الباء في قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6] للإلصاق أو زائدة لا للتبعيض، وقيل: إن مسح بعضه أجزأه، واختلفوا في تحديد ذلك، فمن المالكية من أوجب مسح ثلثه، وهو اختيار أبي الفرج، ومنهم من أوجب مسح ثلثيه، وهو قول ابن مسلمة، ومنهم من اعتبر الربع وهو مقدار الناصية. روى عن مالك أنه قال إذ اقتصر على مقدم رأسه أجزأه. واختلفت أقوال الشافعية في ذلك وقاعدة مذهبهم جواز التبعيض بناء على أنه مفهوم الباء، وقد ثبت التبعيض عن النبي -صلى الله عليه وسلم -من طريق، والأشهر أنه

بدأ من المقدم ثم انتهى إلى المؤخر وذلك يقتضي التعميم، وهو أحوط، وداخل تحت مقتضى اللفظ، وقد قيل: إن الباء باء العلة كقول الشاعر: ومسح باللثتين عصف الإثمد والمعنى ومسحت بعصف الإثمد اللثتين، والتقدير في الآية على هذا التأويل: وامسحوا بالماء رؤوسكم. وبالتبعيض قال جماعة من أهل العلم اعتمادًا على ما ذكرنا أنه مفهوم الباء، وهم مع ذلك موقوفون على امتناعه في قوله: {فاسمحوا بوجوهكم} إذ لا قائل بالتبعيض فيه بل هي عندنا للإلصاق كقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29] والصحيح القول بالتعميم، وأما التحديد بالثلث أو بالثلثين أو بغير ذلك من التقديرات فلا دليل عليه، بل إن كان التبعيض جائزًا وقع الاكتفاء بأقل ما يسمى مسحًا عند العرب. وأما الشعور المتصلة به فقيل يلزم إمرار اليد عليها إعطاء حكم ما اتصل به، وقيل لا يلزم إعطاء لها حكم نفسها وهو الأشهر في النظر، والأول أحق، وذكر الشيخ أبو محمد في النوادر أن شعر الصدغين من الرأس يدخل

في المسح. قال القاضي أبو الوليد: يريد ما فوق العظم. وأما الأذنان فقد اختلف المذهب فيهما على أربعة أقوال: فقيل هما من الرأس وهو المشهور عن مالك، وقيل: من الوجه، وقيل: ظاهرهما من الوجه وباطنهما من الرأس، وقيل: هما عضوان قائمان بنفسهما. أما من قال إنها من الرأس فاحتج بقوله -عليه السلام -: (فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من أذنيه) الحديث، والاحتجاج به ظاهر. وروي أنه -عليه السلام -قال: (الأذنان من الرأس) والصحيح أنهما من قول

الراوي ابن عجلان لا من قول النبي -عليه السلام -، ووقع في الموطأ معين. واحتج من قال إنهما من الوجه بقوله -عليه السلام -: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره). وأما من فرق بين ظاهرهما وباطنهما تحاكم إلى اللغة (وتوفيه) إلى الاشتقاق حقه. وأجمع جمهور العلماء على أنهما ممسوحتان بخلاف ابن شهاب الزهري فإنه يرى أن فرضهما الغسل، وهو لازم على المذهب إن قلنا إنهما من الوجه. وقال الشافعي: يغسل باطنهما مع الوجه ويمسح ظاهرهما مع الرأس، وقد روي عن النبي -عليه السلام -في وصف وضوئه -عليه السلام -: (ثم مسح

رأسه بالسبابتين وأذنيه ظاهرهما وباطنهما بإبهاميه)، وسيجيء الكلام على تجديد الماء لهما. وأشار القاضي بقوله: "حقيقة أو حكمًا": إلى الإطلاق اللغوي والعرفي الشرعي. قوله: "فمن أوجب مسحهما عدهما منه": وهذا فيه نظر، إذ لا يدل إيجاب مسحهما على أنهما من الرأس، لجواز أن يقول القائل يجب مسحهما مع أنهما عضوان قائمان بأنفسهما أو من الوجه إلا أنهما إن انفردا بحكم المسح باستفادة كونهما من إيجاب مسحهما غير محقق لاحتمال المعارضة بما ذكرناه، وظاهر كلام القاضي أن كونهما من الرأس غير مختلف فيه، وإنما مورد الخلاف هل هما منه حقيقة أو حكمًا؟ وذلك غير مسلم، بل الخلاف هل هما من الوجه أو من الرأس؟ قائم مشهور. ثم اختار في مسح الرأس الهيئة التي ذكر، وقد ورد في صفة مسحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم -على هيئات مختلفة ذكرناها في شرح الأحكام. واختار الشيخ أبو القاسم بن الجلاب الهيئة التي ذكرناها في أول

تفريعه، وأنكرها عليه الشيوخ إذ لم تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم -مع أنه وقع فيما حادوه من التكرار. وأما الرجلان فأجمع جمهور أهل العلم على أن فرضهما الغسل لأنهما محل الأدران والغبار غالبًا، والمعول عليه في قراءة الخفض في قوله: {وأرجلكم} أنه خفض على الجوار، وخلاف العلماء في العكس مشهور. وفرق القاضي بين أقطع اليدين والرجلين وفيه نظر، تحقيقه أنه إن بقي من مسماهما شرعًا شيء وجب غسله وإلا فلا، وصدق هذا القول إن كان شرعيًا، ووجب الرجوع إليه، وإلا فلا معنى له، إذ العلة تقتضي التسوية. ثم تكلم على الموالاة، وقد اختلف المذهب في حكمها على أقوال، فقيل إنها واجبة مطلقًا، وقيل إنها ليست بواجبة، وقيل

واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان والعذر، وقيل: إنها واجبة في المغسولات دون الممسوحات مطلقًا، وقيل: إن الممسوح (أصلاً) كالمغسول بخلاف الممسوح بدلاً. وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - (قال): (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) وكان مسبوغًا متواليًا مرتبًا: فإن كانت الإشارة إلى الفعل وصفته، وجبت النية، والفور، والترتيب إلى غير ذلك من صفات ذلك الوضوء، وإن كانت الإشارة إلى أصل الفعل انتفى الوجوب، وأما التفرقة بين الذاكر والناسي فبناء على أن الناسي معذور بالنسيان كما (يعذرون) في عجز الماء، وأما التفرقة بين الممسوحات والمغسولات فينظر إلى أن مبنى المسح على التخفيف والرفق، وحقق بعضهم التخفيف في الممسوح (الأصلي) دون البدلي، وعكسه آخرون. وإذا بنينا على العذر بالنسيان، جاز له البناء مطلقًا، وقيل: ما لم يطل. واختلف الشيوخ في حد الطول فقيل جفوف الأعضاء، وقيل: ما يعد

طولاً وهو أشبه فأما عجز (الماء) فيبنى معه ما لم يطل، فإذا طال ابتدأ الطهارة، هذا اختيار المحققين من أهل المذهب. وذكر المتأخرون ثلاث صور: فالصورة الأولى: أن يقطع بأن الماء يكفيه. الصورة الثانية: أن يقطع بأن لا يكفيه. الصورة الثالثة: أن يشك في ابتداء الوضوء هل يكفيه أم لا؟ ففي كل صورة قولان: الابتداء، والبناء، والمشهور في الأولى البناء، وفي الثانية، والثالثة الابتداء، ووجه ذلك ظاهر فتأمله. واختار القاضي في المولاة مذهبًا انفرد به، وهو: أن التفريق إن كان قليلاً أو على وجه السهو لم يفسد الوضوء ويفسده إذا تعمد، أو التفريط، أو الطول المتفاحش. قال القاضي -رحمه الله -: "فأما بيان سننه، فمنها غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء". شرح: اختلف العلماء في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في حق طاهر اليد، وفي مذهب مالك في ذلك قولان: فقيل: إنه سنة وهو مختار القاضي لما ثبت من مواظبته -عليه السلام -على ذلك، وقيل: إنه مستحب، وهو

اختيار ابن الجلاب، وشذ قوم خارج المذهب فأوجبوه تمسكًا بلفظ الأمر. قال -عليه السلام -: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء) وفي ألفاظه اختلاف، ففي لفظ التحديد بالثلاثة، وفي لفظ آخر التعليل بالشك، ومحمله عندنا على الندب والاستحباب اعتمادًا على قوله -عليه السلام -: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده). فظاهر التعليل بالشك، وأن الأمر بالغسل إنما توجه لأجل الشك فينتفي الغسل حيث ينتفي الشك وهو ينفي الوجوب، وكذلك قال ابن الماجشون. مريد الوضوء: لا يخلو من ثلاثة أقسام، إما أن يقطع بطهارة يديه، أو يقطع بنجاستهما أو يشك، فإن قطع بطهارتهما فهو مورد الخلاف الأول الذي حكيناه عن المذهب في كونه سنة أو مستحب، ويبقى أن ينفي ههنا إيجابًا على مقتضى التعليل المفهوم من سياق الحديث، وإن قطع بنجاستها وجب عليه غسلهما وهو متفق عليه، وإن شك ففيه قولان: الوجوب، ونفيه، فالوجوب اعتمادًا على صيغة الأمر ومقتضى التعليل، ونفيه اعتمادًا على حكم الأصل.

وقال الحسن (بن عيسى) في الجنب يدخل يديه في الإناء قبل أن يغسلهما أفسد الماء، ونفى بعض التأخرين الوجوب بالتحديد، ولا قاطع فيه وهل غسلهما للتعبد أو للنظافة، ففيه قولان في المذهب وكذلك اختلفوا هل يغسلان مجتمعين أو مفترقين، وهل يغسلان مرتين أو ثلاثًا، وقلنا قولان في المذهب مبنيان على اختلاف رواية عن ابن زيد، ففي بعضها أنه وصف وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: (فغسل يديه مرتين مرتين) وذلك يقتضي التفريق، وفي بعضها "مرتين"، وذلك يقتضي الجمع، وكذلك

اختلفوا إذا شك هل غسلهما ثلاثًا أو اثنين هل يأتي بالرابعة، بناء على الأقل المنفي، أو لا يأتي بها خوفًا من توقيع زيادة الرابعة، وهو مكروه فيه قولان بين الأشياخ. قال القاضي -رحمه الله -: "بأي (وجه) كان انتقاض وضوئه" تنبيهًا على مذهب المخالف لأن من أهل العلم من قصره على النائم، والصحيح التساوي وسبب ذلك قاعدة قياسية، لأن مورد النص هو النائم، وألحق غيره من باب الجمع بالاشتراك بالعلة وهي مظنة النجاسة غالبًا. قال ابن حبيب في الواضحة: إنما أمر النائم بغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء لأنه قد ينال يديه نجاسة أو قذر يخرج منه ولم يعلم به وقال العراقيون من المالكية إنما أمر بذلك لأنه لا يكاد يسلم من حك جسده، فأمر بذلك تنظفًا وتنزيهًا، وقيل: (لأنه لا يكون يستخرجون)، وقد تبقى في المخرج نجاسة يابسة يصلها اليد في حال النوم، وعموم هذه التعاليل

داخل تحت قولنا: مظنة النجاسة غالبًا، وذلك مستحق في غير النائم، فيتساوى الحكم فيه، ومخرج الحديث عندنا على الغالب، وقصر بعض المالكية الحديث على النائم فقط، والاشتراك في المعنى يقتضي التساوي كما ذكرنا من الأحداث وأسبابه، (واقتصره) أحمد بن حنبل على نوم الليل تعلقًا بلفظ البيات ولا يستعمل إلا ليلاً. واختلف المذهب هل يفتقر غسلهما إلى النية أم لا؟ فابن القاسم اشترط في ذلك النية بناء على أنه عبادة، وروى أشهب ويحيى بن يحيى عن مالك أن ذلك نظافة فلا يفتقر إلى النية. وعلى ذلك الخلاف في غسل الجمعة أيضًا جمهور أصحابنا في أنه يفتقر إلى نية تعلقًا بحكم العبادات عليه. قال الشيخ أبو الوليد: ويجيء على قول أشهب، والشيخ أبي إسحاق أن ذلك لا يفتقر إلى

نية، ولذلك أجازه بماء الورد وماء الريحان والزعفران ونحوه، بناء على أنه نظافة. وكذلك اختلفوا في غسل الذكر من الذمي هل يفتقر إلى نية أم لا؟ بناء على أنه عبادة ونظافة ونزاهة كما ذكرناه. وقوله: " (في) ليل أو نهار"": تنبيهًا على ما حكيناه عن أحمد بن حنبل، لأنه أوجب غسلهما في المستيقظ من نوم الليل دون نوم النهار تعلقًا بلفظ البيات، ولا يستعمل غالبًا إلا ليلاً. قال القاضي -رحمه الله -: "وأما تطهير داخل الفم فإنه سنة" إلى آخر الفصل. شرح: تكلم في هذه الجملة على حكم المضمضة والاستنشاق وغسل البياض الذي بين الصدغ والأذن، وحكم مسح الأذنين والترتيب. أما المضمضة فهي مشتقة من مضه الدهر إذا حركه، وسميت بذلك لأن المضمضة تخضخض الماء فيه وتحركه، والاستنشاق مأخوذ من الشاق وهو زمام يكون في أنف البعير. وقد اختلف العلماء في حكمهما، واتفق مذهب مالك -رحمه الله -على أنهما غير واجبتين في الوضوء والغسل، وقال أحمد وغيره؟ إنهما واجبتان، لأن

بهما تعرف رائحة الماء وطعمه. وأوجب قوم الاستنشاق دون المضمضة، وأوجبها ابن أبي ليلى في الوضوء (دون الغسل)، ومنشأ الخلاف هل يتناولهما لفظ الوجه أم لا؟ والتفاريق غير صحيحة في النظر، والصحيح أنهما لا يتناولهما لفظ، إذ الوجه مشتق من المواجهة، ولو وجب غسل العضو القاصي في أصل الخلقة، لوجب (غسل ذلك) العينين، مع أن الوضوء يتناولهما نصًا فسقط وجوبهما، وثبت استنانهما بفعله -عليه السلام -الدائم الظاهر، ويجوز فيهما الجمع والتفريق على صفات شتى بحسب الإمكان، إذ ليس في ذلك حد محدود، ولا هيئة معلومة (لا تتعذر). وروى النسائي عن لقيط بن صبرة قال: (قلت يا رسول الله أخبرني

عن الوضوء قال: أسبغ وبالغ في الاستنشاق إلا أن يكون صائمًا). وقد جاء ذلك في الآثار الثابتة، وتاركهما سهوًا إن تركهما قبل صلاته فعلهما ثم صلى، وإن ذكر بعد صلاته فعلهما لما يستقبل ولم يعد وضوءه ولا صلاته عندنا، وإن تركهما عمدًا ففي بطلان صلاته وإيجاب الإعادة عليه قولان جاريان على تارك السنة متعمدًا عليه، والخلاف في ذلك مشهور، واستحب المبالغة في الاستنشاق إلا في الصوم خشية الفطر، وكذلك حكم المضمضة، واستحب بعض العلماء أن تكون المضمضة ثلاثًا ثلاثًا والاستنشاق لأنهما عضوان، واستحب بعضهم أن تفعلا ثلاث مرات من غرفة واحدة، لأنهما كعضو واحد، وحكى عن بعض أهل العلم أنه رأى النبي -عليه السلام -فسأله عن ذلك فقال: له لا بأس بالجمع والتفريق وقد جاء ذلك واختلف قول الصحابة فمنهم من عدهما فضيلتين، ومنهم من عدهما سنتين، وهو المشهور. وقد تقدم الكلام في البياض الذي بين الصدغ والأذن، والصحيح أن

عرض الوجه في حق الأمرد، والملتحي سواء، وهو ما بين الأذنين، وهو قول أبي حنيفة والشافعي رواه ابن وهب في المبسوط عن مالك، وهو الجاري على مقتضى اللغة. فأما مسح الأذنين فقد اختلف العلماء في حكمه، والجمهور على أنه غير واجب، ويلزم وجوبه على القول بأنهما من الرأس، كما يلزم وجوب غسلهما على القول بأنهما من الوجه. وتحصيل المذهب في ذلك أن مسح داخلهما سنة أو فضيلة، واختلفوا في مسح ظاهرهما، فقيل: إنه سنة، وقيل: إنه واجب، والقولان في المذهب نصًا وإلزامًا. وحكى القاضي أبو الوليد عن محمد بن مسلمة والأبهري أن الأذنين يمسحان فرضًا [ولم يفرقا بين ظاهرهما وباطنهما] قال: وذهب سائر أصحابنا يمسحان (فرضًا) وهو ظاهر (مذهب) مالك، والأصل في (إسقاطه) الوجوب الاعتماد على أنه وضوء، وعلى قوله -عليه السلام -للأعرابي: (أن توضأ كما أمرك الله). واختلفوا في تجديد الماء لهما، وفي ظاهرهما ما هو، فقيل: الذي يلي الوجه، وقيل: الذي يلي الرأس القفا، والتحكم فيه إلى اللغة. وقد جاء

عن النبي -عليه السلام -: تجديد الماء لهما، وعليه العمل عند جمهور العلماء. والصماخ: ثقبة الأذن. قال ابن حبيب: من لم يجدد الماء لهما فهو بمنزلة من لم يمسحهما، وقال محمد بن مسلمة: إن شاء جدد لهما الماء، وإن شاء لم يجدد، وقال أبو حنيفة: (لا) يستأنف الماء لهما. قوله: "في صفة الترتيب أن يبتدئ بعد النية فيسمي الله -عز وجل": يتعلق

به حكم النية والتسمية. أما النية فقد قدمنا الكلام فيها، وظاهر كلام القاضي أبي محمد أنه يعقد النية عند الشروع في طهارته، وأما التسمية فقد اختلف العلماء فيها، فقد رأى مالك إنكارها، وقال أيريد أن يذبح؟ إشارة إلى [أن] التسمية إنما شرعت عند الذكاة، وقيل: إنها فضيلة، وقيل: جائز ومخير فيها وأوجبها بعض أهل العلم لقوله -عليه السلام -: (لا وضوء لمن لم يسم الله عليه) وعن النبي -صلى الله عليه وسلم -: (إن العبد إذا سمى الله وتوضأ تطهر بدنه كله، وإذا توضأ ولم يسم لم يطهر إلا أعضاء الوضوء خاصة). والأحاديث

في التسمية في الوضوء غير ثابتة عند أهل الإسناد. قوله: في صفة غسل الوجه: "يبدأ من أعلاه": تنبيهًا على الأفضل حتى إنه لو بدأ في وسطه أو أسفله أجزأه. لأن ذلك غسل لا مسح، وصفة الغسل في الهيئة للأعضاء المغسولة أن يلقى العضو بالماء، والماء بالعضو مع إمرار اليد حينئذ، فإن تناول الماء بيده، ثم أرسله ثم أمر بيديه على العضو المغسول، فهذا مسح لا غسل، فلا يقع به الإجزاء عند الجمهور، وقال أبو يوسف: إن مسح وجهه وغيره كمسح الظاهر أجزأه. وقال النخعي: ما عهدناهم ينطحون وجوههم بالماء. واختلف المذهب في كيفية رفع الماء للغسل، روى ابن القاسم عن مالك أنه يدخل الممسوح، فإن كان العضو ممسوحًا فغسله، فقال الشيخ أبو [إسحاق]: يجزئه، وقال ابن حبيب: في الخفين لأن الغسل مسح وزيادة.

وقد اختلف المذهب في حكم الترتيب على أربعة أقوال، فقيل إنه واجب، ولا تجزئ الطهارة إلا به. اقله الشافعي وهي رواية عن ابن زياد عن مالك، وقيل: إنه ليس بواجب، ولا يشترط في صحة الطهارة، وهو قول أبي حنيفة، فمنهم من قال: إنه سنة، ومنهم من قال: مستحب، وهو اختيار أبي القاسم بن الجلاب، وروى عن ابن القاسم أنه واجب مع الذكر ساقط مع النسيان (لأنها) وردت (فيهما) ولا أصل في الإطلاق والخفيف إلا أن يقول إن المجاز خير من الاشتراك، ولا يتجه على هذا إلا أن يكون حقيقة في الجمع في الترتيب. واختلف المتأخرون هل حكم الترتيب في المسنونات كحكمه في المفروضات أم لا؟ والمشهور أن الترتيب إنما ورد في الفرائض. قال ابن حبيب: "من نكس وضوءه عامدًا أو جاهلاً يبتدئ، فإن فعل ذلك ناسيًا نظرت، فإن فعله في مسنون أو مفروض فلا شيء عليه، وإن كان بين مفروض أحدهما قدم وأتى بما بعده من مفروض، وهو قول مطرف، وابن الماجشون"، وروى ابن ابن مسلمة في المبسوط فيمن غسل رجليه قبل مسح رأسه وليس عليه أن يعيد غسل رجليه، لأن المسح خفيف.

قال القاضي -رحمه الله -: "وأما فضائله فالسواك بعود يابس أو رطب" إلى آخر الفصل. شرح: اختلف العلماء في السواك، والجمهور على أنه ليس بواجب، خلافًا لأحمد وأصحابه، والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور قوله -صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وقد روى: (عند كل وضوء)، واحتج أحمد بقوله -عليه السلام -: (ما لكم تدخلون قدحًا استاكوا) ومحمل ذلك عندنا على الندب والاستحباب.

وقد جاء في الحض عليه أخبار كثيرة، فقد جاء أنه -عليه السلام - (كان يستاك عند قيلته من النوم. قبل الوضوء، وبعد الوضوء قبل الصلاة، وعند القيام إلى الصلاة). وأما تكرار المغسولات فثابتة، واتفق العلماء على أن الواجب الإسباغ، والزيادة عليه ليست واجبة، وقال -عليه السلام -: (لا يقبل الله الصلاة إلا به) قاله لما توضأ، وصح أنه توضأ مرتين وثلاثًا ثلاثًا، وفي الصحيح: (قام إلى شن معلقة (يتوضأ) وضوءًا بين الوضوءين) يريد -والله أعلم -مرتين لأنه بين الواجب ذلك بحسب الأحوال.

وقد اختلف العلماء في الثانية والثالثة فقيل: هما سنتان، وقيل: فضيلتان، وقيل: الأولى سنة، والثانية فضيلة. واختار الغزالي أن الثانية فضيلة، لقوله -عليه السلام -: (أتاه الله أجره مرتين)، وهذا يقتضي الفضيلة، والثالثة فضيلة، لقوله -عليه السلام -: (هذا وضوئي ووضوء النبيئين من قبلي) وهذا

يقتضي أنه سنة، وسنة مشهورة عن الأنبياء قبله. واختار أبو إسحاق والشيخ أبو محمد وغيرهما من شيوخنا أن ينوي بالثانية تكميل الفرض إن كان قد تخلى منه شيئًا لم يعلم به، وفيه نظر لأن النية المترددة لا تنوب عن النية العازمة على مشهور المذهب. قال ابن القاسم فيمن لم يذكر جنابة واغتسل على أنه إن كان عليه جنابة فهذا الغسل لرفع حكمها، ثم ذكر بعد ذلك جنابة قال: لا يجزئه رواه عيسى عنه، وقال عيسى: يجزئه. وكذلك اختلف إن كرر الثانية بنية الفضيلة، ثم تبين له أنه أخل ببعض الفرض هل تجزئه نية الفضيلة عن نية الفريضة أم لا؟ فيه قولان، واحتج بقول ابن كنانة أن غسل الجمعة ينوب عن غسل الجنابة قال فكيف [بهذا] وفصل فيه القاضي أبو الوليد تفصيلاً انظره في المنتقى. واختلف الأشياخ إذا شك في الثالثة، فكره بعضهم أن يعتقد في محله أن تكون رابعة فيقع في السرف الممنوع، وبعضهم أجاز ذلك، ورأى أنه فعل الثانية مع تجويز أن يكون بناء على أصل الشرع في البناء على الأقل، وإذا شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا، ومثله إذا شك في عرفة أن يكون يوم النحر فهل يكره صيامه مخافة الوقوع في المحظور أم لا يكره؟ بناء على الأقل فيه نظر

بين المتأخرين من الأشياخ. واختلف العلماء في الممسوحات كالرأس هل تكرر أم لا؟ قاعدة المذهب نفي التكرار في الممسوحات وهو قول أبي حنيفة واستحب الشافعي فيه التكرار، وقد ثبت ذلك من حديث عثمان وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام أبو عبد الله: أحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه -عليه السلام -، مسح الرأس مرة واحدة، وقد روى ابن نافع عن مالك في صفة المسح في الرأس قال: يمسح مرة أو مرتين، فاستقرأ منه بعض شيوخنا تكرار الممسوحات، ورأى بعضهم أنه ليس من باب التكرار وإنما هو من باب استيفاء ما بقي منه في المسحة الأولى. واتفقوا على نفي التكرار في التيمم، والمسح على الخفين، وهما يلحقان بالرأس على مشهور مذهب مالك. واختلف المذهب إذا مسح رأسه، ثم حلقه، فقال مالك: ليس عليه إعادة المسح، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة عليه الإعادة، وفي المدونة عنه هذا من لحن

الفقه روايتان وتأويلان. وقوله: "والثلاث أفضل من الاثنين": لأن لكل واحدة حظها من الإجزاء، وقد قال مالك: أكره الواحدة من غير العالم وفيه تأويلان: إما خشية الابتدائية، وإما لترك الفضل، وترك الفضائل مكروه، وقد روى عنه: لا أحب الواحدة إلا لعالم، يريد العالم بالوضوء، وأحكامه، لأنه يستوعب بها محل فرض بخلاف الجاهل فإنه عسى أن لا يكمل بها. وقوله: "وما زاد على الثلاث (بعد إيعاب العضو المغسول) (فسرف) ممنوع": هو كما ذكره: سرف ممنوع مع الإسباغ، فإن بقي بعد الثلاثة لمعة غسل موضع اللمعة وحده دون العضو كله، وإعادته العضو كله خروجه إلى حد التجاوز والسرف.

باب ما يوجب الوضوء وما ينقضه بعد صحته

باب ما يوجب الوضوء وما ينقضه بعد صحته قوله: "يوجب الوضوء شيئان": شرح: قد يفهم من هذه الترجمة ما لا يحصل عنده الترادف والتكرار، وذلك باطل، وإنما قصد القاضي الكلام على حالين: أحدهما الحدث بالأصل، الثاني من طرأ عليه الناقض بعد وجوب الطهارة، هما صورتان متباينتان بالشخص، متساويتان في الحكم، وذكر أن الوضوء يجب بشيئين أحداث وأسباب الأحداث، وترتيب حكم الوضوء عنهما واحد وربما اختلف. والفرق بين الحدث والسبب أن الحدث يقتضي الوضوء قليله وكثيره بخلاف السبب، لأنه مظنة، فينتقض الوضوء بما يتحقق فيه مظنة دون ما ينظر فيه غالبًا. قوله: "هو (خارج) من أحد السبيلين من المعتاد دون النادر": تكلم

على قاعدة المذهب. وقد تقرر أن الوضوء ينتقض بالخارج المعتاد على وجه الصحة والاعتياد. وقيدنا في صفة الخارج المعتاد تحرزًا من النادر كالحصا والدم والدود، هل ينتقض بذلك الوضوء أم لا؟ اختلف المذهب فيه على ثلاثة أقوال، فقيل: إنه ينقض الوضوء إجراء له مجرى المعتاد، قاله: محمد بن عبد الحكم، وهو قول: أبي حنيفة والشافعي، وقيل: إنه لا ينقض، إعطاء له حكم نفسه، وهو المشهور من المذهب، والقول الثالث إن كان معه بلل ينقض الوضوء وإلا فلا، وهذا لأنه يشبه المعتاد إذا قارنه البلل والله أعلم. وقوله: "فإن كان البول والمذي خارجين على وجه السلس والاستنكاح فلا وضوء فيهما واجب": قلت: لا يخلو صاحب السلس إما أن يقدر على التداوي أولاً، فإن قدر على رفع ذلك بالتداوي فنصوص المتقدمين على أنه معفو عنه، ولعل ذلك بناء على أن النجح مشكوك فيه، ومنهم من أوجب عليه الوضوء لكل صلاة بناء على غالب الظن النجح عند التداوي، وإن لم يقدر على

رفع دائه، فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال الشافعي وأبو حنيفة أن السلس ينقض الطهارة على حال، وقال مالك: لا ينقضها كدم الاستحاضة. وفصل المتأخرون ذلك فقالوا: إما أن تكون الملازمة أكثر، أو المفارقة أكثر، أو يتساوى الأمر فيه، ففي الصورة الأولى قولان إيجاب الوضوء واستحبابه، والمشهور الاستحباب والشاذ إيجاب الوضوء. وفي الصورة الثانية قولان أيضًا المشهور إيجاب الوضوء، والشاذ استحبابه. وفي الصورة الثالثة قولان الإيجاب والاستحباب، ومبنى ذلك على تحقيق المناط في المشقة هل هي حاصلة أم لا؟ فإن كان السلس لا ينقطع أصلاً، وهذه الصورة نادرة فلا معنى لإيجاب الوضوء ولا استحبابه. واتفقوا على إيجاب الوضوء على صاحب السلس والخارج المعتاد، وكذلك إذا لاعب قاصدًا اللذة، ووجد اللذة، فالوضوء واجب في هذه الصورة لأنها خارجة عن باب السلس. واختلف أهل العلم في السلس يجده المرء في صلاته، فذهب حذيفة

وزيد بن أسلم وثابت والحسن وعطاء وقتادة إلى أن البلل لا ينقض الوضوء، ولا يمنع صحة الصلاة حتى يقطر أو يسيل، وكان سعيد بن المسيب يقول: لا يبطل الوضوء ولا الصلاة وإن قطر وسال. وقال مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: "أنه سئل عن الرجل يجد البلل وهو في الصلاة فقال سعيد: لو سال على فخذي ما انصرفت حتى أقضي صلاتي"، وترجح عليه الرخصة في ترك الوضوء من المذي، ولعله إن ما حمله على ذلك فهو من قرائن الحال، وإلا فظاهر لفظه عام في البلل علة، مذيًا كان أو غيره. وروى ابن نافع عن مالك إن وجد بللاً في الصلاة فلا ينصرف حتى يستيقن، إلا أن يكون مستنكحًا. وحكى القاضي أبو الحسن في المرأة خرج منها دم الاستحاضة المرة بعد المرة عليها [ ... ] (وأنكر ذلك

[ ... ] واستحب (له) الوضوء)، وسئل مالك عمن اعتراه [المذي] المرة بعد المرة، فقال: عليه الوضوء إلا أن يستنكحه ذلك. فرع: إذا قرن صاحب السلس، أو المستحاضة بين صلاتين بوضوء واحد، فقطع ذلك عنه في بقية من الوقت الثانية، فروى أشهب عن مالك في المستحاضة الإعادة عليها لأنها اجتهدت وصلت. وروى ابن المواز عنه أنها تعيد الثانية، ويتخرج في مثله في صاحب السلس لاشتراكهما في أنه علة تعرض. قال القاضي -رحمه الله -: "ويفسد الوضوء الردة" إلى قوله: "وأما مس الذكر". شرح: اختلف العلماء في الردة هل تبطل الطهارة أم لا؟ وفي المذهب في ذلك قولان، والمشهور أنها تنقضها كما ذكره القاضي اعتمادًا على

قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الرمز: 65] الآية. والطهارة عمل، قال كثير من العلماء: لا تبطل أعمال المرتد بنفس الردة، بل بالوفاة عليها لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} [البقرة: 217] فشرط الوفاة في (الاحتباط) الاحتجاج بهذه الآية الثانية، لأنها عاملة، والأولى مخصوصة للنبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "ولا يوجب الوضوء بشيء خارج من غير السبيلين": تنبيهًا على مذهب المخالف، ولهم في ذلك تفصيل. وكذلك اختلفوا في ذبح البهيمة، وغسل الميت هل ينقض الوضوء أم لا؟ على ما أشار إليه القاضي بعد، والجمهور على أن ذلك غير موجب للوضوء. فرع: إذا انفتق مخرج الحدث من غير السبيلين فلا يخلو إما أن ينسد المخرجان المعلومان أم لا؟ فإن انسد وكان المنفتق تحت المعدة فهو كالمخرج المعتاد، وإن لم ينسد فهل يجري مكان المنفتق مجرى المخرج المعتاد؟ فيه قولان في المذهب، وكذلك إذا كان فوق المعدة، وهذه خاصة بالحدث. قوله: "وأما أسباب الأحداث فهي ما أدت إلى خروج الأحداث غالبًا (وهي) نوعان: زوال العقل، واللمس": وذكر أن زوال العقل يكون بأسباب النوم والجنون والإغماء والسكر، أما النوم فشبهة زوال العقل وإلحاقه بالجنون، والإغماء، فيه نظر عندي، بل النائم عاقل بأنه يشهد في حال نومه، بمعنى أن شرط التكليف حاصل له، ويتأكد هذا في خفيف النوم. وقد قال

كثير من الصحابة ومن بعدهم: أن الأمر كان منها فكيف يتصور أن يكون النائم غير عاقل إلا أن يدعي في ذلك خصوصية الأنبياء ولو كان النوم زوالاً للعقل حقيقة لتعطل إحساس النفس باللذات والآلام. وكل إنسان ينام، ولا يصدق إطلاق القول بأن كل إنسان يزول عقله كل ليلة، وقد أمر الله سبحانه به على الحيوانات وجعله راحة للنفس -وستأتي الأحكام -وذلك يدل على أنه نعمة، ولو كان فيه زوال العقل لكان نقمة، وإنما سماه الله سبحانه وفاة، لأن النفس لا تتعطل عن كثير من أفعاله البائنة، وأما النفس الحية المدركة، فلا يتعطل فيه البتة في يقظة ولا منام. ويتعلق بمعقودها الكلام في انتقاض الوضوء به، وقد قال كثير من السلف: إنه لا مدخل له في نقض الوضوء البتات بدليل أن الصحابة كانوا ينامون حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون، ولا يتوضأون، وفي الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (اعتم ليلة بصلاة العتمة فبادر عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -حتى نام النساء والصبيان)، ولم يأمرهم -عليه السلام -بتجديد الوضوء، وصح عن أبي موسى الأشعري وغيره أنه إذا كان نائمًا يجعل حارسًا، والجمهور على أن له مدخلاً في نقض الوضوء.

واختلف قول مالك هل هو حدث بنفسه، أو سبب الحدث، وهو المشهور، وإذ قلنا إنه حدث، نقض قليله وكثيره، وهو قول المزني وغيره، ووقع في سماع ابن القاسم. وجمهور المالكية في تفصيله فقسمه بعضهم بحسب حال النائم، وقسمه بعضهم بحسب حال النوم، فقال الأولون: إما أن ينام المرء قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو محتبيًا، أو مضطجعًا. أما القائم فلا وضوء عليه، لأنها حالة لا يثبت فيها النائم، وفي الراكع والساجد قولان في إيجاب الوضوء وإسقاطه، والمشهور إيجاب الوضوء على النائم ساجدًا دون الراكع، لأن الساجد حصل له سببان ينقضان الوضوء، والراكع لم يحصل له إلا سبب واحد، فناقص على مرتبة الساجد. واختلفوا في المستند، والصحيح إيجاب الوضوء عليه، وعلى المضطجع. وأما المحتبي فلا يخلو أن يستيقظ قبل انحلال حبوته أو بعد انحلالها أو مع ذلك، فإن استيقظ قبل انحلال حبوته فلا وضوء عليه، وإن استيقظ عند انحلال حبوته، ففي إيجاب الوضوء عليه خلاف، الأحوط الإيجاب.

وأما من قسمه بحسب صفة النوم في نفسه فقال: لا يخلو (إما) أن يكون ثقيلاً طويلاً، أو خفيفًا قصيرًا، أو خفيفًا طويلاً، أو ثقيلاً قصيرًا. فالصورة الأولى: توجب الوضوء، ولا وضوء عليه في الثانية. وفي الثالثة والرابعة قولان إيجاب الوضوء واستحبابه. وأما زوال العقل بالجنون والإغماء فيوجب الوضوء لأنه مظنة للحدث لا يشعر كالنوم، بل أحرى وأولى، وهل يوجب الغسل أم لا؟ فيه قولان في المذهب، المشهور أنه لا يوجب وقال ابن حبيب: من جن أو أغمي عليه (وجب عليه) الغسل لاحتمال أن ينزل وهو لا يشعر، وهذا فيه نظر، إذ لا يخفى إنزال الماء، فإن قدرناه خفي فهو عار عن اللذة فلا يوجب الغسل على الأصح. وأما اللمس فقد اختلف الفقهاء فيه هل يوجب الوضوء أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجب به الوضوء مطلقًا، وفسر اللمس في قوله: {أو لمستم النساء} [المائدة: 6] بأنه الجماع، وهو قول (ابن عبدوس) صح عنه أنه قال: "ربنا حي كريم كنى لكم باللمس عن الجماع". وقال ابن

عمر وابن مسعود المراد به في الآية اللمس باليد. وقال زيد بن أسلم والأوزاعي والشافعي اللمس يوجب الوضوء مطلقًا. واختلف قول الشافعي في لمس ذوات المحارم. وتحصيل مذهب (مالك) أنه لا يوجب الوضوء على حال دون حال، وقسمه المتأخرون أقسامًا إما أن يقصد اللمس ويجد اللذة، أو يقصد ولا يجد، أو لا يجد ولا يقصد. فإن قصد ووجد، وجب عليه الوضوء اتفاقًا عن المذهب، وإن لم يقصد ولم يجد فلا وضوء عليه، وإن وجد ولم يقصد وجب عليه الوضوء، وحكى بعض الشيوخ في هذه الصورة قولين، والصحيح ما ذكرناه. وإن قصد ولم يجد فيه قولان: إيجاب الوضوء وإسقاطه، وأجرأه بعض الشيوخ

على الخلاف في رفض الوضوء هل يؤثر أم لا؟ قال القاضي أبو الوليد: والذي يتحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء يلزم التذ بذلك أم لم يلتذ. قال المصنف -رحمه الله -: "إنما يجب بقصد اللذة دون وجودها" فيه مناقشة، لأن ظاهره حصر الموجب في القصد، وبقي كون الوجود موجبًا، ومقصده خلاف ذلك، وهو أن الوجود ليس بشرط في الوجوب، بل يجري في حصول الوجوب مجرى القصد وإن لم يقاربه وجود اللذة، فمقتضى كلامه ومقصده تقدير الوجوب على القصد المفرد وإن لم يجد اللذة. وأما اللمس فإن التذ توضأ، وإلا فلا وضوء عليه. وفرق القاضي بين أن يكون الحائل خفيفًا، أو كثيفًا، بناء على ما أشار إليه القاضي من حصول اللذة مع الخفيف الكثيف، والمعتمد لنا في اللمس على حديث عائشة وفيه: (فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها) الحديث. قوله: "ولا فرق بين اللمس باليد أو بالفم (بغير القبلة) ": وقد اختلف المذهب في القبلة على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنها تنقض الوضوء مطلقًا، وبه قال كثير من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود.

والثاني: اعتبار اللذة أنها إن كانت في الفم وجب الوضوء مطلقًا، وإن كانت في غيره اعتبرت اللذة، وفي المجموعة في قوله ليس على أحد الزوجين [ ... ] بغير شهوة من مرض أو غيره وضوء. قوله: "ولا (فرق) بين الزوجة والأجنبية وذات محرم": يريد مع وجود اللذة والله أعلم. قال القاضي -رحمه الله -: "وأما مس الذكر فالمراعاة فيه اللذة عند أصحابنا البغداديين كلمس النساء وعند المغاربة وبعض البغداديين ببطن الكف أو الأصابع فقط". شرح: اختلف المذهب في مس الذكر هل هو من نواقض الوضوء أم لا؟ على أربعة أقوال: الأول: أنه ناقض للوضوء مطلقًا اعتمادًا على ما رواه عمر بن الخطاب وأبو هريرة، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وسعد بن أبي

وقاص وحفصة، ويزيد بن خالد الجهني وبسرة وأم حبيبة وأبو أيوب وابن عمر وغيرهم. عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه أمر بالوضوء من مس الذكر. وألفاظهم مختلفة ومعناها واحد. الثاني: أنه لا ينقض الوضوء أصلاً اعتمادًا على قوله -عليه السلام -: (وهل هو إلا بضعة منك) وقد قيل: إنه منسوخ، لأنه كان في أول الإسلام، وحديث

أبي هريرة كان عام خيبر. والقول الثالث: أنه إن مس الذكر عامدًا وجب عليه الوضوء، وإن مسه ناسيًا فلا وضوء عليه، لأن حكم النسيان مرفوع في الشريعة مع أن الغالب عدم (اللذة). والقول الرابع: اعتبار باطن الكف، فإن مسه بباطن الكف وجب عليه الوضوء، لأن الغالب اللذة لما فيه من اللطافة، فالوضوء به. وإن مسه بظاهر كفه فلا وضوء عليه إلا أن يلتذ، واختلفوا في باطن الأصابع هل تنزل منزلة الكف أم لا؟ وفيه قولان في المذهب. وقدم جمهور العلماء حديث أبي هريرة وبسرة وغيرهما على حديث طلق لما ذكرناه من التاريخ. تفريع: إذا أمرناه بالوضوء ولم يتوضأ، فقد اختلف فيه المذهب، فروى ابن القاسم، وابن نافع عن مالك أنه يعيد الصلاة في الوقت، وروى ابن القاسم نفي الإعادة مطلقًا، وذهب العراقيون من أصحابنا إلى وجوب الإعادة في الوقت وبعده وبه قال ابن نافع، وابن دينار، وقد روى مالك

عن عبد الله بن عمر أنه أعاد الصبح بعد ما طلعت الشمس، وكان مس ذكره وصلى ولم يتوضأ، وروى الزهري (و) سالم بن عبد الله بن عمر: أن الصلاة التي أعاد عبد الله بن عمر هو العصر. فرع: إذا مسه من فوق حائل، فقد اختلف المذهب فيه فقيل: بإيجاب الوضوء مطلقًا، ولو مسه من فوق الحائل بدعة، وقيل: إن كان خفيفًا توضأ، وإن كان كثيفًا فلا وضوء عليه، إلا أن يلتذ. فرع: إذا مسه بإصبع زائدة فهل يجب عليه الوضوء أم لا؟ فيه قولان في المذهب: إيجاب الوضوء وإسقاطه. فرع: إذا مس غيره من جنسه أو من غير جنسه أو ذكرًا مقطوعًا أو ذكر صبي، أو فرج بهيمة فهل يجب عليه الوضوء أم لا؟ قولان في المذهب. قوله: "ومس المرأة فرجها مختلف فيه": قلت: اختلف المذهب على أربعة أقوال: إيجاب الوضوء، واستحبابه وإسقاطه وإيجابه إن لطفته أو قبضته وإلا فلا. قال إسماعيل بن أبي أويس: سألت خالي مالك بن أنس،

فقلت له: ما ألطفت؟ قال: أن تدخل إصبعها بين شفرتيه، قلت: وقبضت قال: أن تشد عليه يدها وتقبضه، وذلك مظنة اللذة غالبًا، والصحيح إن مسته أن الوضوء ينقض عليها لقوله -عليه السلام -: (من مس فرجه فليتوضأ). واختلف المذهب في الإنعاظ بمجرده، فروى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب الوضوء ولا غسل الذكر. قال الشيخ أبو إسحاق: من نعظ إنعاظًا قويًا انتقض وضوئه وهو قول مالك، وفرق شيوخنا إن كانت عادته لا يباشر إلا عن لذة، توضأ، وإلا فلا وضوء عليه. قوله: "ولا وضوء من مس الأنثيين": قلت الوضوء من مس الأنثيين

لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم -حين سئل عن الماء يكون بعد الماء فقال: (ذلك المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة) يريد من المذي. واتفق جمهور العلماء على أن مس الأنثيين لا يوجب الوضوء، وأوجبه عروة ومن اتبعه (فمن شاء)، وكذلك إذا مس ما بين أليتيه فلا وضوء عليه عند جمهور أهل العلم. وقال الليث: عليه الوضوء. وأما مس الدبر فالمشهور من المذهب أنه لا وضوء عليه بناء على لفظ الفرج والذكر لا يصدقان عليه. وروى حمديس القفصي عن مالك

وجوب الوضوء منه، وبه قال الزهري والشافعي وجماعة من العلماء. وأما أكل ما مسته النار فالخلاف في إيجاب الوضوء منه، مشهور بين الصحابة، واستقر جمهورهم على ترك الوضوء من ذلك حملاً على الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وكذلك اختلفوا في القهقهة، وفيمن مس صبيًا يحمل منيًا هل يجب الوضوء بذلك، والجمهور على إسقاط الوضوء من ذلك، إذ لم تثبت سنة تقتضي إيجاب الوضوء والله أعلم. وأما من ذبح الماشية فلا أعلم أن أحدًا أوجب الوضوء به، ولعل القاضي إنما نبه على خلاف اطلع عليه. فرع: يتعلق بهذا إيجاب الوضوء الأول، إذا تعين أنه أحدث قبل (الوضوء) أو بعده بخلاف في إيعاب الوضوء وهذا من باب تعيين الحدث، والشاك في الطهارة، وروى القاضي أبو الحسن عن مالك أن شك في الحدث في نفس الصلاة فلا وضوء عليه، وإن شك خارج الصلاة فلا وضوء عليه وهو قول العلماء.

باب ما يوجب الغسل

باب ما يوجب الغسل قوله: "يجب الغسل على الرجل بشيئين" إلى آخره. شرح: وهذا كما ذكره الغسل يجب بإنزال الماء الدافق للذة في اليقظة والمنام، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الاحتلام لا يوجب غسلاً وإن أنزل، ولعله بناء على أن النائم في حال نومه غير مكلف عنده. قوله: "للذة" احتراز من إنزاله لغير اللذة، وهل يجب الغسل بإنزاله عاريًا عن اللذة أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على النادر هل يعطى له حكم نفسه أو حكم الأكثر، وكذلك إذا قارنته اللذة غير المعتادة، ففي المذهب فيه قولان كاللدغ، أو ضرب سوط، أو سائق، أو أنزل في ماء ساخن فأمنى، والظاهر في هذه الصورة إيجاب الوضوء لأنها تشبه المعتادة، وكذلك اختلفوا إذا خرج منه الماء، فاغتسل، ثم خرج منه الماء بعد ذلك هل يجب عليه الغسل أم لا. وفيه قولان في المذهب. قوله: "والإيلاج بالحشفة في قبل أو دبر": [ ... ] وابن القاسم

المتفق عليه، كان الإيلاج محرمًا أو جائزًا فهو في إيجاب الغسل به سواء، وأما الإيلاج في الدبر محرم في الزوجات على خلاف في المذهب وغيره، ويحرم في غيرهن إجماعًا من أهل الملة، ولم يختلفوا في وجوب الغسل به. قوله: "وخروج الولد": محمول على إطلاقه، واتفقوا على أنه يوجب الغسل إذا خرج معه الدم، فإن خرج عاريًا عن الدم، ففي إيجاب الغسل بذلك قولان الظاهر إيجابه، إذ لا ينفك عن الدم غالبًا وإن قل. واختلف المذهب في الولدين يخرج أحدهما بعد الآخر، هل يتكرر عليها الغسل بخروج الولد الثاني أم لا؟ وفيه قولان في المذهب، والظاهر اعتبار الطوارئ والمعهود، فيترتب على كل واحدة حكمها. قوله: "وعليها بإسلام الكافر منهما" ويتعلق بهذا الكلام في غسل الكافر هل هو واجب أم مستحب وفيه قولان في المذهب الوجوب لقوله تعالى: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28] ولقوله -عليه السلام -في حديث ثمامة: (اذهب فاغسل بماء وسدر) وظاهر الأمر الوجوب.

والاستحباب لقوله -عليه السلام -: (الإسلام يجب ما قبله) ويلزم على مقتضاه سقوط الطهارة الصغرى عنه إلا أن يقال إنها واجبة على كل قائم إلى الصلاة، ففيه نظر. تحقيقه التساوي، فتأمله. وسيأتي الكلام في غسل الجمعة والعيدين.

باب صفة الاغتسال

باب صفة الاغتسال قال القاضي -رحمه الله -"باب صفة الاغتسال". تكلم في هذا الباب على مفروضات الغسل، ومسنوناته ومستحباته، وذكر أن المفروضات ثلاث منها التدلك ووجوبه في أصل مذهب مالك، وروى الشافعي وغيره أن التدليك ليس بواجب مطلقًا وهو قول أبي الفرج من المالكية، ولابن عبد الحكم في ذلك قولان: أحدهما: أنه ليس بواجب مطلقًا وهو قول الشافعي، وأبي الفرج، والثاني: أنه ليس بواجب في الطهارة الكبرى دون الصغرى وهو قول ابن عبد الحكم جاريًا على مذهب الشافعي. ولا ينبغي أن يعزى إلى المذهب، لأنه في مذهب الشافعي، وإنما عدل عنه عند اختصار الشافعي حين أشار لأصحابه ثم [ ... ] المتوضئ اجتماعهم إليه بعد موته، وكان ابن عبد الحكم يظن أنه يخصه بذلك فكان بعد

ذلك تخلف مذهبه، وربما وقع فيه. والمعتمد للشافعي وجوب التدلك على أنه شرط في تسميته "غسلاً" لغويًا بدليل أن العرب تفرق بين الغمس، والغسل لقوله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} [المائدة: 6] الآية، والمبالغة تقتضي الثلاثة لأنه أبلغ في النظافة، وفيه نظر، لأن المبالغة قد جاءت في التيمم، ومبناه على المسح المشروع تخفيفًا. واختلف في مسائل: الأولى: هل يشترط أن يكون العرك ملازمًا لصب الماء أو لا يشترط ذلك؟ فيه قولان في المذهب، والظاهر أنه إن كان عقبه أجزأ، لأن المقارنة حرج، وقد أسقطته الشريعة. المسألة الثانية: اختلفوا إذا بقي في جسده موضع لا يصل إليه بيديه، فقيل: يلزمه الاستنابة وقيل: لا يلزمه ذلك، ى ويكفيه أن يكثر من صب الماء فينوب له ذلك منابة التدلك، وقيل: إن كان كثيرًا استناب، وإن كان يسيرًا بالغ في صب الماء وأجزأه. قوله: "ويفعل الغسل بما يفعل به الوضوء من الماء المطلق": وهذا متفق عليه وانظر هل يجوز قول الحنفية في نبيذ أم لا؟ ومقتضى القياس جوازه في الغسل قياسًا على الوضوء، وذكر في تخليل اللحية في الغسل روايتان: أحدهما الوجوب، والأخرى أنه سنة، وقد روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: (أنه كان يخلل لحيته في الغسل) يروى عنه -عليه السلام -أنه قال: (تحت

كل شعرة جنابة) وهو ضعيف الإسناد. قوله: "ثم يتوضأ وضوء الصلاة": ظاهرة التكميل. وقد اختلف المذهب على أربعة أقوال: أحدهما تكميل الوضوء اعتمادًا على حديث ميمونة، وقيل: بالتخيير في ذلك حملا على جمع الحديثين، وفرق بعض العلماء بين أن يكون الموضع نقيًا فيقدمها، أو أن يكون قذرًا فيؤخرها فرارًا

من التكرار، إن قدم، وإذا غسلهما بعد فراغه من غسله، فإنه ينوي بذلك تكميل غسل الجنابة، وقد ذكرنا أنه يقصد النية بعد زوال الأذى عن فرجه عند شروعه في الغسل، ويبتدئ بعد زوال بغسل الفرج قاصدًا بذلك أمرين: الأول: نية رفع الأذى، الثاني: رفع الجنابة، وكان ابن عمرو (يأمر النساء أن ينقضن رؤوسهن) حينئذ بعد النية، ويشدهما. واختلف بعض السلف هل يلزم نقض شعر الرأس في الغسل أم لا؟ قولان فقالت طائفة من الصحابة والتابعين: أنه ينقض، وقالت طائفة، إنه لا ينقض. والمنصوص عن مالك أنه لا ينقض، وروى بعض المتأخرين نقضه، وتؤول كلام مالك على شعور الأعراب، ولم تكن مربوطة بالخرق والخيوط، وإنما كانت (مبسولة) أو مربوطة ربطًا خفيفًا لا يدفع الماء، والأحاديث في ذلك مختلفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم -، ففي صحيح مسلم عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إني امرأة أشد ظفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة قال:

(إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات). وكذلك في حديث ثوبان وروى هشام بن عروة عن عائشة -رضي الله عنها -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال لها في غسل الحيض: (انقضي واغسلي) قال النخعي: تنقض العروس رأسها لتغسل، وبلغ عائشة -رضي الله عنها -: (أن عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء أن ينقضن رؤوسهن ولا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن) فقالت: (كنت إذا اغتسلت اغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم -من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث غرفات).

باب في المياه وأحكامها

باب في المياه وأحكامها قال القاضي: "الأصل في المياه كلها الطهارة والتطهير" لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماًء طهورًا} [الفرقان: 48] ثم قد يخرج عن أصله بما يعرض له، والخارج عن أصله نوعان: نجس ومضاف. وكلاهما لا يستعمل في الطهارتين، وذكر ماء البحر في التفصيل، وبطهارته، وتطهيره قال جمهور العلماء إلا القليل اعتمادًا على قوله -عليه السلام -: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وفي إسناده متكلم. وقد أنكر القاضي أبو الحسن الخلاف فيه، ولا معنى لإنكاره لثبوت الخلاف عن عمر وابنه وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة. قوله: "إلا ما تغيرت أوصافه": وهذا ما ذكره، ولا خلاف فيه إلا التغيير بالريح، فقد قيل: إنه غير معتبر مطلقًا. حكاه القاضي أبو الوليد عن ابن الماجشون: لا اعتبار بتغير الرائحة، وحكى عن ابن الماجشون أنه لم

يعتبر تغيير الريح في بعض الصور دون بعض. قال: في الهرة تقع في البئر ميتة (لا يحل) ذلك الماء، وإن تغيرت رائحته حتى تغير لونه أو طعمه، وقال: "إن وقعت حية فغيرت رائحته فهو نجس" والذي قيل لا يتغير هو ما تغير بالمجاورة لا بالحلول كالشاة تموت حول الغدير، فيحمل الريح نتنها إلى الماء، فإنه لا ينجس، إذ هو مجاورة غير حال، واتفقوا على أن ما تغير بأصله وما هو قرار له ولا يخرج لذلك عن أصله، واختلفوا فيما تغير بأحمال حمأة وبأوراق الشجر، والحشيش، ونحوه، وهل هو مطهر، لأنه غالب، وهو قول العراقيين من المالكية أو مضافًا فلا تجوز الطهارة منه قاله الأبياني وروى ابن غانم في المجموعة عن مالك في غدير ترده الماشية، فتبول فيه وتروث، وتغير طعم الماء منها أنه لا يعجبني الوضوء به ولا أحرمه. وكذلك اختلفوا في المحل يذوب في الماء هل يضيفه أم لا؟ وهو الذي

اختاره القاضي أبو الحسن، لأن الملح من جنس الأرض، وقد اختلف في ذلك ابن أبي زيد (وابن القاسم) وكذلك اختلفوا في اليسير من طاهر المائعات يخالط الماء هل يضيفه أم لا؟ قال القاضي أبو الوليد عن خلاف بين الفقهاء: لعله إنه مطهر إلا ما روي عن (ابن القاسم) لأنه لا يتطهر به. قوله: "سوى أنه يكره استعمال القليل منه": هذا أحد الأقاويل. وقد اختلف المذهب في الماء اليسير تحله النجاسة اليسيرة، ولم تغيره، على أربعة أقوال. الأول: أنه نجس وهو قائم من المدونة. والثاني: مكروه ولا يستعمل مع وجود غيره كماء ولغ فيه الكلب. والثالث: أنه طاهر مطلقًا لعدم تغيره. والرابع: أنه مشكوك فيه، فيجمع بينه وبين التيمم، واختلف المذهب هل يبدأ به أو بالتيمم فيه قولان، وهل يصلي به صلاة واحدة أو صلاتين فيه قولان أيضًا. أما الماء الكثير إذا خالطته النجاسة ولم تغيره، فالمحققون على أنه طاهر مطهر، لأن مناط النجاسة التغيير، ومناط الطهارة عدمه. وقد روى عن مالك أنه لا يستعمل إذا وقعت فيه النجاسة غيرته أو لم تغيره. ورواية أهل

المدينة عن مالك أن النجاسة إذا خالطت الماء القليل ولم تغيره فهو طاهر مطهر. فرع: في العتبية من رواية موسى عن ابن القاسم "في ماء وقعت فيه قطرة من دم أو من بول إن كان مثل الجرار لم تفسده، وإن كان مثل إناء الوضوء أفسدته القطرة، وروى أبو زيد في ثمانيته عن ابن القاسم أن ذلك لا يفسده"، ومن رواية موسى في العتبية عن ابن القاسم أيضًا تفسده روث الدواب، إلا أن تجده طافيًا في الإناء فإنه لا يفسده، ولا بأس به للاختلاف فيه، وروى عن مالك في الإناء يوجد فيه الروث طافيًا أو يابسًا لا خير فيه، ولعله مبني على القول بنجاسة أرواثها، وبذلك قال: من لا يجوز مسح الخف منه. فرع: إذا وجد الماء متغيرًا أو أشكل سبب تغيره نظر إلى ظاهر أمره. قال ابن القاسم عن مالك في العتبية في بئر دار تغيرت ولم يدروا من أي شيء تغيرت قال: "تترك يومين أو ثلاثة، فإن طابت، وإلا لم يتوضأ بها، وقال في موضع آخر: أخاف أن تغسل القذرات، ولو علم أنه ليس منه لم ير به بأسًا. وروى عن علي بن زياد: رب بئر في الصفا والحجر لا يصل إليها شيء، ورب أرض رخوة يصل إليها، فروى ابن وهب عن مالك في البئر تملأ من النيل إذا زاد، ثم يقيم بعد زواله، لا يسقى منه، فتتغير رائحته بغير شيء أنه لا بأس بالوضوء منها. وفي العتبية عن أشهب في خليج

الإسكندرية لا يعجبني الوضوء به إذا تغير ماؤه، (وخرجت النعل) قال: وقال المغيرة: يسقى بهذا الماء المراحيض وقال: "اجعل بينك وبين الحرام سترة من الحلال" وظاهره الكراهية لا التحريم. وما رواه علي بن زياد عن مالك فيمن توضأ بماء وقعت فيه النجاسة ولم تغيره، وصلى أنه يعيد في الوقت. قال ابن حبيب: إن توضأ به عامدًا أو جاهلاً أعاد أبدًا، وإن توضأ به غير عالم أعاد في الوقت. وقال يحيى بن يحيى هو كمن لم يتوضأ ويعيد أبدًا، لأنه نجس كالمتغير. فرع: وروى أِهب عن مالك في العجين، أو الحنطة يبتل في الماء الذي وقعت فيه النجاسة ولم تغيره أنه لا يؤكل ذلك الخبز ولا الحنطة. واختلف شيوخنا هل المنع من أكل ذلك على وجه الكراهية، وهو قول أبي بكر الأبهري بناء على أنه ليس بنجس، أو على وجه التحريم، تأويله القاضي عن أشهب، وهو مقتضى روايته، وسئل مالك عن ذلك فقال: لا يؤكل ونهى أن يطرح ويعلف للدواب، وإن كان خبزًا. وحكى ابن

حبيب إذا عجن بالماء النجس المتغير لا يطعم للدجاج، وهو كالميتة، وحكى ابن القاسم عن مالك في المدونة أن الغسل النجس يعلف للنحل. وقال المغيرة: يسقى بهذا الدواب، وبنجس اللبن والأشجار والثمار وقال على، وابن عمر: يسقى الحيوان، ولا ينجس لبنها ولا ثمرة الشجر. وروى ابن حبيب عن ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ أن ما عجن من الخبز بماء لم يتغير أحد أوصافه فلا بأس أن يطعم (رغيفه) من (اليهودي دون النصراني) وحكى ابن سحنون عن أبيه أنه لا يطعم إياه ولا يمنعهم. قوله: "فالطاهر يسلبه التطهير فقط": ظاهره الإطلاق سواء كان الخلط يسيرًا أو كثيرًا وقد ذكرنا أن اليسير الطاهر لا يضيف الماء على مذهب الجماعة، خلافًا لظاهر كلام القاضي. قوله: "كماء الحب": وهو بالحاء المهملة وهو: الإناء الصغير.

قوله: "ويدخل فيه الماء المستعمل على كراهية مناله": قلت: الماء المستعمل لا يخلو مستعمله أن يكون طاهر الأعضاء أو نجس الأعضاء، فإن كان نجس الأعضاء فقد تقدم، وإن كان وسخًا طاهرًا وهو مورد الخلاف، قال ابن القاسم: كره استعماله مع وجود غيره، فإن لم يجد غيره، وتوضأ به أجزأه، وهو يقتضي أنه ظاهر مطهر، وهو المشهور من المذهب. وقال أصبغ: هو طاهر غير مطهر وهو أحد قولي الشافعي، وحكى عن ابن القاسم أنه مشكوك فيه، وتجمع بينه وبين التيمم، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه نجس احتجاجًا بأنه عليه الإثم، لأنه سماه: ماء الخطايا، والدليل على مذهبنا قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماًء طهورًا} وذلك يقتضي تكرار الطهارة بالماء. قاله القاضي أبو الوليد. قوله: "وما تغير بزعفران أو عصفر أو كافور أو بغير ذلك من الطيب" إلى آخره. هذا كله داخل في القسم المضاف بالطاهر، لم يختلف العلماء أنه طاهر غير مطهر. وقال أبو حنيفة: في ماء الزعفران، والورد،

ونحو إنه ظاهر مطهر، والدليل فيه قوله تعالى: {فلم تجدوا ماًء فتيمموا} [المائدة: 6] فشرط التيمم بعد الماء المطلق في استعمال التيمم، ولم يجعل سبحانه بين الماء المطلق واسطة. أبو حنيفة جعل ماء الزعفران ونحو واسطة بينهما، وفيه نظر. فصل قال القاضي -رحمه الله -: "والحيوان كله طاهر العين طاهر السؤر" إلى قوله: "ويغسل الإناء من ولوغ الكلب (في الماء) سبعًا". شرح: اتفق العلماء على طهارة عين الآدمي إلا المشترك والمميت ففيهما خلاف شاذ، واتفقوا على طهارة عين جميع الحيوان غير الآدمي إلا سباع الوحش، والكلب، والخنزير، والهرة، وسائر سباع الطير المفترسة، فالجمهور على أن ذلك كله طاهر العين، بناء على أن الحياة علة الطهارة، فكل حي طاهر. وقال أبو حنيفة: إنها نجسة العين حتى الهرة إلا أن ينتزع عفا عن سؤرها لما لم يكن الاحتراز منها، وعلى ذلك نشأ الخلاف بين العلماء في أسآر الحيوانات، وأصل المعنى أنها طاهرة، إلا ما لا يتوقى النجاسة غالبًا كالكلب، والخنزير، والمشركين. وقال الشافعي: أسآر الحيوانات كلها طاهرة إلا الكلب، والخنزير، وقال أبو حنيفة: آسارها كلها نجسة كلها نجسة إلا سباع الطير وسؤر الهوام، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك قوله -عليه السلام- في الهرة:

(إنها ليست بنجس، وإنما هي من الطوافين عليكم والطوافات). وقال عمر بن الخطاب لصاحب الحوض: "لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا، ووافقه على ذلك أهل الركب من الصحابة فكان كالإجماع. وقال الشافعي: قال -عليه السلام -: (يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا) وذلك يقتضي النجاسة. فرع: في المجموعة عن علي بن زياد عن مالك: الكلاب كالسباع لا يتوضأ بسؤرها إذا كان في أفواهها وقت شربها النجاسة. واختلف في الكلاب هل تنزل منزلة الهر أم لا؟ فيه قولان، وفي المدونة:

لا بأس بسؤر البرذون والبغال والحمير. وفي المختصر: لا بأس بفضل جميع الدواب والطير إلا أن يكون (موضعًا) تصيب فيه الأذى. وروى أبو زيد عن مالك: لا بأس بالوضوء والشرب من أحياض الدواب، وإن ولغت فيه للكلاب، فإن ولغت فيه الخنازير، فلا يتوضأ بها ولا يشرب منها". قال القاضي -رحمه الله -: "ويغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا" إلى قوله: "في غسل الإناء من ولوغ الخنزير" واختلف الفقهاء في غسل الإناء من ولوغ الكلب في مسائل: الأولى: هل الأمر بغسله إيجابًا، أو ندبًا، أو استحبابًا، وفيه قولان جاريان على الاختلاف في الأمر المطلق. الثانية: هل الغسل للعبادة وهو المشهور، أو النجاسة وهو قول

الشافعي وابن الماجشون وسحنون. الثالثة: هل ذلك عام في الكلاب كلهم، أو مخصوص بالكلب المنهي عن اتخاذه فيه قولان مبنيان على الألف واللام، هل هي جنسية، أو عهدية. الرابعة: هل يغسل أوان الطعام كأوان الماء أم لا؟ قولان جاريان على الخلاف فيما خرج على الغالب، هل له ذلك أم لا؟. الخامسة: هل يغسل بذلك الماء، وبماء آخر فيه قولان جاريان على القول بنجاسته أو بطهارته. السادسة: إذا ولغت كلاب شتى في إناء واحد هل يغسل لكل واحد سبعًا، أو تجزي سبعة على الجميع فيه قولان. السابعة: هل يغسل من ولوغ الخنزير أم لا؟ فيه قولان.

الثامنة: هل يعفر بالتراب أم لا؟ والخلاف فيه قائم بين السلف. التاسعة: إذا قلنا بالتعفير هل يجعل أول المرة أو آخرها فيه خلاف مبني على اختلاف طرق الأحاديث. العاشرة: هل العرك شرط أم لا؟ فأسقطه أبو حنيفة، ورآى أنه كسائر النجاسات والجمهور على غسل ذلك. الحادية عشر: هل يؤمر بغسله إذا أراد استعماله (مطلقًا) فيه قولان. الثانية عشر: الغسل من ولوغ الهرة، وقد جاء فيه اختلاف بسطناه في شرح الأحكام. قال القاضي -رحمه الله -: "ثم الحيوان بعد ذلك على ضريبين بري وبحري". شرح: فالبحري نوعان نوع تطول حياته في البر كالسلحفاة والسرطان. وذلك مختلف فيه هل يلحق بحيوان البر، أو بحيوان البحر، أن البحر أصله، أو بحيوان البر اعتبارًا بطول حياته فيه، وهو عند مالك طاهر حلال لا يحتاج إلى ذكاة"، وقال ابن نافع: هو حرام نجس إن مات حتف أنفه. ونوع

لا تطول حياته كالحوت ونحوه وهو ظاهر حي وميت، خلاف ما قال أبو حنيفة في ميته (وهو) معتمدنا على قوله -عليه السلام -: (هو الطهارة ماؤه الحل ميتته). وتبع أبو حنيفة عموم الكتاب قال الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]. وذكر البري أيضًا على ضربين: منه ما له نفس سائلة، ولا خلاف أنه نجس بالموت ومنه ما لا نفس له سائلة، وهل ينجس بالموت أو لا؟ اختلف العلماء فيه فقال مالك: لا ينجس بالموت كبنات وردان والخنفساء ونحوه. قال الشافعي: نجس بالموت. والدليل لنا قوله -عليه السلام -: (إذ (وقع) الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء). (قال): فمات (من ذلك) نجس، ونجس ما مات فيه من مائع غيره، أو لم يغيره، ولا ينجس الماء إلا بإذن يغيره"، وفيه

تفصيل، أما غير الماء من المائعات كالسمن، ونحوه هل ينجس جميعًا جامدًا، أو مائعًا، أو لا ينجس إلا موضع النجاسة وما جاورها إن كان جامدًا، فيه قولان في المذهب، والأصل في ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال: (إن كان مائعًا فاطرحه، وإن كان جامدًا فاطرحه وما حوله)، وبمقتضاه قال الجمهور؛ وهو المشهور عند مالك. وأما الماء فلا يخلو أن يتغير أم لا، فإن تغير نجس، وفي العتبية من رواية أشهب، وابن نافع عن مالك في البئر تقع فيه الهرة فتموت، فإنه ينزح منها مقدار كبر الدابة وصغرها، وقلة الماء وكثرته، وكذلك الفأرة. وفي المجموعة إن ما وقع في البئر من الفرث والدم فإنه ينزعه إلا أن يغلبه، وإن لم ينزع منها شيء، وفرق ابن الماجشون بين أن يقع حيًا أو ميتًا، فإن وقعت ميتة لم يضر ذلك الماء، وإن تغيرت فيه رائحته حتى تغير لونه أو طعمه، ولم يؤمر أهل البئر أن ينزحوا منها شيئًا، وإن وقعت حية، وماتت نزح منها قدر ما يطيبها، وإن لم يتغير، حكى ذلك أبو زيد في الثمانية، وقال أصبغ: (كل) الوجهين يفسد الماء (ويوجب إباحته) وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ أن الآبار الصغار كآبار الدور يفسدها ما مات فيها من شاة، أو دابة، أو دجاجة، وإن لم تتغير، ولا تفسد بما وقع فيها ميتة حتى تتغير.

وأما آبار السواني فلا تفسد، ولو مات فيها شاة إلا أن تتغير. وأما البرك العظام فإنه يفسدها ما مات فيها، وإن لم يتغير، إلا أن تكون عظيمة جدًا. قال ابن وهب: الدابة تموت في الجب يكون فيها ماء السماء، ولم يتغير الماء لكثرته إلا ما قرب منها قال: تخرج الدابة وينزع منها ما يذهب الرائحة واللون، فتطيب بذلك إن كان الماء كثيرًا وأنكره ابن القاسم وقال: لا خير فيه. وفرق ابن وهبب في هذه المسألة بين الماء المشكوك الذي له مادة، والدائم الذي لا مادة له، وأصل ابن القاسم أن الماء الدائم بخلاف الماء المتحرك الذي لا مادة له، والمشهور ألا تحديد فيه، وإنما ذلك لكثرته، وقلته، وكبر الدابة، وصغرها. وكان ابن الماجشون إذا سئل عن ذلك يقول ما نستقي أربعين خمسين، ستين، ولا تقف عند حد محصور. قوله: "وما تغير وجب نزح جميعه إلا أن يزول التغيير (منه) ": ولو قال حتى ينفذ الماء لكان صوابًا، لأن حكم النجاسة مستدام إلى أن يرفع الماء، ولعله جعل زوال التغيير علمًا على نفاذ الماء. وذكر فيما لا نفس له سائلة أنه لا ينجس بالموت وهو كما ذكره. فرع: اختلفوا فيما فيه دم ينتقل إليه عن غيره كالبراغيث، هل يلتحق بما له دم، أو بما ليس بدم، ففيه قولان في المذهب: فألحق القاضي بهوام

نجس من ( ... )، ونحوها مما له دم أنه نجس بالموت، وقال سحنون في برغوث ودم وقع في الثريد لا بأس أن يؤكل، وهذا يدل على أنه لا ينجس، وجعل ابن حبيب البعوض في صنف ما ليس له دم، ولا خلاف أنه لا ينجس بالموت، ولا ينجس ما مات فيه، ومنه ما له دم، ولا خلاف أنه نجس بالموت، وينجس ما مات فيه على تفصيل ما قدمناه، ومنه ما فيه دم، وليس له دم - كالبراغيث والبعوض - ففيه قولان في المذهب. قال القاضي -رحمه الله -: "لا يجوز التطهر من حدث ولا نجس ولا بشيء من المسنونات (والقرب) بمائع سوى الماء المطلق". وهذا كما ذكره، لا خلاف فيه في المذهب، وشذ على مذهبه أبو حنيفة. حيث جوز الوضوء بالنبيذ غير المسكر، وقد روي عنه أنه وافقهم في المسكر فقط. والحديث الذي اعتمد عليه ليلة الجن ضعيف الإسناد، وقد قيل إن ابن مسعود أنكره، وفي المذهب خلاف شاذ في المائعات، هل تزيل النجاسات أم لا؟ والمشهور الاقتصار على الماء لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا} وقوله -عليه السلام -: (حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء) فنص على الماء المطلق، فدل ما حوله بخلافه.

باب في الاستنجاء وآداب الأحداث

باب في الاستنجاء وآداب الأحداث قال القاضي -رحمه الله -: " (ويختار) لمريد الغائط والبول أن (يبعد) بموضع لا يقرب منه أحد ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها". شرح: هذا كما ذكره، ويؤخذ من هذه الترجمة أن الاستجمار داخل تحت الاستنجاء لأنه بوب على الاستنجاء، وأدخل فيه الاستجمار وأحكامه، وقد ثبت أن الاستنجاء مأخوذ من النجو، وهو المكان المنخفض من الأرض، وقد يطلق على الرفع أيضًا: {فاليوم ننجيك ببدنك} [يونس: 92]. قال أهل العلم: نجوتك أي نجوتك عن الأرض ليكون (خطابًا من المستعطفين وغيره من المتعبدين) فسمى الاستنجاء بذلك، لأن الغالب في حال المستنجي أن يقصد الموضع المنخفض من الأرض، لأنه بعيد عن العيون، وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: نجوت العود إذا قشرته وأصلحته، وسمى به لأنه في الاستنجاء تقشير النجاسة عن محلها وإذهاب لعينها.

قوله: "ويختار لمريد الغائط والبول أن يبعد": هذا كما ذكره، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ... وقوله -عليه السلام -: (إن كل سائلة يريد الرائحة وفي رواية يريد الصوت) وذكر في تهذيب الآثار أنه كان إذا أراد قضاء الحاجة يذهب (إلى المغسول) قال (ابن عمر): نحو ميلين عن مكة. وأما الاستقبال والاستدبار فقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من منع ذلك مطلقًا في الصحاري والمدائن بناء على حديث أبي أيوب، ولم يعتبره ابن مسعود وغيره وهو قول عطاء والنخعي والثوري ومجاهد

وأبو حنيفة (وأبي أيوب). وأجاز ذلك طائفة على الإطلاق [اعتمادًا] على حديث جابر قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن نستقبلها وأجاز مالك ذلك في المدائن دون الصحاري جمعًا بين الأحاديث، وأجاز قوم الاستدبار، ومنعوا الاستقبال، اعتمادًا على حديث ابن عمر. والصحيح ما ذهب إليه مالك، لأن فيه إعمال الأحاديث والجمع بينهما، فهو أولى من ادعاء النسخ. واختلف المذهب في النهي عن ذلك، هل النهي لحرمة القبلة فيمنع مطلقًا، أو لحرمة المصلين فيمنع حيث يكون المصلي وفيه قولان. واختلف المذهب أيضًا على قولين في التجريد هل تجري إجماعًا على مجرى قضاء الحاجة أم لا؟ وسبب الخلاف النظر في تحقيق المناط.

قوله: "ولا ينبغي له قضاء الحاجة على قارعة الطريق": قلت: النهي عن التخلي في الموارد (والطرقات) وقد (أمر) رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فاعل ذلك خرجه أهل الصحيح، وذلك لما فيه من الضرر العام، وثبت نهيه -صلى الله عليه وسلم -عن البول في الماء الدائم لأنه أفسده، وأجازه في الجاري، إذ لا يفسد بذلك. قوله: "ولا يكلم أحدًا في حال جلوسه للحدث": هذا (محمل) على الكراهية. قوله: "وإذا أراد الاستنجاء فبشماله": قلت: النهي عن الاستنجاء باليمين ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم -، والأمر فيه بين لما منع الاستنجاء به صحيح محرم، وقال به بعض أهل العلم، اعتمادًا على النية. قوله: "والأفضل (له) أن يجمع بين الماء والأحجار": أجمع العلماء على أن الجمع أفضل لقوله تعالى: {رجال يحبون أن يتطهروا} [التوبة: 108] وفي بعض الآثار أنهم كانوا يجمعون بين الأحجار والماء. وذكر أبو

داود أنهم كانوا يستنجون بالماء. وروى الشافعي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: (يا أهل قباء ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم). وأجمع جمهور العلماء على أن الآية نزلت في أهل قباء، وشك بعضهم فقال: إن المسجد المذكور في الآية، هو مسجد المدينة، وهو أصح. وأجمع العلماء على جواز الاقتصار على الماء، وأجمعوا على جواز الاقتصار على الاستجمار مع عدم الماء، واختلفوا هل يجوز الاقتصار مع وجود الماء أو لا يجوز، والمشهور جوازه اعتمادًا على أنهم كانوا في الصدر الأول يقتصرون عليه، وأباه ابن حبيب، وتأول ما كان يفعله الصدر (تأويلاً) ضعيفًا. وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: "غسل اليدين نجاة" وقال سعيد بن المسيب، وقد سئل عن الاستنجاء بالماء، فقال: "إنما ذلك وضوء النساء" والجمهور على خلافه. قوله: "فإن انتشر (عن) ذلك الموضع لم يجزئه إلا الماء": وهذا كما ذكره، لأنه لا يخرج حينئذ عن حكم الاستنجاء، وفيما قرب المخرج قولان، فقيل: لا يزال إلا بالماء، وقيل: يزال بالأحجار وبالماء، على أن ما قرب

الشيء حكمه كحكمه. قوله: "ويستحب له أن يأتي بالثلاثة": وهذا كما ذكره لقوله -عليه السلام -: (من استجمر فليوتر)، وقد اختلف العلماء هل المطلوب الإنقاء فقط، أو الإنقاء والعدد، ومذهب مالك أن العدد يستحب، واختلفت الرواية هل يجوز الاقتصار على ثلاثة للمخرجين، أو يطلب لكل واحد منهما وترًا، وفيه قولان، وكذلك اختلفوا هل يعم بكل حجر جميع المخرج، أو يجعل حجرين للجانبين، وثالث لوسط المخرج، والأول مشهور المذهب. واختلفوا إن اقتصر على حجر واحد له ثلاثة شعب، هل يجزئه أم لا؟ والصحيح حصول الإجزاء، بناء على أن المقصود النظافة والاستطابة. قوله: "وكل جامد يحصل به الإنقاء فهو كالحجر في الإجزاء": وهذا كما ذكره. وقد شد قوم فقصروا الاستجمار على الأحجار، والتراب وما في معناه. قوله: "ويكره له العظم والبعر": لأن فيه حقًا للجن، والبعر أنه ملوث، وفي الحديث: (ولا تقربني حائلاً ولا رجيعًا) (ومن

إجزائه) "أخذ الحجرين ورمى الروث، وقال: إنها نجس". وقال الشافعي: إذا استنجى بالعظم لا يجزئه، وفي بعض الآثار أن عمر بن الخطاب كان له عظم يستنجي به، ثم يتوضأ، وفي إسناده ضعف. قال القاضي -رحمه الله-: "ومَن ترك الاستنجاء والاستجمار وصلى بالنجاسة ... " إلى آخر الفصل. شرح: اختلف المذهب في إزالة النجاسة على أربعة أقوال: الأول: إنها فرض مطلق؛ لقوله تعالى: {وثيابك فطهر ... } الآية، وقد قيل: إن المراد القلب؛ لأن الآية مكية [نزلت] قبل نزول الوضوء، وفيه نظر؛ لقوله -عليه السلام- في حديث المعذبين: (إنهما يُعذبان، وما يُعذبان في كبير ... ) الحديث، وفي بعض روياته: (أما أحدهما فكان لا يستبرئ)، وفي آخَر: (لا يستبرئ مِن بول).

الثاني: إنها واجبة مع الذِّكر ساقطة مع النسيان؛ اعتمادًا على حديث النعلين، خرجه أبو داود، وفيه: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلعهما وهو في الصلاة، فاتبعه الصحابة عندما أخبره جبريل أن فيه قذرًا ... ) الحديث. الثالث: إنها مستحبة؛ اعتمادًا على حديث سلى جزور. الرابع: إنها سنة. وعلى ذلك يترتب الخلاف في صلاة مَن صلى ولم يستجمر ولم يستنج، فقيل: يُعيد أبدًا، وقيل: يُعيد في الوقت، وقيل: إن كان عامدًا أعاد أبدًا وإن كان ناسيًا أعاد في الوقت. واختُلِف في وقت الصبح، وقيل: يعيدها ما لم يقع الإسفار، وقيل: ما لم تطلع الشمس، وهو مبني على الخلاف في الإسفار: هل هو وقت اختيار أو وقت اضطرار؟ والخلاف فيه مشهور. واختلف في وقت الظهر والعصر، فقيل: الإصفار، وقيل الغروب. قوله: "ويكره له البول قائمًا": اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال: فمنهم مَن حرَّمه؛ اعتمادًا على النهي الثابت في حديث عائشة: (مَن حدَّثكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بال قائمًا فلا تصدقوه). ومنهم مَن كرهه. ومنهم مَن

أباحه، اعتمادًا على حديث السباطة وفيه: (أنه بال قائمًا)، وروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال البول: قائمًا أحصن للدبر. وقيل: إن العرب تستشفي بالبول قائمًا، وقيل: إنما فعله -عليه السلام -لمرض، وقيل: لنجاسة الموضع. قال القاضي -رحمه الله -: "كل مائع يخرج من أحد السبيلين" إلى آخره. قلت: هذا كما ذكره، ولا خلاف بين العلماء في نجاسة ما خرج من أحد السبيلين إلا المني، ففيه خلاف بين العلماء. فقال الشافعي: هو طاهر ويجزئ فركه، اعتمادًا على حديث عائشة، وقال مالك وأصحابه: هو

نجس، لأنه جرى مجرى البول ومخرجه، مع الاعتماد على الأحاديث المقتضية غسله أيضًا، وفرق قوم بين الرطب واليابس، فأجازوا فرك اليابس، وغسل الرطب، واختلفوا فيما خرج من فرج المرأة (من دم) هل هو نجس أجراه مجرى سائر المائعات الخارجة منه، أو طاهر أجراه مجرى عرقها. قوله: "والدماء كلها نجسة، (من إنسان أو حيوان له نفس سائلة) تجوز الصلاة بقليلها ولا تجوز بكثيرها": هذا فيه تسامح لأن ظاهر الجواز يقتضي إباحة دخول الصلاة بالدم اليسير وهو ممتنع، وإنما الرخصة في العفو منه (بعد) رؤيته في الصلاة إلا دم الحيض ففيه روايتان، الأمر كما ذكره، فقيل: إنه كسائر الدماء يعفى عن يسيره، قيل: لا يعفى عن يسيره، ولا عن كثيره، لأن الله تعالى سماه "أذى"، وهذا فيه نظر، لأن كل نجس أذى، واختلفوا في دم الحوت هل هو نجس أجراه مجرى سائر الدماء، أو

طاهر لكونه غير مسفوح، قاله ابن القاسم. مسألة: قليل النجاسة وكثيرها سواء لا يعفي عنه سوى الدم عند مالك، وقال الشافعي: النجاسات كلها سواء، الدم، وغيره لا يعفى عن قليلها ولا كثيرها بدليل حديث العرى وقال أبو حنيفة: قدر الدرهم من جميع النجاسات معفو عنه، وما زاد على ذلك يجب إزالتها، والدليل على خلاف قوله، حديث العرى، وظاهره الإطلاق في يسير البول وكثيره، وإنما رأى مالك العفو عن قليل الدم لعدم الانفكاك عنه والتحرز منه، وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه يغسل ما قل من الدم وكثر كقول الشافعي. فرع: إذا قلنا إن اليسير من الدم معفو عنه، فقد اختلف في حد اليسير، فحكى الداودي عن مالك أنه لا حد له، لقلوه في دم البراغيث أنه يغسل إلا أن ينتشر، وروى علي بن زياد في المجموعة عن مالك أن مقدار الدرهم من الدم لا تعاد الصلاة منه، ولكن تعاد من الفاحش الكثير المنتشر، وقال ابن حبيب: سئل مالك عن قدر الدرهم فرآه كثيرًا، وروى قدر الخنصر قليلاً.

قال المصنف عفا الله عنه: قدر ما فوق الدرهم كثير، وقدر القيراط فما دونه يسير، واختلفوا فيما بينهما، هل هو في حد اليسير أو الكثير، فيه قولان في المذهب، وقال ابن قتيبة: إن الدرهم الصنجي قليل ولو كان هو الماء، بحيث لو انتشر لعم جميع الثوب، وهذا فيه نظر، وقد قيل: إن قدر الدرهم كحافر البغل. قال ابن حبيب: من لم يغسل موضع المحاجم من الدم حتى صلى لم يعد. وفي العتبية عن أشهب: من جفف من غسل في ثوب فيه دم ألا يخرج بالتجفيف، فلا شيء عليه، وإن كان فيه دم كثير يخاف بلل التجفيف فليغسل داره منه. فرع: إذا ألقى عليه في صلاته نجس قال سحنون: أرى أن يبتدئ صلاته، وقال أبو الفرج: يتمادى على صلاته وإن أمكنه طرحه، وكذلك

اختلفوا إذا رأى نجاسة في ثوبه في أثناء الصلاة: فروَى ابن القاسم عن مالك: أنه يقطع الصلاة، وقال غيره: يتمادى ويعيد إيجابًا أو استحبابًا على اختلاف في إزالة النجاسة هل هي فرض أم لا؟ وقال أبو الفرج: إن خف طرحه تمادى في صلاته ولم يقطعها. وذكر القاضي: أن الأبوال تابعة للحوم، وهو أصل مذهب مالك في الألبان والأبوال. وقال الشافعي بعموم نجاسة الأبوال. والمعتمد لنا: حديث العرنيين، أباح لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- شُرب أبوال الإبل وألبانها، وتأوله الشافعي على أنه محل ضرورة. واحتج علماؤنا بحديث طوافه -عليه السلام- على البعير ولا يُؤمَن منه الحدث. ولا حجة فيه. قوله: "وأجزاء الميتة كلها نجسة إلا ما لا حياة فيه": هو كما ذكره، أن ما تحله الحياة ينجس بالموت، وما لا تحله الحياة لا ينجس بالموت. واختلف المذهب في أنياب الفيل على أربعة أقوال: التحريم، والكراهية، والإباحة، والفرق بين أن يسلق فينتفع به كالمدبوغ أو لا يسلق فلا ينتبع به. قالوا: وأطراف القرون التي لا تؤلم البهيمة بقطعها ولا تنمو بنفسها ميتة. وكذلك خصية الفحل تبقى معلقة بعد الخصي ميتة أيضًا؛ لأن نمو الحياة قد انقطعت عنها بانقطاع نموها. ولو حلب من الشاة الميتة لبنٌ بعد موتها لم

يُشرَب، وقيل إنه يُشرَب؛ لأنه لو أخذ منها في حال حياتها لم يضرها. ولو ماتت دجاجة فوُجدَت فيها بيضة؛ فهي نجسة في المشهور. قوله: "وجلود الميتة كلها نجسة لا يطهرها الدباغ": تعقَّبه عليه بعض شيوخنا؛ لأن لفظه معارِض لنص قوله -عليه السلام-: (إذا دُبغ الإهاب فقد طهر). والأولى أن يقول: إنما يطهرها الدباغ طهارة خاصة. وقد اختلف المذهب فيه على قولين: فقيل: إنما يطهرها طهارة عامة، وقيل: طهارة خاصة. وفائدة الخلاف: هل يُباع أم لا؟ فيه قولان. وهل يُستعمَل في اليابسات فقط؟ أو المائعات واليابسات؟ فيه قولان جاريان على ما ذكرناه مِن عموم الطهارة أو خصوصها، والظاهر العموم.

باب في التيمم

باب في التيمم قال القاضي -رحمه الله -: "وفصوله خمسة" إلى قوله: "وأما جوازه لتعذر الاستعمال". شرح: التيمم يقال: تيممتك أي قصدتك مخففًا ومشددًا إذا قصدك وهو في الشريعة طهارة ترابية توجب مع الإضرار دون الاختيار، والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة. كما قال الله تعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} [النساء: 43] أي اقصدوا. وحديث العقد ثابت، وبسببه أنزل الله آية التيمم، وقد قال -عليه السلام -: (إنما يكفيك ضربة لوجهك ويديك).

قوله: "فأما من يجوز له التيمم فكل محدث حدثًا أعلى أو أدنى": هذا مذهب الجمهور، وقد نقل عن ابن مسعود وغيره أن الجنب لا يتيمم، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب والجمهور على خلافه والقائلون بأنه تيمم اختلفوا إذا وجد الماء هل يلزمه استعمالها أم لا؟ فقال الجمهور: إن وجود الماء ناقض لهذه الطهارة. وقال أبو سلمة عبد الرحمن بن عوف لا يلزمه استعمال الماء، والدليل على خلاف ما ذهب إليه قوله -عليه السلام -: (فأمسسه جلدك). قوله: "فإن وجد دون الكفاية لم يلزمه استعماله": وهذا كما ذكره، وحكمه أن يزيل به إذا كان عليه، فأما إن لم يكن عليه، إذا لم يلزمه استعماله وعدمه لشربه هذا عند الجمهور إلا من شذ (تعولاً) من الشواذ، لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا} وهذا واجد الماء، وهو ضعيف في النظر. والمعنى: فإن لم تجدوا ماء كافيًا، فعليه يدل السياق. قوله: "وذلك بأن يدخل الوقت": بيان أنه لا يتيمم قبل الوقت وبه قال الجمهور: بناء على أنه لا يرفع الحدث.

قوله: "وأما ما يخص فهو عادم الماء لا يجوز له التيمم إلا بعد طلب الماء وإعوازه": وهو مذهب الجمهور لقوله تعالى: {فلم تجدوا} واشترط في استعمال التيمم نفي الوجود، وليس يتحقق ذلك إلا بعد طلب الماء، وقد شذ قوم من أهل العلم فلم يوجبوا الطلب واستعمال (الأسباب) وهذا باطل، ولزمه الشراء بقدر ما لا يحجف به، وليس فيه حد محصور. قال ابن الجلاب: ويمكن أن يحد بالثلث بناء على أنه يسير، أو ذلك مختلف بحسب الأحوال. وذكر في تعذر الاستعمال وجوهًا، منها: متفق عليه في المذهب، وهو لخوف التلف، ومنها مختلف فيه، وهو ما دون ذلك، وشد الحسن بن جبير، فقال: يجب عليه استعمال الماء ولو خاف التلف. ونص الكتاب والسنة يرد عليه: قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] وقال: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] وفي حدي أبي داود: (ما لهم قتلوه قتلهم الله، ألا تسألوا، إذ لم يعلموا) وخوفه على نفسه من لصوص أو سباع مبيح الانتقال إلى التيمم، فإن خاف تلف ماله فهل يبيح له التيمم أم لا؟ فيه قولان في المذهب، المشهور الإباحة لأن دين الله يسر، وأما إذا خاف إن تشاغل به فوات الوقت، فهل يبيح له التيمم أم لا؟ فيه قولان في المذهب، فروى البغداديون عن المذهب أنه يتيمم محافظة على الوقت، وقيل: لا يتيمم، ويلزمه استعمال الماء لقوله تعالى: {فلم تجدوا}

واختلفوا إذا خاف فوات الجمعة بذهابه إلى النيل، والجمهور على أنه يجب عليه طلب الماء. وقال: أهل الظاهر يبيح له الانتقال إلى التراب. والخلاف مبني على وجوبه أو نفيه. قوله: "أو أن يخاف على نفسه أو إنسان يراه التلف": أطلق ولم يفرق، ولا خلاف أن المسلم مقدم، وأن خوفه تلفه مبيح لانتقاله إلى التيمم، وهل يقدم الكافر، أم تقدم الصلاة عليه؟ لم أر فيه نصًا. قال بعض الشيوخ: يحتمل الخلاف. قوله: "بل يجوز للحاضر والمسافر": أما المريض والمسافر فالإجماع على أنهم من أهل التيمم، واختلفوا في المرض هل هو عام في كل مريض أو مخصوص، والظاهر أنه للمريض المانع من استعمال الماء لخوف شديد. واختلفوا أيضًا في السفر المبيح للتيمم، فقيل: السفر المبيح لقصر الصلاة، وقيل: هو عام في كل سفر. واختلفوا في الحاضر الصحيح، هل يباح له التيمم عند الماء أم لا؟ وفيه قولان في المذهب جاريان على الخلاف في المفهوم هل هو حجة أم لا؟. قوله: "فأما صفة التيمم فهي أن يضع يديه على الأرض": قال بعض الشيوخ: مضموم الأصابع في الضربة للوجه، (ومفترقهما) في الضربة الثانية لليدين، لأنه لو فتح أصابعه في شربة الوجه لتعلق به التراب، فمسح حينئذ بتراب قصد به مسح الوجه، فيكون كالماء المستعمل، وزاد بعض الشيوخ: ويجعل أطراف الأنامل على الصعيد، ويمسح وجهه كله كما

يفعل في الوضوء فشذ قوم من أهل العلم فقالوا: يقدم اليدين على الوجه، وهو قول الأوزاعي. قال أبو حنيفة: هو بالخيار إن شاء قدم الوجه، وإن شاء قدم اليدين. ومبنى المسألة على الخلاف في "الواو" هل ترتب، أم لا؟. ومنتهى اليدين في المسح المرفقان قياسًا على الوضوء، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، وقال علي بن أبي طالب وابن المسيب والأعمش والأوزاعي وعطاء وأحمد وإسحاق: يمسحهما. وقال الزهري: يبلغ بالتيمم إلى الآباط والمناكب، وهو قول محمد بن مسلمة، ولا دليل عليه. واختلفوا إذا اقتصر على الكوعين، وقلنا: إنه يقتصر، أو اقتصر على ضربة واحدة، وقلنا: إنه لا يقتصر، فقيل: لا إعادة عليه، وقيل: يعيد أبدًا، وقيل: يعيد في الوقت. فرع: هل ينفض يديه من التراب أم لا؟ اختلف الفقهاء فيه فقال مالك: ينفضهما نفضًا خفيفًا، وقال الشافعي: لا بأس به، وقال أحمد: لا يبالي

نفض أو لم ينفض، وصح النفخ فيهما من حديث عمار بن يسار وهو أصل في الباب. قوله: "فأما ما يتيمم به فالأرض نفسها وما تصاعد عليها": وهذا يجوز بكل ما هو على وجه الأرض. قال الله تعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا}. واختلف العلماء في الصعيد، فقيل: وجه الأرض ترابًا كان أو غيره قاله ابن الأعرابي. وقال: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات، وقال غيره: الصعيد المستوي من الأرض، وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب الأرض ذي غبار، وقال: الصعيد الأرض نفسها. واختلفوا في الطيب، فقيل: الطاهر، وفيل: (المذهب)، وعلى هذا اختلفوا، هل يجوز التيمم على السباخ أم لا؟ والجمهور على جوازه خلافًا

لمجاهد، بناء على أن الطيب المنبت. واختلفوا في غير التراب هل ينزل منزلة التراب أم لا؟ وفيه قولان في المذهب والجمهور على أنه ينزل منزلته مع وجود التراب وعدمه تعلقًا بلفظ الصعيد، وقيل: لا ينزل مع وجوده لقوله -عليه السلام -: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) وعموم قوله تعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} وقال -عليه السلام -: (الصعيد الطيب كافيك) وفي رواية: (التراب كافيك). واختلفوا في المصنوعات، والمشهور من المذهب المنع لأنه (تغيرته) الصنعة، واختلفوا فيما لا يلصق باليد من التراب المنقول، والرمل الذي تسفيه الرياح هل يتيمم عليه أم لا؟ وفي المذهب فيه قولان، واختلف في الملح على قولين: أحدهما: جواز التيمم لدخوله تحت الصعيد. الثاني: في ذلك لأنه بناء على منفعة. الثالث: جوازه في المعدن دون السبخ، لأن السبخ منفعته حقيقة، بخلاف التيمم. قال القاضي -رحمه الله -: "ولا يجوز الجمع بالتيمم بين صلوات فروض" إلى قوله: "ففيه روايتان". شرح: اختلف المذهب هل يجوز الجمع بين فرضين بتيمم واحد م لا؟ والمشهور المنع، بناء على وجوب الطلب، وقيل: إنه جائز مطلقًا، وقيل: إنه

جائز في المشتركة الوقت خاصة، لأنها كصلاة واحدة، وقيل: إنه جائز في الفوائت دون الحواضر، واختلف إذا تيمم للنوافل هل يصلي به الفرائض، والمشهور المنع. وقال (إسحاق): إذا تيمم للفجر جاز أن يصلي به الصبح. وروى عن مالك وبعض أصحابنا أنه يصلي الضحى بتيمم الصبح، والمشهور منعه، وأجاز سحنون: أن يصلي الوتر من أول الليل بتيمم العتمة، وأجاز غيره أن يصلي الصبح بتيمم الوتر آخر الليل، ومنعه الجمهور. واختلف القائلون بأنه يعيد التيمم للفريضة، هل الإعادة إيجاب أم استحباب، فيه قولان بين المتأخرين، والصحيح الإيجاب، وحكى قولين في الجنب ينوي الحدث الأصغر ناسيًا للحدث الأكبر. أحدهما: الإجزاء، والثاني: نفيه لاختلاف الواجب. قوله: "فكل قربة لزم التطهر لها بالماء": قيد المسألة: بالقربة، ولم يقل: كل حكم لزم التطهر له بالماء، أو أمر، وذلك تحرزًا من أن يدخل عليه تيمم الحائض للوطء، وليس في المذهب حتى تطهر بالماء، ولا يلزم ذلك في القربة لكون الوطء لا يتناوله اسمها، ولا يقتضيه نظمها. قال القاضي -رحمه الله -: "ولا يخلو مريد التيمم من ثلاثة أحوال" إلى آخر الباب. شرح: وقد ذكرنا أن التيمم قبل الوقت لا يجوز بناء على وجوب الطلب، ولا تجوز إلا بعد دخول الوقت. وإذ جاز التيمم بعد دخول الوقت، فله التيمم أول الوقت، ووسطه، وآخره على حكم الوضوء، إلا أن شيوخ المذهب فصلوه تفصيلاً. الراجي يتيمم (أول) الوقت بناء على غالب ظنه

أيضًا، أنه لا يصله في الوقت، واختلفوا في الراجي اليائس يجمع الأمرين، فقيل: يتيمم أول الوقت، وقيل: يتيمم وسطه، وهو الأظهر، وهذا خلاف في حال (لم يحكم) على واجد الماء. وتحصيل مذهب مالك -عليه السلام -: أنه لا يخلو أن يجد الماء قبل التلبس بالصلاة، أو في أثناء الصلاة، أو بعد الفراغ منها، فإن وجد بعد التيمم، وقبل الصلاة فالجمهور على أنه عليه استعماله، لأنه إنما أبيح له الاستفتاح بالصلاة من فقد الماء، لا مع وجوده، وشذ قوم وقالوا: ليس له استعماله، فإن وجده في أثناء الصلاة هل يقطع أم لا؟ وفي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقطع، لأن اشتراط الطهارة في آخر صلاته على (حد) اشتراطه في جميعها فبوجود الماء يبطل التراب، فهو باعتبار ما بقي منها، كمن وجد الماء قبل الصلاة. والثاني: أنه يتمادى، ولا يقطع، لأنه دخل في الصلاة بوجه جائز، فلا يجوز إبطاله لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33]. والثالث: أنه يقطع، إذا ذكر الماء في رحله، ولا يقطع إن طلع به عليه إنسان، لأن الأول معه ضرب من التفريط بخلاف من طلع به عليه. والقائلون بأنه لا يقطع اختلفوا في الإعادة، فقيل: لا إعادة عليه، بناء على أن الفرض قد أدى وجوبه، وقيل: يعيد في الوقت لتحصيل فضيلة الماء، وقيل: يعيد أبدًا بناء على ما ذكرناه أولاً من اعتبار الإجزاء، وإذا بطل الجزء بطل الكل. وإن وجد بعد الصلاة فالمشهور أنه لا يعيد، وقيل: يعيد في الوقت.

قوله: "والتيمم لا يرفع الحدث": هذه عبارة (تترك) الطاهر لا يفعل (الاجتماع) على أن التيمم باختيار الصلاة إلى (الصلاة) ومقصودهم في إطلاق هذه العبارة.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين قال القاضي -رحمه الله -: "المسح على الخفين جائز في (السفر والحضر) للرجال والنساء" إلى آخره. شرح: اختلف المذهب في المسح على الخفين على ثلاثة أقوال: أحدها أنه جائز في السفر والحضر، وقيل: إنه جائز في السفر فقط، وقيل: إنه [لا] يمسح في السفر والحضر، وروى أنه مكروه عند مالك وقد قال أهل العلم: فرآه من قرأ: {وأرجلكم إلى الكعبين} بالخفض على (أن) المقصود به المسح على الخفين، والأصل في ذلك السنة التي ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قولاً وفعلاً. قوله: "وذلك إذا ادخل رجليه في الخفين بعد كمال وضوئه": جعل كمال الطهارة من شروط المسح، وهذا كما ذكره، أن المسح على الخفين جائز لمن لبسها على طهارة بالماء كاملة غير عاص بلبسهما. فقولنا: "على طهارة" احتراز من الحدث. وجمهور العلماء على اشتراط الطهارة في هذا الباب بخلاف

العصائب والجبائر، وذلك لأن المشقة حاصلة باشتراط في المسح على العصائب بخلاف الخفين. وقولنا: "بالماء" احتراز من الطهارة الترابية وهل ينزل منزلة الطهارة بالماء أم لا؟ فيه قولان في المذهب، والظاهر أنها كالماء عند قيام (مؤخره) وبناه بعض المتأخرين في التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟ وقوله: "بعد كمال" احتراز من تفريق الطهارة، وفيه خلاف، المشهور ما ذكرناه. قوله: "من غير توقيت بمدة": على المشهور من المذهب، وقد قيل: إنه يؤقت المسافر على أنه أباح له، وبه قال: جميع الصحابة والتابعين اعتمادًا على الحديث الثابت في ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم -وحد الخرق اليسير بما لا يمنع متابعة المشي فيه. وقد اختلف الناس هل من شرط اليسير أن يظهر الأصابع أو إلى الأصابع. وذكر الخلاف في المسح على الجوربين الجرموقين، والخلاف قائم فيهما بين الصحابة ومن بعدهم، ومبناه على القياس. قوله: "والمختار مسح أعلاهما وأسفلهما": وهو كما ذكره، وقد اختلف المذهب في الاقتصار على أحدهما، قيل: يجزئ واحد منهما، وقيل: لا يجزئ من ذلك إلا المسح عليهما، ومشهور المذهب جواز الاقتصار على أعلاهما دون أسفلهما وهو خلاف مقتضى القياس، وإذا اقتصر على الأعلى أعاد في الوقت، ولو اقتصر على الأسفل أعاد أبدًا.

والمسح على العمامة مختلف فيها بين الصحابة ومن بعدهم، ومذهب مالك المنع من ذلك وههنا مسائل: الأولى: هل يجزئ مسح الخف من ورث الدواب، أو لا بد من الغسل، فيه قولان في المذهب، والمشهور جواز الاكتفاء بالمسح، واتفقوا على أن أرواث بني آدم لا يجزئ المسح منها، والفرق بين الوجهين انفكاك الطرق، وحصول النجاسات الاجتماعية في أحد الحالين بخلاف الآخر. واختلفوا في النعل هل يجري مجرى الخف أم لا؟ وظاهر المذهب أن النعل كالخف. وقال ابن حبيب، لا يجزئ في النعل إلا الغسل، وفرق علي وابن القاسم بين النعل والخف ورأى أن المسح جائز في الخف دون النعل. الثانية: اختلف المتأخرون في الرجل هل يجزئ المسح أو لا؟ واختار القاضي أبو الوليد أن المسح يجزئ فيها، لأن العلة جارية في الرجل، لأن أكثر الناس يمشي حافيًا إلا أن يقال: الفرق بينهما أن الخف بخلاف القدم، فالغسل يستحب الاعقاد عليه، وقد روى ابن القاسم في العتبية عن مالك أن السيف يمسح من الدم، ويصلى به، لأنه يفسد بالغسل، ولأن الدم يبقى له بعد الغسل أثر كالمحاجم والله أعلم.

باب الحيض والنفاس وما يتصل بهما

باب الحيض والنفاس وما يتصل بهما قال القاضي -رحمه الله -: "الدماء التي ترخيها الرحم ثلاثة" إلى قوله: "وأقل الحيض والنفاس لا حد له". شرح: الحيض مأخوذ من قولهم: (حاضت السماء ماء أحمر) (وهو) شيء كتبه الله على بنات آدم، وقيل: إن أول من حاض [أمنا حواء] وقيل: (إنها بنت علي بن أبابل) وقع في صحيح البخاري والأول لقوله -عليه السلام -: (إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم). قوله: الدماء التي ترخيها الرحم ثلاثة" فيه روايتان: "تزجيها" بالزاي المعجمة والجيم، فمعناه يدفعها. قال الله تعالى: {ألم تر أن الله يزجى سحابًا} [النور: 43] أي يدفع

بسوقه. والرواية الثانية: "ترخيها" والرواية الأولى أصح، وهكذا قرأناه على الشيوخ. وحصرها في الثلاثة حكم (استقرار)، والأحكام الشرعية معلقة على (الاستقراء) وعرف كل واحد منهما. "فأما دم الحيض: فهو الخارج من الفرج على الصحة بغير ولادة، والنفاس: ما كان عقيب الولادة" كما ذكره القاضي. وأما الاستحاضة فقد سماه الفقهاء دم علة وفساد، لأنه مرض للمعنى. واتفق العلماء على أن دم الحيض والنفاس يمنعان فعل العبادات والعادات. ودم الاستحاضة غير معتبر بذلك، وقد قال -عليه السلام -: (إنما ذلك عرق وليس بحيضة) الحديث. وذكر ما يمنع دم الحيض والنفاس، وفرق بين الصلاة، والصوم، وجعلهما مانع وجوب صحة فعلهما، وفعل الصوم دون وجوبه، وذكر فائدة الفرق، وذلك بناء على أنها غير مكلفة بالصلاة، ومكلفة بالصوم بدليل وجوب القضاء عليها، وإن تعذر فعله منها لمانع طرأ عليها وفي ذلك نظر، وللقائل أن يدعي أن

الحيض مانع من التكليف لها، من المعلوم أن المانع من الوجوب أولى واختار القاضي أنه غير مانع وإيجابـ (ـه) في حال حيضتها، إن كانت ممنوعة من الفعل، ولا معنى للإيجاب حينئذ بتقدير عموم المنع من الفعل، وذلك مانع من الفعل، ممكن شرعًا، وكذلك إلحاق العدة في جملة من الممنوعات كالصلاة، والصوم، وفيه تأويل. قوله: "والعدة": يريد إذا طلقها وهي حائض بأن يمنع العدة لكونها مأمور برجعتها، واللفظ مجرد، إذ ليس كل الطرق في الحيض يؤمر فيه بالرجعة، ألا ترى أنه إذا كان قبل البناء لا يصح فيه رجعة، فهذا قد أطلق ما من شرطه أن يقيد فكان من حقه أن يقول: (والعدة المأمور فيه بالرجعة" فهو في المراجعة في الطلاق، والذي ليس ببائن، فإن كانت مباراة وخلعا، لم تصح فيه الرجعة، والذي يطلق عليهم في الحيض لعارض من جذام، أو برص، أو جنون، أو عنة، أو إعسار بالنفقة، فإن لهم الرجعة ما خلا العنين فلا رجعة له لكونه مطلقًا قبل البناء هذا ممن كتاب البخوري. وأما الجماع في الفرج فلا خلاف بين أهل الأدلة أنه يمنع في أيام الحيض. واختلفوا هل تجب الكفارة على فاعله أم لا؟ مذهب مالك ألا كفارة عليه، لأن ذنبه أشد من الكفارة، وقد قال كثير من أهل العلم: الكفارة في ذلك اعتمادًا على أخبار ضعيفة لم تثبت عند أهل

الإسناد. واتفق الجمهور على جواز مباشرتها والاستمتاع بها في أعلاها. واختلفوا في جواز وطئها بين الفخذين، وفيه قولان في المذهب، المشهور المنع، مخافة الشبهة. وقد قال -عليه السلام -: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) وقد صح عن ابن عباس منع مباشرة الحائض جملة، والسنة الصحيحة (حجته -عليه السلام -). ولا خلاف في هذه الجملة التي ذكر أن الحيض والنفاس مانعان للمرأة قراءة القرآن إلا قراءة طاهرة وفيه قولان في المذهب، والصحيح أن الطهارة مطلقًا على مشترطه في قراءة القرآن على الأصح، وفي حديث عائشة قالت: (كان) رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يذكر الله على (كل أحيانه) وقد اشترط قوم

الطهارة في قراءة القرآن اعتمادًا على قول علي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لا يحجبه عن قراءة القرآن (إلا الجنابة) وقال النبي -عليه السلام -: (إن المؤمن لا ينجس) وقد كتب ببعضه هرقل بعض حكم القضاء، وفي مذهب مالك في قراءة القرآن طاهر ثلاثة أقوال: المنع مطلقًا، والجواز مطلقًا، وجوازه في اليسير للتعوذ دون الكثير. قال القاضي -رحمه الله -: "وأقل الحيض والنفاس لا حد له" إلى قوله: "وجب التلفيق". شرح: اتفق الفقهاء على أن أقل الحيض في باب العبادات لا حد له، واختلفوا في تحديد أقله في العدة بالأشهر، فقيل: ثلاثة أيام بلياليهن، وقيل: أربعة أيام. فأما أقل النفاس فلا حد له. وقال أبو يوسف: أقله أحد عشر يومًا، واختلفوا في أكثر الحيض فقيل: خمسة عشر يومًا، وقيل: ثمانية عشر يومًا بالاستظهار، واختلف في أكثر النفاس فقيل: معتبر بعادة

النساء وقيل: أقصاه ستون يومًا، وهو المشهورد في المذهب، وروى ابن الماجشون أنها تصبر إلى سبعين يومًا. وأكثر الطهر لا حد له. واختلفوا في أقله على خمس روايات، فقيل: خمسة أيام، وقيل: ثمانية أيام، واستقرأه ابن أبي زيد من المدونة، وقيل: عشرة أيام، وقيل: خمسة عشرة يومًا، وقيل: هو معتبر بالعادة، وهذه التحديدات لم تثبت فيها سنة إلا قوله -عليه السلام -: (تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي ولا تصوم) والشطر لفظ مشترك وإنما هي تحديدات مبنية على عوائد، وأمور غالبة. وذكر في المبتدأة روايتين إحداهما أنها تعتبر أيام لداتها وهن الأقران من القرابة وغيرهن، ثانيها: أنها ترجع إلى أكثر الحيض واختلفوا هل تستظهر على خمسة عشر يومًا، وسواء في ذلك المعتادة والمبتدأة. وذكر في المعتادة أيضًا روايتين إحداهما البناء على العادة، ثم الاستظهار بعد، والثانية الجلوس إلى آخر الحيض، ثم تعمل على التمييز. قال القاضي -رحمه الله -: "وإذا انقطعت أيام الحيض والنفاس" إلى آخره. شرح: مشهور المذهب في حكم المنقطعة التلفيق إلى أن تكمل أيام

الحيض، وقد قيل: إنها حائض في يوم دمها، طاهر في يوم طهرها وهو تكلف رفعته الشريعة، وذكر أن الصفرة والكدرة حيض وهو مشهور المذهب، اعتمادًا على حديث عائشة الذي روى مالك في موطئه، وقد قيل: إنها لغو، اعتمادًا على قول أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -شيئًا)، وقد قيل: إن كانت في أيام الحيضة فهي حيض، وإلا فليست بحيضة جمعا بين الأحاديث. قوله: "والحامل تحيض": هو كما ذكره، وهو قاعدة المذهب عند مالك -رحمه الله -، وقال أبو حنيفة: حكم الدم الذي تراه الحامل حكم الاستحاضة وهو الأصح من طريق القياس، نظرًا إلى أن العادة بالأقراء إنما شرعت علمًا لبراءة الرحم، فلو كان دم الحامل حيضًا لانخرمت قاعدة العدة، وإذا قلنا بمذهب مالك أنه حيض، فروى ابن القاسم عن مالك أن أول الحمل ليس كآخره فتصبر في آخر الحمل خمسة عشر يومًا، وبعد ستة أشهر عشرون يومًا. وروى أبو زيد في ثمانيته أنها تجلس في آخر الحمل ثلاثين يومًا، وقال ابن وهب تضاعف الحامل أيام عدتها وقال ابن الماجشون: تجلس

خمسة عشر يومًا كالحامل قال: ولا أنظر إلى أول الحمل ولا إلى آخره، وقال مطرف: "تجلس في أول الحمل وعادتها أربع مرات حتى تبلغ ستين يومًا، حكاها ابن حبيب في الواضحة وفرق أشهب بين أن تستراب أم لا، فإن استرابت احتاطت، وإلا فهي كالحامل، وهذه الأقوال مبنية على (عادات واستحبابات). قوله: "ولا تمنع الاستحاضة شيئًا يمنعه الحيض": وهذا كما ذكره، يعنى من العبادات، وقد اختلف العلماء في جواز وطئها على ثلاثة أقوال، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه، ومنهم من منعه إن طال بها وإلا فلا، والصحيح أنها طاهر في أحكام العبادات والعادات، واختلفوا في استحباب الوضوء لها لكل صلاة، أو إيجابه، واختلفوا في غسلها، وأصل المذهب أنه لا غسل عليه إلا الغسل المعتاد الواجب عند انقطاع دم الحيض، ولو انقطع دم الاستحاضة، فهل يستحب لها الغسل أم لا؟ فيه قولان في المذهب الظاهر الاستحباب، والأحاديث في حكم الاستحاضة تختلف. واستحب مالك الغسل اعتمادًا على حديث هشام بن عروة عن أبيه في شأن فاطمة بنت [أبي] حبيش لأنه أصح ما ورد في الباب، ففيه أن

النبي -صلى الله عليه وسلم -قال لها: إنما ذلك عرق وليست بحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عند الدم، وصل ويحتمل أن يريد ما رواه أيضًا عن هشام عروة عن أبيه أنه قال: (ليس على المستحاضة إلا أن تغسل غسلاً واحدًا، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة). قوله: "وللطهر علامتان الجفوف والقصة البيضاء": فالجفوف: هو أن تدخل الخرقة تخبر بها نفسها فتخرجها جافة وذلك دليل انقطاع الدم. والقصة: ماء أبيض يخرج من الفرج، وروى علي بن زياد عن مالك أنه يشبه المني وروى ابن القاسم أنه يشبه البول، وقيل: ماء أبيض يشبه العجين، وقيل؛ القصة شيء يكون كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم، وقيل: إنه يشبه ماء الجير. واختلف المذهب أيهما أبلغ، فروى ابن حبيب عن ابن عبد الحكم أن الجفوف أبلغ، وقال ابن القاسم: القصة أبلغ، وهذا في المعتادة، وأما المبتدأة، فاتفقوا على أنها لا تطهر إلا بالجفوف وقال أبو الوليد: وهذا نزوع إلى قول ابن عبد الحكم، فإذا قلنا تنتظر الأبلغ، فذلك ما لم تخف فوات الوقت، وهل المقصود الوقت الاختيار، أو الاضطرار، فيه قولان في المذهب.

قوله: "وإذا طهرت الحائض (أو النفساء) لم توطأ إلا بعد الغسل": وهذا كما ذكره القاضي وبه قال الجمهور، واعتمادًا على قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222] الآية. المعنى: ولا تقربوهن حتى يطهرن من دمهن بانقطاعه، فإذا تطهرن بالماء، فاتوهن من حيث أمركم الله، وسواء انقطع (دمها) لأكثر دم الحيض أم لا؟ وبه قال جمهور الفقهاء، وقال أبو حنيفة: إن انقطع دمها قبل عشرة أيام لم يجيز له أن يطأها حتى تغتسل، أو يجيء آخر وقت الصلاة، وإن انقطع الدم لأكثر أمد الحيض جاز وطؤها قبل أن تغتسل، والدليل قوله تعالى: {إن الله يححب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222] مدحهم بالتطهير، فدل على أن المراد به الغسل لانقطاع الدم، لأن ذلك ليس من فعلهن، ولو وطئت لم يجز وطؤها بالتيمم على مشهور المذهب، وقال الشيخ أبو إسحاق: ويجوز وطؤها، وقال ابن بكير: إذا انقطع دمها، فالإمساك عنها استحبابًا لا إيجابًا بناء على أن المقصود زوال الأذى، وهو مرتفع بانقطاع الدم والله أعلم.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة قال القاضي -رحمه الله -: "الصلاة ركن من أركان الدين" إلى قوله: "فإذا ثبت هذا". شرح: الصلاة في اللغة: هي الدعاء، ومنه قوله تعالى: {وصل عليهم} [التوبة: 103] معناه ادع لهم، وسمت الشريعة هذا الفعل المعلوم، صلاة لاشتمالها على الدعاء، وقيل: إنها مشتقة من المصلى وهي ثاني حالته، وسميت بذلك لأنها ثانية عن الإيمان والإسلام، وقيل: إنها مشتقة من (المصلين) وهما عظمان ينحيان في السجود، وسميت بما فيها، من باب المجاز. واختلف أهل العلم في هذه الأسماء الشرعية، هل هي منقولة عن [الـ] موضع اللغوي جملة، أو منقولة عليه وزيد إليها شروط شرعية. وانعقد إجماع الأمة على فرضية الصلاة الخمس، وجعلها أقسامًا تابعة للأدلة الشرعية، وفرق بين فرض العين، وفرض الكفاية، هل فرض العين متوجه

على كل واحد من الكلفين، إلا أنه يسقط بفعل البعض، أو متوجه على بعض غير معين، (فمن جعله أسقط الوجوب بفعله على الباقين). واختار بعض المحققين أنه متوجه على الأعيان، والكفاية فيه، فأجزأ بعض عن البعض لا بأصل الخطاب، وفيه نظر، والصحيح أنه وجب على كل واحد من أحد المكلفين لما سقطت عنه بفعل غيره. وتعقب بعضهم قول القاضي: "الصلاة من أركان الدين" واجبة، فإن صح ذلك فكيف يقسمها إلى واجب، وسنة، وفضيلة، وهذا لا يتوجه لاختلاف الموضع، إذ الحكم الأول باعتبار قاعدة هذه العبادات الكلية والتقسيم بحسب أشخاصها، وهي مختلفة الأحكام إجماعًا. ثم تكلم عن السنة والفضيلة، والسنة ما فعله -عليه السلام -ومداومًا عليه مظهرًا له، والفضيلة ما واظب عليه غير مظهر، وقد اختلف الناس في هذا القسم هل يسمى سنة باعتبار المواظبة، أو فضيلة باعتبار الإخفاء. والنافلة أخف من ذلك وتميزه عن الفضيلة اصطلاح محظ (لرواتب) الصلوات، ووقت الضحى على نظر فيه.

وقسم السنة قسمين: والأمر في ذلك كما ذكره. قال القاضي -رحمه الله -: "فإذا ثبت هذا فالصلوات الخمس التي هي فرض الأعيان من جحد وجوبها فهو كافر" هذا كما ذكره. وأجمع العلماء على تكفير من جحدها وأنكرها، لأنه ورد فيه المتواتر من القرآن، ومن شريعة النبي -عليه السلام -، وأما التارك العاصي، فقد اختلف العلماء فيه، فقال أبو حنيفة وسحنون يؤخر بفعلها، فإن أبى لم يقتل، اعتمادًا على قوله -عليه السلام -: (لا يحل دم مسلم إلا بأحد ثلاثة: كفر بعد الإيمان، أو زنا بعد الإحصان، أو قتل نفس بغير حق). وقال أحمد بن حنبل وداود وجماعة من أهل العلم منهم ابن حبيب من المالكية أنه يقتل كفرًا وقال الجمهور: إنه يقتل حدًا. ويترتب على هذا الخلاف، أين دفن، وهل يرثه ورثته من المسلمين أم لا؟.

اعتمد أحمد وأصحابه على ظاهر قوله -عليه السلام -: (من ترك الصلاة [متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله]) ـ وعلى قوله -عليه السلام -: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وقال عمر: (ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) وتأويله الجمهور على التغليظ والتشديد، وإذا قلنا: إنه يقتل: ينتظر به وقت الصلاة الثانية، وهل يؤخر إلى آخر الوقت الاختياري أو الضروري، وفيه قولان في المذهب، المشهور التأخير إلى وقت الضرورة لعموم قوله -عليه السلام -: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) والشاذ أنه يؤخر إلى آخر

وقت الاختيار، لإن وقت الإضرار لأصحاب الضرورة، وهم خمسة، واختلفوا هل يجهز عليه بالسيف، وهو المنصوص، أو ينخس لحمه، وهو اختيار بعض المتأخرين. قوله: "ولا أوقات مختلفة الأحكام": إلى آخره. قلت ثبتت الأوقات المعلومات للصلوات الخمس بكتاب الله سبحانه إجمالاً، وفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -تبيينًا وتفصيلاً، وقد علم المسلمون علمًا ضروريًا لم يخالف فيه من أهل القبلة، وسنفصله متبعين لترتيب القاضي -رحمه الله -. قال القاضي -رحمه الله -: "الأوقات وقتان" الفصل إلى آخره. هذا فصل حسن (جمع) فيه القاضي [أوقات الصلاة] ورتبها ترتيبًا محققًا، وفصلها تفصيلاً، فقسمها أولاً قسمين: وقت أداء، ووقت قضاء. والأداء عبارة عن فعل العبادت في وقتها ابتداء من غير تكرير، فإن كررت في وقتها سمى ذلك إعادة، فإن فعلت خارج وقتها سميت قضاء على الحقيقة، والمجاز باعتبارات مختلفة، بسط القول (فيها) الغزالي في مستصفاه، وقد يطلق القضاء على الأداء نفسه، قال تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة: 200] الآية، ومنه قضاء الدين. وقسم وقت الأداء على خمسة أقسام، وفرق بين الاختيار والفضيلة،

وبين وقت الإباحة (والتوسعة) والفرق بينهما ظاهر، والمعلوم أن الإباحة تقتضي استواء لإيقاع الصلاة في جميع أجزاء الوقت، وتقتضي الفضيلة الترجيح لتضاد معقول الإباحة والترجيح، ووقت الفضيلة يقتضي الترجيح، وتعليق الثواب (بالأرجحية)، وفرق بين وقت العذر والرخصة، وبين وقت الإباحة والتوسعة، والفرق بينهما ظاهر لا يكاد يشكل على أحد، ومن المعلوم أن الإباحة تقتضي جواز التأخير من غير عذر اعتمادًا على أصل التوسعة بخلاف العذر، فإن إباحة التأخير متوقفة عليه ومعتبرة به، ومفتقرة إليه، فوقت العذر كوقت إباحة باعتبار التأخير. وينفصل عنه باعتبار وجود السبب ههنا، وانتفائه في وقت الإباحة ثم لفف بعد في أثناء كلامه، وعقده بضمير فيه إشكال، لم يزل الشيوخ يختلفون في مفهومه، وفي الضمير على من يرجع، والصحيح أنه عائد على العذر، واسم "كان" عائد على التأخير. والمعنى: أن العذر مبيح للتأخير، فلولا العذر لكان التأخير حظرًا، ومراده ههنا التخيير لا مع العزم، فهو محظور، لما فيه من الإخلال بالواجب مطلقًا، وهذا بناء على وجوب العزم، وأن تأخير الصلاة على أول الوقت لا يجوز إلا إلى البدل، وهو قول بعضِ البغداديين. قوله: «وإما ندبًا»: يريد أن يكون التقديم ندبًا، فاسم "كان" ههنا عائد على التقديم الذي يقابل التأخير، وتكلم القاضي -رحمه الله - على ( ... ) الوقت

وحكى على الفعل ومقابله فيهما، فلولا العذر لكان التأخير محظورًا، أو التعجيل مندوبًا، يريد مع العذر لما في التعجيل من المسارعة إلى المغفرة المأمور بها، فقابل المحظور بالمندوب، وفيه نظر، لولا أنه أخذ بحسب طرفين، ويجوز أن يشير إلى الندبية في حق المنفرد، لأن أول الوقت أفضل، ويجوز أن يريد قسم التأخير أحدهما التأخير الذي يخرج الصلاة عن وقت الإباحة إلى وقت الضرورة تأخير عمر بن عبد العزيز لصلاة العصر حتى أنكر عليه عروة بن الزبير في صلاة العصر إلى الاصفرار، ونزله بعضهم في حق عادم الماء في أول الوقت وهو مرجو أن يجده في آخره، فابن حبيب: يرى رجاءه هذا بالغًا من التيمم، فلا يجوز له التيمم، إلا أن ينقطع رجاؤه، واستحب ابن القاسم له انتظار الماء فإن بادر إلى التيمم أول الوقت، وصلى أجزأه، وهذه الصورة نادرة، فتنزيل كلام القاضي على قضية نادرة فيه بعد، والله أعلم. قال القاضي -رحمه الله -: "أما وقت الظهر الذي لا (تحل) قبله ولا يجوز تقديمها عليه، فهو زوال الشمس". شرح: بدأ بالظهر لأنها الصلاة الأولى التي صلاها جبريل بالنبي -صلى الله عليه وسلم -على الأصح من أقاويل العلماء وأهل الإسناد. وقد أجمعت الأمة على أن أول وقتها زوال الشمس لا قبل ذلك، ولم يخالف فيه إلا من لا يعد

من أهل العلم كالخوارج ونظرائهم، ولم يصح الخلاف في ذلك على أحد من السلف، وما ذكر من الخلاف فيه باطل، وهو وقت موسع محدود بأول وآخر. وقد اختلف أهل العلم في الوقت الموسع، هل يتعلق الوجوب بجميعها، أو بأولها، وآخرها والذي عليه أكثر المالكية أن جميعه وقت الوجوب، وإنما (نصف) آخره بين الأداء والقضاء، وذهب أصحاب الشافعي إلى أن الوجوب يتعلق بأول الوقت، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوجوب لا يتحقق إلا لآخر الوقت. وحكى القاضي أبو الوليد عن بعض العلماء أن وقت الوجوب منه وقت غير معين، وللمكلف (تكميله) بفعل الصلاة فيه، واختار هذا القول. قلت: وهو القول بعينه جعله القاضي أبو الوليد قولاً رابعًا معاندًا للأول، وفيه نظر، لأن القائلين أن جميعه وقت الوجوب موافقون على أن للمكلف أن يوقع الصلاة في أوله أو وسطه أو آخره فكل من أقامه في جزء من أجزائه حاصل لإيقاع العبادة فيه، ولشبه الصلاة لكل منها متساوية من جهة معقول الإباحة، لا باعتبار الفضيلة، فإذا صح جزء من إقامه لإيقاع العبادة فيه، فللمكلف تعيين ذلك الجزء الزماني بفعله فلا معنى -إذن -لقولهم: إن جميعه وقت للوجوب إلا ثبات الصلاحية الشريعة، وتساوي الشبه الزمانية، وليس المراد المكلف يجب عليه إيقاع الصلة في كل جزء منه، ولا تعمره بها، ولا يخرج الوجوب بذلك عن كونه موسعًا، ولحق بالواجب المضيق، وهو خلاف الإجماع، فإذا ثبت ما سوى الشبهة شرعًا، فالتخصص بالتعيين للمكلف تعمق في الدين يتصور أن يكون مذهبًا رابعًا لو

قيل به: (ههنا) أن يكون وقت الوجوب معينًا عند الله، غير معين عند الناس، كما قيل: في خصال الكفارة، وهو مذهب مدفوع (فيها) إذ لم يرض أحد من المحققين القول به. فصل إذا ثبت ما ذكرناه فقد انعقد إجماع الأمة على جواز تأخير الصلاة عن أول الوقت بجزء، واختلف في مسائل: الأولى: إذا أجرنا التأخير، فهل يجوز مطلقًا أو إلى بدل، اختلف الفقهاء فيه، فذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يجوز تأخيرها إلى بدل، وهو العزم على الفعل، وقال بعضهم: يجوز تأخيرها إلى غير بدل، وهو العزم على الفعل، وقال بعضهم: يجوز تأخيرها إلى غير بدل، وبعضهم أوجب العزم، ويجوز ن تسميته لما توهم من قيامه مقام البدل منه، فحينئذ يلزم سقوط الفعل وهو خلاف الإجماع وفيه نظر، لأن لهم أن يقولوا: هذا بدل عن التقديم، لا عن أصل الفعل، وامتنع من إطلاق القول بإيجاب العزم لا مكان المبدل عنه، ولا يقال: إن ذلك إخلال بالواجب إجماعًا، وأن الدليل اللفظي إنما اقتضى إيجاب فعل الصلاة فقط، لا إيجاب الفعل أول العزم، واعتمد الشافعي على أن الإجماع منعقد على أن المكلف إذا أدى الصلاة في أول الوقت، فقد أدى الواجب، فدل على أن الواجب متعلق بأول الوقت فلزمه على مقتضى تحقيق اقتران الواجب بالأولوية امتناع التأخير، إذ الإيجاب والتأخير يتناقضان كما يتناقض الإيجاب والتخيير، ولذلك قال أبو هاشم

وأتباعه من المعتزلة: بإيجاب جميع خصال الكفارة مع تحديده ترك كل واحد على البدل، إذ هو مقتضى الإجماع واللسان، وإنما رأى إيجاب جميعها لما لم يفعل الجمع بين الوجوب (و) التخيير، وهو كذلك أول الحد المتعلق، أما عند اختلافه، فلا إشكال في جوازه، وهو قول أصحابنا (ندب) كلام أبي هاشم في ذلك، وكان ظاهر الخطأ والفساد، ولما لم يتحقق المأثم إلا بتركها في أول وقتها رأى أبو حنيفة وأصحابه أن الوجوب حقيقة إنما يتعلق بآخر الوقت وهو الصحيح باعتبار المأثم لا باعتبار تساوي الشبه الزمانية واختلفت مذاهبهم إذا (أوقعها) في أول الوقت، فشذ بعضهم فأوجب فعلها آخر الوقت، وخالفه الجمهور في ذلك فقال الكرخي: إنها نفل تسد مسد الفرض" كالوضوء قبل الوقت، وقال مرة:

هي موقوفة حكمًا متحققة علمًا، والقول بالإعادة في هذه الصورة خلاف الإجماع. وتحقيق المسألة متعلق بأصول الفقه حيث يقع الكلام على حد الواجب وأقسامه. وذكر القاضي تمثيل الزوال وهو ظاهر من كلامه، وفيه توسع لقوله: "فتراه أول النهار طويلاً" فظاهر لفظه أن الضمير عائد على الفاعل والمراد: ظله، فعبر بضمير الملازم عن ملازمه واعتبر زيادة الظل بعد طرح الزوال، وهو قول أهل العلم. قوله: "ويستحب تأخيرها في مساجد الجماعة إلا أن يكون ألفي ذراعًا": والأمر كذلك اعتمادًا على كتاب عمر بن الخطاب إلى عماله، وأراد بالذراع ربع القائم الذي يؤخذ به ظل الزوال، وإنما قدر بالذراع، لأنه آلة التقدير الأكثرية غالبًا. وقد اختلف الفقهاء في استحباب تأخيرها

فاستحبه مالك للجماعة، ليجتمع الناس، ويكثر وذلك في زمان الإبراد آكد، لاجتماع شيئين يقتضيان التأخير، قال مالك: فأما الرجل في نفسه، فأول الوقت أفضل له. وحكى القاضي أبو محمد وغيره استحباب تأخيره للفذ والجماعة، والأول أصح في المذهب. وسئل مالك عن الجماعة تصليها أول الزوال، فأنكر ذلك، ورأى التأخير من عمل الناس، وما ذلك إلا لثبوت ذلك عنده من عمل أهل المدينة، ولما جاء من الأمر بالإبراد وأشهر (مذهب) الشافعي أول الوقت أفضل على كل حال للمنفرد والجماعة وهو قائل بالإبراد، إلا أن وقت إنشائه الضرورة، فكذلك وافق الشافعي على أن التأخير للجماعة أفضل بمقدار الإبراد، وقال أبو حنيفة آخر الوقت أفضل على كل حال، والدليل لنا حديث عمر: وأمره إياهم بالتأخير إلى أن يكون الفيء ذراعًا. ومن المعلوم أنه إنما يأمرهم بالأفضل، واعتمد الشافعي وأصحابه على قوله -عليه السلام -حين سئل عن أفضل الأعمال،

فقال: (الصلاة لأول وقتها وبر الوالدين) الحديث، وههنا مسائل: الأولى: اختلف العلماء في حكم الإبراد، فأوجبه بعض أهل الظاهر تمسكًا بصيغة الأمر، واستحبه الجمهور، وأنكره بعض العلماء ممن شذ، ورأى أن أول الوقت مطلقًا أفضل للفذ والجماعة في كل زمان، لما روي أنه -عليه السلام -: (كان يصلي في الهاجرة)، ولحديث جماعة قال: (شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -حر الرمضاء فلم يشكنا). ولا حجة فيه من وجهين: الأول: الاحتمال أن يكونوا طلبوا مجاوزة الحد في التأخير بحيث يزيد على ربع القامة وذلك منهم مجاوزة لوقت الإبراد. الثاني: أن يكون معنى قوله: (فلم يشكنا) أي فلم يحوجنا إلى التأخير. الثانية: الإبراد مخصوص بالجماعة على المشهور من المذهب. وقد

ذكرنا رواية عن المذهب أنه جاز في حق المنفرد تمسكًا بلفظ العموم. الثالثة: هل يبرد بالجمعة أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور نفي الإبراد بها وفي حديث أنس: (كنا نبرد بالصلاة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لغير الجمعة) وهو حجة (على القول) الشاذ. الرابعة: هل يبرد بالعصر أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور نفي الإبراد لانتفاء معناه حينئذ. الخامسة: هل يبرد في زمن الشتاء أم لا؟ فيه قولان في المذهب، المشهور نفي الإيراد أيضًا لما ذكرناه. السادسة: اختلفوا في آخر وقت الظهر، الجمهور آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثله، وهو المشهور عن مالك وهو (أقل) تمام القامة الأولى قال ابن حبيب: آخر وقت الظهر بمقدار ما تصلي الظهر فتتم صلاته قبل تمام القامة. وأول وقت العصر تمام القامة فما بعدها وقال أبو حنيفة مرة: آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه، وقد روى عنه أن آخر وقتها هو المثل، وقت العصر المثلان، وما بين المثل والمثلين وقت لا يصلح لهما. والمعتمد لنا وجوه: الأول: إمامة جبريل بالنبي -صلى الله عليه وسلم، وفيه: (أنه صلى به الظهر في اليوم

الأول حين زالت الشمس، وفي الثاني حين صار ظل كل شيء مثله ثم قال له: الوقت ما بين هذين). الثاني: حديث عمر وكتابه إلى العمال وهو نص في مذهبنا. واعتمد أبو حنيفة على قوله -عليه السلام -: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة (التوراة) فعملوا حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا (قيراطًا) ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين فقال أهل الكتاب: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا وكنا نحن أكثر عملاً، قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم شيئًا، قالوا: لا، قال: لا، قال: فهو فضل أوتيه من أشاء) والحديث نص في الوقت الذي بين الظهر والعصر، أرجح من الوقت الذي بين العصر والمغرب، كما أن الأولى أرجح منه، فلو كان آخر الظهر المثل لتساوى الوقتان لتساوي القامتين، وهو خلاف لمقتضى الحديث، فدل على أن وقت الظهر يأخذ من الوقت الثانية جزء، وخذا فيه نظر، نبه عليه الحافظ أبو محمد بن حزم من جهة التعديل فتأمله.

قوله: "وهو بعينه أول وقت العصر": يتعلق به الكلام في الاشتراك بين الظهر والعصر، وقد اختلف العلماء في إثباته ونفيه، وفي مذهب مالك فيه قولان، المشهور القول بالاشتراك بين وقتيهما وهو قول أبي حنيفة، وأنكر الشافعي الاشتراك جملة. والقائلون بالاشتراك اختلفوا في صفته، فالمشهور من مذهب مالك أن الاشتراك بينهما في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر لا بعد الزوال، فإذا صار ظل كل شيء مثله فهو وقت اشتراك بمقدار ما يصلي أربع ركعات، فإذا ثبت الزيادة، خرج وقت الظهر وانفرد وقت العصر، فيختص الاشراك على هذا القول بآخر وقت الاختيار للظهر، وأول وقت العصر، ثم استمر الاشتراك الضروري إلى ما قبل الغروب بمقدار خمس ركعات للحاضر، أو ثلاثًا للمسافر وهذا أصل المذهب، وقد وقع في المذهب أن الاشتراك بينهما من أول الزوال إلى آخر وقت الظهر الذي هو أول وقت العصر، وهو (وقت) متصلة غير منقسمة حكمًا، وقيل أيضًا: إن الاشتراك بعد أربع ركعات للحاضر، وركعتين للمسافر من أول الزوال تتفرد بها الظهر، (فتختص) بمقدار أربع ركعات، أو ركعتين من الزوال لاشتراكهما فيها العصر، والاشتراك ثابت فيما بعد ذلك إلى آخر وقت الظهر المختار، ثم إلى الغروب بمقدار خمس ركعات للحاضر، وثلاث للمسافر. وذكرنا قبل عن ابن حبيب في الظهر أن آخر وقتها مقدار ما يصلي المصلي فتتم صلاته قبل تمام القامة، وأول وقت العصر لتمام القامة، ووافقنا أبو حنيفة على الاشتراك بينهما إذا صار ظل

كل شيء مثليه بناء على أنه وقت ضرورة اعتمادًا على ذلك. أما الشافعي وأصحابه فأنكروا الاشتراك، واعتمدوا على مسالك: الأول: حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: (ووقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر) خرجه مسلم وهو نص في نفي الاشتراك. الثاني: قوله -على السلام -: (لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى) وهو حديث صحيح الإسناد ولعله مشترك الدلالة، فلا يقوم به قاطع. واحتج مثبتو الاشتراك بأدلة منها: الأحاديث الثابتة في الجمع بين الظهر والعصر في السفر في أول الوقت وآخره، وذلك يدل على اشتراك الوقتين، وفيه نظر، لقيام الضرورة في هذا المحل، فلا تقوم به الحجة على محل التوسعة، ومنها حديث إمامة جبريل وفيه (أنه صلى النبي -عليه السلام -الظهر في اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس) وصحح الترمذي إمامة جبريل، والاحتجاج به على الاشتراك فيه قولان قوله: (صلى بي) يحتمل أن يكون معناه ابتدأ أو فرع. قوله: "إلى أن يصير الظل مثليه فذلك آخر وقت العصر": قلت: اختلف المذهب في آخر وقت العصر على روايتين: إحداهما أن يصير ظل كل شيء مثليه رواه عبد الله بن عبد الحكم عن مالك، وهو قول الشافعي

اعتمادًا على حديث جبريل -عليه السلام -، وفيه (أنه صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه). والرواية الثانية أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس، وروى ابن القاسم عن مالك أنه أنكر التحديد بالمثلين فقال: لا أعرف ذلك ويصلي العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية لم يدخلها صفرة، قاله أحمد بن حنبل أبو حنيفة اعتمادًا على قول النبي -صلى الله عليه وسلم -في حديث عبد الله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: (ووقت العصر ما لم تصفر الشمس) خرجه مسلم وقال أهل الظاهر: آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة. قوله: "فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر": يعني وقت الاختيار لا الضرورة وقد نص بعد على أن الاشتراك بينهما مستمر إلى أن يصير قبل الغروب بمقدار أربع ركعات للحاضر، أو ركعتين للمسافر، فحينئذ يختص الوقت بالعصر، فيزول الاشتراك. فكلامه في هذا الفصل الذي يليه على الاشتراك الضروري، فهما مشتركان بحسب وقتين، وهذا أوضح، فتأمله. قوله: "ويستحب في العصر تأخيرها قليلاً في مساجد الجماعات كنحو ما يستحب في الظهر": قلت: اختلف المذهب في ذلك، فذهب جمهور أصحابنا إلى أن أداءها أول وقتها أفضل للفذ، والجماعة في الشتاء والصيف من غير تأخير. وقد روى عن مالك استحباب تأخيرها قليلاً للجماعة، قال أشهب: أحب إلينا

أن يزاد على القامة ذراع سيما في شدة الحر. قال ابن حبيب: يستحب يوم الجمعة تقديم العصر ليتعجل من يأتي الجمعة رواحه إلى أهله، وقال أبو حنيفة تأخيرها أفضل من تعجيلها، والمعتمد لنا العمل المتصل الدائم. قوله: "وتأخيرها زيادة على ذلك مكروه": يريد ين يصلي عند الاسفرار، وقد قال -عليه السلام -: (تلك صلاة المنافقين) الحديث، وأما وقت المغرب فهو غروب الشمس، والإجماع منعقد عليه، واختلف المذهب هل لها وقت واحد أو وقتان، وفيه قولان مشهوران عن مالك نصًا واستنباطًا، والذي حكاه العراقيون من أصحابنا عن مالك أنه ليس إلا وقت واحد، وبه قال ابن المواز والشافعي، وقال أبو حنيفة: إن وقتها موسع إلى مغيب الشفق قال ابن مسلمة: أول وقتها غروب الشمس، ومن شاء تأخيرها إلى مغيب الشفق كان له ذلك، وغيره أحسن منه. وجعل القاضي التأخير للمسافر الميل ونحوه من باب الرخص والأعذار، ورخص غيره الميلين ونحوه.

وسبب الاختلاف في ذلك اختلافهم في الطرق في حديث جبريل، ففي بعضها أنه صلاها في اليومين في الوقت الواحد، وفي بعضها أنه صلاها في وقتين، وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: (ووقته ما لم يسقط نور الشفق). فرع: القائلون باتساع وقتها اتفقوا على أن تعجيلها أفضل، وحكى ابن حارث الإجماع على ذلك. وحكى عن مسلم بن الحجاج النيسابوري الإمام صاحب المسند الصحيح أنه أخرها ليلة حتى بدأ النجم ففتح باب داره للعراء ورآى أنها مصيبة في الدين، وأعتق بعض السلف عن ذلك رقبة، وهذا يدل على أن التعجيل بصلاتها ثابت. ثم تكلم على وقت العتمة، وقد انعقد الإجماع على أن أول وقتها مغيب الشفق. واختلف في الشفق، والمشهور عن مالك أنه الحمرة،

وروى عن ابن القاسم في أسماع أنه البياض، والصحيح أنه مشترك لغة لا شرعًا. واختلف المذهب في آخر وقتها، فقيل: ثلث الليل الأول وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وروى عن مالك أن آخر وقتها نصف الليل قاله ابن حبيب، وهو أحد قولي أبي حنيفة، وقد روى عن مالك أن آخر وقتها قبل طلوع (الفجر) بأربع ركعات، وهو قول داود، ورواية ابن وهب. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف كثير الأحاديث منها حديث جبريل أنه صلاها بالنبي -عليه السلام -في اليوم الثاني ثلث الليل ومبناه على قوله -عليه السلام -: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل) وقال عمر بن

الخطاب: فإن أخرت فإلى شطر الليل الحديث وقال -عليه السلام -: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) الحديث. واختلفوا هل المستحب تعجيلها أو تأخيرها، وفي المذهب فيه قولان، فروى ابن القاسم عن مالك أن تعجيلها أفضل، وكره تأخيرها إلى ثلث الليل اعتمادًا على قوله -عليه السلام -لما سئل عن أفضل الأعمال فقال: (الصلاة لأول وقتها) وهو قول الشافعي، وروى العراقيون من أصحابنا أن تأخيرها أفضل وبه قال أبو حنيفة اعتمادًا على قوله -عليه السلام -: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى آخر الليل) قال: ذلك حين أخرها ليلة حتى ذهب عامة الليل. قوله: "ووقت (الصبح) طلوع الفجر الثاني": يعني الفجر الصادق، وأجمع جمهور العلماء على أن الفجر الكاذب المسمى ذنب السرحان لا مدخل له في حكم الصلاة، ولا الصيام، وقد قيل في ذلك: ثلاثة طوالع متوالية، فالحكم معلق على وسطها قياسًا على الغوارب، وقاس آخرون الغوارب على الطوالع، وهو قياس ضعيف لأن كلا الأصلين مختلف فيه، فالأصح ألا يقاس عليه.

قوله: "والتغليس بها أفضل": قلت: هذا مذهب مالك وأصحابه جميعًا، ولا خلاف عنه ذلك اعتمادًا على ثبوت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم -من حديث عائشة وغيرها، ولمداومته عليه، وهذا من أدل الدلائل على أنه أفضل، لأنه لا يداوم إلا على الأفضل، وقد روى أبو حنيفة وغيره أن الإسفار بها أفضل لقوله -عليه السلام -: (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر) وتأويله أحمد بن حنبل على أن الأسفار طلوع الفجر وتعيينه. وهو بعيد. واختلف المذهب في آخر وقتها، فقيل: طلوع الشمس، وقيل: الإسفار البين وكلا القولين مستقر من أجوبة مالك فيمن رجا أن يدرك الماء قبل طلوع الشمس أنه يتيمم، فلو كان ما بعد الإسفار وقت اضطرار لما أخرت

فصل في أوقات الضرورة

الصلاة إليه، ويوجب التيمم محافظة على الوقت الاختياري قاله القاضي أبو الوليد. وفيه نظر. لأن الاضطرار مستقل بحكمه فلا يكون كمحل التوسعة. وروى ابن نافع عن مالك في المسافرين يقدمون الرجل يصلي بهم فيسفر بهم لصلاة الصبح قال: يصلي الرجل أول الوقت أحب إلي، وهذا يدل على أن وقت الإسفار وقت الاضطرار، قاله القاضي أبو الوليد أيضًا، وهو ضعيف، لأن الترجيح في محل الاختيار ممكن باعتبار شيئين يتواردان على ذلك المحل، فيكون أحدهما أولى بالاعتبار. قوله: "وأما المثل في العصر، ومغيب الشفق في العشاء الآخرة فهو في الرفاهة والاختيار": إشارة إلى ما ذكر من جواز الجمع للمسافر في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء إذا جد به السير. وسنفصل ذلك في موضعه. فصل قال القاضي -رحمه الله -: "فأما أوقات الضرورة والتضييق فهي (لخمسة) للحائض تطهر" إلى آخره. شرح: الأصل في هذه الأوقات قوله -صلى الله عليه وسلم -في حديث أبي هريرة وغيره: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وفي بعض طرقه: «من أدرك ركعة من الصبح فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» وقد اختلف قول مالك في هذا الحديث، فمرة حمله على العموم في أصحاب الضرورات وغيرهم، والمشهور عنه أنه مخصوص بأصحاب الأعذار جمعًا بين ظاهره، وظاهر قوله -عليه السلام -: «تلك صلاة

المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا كانت الشمس بين قرن الشيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) الحديث. وثبت الذم على التأخير، أو عليه مع غيره فدل على أن التضييق في المفهوم من ظاهر الحديث الأول منعه، فكأن ذلك قرينة دلت على أن الأول مخصوص بأصحاب الأعذار. وقد اتفق جمهور العلماء على أن تأخير العصر إلى الاصفرار مكروه، ونص المالكية على أنه مؤد حينئذ آثم، وفي إجماع الأداء والمأثم نظر، فإذا ثبت ما ذكرناه فقد اختلف المذهب في الركعة المشار إليها في هذا الحديث، فقيل: الركعة بسجدتيها، لأنه المفهوم الشرعي، وقيل: مجرد الركوع، وهو المفهوم اللغوي، والقولان في المذهب مبنيان على الاختلاف في (العرفين) المتعارضين أيهما يغلب، والظاهر تغليب العرف الشرعي على اللغوي، لأن تقديم الأحكام (الشرعية) يتنزل الخطاب مقتضى عرفه، وفي هذا الحديث دليل على أن الركعة أقل ما يكون بها المدرك مدركًا. وبه قال الجمهور من أهل العلم، وقال الشافعي وأبو حنيفة من أدرك (تكبيرة) قبل غروب الشمس فهو مدرك للعصر عند الشافعي بناء منه على أن أواخر الأوقات مشتركة. وفي حديث عائشة: (من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك

الصلاة) الحديث، وتفسير الراوي مرجوع إليه. وذكر أصحاب الضرورات وهم ستة وصور العكس في قسمين منهم وهو قسم الطاهر تحيض، والمفيق يغلب، قال: ويمكن تصويره في الناسي، وبسط ذلك يطول، هذا أيضًا من المشكلات التي عادًة الطلبة يتذاكرون فيه. قال القاضي -رحمه الله -: "وبسط ذلك يطول" إشارة إلى الناسي وحده ويمكن أن يكون إشارة إلى الجميع، ولم يذكر المسافر في أصحاب الأعذار، وذكره أصحابنا، ويتصور فيه العكس، فتصوير العكس في ثلاثة أقسام من أصحاب الأعذار، ونحن نبسط ذلك فنبدأ بالحائض. ولا شك أن (الحيض) مانع من الصلاة، فإذا ذهب المانع عنها، وبقي من النهار بقدر خمس ركعات فأكثر، وجب عليها الظهر والعصر لإدراكها وقتهما أربعًا للظهر، وركعة يدرك بها العصر لقوله -عليه السلام -: (من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب فقد أدرك العصر) فإن بقي مقدار أربع ركعات إلى واحدة (لم تسقط) عنها الظهر لأنها كانت في وقتها أيضًا ووجبت عليها العصر لإدراكها لها بركعة منها، فإن كانت مسافرة (فالتقدير) في حقها بثلاث ركعات، وعكس هذا أن تحيض الطاهر، وقد بقي من النهار مقدار خمس ركعات فأكثر، سقط عنها الصلاتان، لأنها حاضت في وقتهما، وأربع ركعات قبل طلوع الفجر في حق المسافر والحائض في الليل بخمس قبل غروب الشمس في صلاة النهار في حق الحائض، أو ثلاث في حق المسافر، فقد ظهر في الحائض الموجب والمسقط، وكذلك المغلوب يفيق وعكسه المفيق يغلب، والأمر في ذلك على

ما بسطناه، فالإفاقة موجبة، والإغماء مسقط، وقد بين القاضي أن مانع الانعكاس في حق الصبي حسي، وفي حق الكافر شرعي. قوله: "وأخذ في حال التضييق بما يؤخذ به الكافر الأصلي": يعني من اعتبار الركعة الواحدة قبل الغروب للعصر، والخمس فما دونها، فجعل حكم المرتد إذا دعى إلى الإسلام كحكم الكافر الأصلي من حيث إنه لا يؤخذ بقضاء ما فاته، وهذه العلة موجودة في الحائض التي يتصور فيها العكس فعلى مقتضاها يجب تساويهما من جهة التغليب، ومن المعلوم أنهما مفترقان. وأما الناسي، فيتصور فيه صورتان: الأولى: أن يقال لم أدخله مع أصحاب الضرورات، ومن المعلوم أن القضاء واجب عليه أبدًا. الثانية: في تصوير العكس فيه. والجواب عن الأول أنه إنما أدخله فيهم ليبين حكم الأداء والقضاء، وذلك أنه إذا ذكر قبل غروب الشمس بمقدار خمس ركعات فما زاد وجب عليه الظهر، والعصر، وكانت أداء لا قضاء، وإن ذكر أربع ركعات فأقل، كانت الظهر قضاء والعصر أداء، وإن ذكر بعد غروب الشمس وجبتا عليه، وكان قاضيًا، فيشترك الناسي مع أهل الأعذار في أمرين: الأول: رفع الإثم وهو معنى عام الثاني: خصوص الأداء، فإذا ذكر بمقدار خمس ركعات فأكثر من صلاة النهار أو ثلاث في حقه إن كان مسافرًا فهو مؤد فيهما، وإن كان أقل من ذلك فهو قاض للأولى على ما ذكرناه، مؤديًا للثانية إن بقي لها مقدار ركعة فإن ذهب الوقت فهو كما قدمناه قاض فيهما، وينفصل الناسي عن أهل الأعذار بوجوب القضاء أبدًا من غير تقييد بوقت، فإن قيل: إذا وجب عليه الفعل مطلقًا، فما فائدة قوله: "قضاء أو أداء" قلنا: تظهر فائدته فيما إذا [تذكر] صلوات منسيات مع حاضرة الوقت، وكان الوقت ضيقًا فإن كانت أداء فهل يبدأ بالحاضرة أو بالمنسية، يجري فيه الخلاف المعلوم، ومشهور

المذهب أنه يبدأ بالفوائت إن كانت يسيرة، وإن أدى ذلك إلى فوات وقت الحاضرة وإن كانت الفوائت كثيرة بدأ بالحاضرة. وأما إذا كانت الصلاة قضاء فهو من باب ترتيب المتروكات بعضها من بعض، وقد وقع في المذهب أنها أداء في حق النائم والناسي مطلقًا لقوله -عليه السلام -: (فإن ذلك وقتها) وهذا حكم الناسي يذكر، وأما عكسه فهو الذاكر ينسى، ومعلوم أنه غير مكلف حال النسيان، فهو ينتظر الذكر، فإذا ذكر وجب عليه فعل الصلاة، وههنا ينظر هل ذكر بعد بقاء الوقت، أو بقاء بعضه، أو انقضائه جملة، ويترتب على ذلك هل هي قضاء أو أداء، ويجري على ما قدمناه إذا ذكر منسيات سابقة مع المنسية الحاضرة، والله المستعان بفضله. وههنا فروع تتعلق بأصحاب الأعذار. الفرع الأول: هل يعتبر وقت الركعة بعد زوال المانع فقط، أو بعد زوال المانع، وتحصيل الشرط من الطهارة، أو ستر العورة فيه قولان في المذهب في جميع أصحاب الضرورات، أحدهما: أن التقدير معتبر من وقت زوال المانع فقط، وقيل: هو (تحصيل) الشرط، ومبنى المسألة على الخلاف في الطهارة هل شرط في الوجوب أو شرط في الأداء. وأنكر بعض الشيوخ

الخلاف في الصبي والحائض بناء على أنهما غير مكلفين، والخلاف فيه عنه غير جار فيهما، وأجراه غيره في جميعهم، بناء على ما ذكرناه. وأصل المذهب أنه في بعضهم أشهر منه في بعض، والمشهور في الكافر تحصيل الشرط في حقه غير معتبر لاشتهار الخلاف فيه هل هو مكلف بفروع الشريعة أم لا؟ واختلف في المغمى عليه فهو عند مالك كالحائض وعند عبد الملك (كالكافر). فرع: إذا وقع الخطأ في التقدير مثلاً أن تقدر الحائض أنه بقي من النهار خمس ركعات ثم تغرب الشمس قبل ذلك، فإنها تعمل على ما بينت في الوجود على التقدير، فإن أمكنها (قبل) الغروب فعلت، وإلا سقطت عنها الصلاتان، لأنها في وقتهما غير مكلفة، وكذلك الحكم في بقية أصحاب الأعذار، ولو قدر ضيق الوقت فكشف لها اتساع الوقت في الصلاة قطعت، وهل تقطع على شفع أو على وتر فيه قولان في المذهب، الأظهر أنها تشفع الركعة نافلة إن كان في الوقت سعة، وإلا قطعت على وتر [وصلت] صلاتها التي ذكرت وقتها. فرع: إذا أحرمت بالعصر قبل الغروب بركعة، فلما كانت في آخر ركعة بعد غروب الشمس حاضت، فهل تقضي العصر أم لا؟ قال سحنون تقضيها لأنها حاضت بعد خروج وقتها، وقال أصبغ لا قضاء عليها،

والأول أظهر، لأن إدراك الوجوب حاصل بإدراك الركعة الواحدة. فرع: إذا ظهرت الحائض بماء نجس لمتعلم بنجاستها فصلت الظهر والعصر لإدراكها وقتهما الضروري، ثم تبين لها ذلك بعد الصلاة، فهل يلزمها القضاء أم لا؟ أما إن كانت مجتهدة ففي وجوب القضاء عليها قولان مبنيان على الاختلاف في الاجتهاد، هل يرفع الخطأ أم لا؟ وإن كانت عامدة وجب عليها اتفاقًا. قوله: "وما قصر عن ذلك فليس بإدراك": تحرزًا من مذهب المخالف. وكلام القاضي يقتضي أن تحصيل الشرط معتبر في حق الحائض والمغمى عليه، والصبي والكافر يسلم، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وأصل ابن القاسم أن الكافر تغلظ عليه، ويعتبر له من وقت الإسلام بخلاف غيره من أهل الضرورات، إذ الكافر غير معذور كما قال القاضي. وذكر الخلاف فيما إذا أدرك أربع ركعات قبل طلوع الفجر هل يصلي المغرب والعشاء فقط، وذلك بناء على الاشتراك أو نفيه، فمن جعل الوقت الآخر لصلاتين أسقط المغرب لفوات وقتها، ومن جعله مشتركًا أوجب عليه المغرب لإدراك وقتها لثلاثة والعشاء لإدراكها بواحدة وقد قال -عليه السلام -: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة). قوله: "وأما المسافر ينسى في سفره الظهر والعصر": وهذا الفصل ظاهر، وحكم الذاكر بعد السهو اعتبار الوقت، والبناء عليه، اتساع أو ضيق فيصلي على نحو ما بقدره بعد انقضاء الوقت جملة قضاء على نحو ما أوجب عليه، وإن كان الوجوب صلاها حضرية، وإن كان مسافرًا صلاها سفرية، فإذا أراد تكميلها جاز للمسافر الذاكر في حال سفره التيمم على أصل المذهب.

باب في الأذان والإقامة

باب في الأذان والإقامة قال القاضي -رحمه الله -: "وهما سنتان غير واجبتين". شرح: الأذان في اللغة هو: الإعلام وفي الشريعة: الإعلام بدخول (أوقات) الصلاة. وقد اختلف العلماء في طريق ثبوته، فقيل: الوحي في اليقظة، وقيل: في المنام، وقيل: الاجتهاد، وقد قيل: في قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا} [المائدة: 58] أن يهوديًا كان سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله يقول: أحرق الله الكاذب فدخلت جاريته بنار فطارت منها شرارة فاحترق البيت بجميع من فيه. وقد جاء في الصحيح أن المسلمين لما كثروا أرادوا أن يجعلوا علمًا على أوقات الصلاة، وذكر أشياء يفعلونها فقال بعضهم: تتخذ ناقوسًا وقال

بعضهم: نورم نارًا، وقال بعضهم: كذا. واختلفت آراؤهم فرأى عبد الله (بن) زيد الأذان في صورة طويلة معلومة، وذكر البزار وغيره من علماء الإسناد أن النبي -صلى الله عليه وسلم - (سمع الأذان ليلية الإسراء) واختلف العلماء في حكمه، والجمهور أنه ليس بواجب في مساجد الجماعات، وأما إقامته في مصر الإسلام، فاتفق العلماء على وجوبه، وقسمه آخرون من المالكية أقسامًا فقالوا: منه واجب، ومسنون، ومختلف فيه، ومندوب، ومكروه، ومباح. فالواجب الأذان في المصر في موضع واحد، والمسنون الأذان في مساجد الجماعات على الأشهر من المذهب قال مالك: "يجب النداء في مساجد العشائر والجماعات" واختلف الأشياخ في مفهومه فقال

بعضهم: هو وجوب السنن، وقال بعضهم: وجوب الفرائض، (والمختلف فيه) الأذان في مساجد المحلة ولمندوب الأذان في البادية اعتمادًا على حديث مالك بن الحويرث وعلى حديث أبي سعيد الخدري، ويحمل عندنا على الندب خلافًا لمن حمله على الإيجاب تمسكًا بظاهره. واختلفوا في المكروه فقيل: هو أذان المرأة، وقيل: إنه مباح، وقيل: إنه مندوب إليه كأذان الرجل، وقد صح أن عائشة كانت تأذن وتقيم ذكره ابن

المنذر وذلك بناء على أنها تؤم وقد قال [به] كثير من أهل العلم، وكذلك رأى إسحاق أن على النساء الأذان والإقامة، وقال الشافعي عليهن الإقامة، فإن أذن فحسن، وقال مالك: لا أذان عليهن فإن أقمن فحسن وذكر أبو بكر بن فورك أن أم ورقة الأنصارية كانت تؤم أهل دارها في الفرائض وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: (انطلقوا بنا إلى الشهيدة نزورها وأمر أن يؤذن لها ويقام) وإنما سماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -شهيدة لأنها قتلت في أيام عمر، قتلها غلام وجارية لها، فأتى عمر بن الخطاب فصلبهما، فكانا أول مصلوبين بالمدينة. قال عمر: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وكان يقول: (انطلقوا بنا إلى هذه الشهيدة نزورها) فكان ذلك كما قال، فهو من معجزاته الإخبارية، ذكره ابن فورك في كتاب الفصول وذكرناه في تأليفنا المنقول من معجزات الرسول. والمباح أذان الرجل في داره لا ينتظر جماعة، واختلفوا في أذان يوم الجمعة هل هو واجب وجوب الفرائض أو وجوب السنن المؤكدة، فأصل

مذهب مالك الأذان فيه فرض كفاية لا فرض على الأعيان. قوله: ((والأذان في الصبح تسع عشرة كلمة)): كما ذكره. وقد اختلف العلماء في ذلك، وأصل مذهب مالك، وأهل المدينة أن الأذان كله مثنى إلا الشهادتين فإنهما مربعة، اعتمادًا على العمل الجاري بالمدينة، واختلف أصحاب مالك هل المستحب في الشهادة أن يبدأ بها منخفض الصوت، ثم يرفع، أو لا يرفع الصوت الأول، قاله جمهورهم، اعتمادًا على حديث أبي محذورة العمى، (واختار) المكيون والشافعي تربيع التكبير والشهادتين فقط وباقية مثنى، واختار البصريون تربيع التكبير وتثنية الشهادتين وما بعدها ثلاث مرات إلى قوله: حي على الفلاح جملة واحدة ثلاث مرات نسقًا من غير فصل فتقول: الله أكبر أربع مرات، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح،

ثم ذكر مرة ثانية ثم ثالثة وبه قال الحسن وابن سيرين. واختار الكوفيون تربيع التكبير وتثنية باقي الأذان، وكل هذا الاختلاف مسند الأحاديث المختلفة والعمل. قوله: (((ويزيد في النداء الصبح) الصلاة خير من النوم)): وهذا مذهب مالك وأصحابه، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يزيدها في الصبح. وهو باطل لثبوتها عن السلف من الصحابة، ولم يكونوا ليتفقوا على الخطأ، وقد قيل: إنها كانت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والأشهر أنها قيلت في عهد عمر بن الخطاب بأمره. وأما الإقامة فمفردة كلها إلا التكبير

فإنها مثنى. واختلف المذهب في قوله: ((قد قامت الصلاة)) هل تثنى أو تفرد فيه قولان في المذهب مبنيان على اختلاف الأحاديث. قوله: ((ولا يؤذن لصلاة قبل وقتها إلا الصبح)): وهذا كما ذكره، وإنما أجاز مالك النداء لها قبل الصبح لقوله -عليه السلام-: (إن بلالاً ينادي بليل) ولأنها صلاة تأتي في وقت غفلة، وإذا قلنا بذلك فمتى يؤذن؟ فقيل: ثلث الليل وقيل: سدسه، وقيل: شطره، وقيل: بإثر صلاة العتمة إذا صليت في الوقت المختار، وهي رواية أبي بكر الوقار عن مالك وهي ضعيفة (ولا) (كان) المؤذن مأمورًا بها، وقد اختلف العلماء هل هي واجبة أو مستحبة، وهو المشهور عن مالك وهل يحكيه المصلي فيه ثلاثة

أقوال، فقيل: إنه يحكيه في الفريضة والنافلة [وقيل: لا يحكيه لا في فرضها ولا في نفلها] وقيل: يحكيه في النافلة دون الفريضة ومنتهى الحكاية عندنا الحيعلة فقط، ويقول عند ذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله وفيه خلاف بين العلماء، مذهب مالك ما ذكرناه.

باب العمل في الصلاة

باب العمل في الصلاة قال القاضي -رحمه الله-: ((الصلاة مشتملة على فروض وسنن وفضائل)). شرح: ذكر القاضي في هذا الباب جملة كلية، وحصر في ذلك ضابط المذهب، وتبين مقصوده بالاتصال والانفصال حيث قال: ((ونريد بالانفصال جواز تقديم فعلها، وأنها مكتفية بنفسها، وذلك يتم في الطهارة)) يعني (أن) كل واحد منهما مطلوب لغير الصلاة. وأما الطهارة فتطلب لمس المصحف وغير ذلك، وأما ستر العورة فمطلوب على أعين الخلق، ولا تزيده الصلاة فريضة. ثم قسم الفروض إلى قسمين مطلق ومقيد، فالأول كالطهارة، وقد أجمع العلماء على أنها واجبة للصلاة. قال تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغتسلوا} الآية، وثبت عنه -عليه السلام- أنه قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور). وقد انعقد الإجماع على وجوبها، لكن اختلفوا هل هي شرط في الوجوب أو في الأداء، على ذلك نشأ الخلاف في حكم من فقد الماء والصعيد، وفي المذهب فيه خلاف أشار إليه القاضي، تحصيله هل تجب عليه الصلاة أولاً فيه قولان: أحدهما: ليست بواجبة، لأن وجوبها موقوف على شرط متعذر بتعذر الوجوب. الثاني: أنها واجبة بناء على أن الوجوب محقق بشرط وجوب العقل، والطهارة المشترطة في الأداء، وإن تعذرت، فلم يتعذر الإيماء إليها. وإذا قلنا إنه يومئ إلى الماء أو إلى التراب فيه قولان أحدهما: إنه إلى الماء إيجابًا، لأنه الأصل. الثاني: أن له الإيماء إلى الماء، وإلى الصعيد، إذ هو بعدم الماء من أهل الإباحة، وإذ قلنا: إنه يصلي فهل يعيد إذا وجد الماء أو الصعيد أم لا؟ فيه قولان: في المذهب: أحدهما:

الإعادة إيجابًا، لأن الفعل الأول غير واقع بشرطه. الثاني: إسقاط الإعادة، لأنه فعل أولاً جهد مقدوره، وإذا قلنا إنه لا يصلي فهل يقضي أم لا؟ فيه قولان: إيجاب القضاء ونفيه، والصحيح أن الإيماء بعد ذهاب الوقت مفتقر إلى دليل. قوله: ((والنية فرض مطلق)): وهذا كما ذكره، ويكتفي من النية اعتقاد التقرب، وقال الجوهري يلزمه أن يستحضر عند تكبيرة الإحرام دلائل التوحيد، وأصل العقائد، وهو سبيل إلزام في حق آنس بالبرهان. قوله: ((ولا تصح الصلاة مع تركها على وجه)): تحقيق معنى الفريضة، لكن اختلفوا هل يفتقر كل جزء من أجزائها، وعدد من اعداد ركعاتها إلى نية، أو تستحب النية في جميع أركانها، وفيه قولان في المذهب. قوله: ((وأما إزالة النجاسة فاختلف هل هي من شرط الصحة أو ليس من شرطها)): قلت: اختلف العلماء في حكم إزالة النجاسة بعد اتفاقهم على أنها مطلوبة شرعًا، فقال الشافعي وأبو حنيفة: إزالة النجاسة من الثوب والجسد والبقعة واجبة للصلاة على الإطلاق، وقال قوم: إنها ليست بواجبة، واضطراب المذهب في ذلك، فروى ابن وهب عن مالك أنها فرض على الإطلاق، ومن صلى بها أعاد أبدًا على كل حال، وقال قوم من أهل العلم

سنة على الإطلاق وهي رواية أشهب عن مالك، زمن صلى بها عامدًا أو ناسيًا أعاد في الوقت (وروى ابن القاسم عن مالك أن إزالتها واجبة مع الذكر ساقط مع النسيان فمن صلى بها عامدًا أعاد في الوقت) وبعده، ومن صلى بها ناسيًا أعاد في الوقت فقط وهو المشهور في المذهب وذكر القاضي أبو محمد في شرح الرسالة أن المذهب كله متفق على أنها فرض، وإنما الخلاف في الإعادة هل هي شرط في صحة الصلاة أم لا؟ واحتج القائلون بالوجوب مطلقًا بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وثيابك فطهر} الأصل بقاؤه على ظاهره، أما السنة فحديث [القبرين] وفيه (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما كان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله) الحديث، وانفصل الأولون عن الاحتجاج بالآية بأن المراد بالثياب القلب، والمراد خطاب الأمة، فتوجه إلى النبي -عليه السلام-، والمعنى أمته، وإنما رجحوه وإن كان مجازًا من حيث إن هذه السورة أول ما أنزل من القرآن ولم تجب الصلاة حينئذ، وإذا لم يكن المشروط مفروضًا فكيف يتوجه فرضية الشرط، وفيه نظر وأما حديث القبرين فأسقطوا الاحتجاج به بناء على اختلاف رواياته، لأن بعضها (فكان لا يستبرئ من بوله) وكان في بعضها (((لا يستبرئ))) ولا تقوم الحجة

بالمحتمل، وإنما من أسقط الوجوب حمل الأمر على وجه الندب، وتبقى الثياب على ظاهرها، وأثبت الندبية بصيغة الطلب الذي مقتضاها ترجيح المطلق معتمدًا على حديث (سلا جزور) روى أن المشركين وضعوه على ظهر النبي -عليه السلام- فلم يقطع صلاته ولم يعد، والغالب أنه لا بنفك من دم، وأما ابن القاسم فاعتمد على حديث على حديث النعلين، (وأنه -عليه السلام- خلع نعليه فخلع الصحابة نعالهم فسألهم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: أخبرني جبريل أنه فيها قذرًا) الحديث خرجه أبو داود وغيره. قوله: ((فأما ما كان على الثوب فلا يتوجه عليه فرض إلا في ترك محله)): يعني الثوب الحامل للنجاسة. قوله: ((إن اختار المحل)): يعني إن اختار المصلي الثوب الحامل للنجاسة، فيجب عليه غسلها منه، ثم يصلي فيه بعد، وذلك عندما يكون واجدًا لغيره من الثياب، فهل له أن يتركه جملة، وينتقل عنه إلى غيره من الثياب الطاهرة. قوله: ((أو وجب)): يعني إذا لم يجد ساترًا لعورته فيتعين عليه غسله، ثم الصلاة فيه، إذ لا تجوز الصلاة عريانًا مع القدرة على السترة. قوله: ((وحكم ستر العورة حكم إزالة النجاسة، إلا أنه لا يتصور فيه الترك)): يعني أنه قادر على رفض الثوب النجس، وليس بقادر على رفع حكم العورة فلا يتصور فيها المحل إلا فعل السترة لا ترك على حكم المستور، بخلاف إزالة النجاسة من الثوب، فإنه يتصور فيه رفض الثوب مطلقًا، أو فعل الإزالة منه، وسيجئ الكلام في تفصيل العورة المأمور بسترها إن شاء الله. قال القاضي -رحمه الله-: ((وأما استقبال القبلة ففرض)) إلى قوله: ((والواجب من التسليم)). شرح: الأصل في استقبال القبلة قوله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في

السماء} [البقرة: 144] الآية وسبب نزول الآية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي إلى الكعبة، ثم لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس بضعة عشر شهرًا، ثم حولت القبلة إلى الكعبة فقال قريش: قد حار محمد في أمره فأنزل الله هذه الآية. وأما السنة فقد ثبت أنه -عليه السلام- (قال): (ما بين المشرق والمغرب قبلة) إذ لا يستقبل نحو البيت وقال -عليه السلام-: (من استقبل قبلتنا وأكل دبيحتنا فذلك المسلم) وأجمعت الأمة على أن التوجه نحو البيت فرض على المصلين مع القدرة. قوله: ((وهو في (حال) المسايفة)): تنبيهًا على حال الضرورة، ومن المعلوم إن حال محل الضرورة فيسقط فيه المعجوز عنه من استقبال القبلة، والركوع والسجود وغير ذلك. وفرق القاضي بين المعاين والغائب عن القبلة، أما المعاين فالفرض عليه عين القبلة، وأما الغائب فهل الواجب عليه عين

القبلة أم يجتهد، اختلف العلماء فيه، وفي المذهب فيه قولان، وكذلك اختلفوا هل الفرض على الغائب الاجتهاد والإصابة وفيها أيضًا قولان، وعليهما ينشأ الخلاف في وجوب الإعادة على من صلى إلى غير القبلة. قوله: ((وكذلك المتنفل على دابته في سفر القصر)): معناه أن المتنفل إلى غير القبلة جائز لأن النبي يفعل ذلك. واختلف المذهب هل يجوز ذلك في كل سفر أو في السفر تقصر فيه الصلاة فقط فيه قولان في المذهب. قوله: ((وإذا اجتهد مع القدرة فصلى ثم بان له غلطه فالإجزاء حاصل)): تحصيل القول في المصلى إلى غير القبلة أنه إما أن يفعل ذلك عامدًا أو مجتهدًا أو ناسيًا أو جاهلاً، فالعامد يعيد أبدًا. واختلف المذهب في الجاهل هل حكمه حكم العامد أو حكم الناسي أم لا؟ فيه قولان أحدهما: أنه يعيد أبدًا، وهو المشهور من المذهب. والثاني: أنه يعيد في الوقت، لأن النسيان غير مؤاخذ به في الشريعة. وإن فعل ذلك مجتهدًا، ثم تبين له الغلط فلا يخلو أن يرجع إلى يقين أو إلى ظن فإن رجع إلى يقين ففي المذهب قولان: أحدهما الإعادة أبدًا، وهو قول أصبغ. والثاني: الإعادة في الوقت، ومبناهما على الخلاف في تصويب المجتهد، وظاهر الكتاب الإعادة في الوقت فقط، وإن رجع إلى ظن ففي افعادة في الوقت قولان أحدهما أنه يصلي إلى الجهات الأربع. الثاني: أنه يتحرى ويجتهد ويصلي إلى الجهة الواحدة لا غير، وعلى هذا تتخرج مسألة الأواني المختلطة.

قوله: ((فأما أركان الصلاة التي هي منها فتسعة)): وهذا كما ذكره، وقد ضبط ابن أبي زيد وغيره أحكام الصلاة فقال: ((أفعالها كلها فرائض إلا ثلاثة: رفع اليدين والجلسة الأولى، والتيامن في السلام، وأقوالها كلها سنن إلا ثلاثة: تكبيرة الإحرام، وقراءة أم القرآن والسلام)). ثم ذكر أن النية المعتبرة هي المقارنة أو المتقدمة المستصحبة لا المتأخرة، وقد تقدم في كتاب الطهارة حكم النية تتقدم الفعل. قوله: ((ولفظ التكبير متعين)): وهذا هو حقيقة مذهب مالك -رحمه الله- لقوله -عليه السلام-: (وتحريمها التكبير) وقصره مالك على هذا اللفظ، واشتق الشافعي من لفظ الله أكبر كل ما في معناه بشرط حروفه. وأجاز أبو حنيفة كل ما فيه تعظيم من فظ ((الله أكبر)) وغيره وقيد القاضي على مذهب إمامه. قوله: ((وهو فاتحة الكتاب لا يجزئ غيرها في كل ركعة)): وفي هذا الكلام تنبيه على خلاف عام وخلاف مذهبي. قوله: ((لا يجزئ غيرها)): تنبيه على مذهب أبي حنيفة لأنه أجاز القراءة بما تيسر اعتمادًا على قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} [المزمل: 20]. قوله: ((في كل ركعة)) تنبيه على خلاف مذهبي، وذلك أن المذهب اختلف هل القراءة فرض في كل ركعة، أو في جل

الصلاة، أو في ركعة واحدة فقط، وعلى ذلك اختلف المذهب فيمن تركها من ركعة أو من ركعتين. وقد روى عن ابن زياد أن القراءة في الصلاة غير مشترطة اعتمادًا على قول عمر بن الخطاب حين صلى ولم يقرأ قال: (كيف كان الركوع والسجود قالوا: لا بأس به قال فلا إذًا) وقد ضعف هذا الحديث، وتأوله على أنه ترك الجهر بقراءة أم القرآن، ولم يترك القراءة. وقد روى أنه أعاد هذه الصلاة. وحكى ابن الجلاب وغيره فيمن ترك أم القرآن في ركعة (ثلاث) روايات، وذلك في حق الإمام والمنفرد دون المأموم. وقال أبو بكر من تركها في ثلاث ركعات قرأها مرارًا في الرابعة. قوله: ((والاعتدال في الركوع والسجود واجب)): تنبيهًا على وجوب الطمأنينة وهو مذهب الجمهور اعتمادًا على حديث الأعرابي وفيه: (اركع

حتى تطمئن راكعًا). قوله: ((ولم نعده فرضًا زائدًا على الركوع)): الضمير في ((نعده)) عائدًا على اعتدال، ومعنى الكلام أنه داخل في قسم الركوع والسجود فوجوبهما يعني عن تخصيصه بالوجوب. قوله: ((ويسجد على جبهته وأنفه)): هو كما ذكره، والأصل فيه قوله -عليه السلام-: (أمرت أن أسجد على سبعة آراب) الحديث وأشار إلى جبهته وأنفه، فإن كان سجوده عليهما معًا فلا خلاف في إجازته، وإن سجد على أحدهما فقط، ففيه ثلاثة أقوال في المذهب: الأول: الإجزاء مطلقًا على أيهما سجد، والثاني: نفي الإجزاء مطلقًا بناء على أنهما مشترطان بالنص، والقول الثالث: وهو المشهور أنه إن اقتصر على الجبهة أجزأه،

وإن اقتصر على الأنف لم يجزه. قوله: ((والاعتدال في القيام للفصل بينهما مختلف فيه)): عائد على الركعتين المتجاورتين كالسجدتين، والفصل بين الركوع والرفع منه، والإهواء إلى السجود ونحو ذلك. قال القاضي -رحمه الله-: ((والواجب من التسليم مرة ولفظه متعين)) إلى قوله: ((وفضائلها سبع)). شرح: السلام واجب لأنه محلل مما وقع التحريم له بالتكبير لقوله -عليه السلام-: (تحليلها التسليم)، واختلف الفقهاء هل مقتضاه (الحصر) أم لا؟ وإنما كان الواجب مرة واحدة، لأنه فاصل يقع به التحليل المقصود منه. قوله: ((ولفظه متعين)): تنبيهًا على مذهب المخالف لأنه أجاز التحليل بكل مناقض من قول أو فعل حتى الضرطة وشنع عليه بعض الشافعية، ويرى الخروج من الصلاة بضرطة البتة. ولو أتي به منكرًا فقال: ((سلام عليكم)) فهل يجزئه أم لا؟ فيه قولان بين المتأخرين، ولا يخلو

المصلي أن يكون إمامًا أو مأمومًا أو فذًا، فالفذ يقتصر على تسليمة واحدة، وفي الإمام قولان: أحدهما جواز الاقتصار على تسليمة واحدة، ولا يسلم غيرها، وقيل: يسلم تسليمتين واحدة عن يمينه حتى يرى بياض خده، وتسليمة عن يساره حتى يرى بياض خده من ههنا، وأما المأموم فلا يخلو أن يكون على يساره أحد أو لا يكون، فإن كان على يساره أحد سلم ثلاث تسليمات ينوي بها الخروج عن الصلاة يشير بها إلى يمينه، وتسليمة يرد بها على إمامه، والأول أصح، وإن لم يكن على يساره أحد سلم تسليمتين، والواجب من ذلك عندنا تسليمة التحليل، وأما تسليمة إمامه، وعلى من على يساره، فمن باب رد السلام، وفي ذلك قولان: أحدهام أنه واجب، والثاني: أنه سنة. وقوله: (((ومن الجلوس قدر ما يعتدل ويسلم))): وفي الكلام حذف، ويريد: ((ومن الجلوس قدر ما يسلم))، وحصر سنن الصلاة في اثنتي عشرة منها: قراءة السورة مع أم القرآن. وقد استقرئ من المذهب وجوبها بناء على ما وقع من بطلان الصلاة من تركها عمدًا، ولا حجة فيه لاحتمال أن يبني على الخلاف في ترك السنن عمدًا، وكذلك الجهر فيما يجهر فيه، والسر فيما يسر فيه، اختلف المذهب هل هما من سنن الصلاة أو هيئاتها فقيل: من السنن وهو المشهور، وقد قيل: إنهما من الهيئات الواجبة، ومن تركها عامدًا على هذا بطلت صلاته، فلو جهر فيما يسر فيه كان عليه السجود بعد السلام، لأن الجهر هو القول وزيادة، ولو أسر فيما يجهر فيه سجد قبل السلام، لأنه نقص، إلا أن يكون ذلك في الآية والآيتين فلا حكم فيه لسجود. وروى قوم من أهل العلم أن السر فيما يسر فيه والجهر فيما يجهر فيه

من واجبات الصلاة، ومن ترك ذلك عامدًا أبطل صلاته. قوله: (((والاعتدال في الفصل بين الأركان))): عده من السنن، والصحيح عند أهل العلم أنه من الواجبات لأنه داخل في باب الطمأنينة الواجبة بمقتضى حديث الأعرابي وفيه: (ثم ارفع حتى تطمئن رافعًا) الحديث. وروى الأبهري وغيره من المذهب أن التشهدين سنتان، وفي المذهب أنهما فضيلتان، وقيل: الأول سنة، والثاني: فريضة، وكذلك الجلوس الثاني. اختلف المذهب فيه هل هو فريضة حكاهما القاضي مبنيان على المتصل بالواجب حسًا الذي يتعذر فيه الانفصال، هل يجعل متصلًا به حكمًا أم لا؟ والخلاف مشهور بين الأصوليين ذكره الغزالي في المستصفى. وكلام القاضي يقتضي أن الجلوس الثاني مخالف لحكم الجلوس الأول وهو مشهور المذهب كما ذكرنا، ثم ذكر التشهد المختار، وقد ثبت التشهد من طرق عديدة، من طريق عمر بن الخطاب ومن عبد الله بن العباس وابن

مسعود إلا أن مالكًا اختار تشهد عمر بن الخطاب من حيث كان هو المشهور الرافع الذي علمه الناس على المنبر بحضور الصحابة والتابعين، ولم يخالف فيه أحد، وقد زاد فيه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد دعاء محفوظًا استخرجه من الآثار، والصحيح ما ثبت في الصحيح. قوله: ((وكذلك القيام الذي يقرأ فيه الزيادة على أم القرآن مسنون غير مفروض)): وهذا أيضًا مختلف فيه كما ذكرناه في الجلوس ففي المذهب قولان: أحدهما: أن القيام جميعه فرض، والثاني: أن الفرض فيه مقدار ما يقرأ فيه أم القرآن. ومبناه على أصلين، أحدهما ما ذكرناه قبل في الجلوس، الثاني هل القيام مراد لنفسه أو للقراءة، فإن قلنا: إنه مراد لنفسه كانا واجبًا مطلقًا في حق من وجبت عليه القراءة كالإمام والفذ، وفي حق من لم تحب كالمأموم، وإن كان واجبًا للقراءة ومرادًا لها لزم أن يسقط

وجوبه عمن تسقط عنه القراءة، وهذا لا قائل له مع القدرة عليه. قوله: ((والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-)): اختلف المذهب في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- هل هي فرض في الصلاة أم لا؟ وتحصيل القول فيه أنها فرض غير محدود بوقت، ولا مقدر بزمان لقوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا} [الأحزاب: 56] أمر بالصلاة عليه، ولم يقيد بزمان، فيكتفي من ذلك المرة الواحدة من العمر. وقد اختلف العلماء في صيغة قوله: {صلوا عليه} هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب، فحكى الإمام أبو جعفر الطبري الإجماع على أن الأمر في الآية محمول على الندب إشارة إلى تكرير الصلاة عليه في غالب الأزمان لا إلى المرة الأولى التي لا يصح كونه مسلمًا إلا بها. قال الخطابي: ((وليست الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بواجبة في الصلاة وهو قول جماعة من الفقهاء إلا الشافعي ولا علم فيها قدوة)). والدليل على أنها ليست من فرض الصلاة عمل السلف الصالح. قال الشافعي وإجماعهم

عليه، وقد شنع الناس هذه المسألة جدًا، وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي ليس فيه الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كل من روى التشهد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كأبي هريرة، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، لم يذكر فيه صلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال القاضي أبو الحسن القصار المشهور من أصحابنا أن ذلك واجب على الجملة ولو مرة من دهر مع القدرة على ذلك. قال القاضي أبو بكر: فرض الله على خلقه أن يصلوا على نبيه ويسلموا تسليمًا، ولم يجعل ذلك لوقت معلوم، فالواجب أن يكثر المرء منها، ولا يغفل عنه، وحكى الطبري والطحاوي إجماع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم في التشهد غير واجبة. قال بعض الشافعية لا خلاف أنها ليست بغرض في غير الصلاة، وإنما الخلاف هل هي فرض الصلاة أم لا؟ فأوجبها الشافعي ورأى أن لم يصل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد الأخير وقبل الصلاة فصلاته فاسدة والإعادة عليه واجبة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم يجزه، والمعول عليه من مذهب أهل المدينة، وأهل الكوفة وأصحاب الرأي أن من تشهد ولم يصل على

النبي -عليه السلام-فصلاته تامة وقال محمد بن المواز ومحمد بن عبد الحكم هي فرض في الصلاة كقول الشافعي، وقال إسحاق بن راهويه من ترك الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عامدًا أعاد الصلاة أبدًا وإن تركها ناسيًا فلا إعادة عليه، وقد روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا صلاة لمن لم يصل على نبيه) قال ابن القصار: معناه لا صلاة كاملة. وفي حديث ابن عمر: (كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب). فروى الدارقطني من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم يقبل منه). قال الدارقطني الصلوات إنها من قول أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: لو صليت لم أصل فيها على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم. قال القاضي -رحمه الله-: ((وفضائله سبع)) إلى قوله: ((والمصلون ثلاثة)).

شرح: اختلف العلماء في رفع اليدين، والجمهور على أنه مشروع، فقد أنكره بعض أهل العلم، ووقع في مختصر ابن شعبان لا يرفع عند تكبيرة الإحرام ولا غيرها. وفي المدونة: وكان رفع اليدين عن مالك ضعيفًا إشارة إلى ضعف حكمه لا إلى إنكار مشروعيته، وقد أوجبه بعض أهل العلم وروى عن ابن عمر أنه قال لكل شيء زينة، وزينة الصلاة الرفع عند التكبيرة الأولى والصحيح أنه من الفضائل. قوله: ((إلى المنكبين)): بيان منتهى الرفع. وقد اختلفت الأحاديث في منتهاه، فقيل: إلى الصدر، وقيل: إلى الأذنين، وقيل: إلى الأذنين، وقيل: إلى المنكبين، والثلاثة أقوال في المذهب، ومبناها على اختلاف روايات الأحاديث، وقد جمع بعض المتأخرين بين الروايات المختلفة فقيل: الكوع عند الصدر وطرف الكف حذو الأذنين، وأصح الروايات حديث ابن عمر أنه جعلها حذو منكبيه،

وحديث مالك بن الحويرث وفيه: (أنه رفعهما حتى حاد بهما أذنيه). واختلف في صفة الرفع، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه يرفعهما وبطونها مما يلي الأرض وهي حال الراغب، ثم يعكس ذلك إذا أهم بالإحرام، وهي حالة الراهب وقد قال سبحانه: {ويدعوننا رغبًا ورهبًا} [الأنبياء: 90] إشارة إلى حالتي الرفع، وقد قيل: ليس في ذلك حد وذكر بعض أهل العلم أن المنافقين كانوا يأتون الصلاة تحت أباطهم أصنام، فأمر المسلمون بالرفع لتسقط الأصنام التي اتخذها المنافقون، وقيل: إنما شرع الرفع إشارة إلى رفض الدنيا، والوقوف بين يدي المولى. وإذا قلنا بأن هذا الرفع مشروع، فاختلف الفقهاء في محله، فالجمهور من المذهب أنه لا تحل له إلا عند تكبيرة فقط، لأنه الثابت الذي مضى عليه العمل، وقيل: بالرفع عند الافتتاح، وعند الرفع عند الركوع فقط، وقيل: بالرفع فيهما وعند القيام إلى الثالثة، لأن أصل الفرض كان ركعتين فكأنه ابتداء إحرام، وقيل: يرفع في ذلك، وفي الانخفاض إلى الركوع، وكل هذه الأقوال واقعة في المذهب. قال المصنف عفا الله عنه: ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- افتتح (الصلاة) فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلها حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع فعل مثله، وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل

مثله، وقال: ربنا ولك الحمد ولا يفعل ذلك حين سجد ولا حين رفع رأسه من السجود) زاد في آخر: (وإذا قام من الركعتين رفع يديه) ورواه مالك بن الحويرث وقال: (حتى يحاذي بهما أذنيه) ولم يذكر السجود. خرجه مسلم، وروى وائل بن حجر قال: صليت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث قال فيه: (وإذا رفع رأسه من السجود رفع يديه) فلم يزل يفعل ذلك حتى فرغ من صلاته). قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: ((عارض هذا الحديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يرفع بين السجدتين)) ووائل صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أيامًا قلائل، ولبن عمر صحبه حتى توفي، فحديث اولى أن يؤخذ به ويتبع. وقول القاضي: ((لا إلى الأذنين)) تنبيهًا على ما ذكرناه من الخلاف. وأما لإطالة القراءة فمن المستحبات. قوله: ((والتأمين بعد أم الكتاب)): معنى التأمين هو قول المصلي: ((آمين)) وفيه لغات المد، والقصر، والتخفيف مع كل لغة والتشديد. فقد اختلف أهل العلم في معناه، فقال بعض السلف: هو كترخيص من تحت العرش لا يعلم تأويله إلا الله، وقال بعضهم: هو أربعة أحرف يخلق الله بكل حرف ملكًا يقول: اللهم اغفر لمن قال: آمين، وقيل معناه: لا تخيب رجاءنا،

وقيل: هو من أسماء الله تعالى، وقيل معناه: اللهم أمينا بخير. وأجمع العلماء على أن الفذ والمأموم مخاطبون بها فيقولان: أمين. واختلف الفقهاء في الإمام هل يؤمن أم لا؟ وفي المذهب فيه اضطراب، فحكى بعض شيوخنا عن المذهب روايتين إحداهما أنه يؤمن مطلقًا في السر والجهر، والثاني: أنه لا يؤمن مطلقًا. وتحصيل المذهب أنه يقولها في السر بخلاف الجهر، إذ لا يؤمن بدعائه في أم القرآن، وأما في الجهر ففيه قولان: رواية المصريين المنع، وبه قال أبو حنيفة، ورواية مطرف وابن الماجشون أنه يقولها، وبه قال الشافعي هكذا نقل القاضيان أبو الوليد بن رشد وأبو الوليد الباجي عن المذهب. وسبب الخلاف في تأمين الإمام اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قال الإمام ولا الضالين فقالوا آمين). وظاهره أن الإمام يؤمن. وقال -عليه السلام-: (إذا أمن الإمام فأمنوا).

واختلف العلماء في تأويله فقال بعضهم: هو على ظاهره، وتأوله بعضهم، وقال المعنى: إذا بلغ موضع التأمين، والأول: أصح لقول ابن شهاب: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول آمين. قوله: ((والتسبيح في الركوع والسجود)): فضيلة عند جمهور أهل العلم، وليس له حد محدود عندنا. قوله: ((والقنوت في (الفجر))): القنوت في اللغة هو الخضوع، والتذلل، ويراد به الدعاء والقيام وغير ذلك، وعد القاضي القنوت من الفضائل جريًا على المشهور من المذهب، وقال يحيى ليس بمشروع لنا وهو قول أبي حنيفة، لأنه عليه السلام كان يدعو على قبائل من العرب، فنزل عليه جبريل فقال له: إن الله لم يبعثك سبابًا ولا لعانًا) الحديث فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القنوت ولم يقنت حتى لقى الله. وذكر أن

مسجد يحيى بن يحيى (بقرطبة) لم يكن يقنت فيه في صلاة الصبح عملاً على هذا المذهب الذي حكيناه عنه، واستقرئ من كلام [ابن] سحنون أنه سنة حيث قال: إنه يسجد لسهوه، والمشهور أنه لا يسجد، واستقرئ من رواية علي بن زياد أنه فرض حيث قال: إن من تركه عامدًا بطلت صلاته، وهذا لا حجة فيه، لأن مبناه على أحد القولين فيمن ترك السنة متعمدًا، في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قنت قبل الركوع وبعده. واستحب مالك القنوت (قبله) واستحب الشافعي القنوت قبل الركوع ليدرك المسبوق الركعة. واختلف الفقهاء في محله من الصلاة، والجمهور أنه لا يقنت إلا في الصبح، وهل يقنت في الوثر، وفي النصف الآخر من رمضان فيه قولان في المذهب المشهور ترك ذلك إذا لم يكن معلومًا. الثاني: القنوت فيه لما صح عن السلف أنهم كانوا يلعنون الكفرة في رمضان. قوله: (((ويقول المأموم ربنا ولك الحمد))): خص المأموم تنبيهًا على

أن حكم الإمام يخالف ذلك، وهل يقولها الإمام أم لا؟ وإذا قالها المصلي فهل يقولها بالواو أو بغيره، سنذكره. قوله: ((وسجود التلاوة)): يعني إذا أمر بسجدة في صلاة، وهل (يسجدها) يوم الجمعة فيه قولان في المذهب، فمنهم من اجاز ذلك اقتداء بعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المستمر الدائم، ومنهم من كرهه، ومنهم من أجازه إذا كانت الجماعة قليلة، ومنعه إذا كانت الجماعة كثيرة خوف التشويش والتخليط. قوله: ((وصفة الجلوس كلها صفة واحدة)) تنبيهًا على مذهب المخالف. قوله: ((يشير بسبابتيه منها)): هو المشهور، وقيل: لا يشير إلا عند التوحيد، واختلفوا في علة الإشارة، فقيل: مقمعة للشيطان، وقيل: إنها إشارة إلى الوحدانية. قوله: ((والمختار له عند تكبيرة الإحرام أن يعقبها بقراءة أم القرآن)): قلت المشهور من مذهب مالك -رحمه الله- كراهية الدعاء وغير ذلك من الأذكار بعد تكبيرة الإحرام، وقبل القراءة، وكذلك لا يقرأ: {ربنا لا تزغ قلوبنا} [آل عمران: 8] الآية ولا يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك)) ولا غير ذلك من الأدعية والأذكار، وقد جاء في الصحيح (أنه -عليه السلام- كان يسكت بين التكبيرة والقراءة

سكتة) يقول فيها بعض هذه الأذكار، وإنما كره ذلك مالك خوفًا أن يعتقد وجوب ذلك فيزاد في الصلاة ما ليس منها، وكذلك لا يقول: بسم الله الرحمن الرحيم سرًا ولا جهرًا، فإن قال ذلك، وجهر فيها، فلا شيء عليه، لأنه ذكر، والصلاة على الأذكار، هذا نص إسماعيل في المبسوط وأجاز ذلك في التراويح في رمضان، قال مالك: ولم يزل القراء يتعوذون في قيام رمضان. قوله: ((والمختار من قرأ القراءة في الصلاة مختلف باختلاف أعيانها)): وهذا كما ذكره، وأطولها قراءة الصبح، ثم الظهر، واختلف أيهما أطول، العصر، أم العتمة، وفيه روايتان في المذهب، والمشهور أن العتمة أطول. واختلف أهل العلم في المفصل، فقيل: القرآن كله مفصل، لأنه فصل سورًا وآيات، وقيل: المفضل من حم الجاثية، وقيل: من الحجرات، لانفصال سوره بعضها عن بعض لقصرها، وقيل: لأنها مفصل محكم لا نسخ نصًا أو تعليلاً. قوله: ((والمصلون ثلاثة إمام ومأموم ومنفرد)) إلى قوله: ((ودعاء القنوت)). شرح: قسم المصلين هذه الأقسام ليتبين ما اشترك فيه الجميع، وما وقع (فيه) الاختصاص. قوله: ((إلا في مواضع لا يتصور مقصودها في الانفراد على ما بينه)):

ثم ذكر أن النية، والإحرام، والركوع، والسجود، والفصل بينهما والجلوس والتسليم المفروضة وجميع الهيئات مما يقع الاشتراك فيه، ويخاطب الجميع بفعلها، والهيئات راجعة إلى صفة الأفعال والأقوال، فمن صفة الأفعال توفيه هيئاتها، وهو المعبر عنه بالطمأنينة، وصفة الجلوس. من صفة الأقوال السر والجهر وحصر ما ينفرد (به) الإمام، والمنفرد في أشياء بعينها، وجوب القراءة، والجهر بها، وسجود السهو، والتسليم واحدة، وإنما سقطت القراءة على المأموم لقوله -عليه السلام-: ( ... ما لي أنازع القرآن) وفي حديث ابن عمر: ( ... وراء إمام فحسبه قراءة الإمام). قوله: ((والتسليم (واحد))): هو كما ذكره باتفاق في المنفرد، وفي المذهب قولان في الإمام، هي يقتصر على الواحدة، أو لا بد من التسليمتين وهو الشاذ ومبنى الخلاف على اختلاف الروايات كما سنذكره. وذكر أن الذي ينفرد به المأموم ثلاثة أشياء: سقوط فرض القراءة، وسجود السهو يعني أنه ساقط عنه، لأن سهو المأموم غير معتبر عند الجمهور، فإن الإمام يحمله عنه، وبه قال أهل العلم، سوى من شذ كداود وغيره، فإنه رأى أن الخطاب بسجود السهو متوجه على كل من سهى من أنواع المصلين. قوله: ((وينفرد المأموم باعتقاد)): وهذا كما ذكره، لأن قاعدة المذهب أن

صلاة المأموم (مرتبطة بصلاة الإمام) فلا يجوز الاختلاف في النيات، وأجاز ذلك الشافعي بناء على أن كل مصل يصلي لنفسه ولهذا لا يجوز أن يصلي ظهرًا خلف من يصلي عصرًا ولا ظهرًا خلف من يصلي الجمعة، خلف من نوى ظهرًا، ولا فريضة خلف متنفل، ولا نافلة خلف نافلة مخالفة في الهيئة، والعدد كالمتنفل بركعتين خلف المصلي الكسوف، لأن ذلك اختلاف. وضابط القول في المتنفل والمفترض أن صلاة المفترض خلف المتنفل تختلف في جوازها على روايتين عندنا، المشهور ما ذكرناه والشاذ الجواز بناء على أن كل مصل يصلي بنفسه. وأما صلاة المتنفل خلف المفترض جائزة، وكذلك المفترض خلف المفترض، والمتنفل خلف المتنفل إذا اتفق العدد والهيئة. ولو دخل يوم الخميس يظنه يوم الجمعة أو بالعكس فهل يجزئه أم لا؟ (فيه ثلاث) روايات في المذهب. الإجزاء مطلقًا، ونفيه مطلقًا، والإجزاء إن دخل يوم الخميس يظنه يوم الجمعة بخلاف العكس، وفيه رواية رابعة عكس هذا الذي قدمناه. قوله: ((والمأموم سنته بعد التكبير الإنصات والاستماع)): وهو مذهب مالك -رحمه الله- سواء كان بحيث يسمع قراءة الإمام عندنا أم لا. وأجاز أن

يصلي الأمي خلف المي. ومنع من ائتمام الإقراء بالأمي، والواجب ائتمام الأمي بالقارئ إن أمكن، ومن تعذرت منه القراءة فحكمه أن يسبح. قوله: ((والاختيار إخفاء التأمين)): وهذا قد اختلف العلماء فيه، فمن أهل العلم من رأى الجهر به، وفي الحديث: (كانت تسمع ضجة أداء من الناس خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم). واختار مالك إخفاءه، ولعله اتبع في ذلك العمل الأحدث، وقد ذكرنا الخلاف هل يقول الإمام: ((ربنا ولك الحمد)) أم لا؟ ومبناه على اختلاف الأحاديث، وصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول ذلك. واختلف الأحاديث ففي بعضها: ((ولك الحمد)) بإثبات الواو، وعلى حذف المعطوف. والمعنى استجب لنا ولك الحمد على استجابتك، وفي بعضها بإسقاط الواو وهو المشهور من المذهب، وكذلك لا يقول المأموم: ((سمع الله لمن حمده)) على الأشهر من المذهب اتباعًا للعمل. وأجاز أن يضع يديه قبل ركبتيه أو ركبتيه قبل يديه إذا هوى إلى السجود، والأول أحسن، لأنه أقرب إلى الوقار والخضوع كما جاء في الحديث.

قوله: ((وينهض من السجود قائمًا)): تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن الفقهاء اختلفوا هل يقوم من سجود أم جلوس، والمشهور أنه يقوم من سجود إلا من ضرورة وبذلك جاءت الأحاديث. قال القاضي -رحمه الله-: ((ودعاء القنوت)) إلى آخر الباب. شرح: يقال خنعت لفلان إذا خضعت. قوله: ((ونجهد)): أي نجتهد. وقد ذكرنا أن السلام من مفروضات أقوال الصلاة، وذكرنا أن اعتماد للإمام والمأموم والمنفرد. وفيما قدمناه كفاية، وذكرنا الخلاف أيضًا هل يبدأ بمن على يمينه أو بمن على يساره، وفيه قولان عندنا، وإنما كان تكبيرة القيام من اثنين بعد الاعتدال قائمًا تنبيهًا على أصل الفرض أنه كان ركعتين بخلاف غيره من التكبيرين. قوله: فالسنة قراءة السورة مع أم القرآن)): أجمع جمهور أهل العلم على أن قراءة السورة مع أم القرآن سنة. وفي المذهب في ذلك ثلاثة أقوال. أحدها: أنها سنة كما ذكرناه، وهو نص المذهب، الثاني: مستحبة واستقرأه الشيخ أبو الحسن من المذهب. الثالث: فريضة، واستقرأه أيضًا من المذهب، لأنه تارة أسقط السجود للسهو بتركها، ويراه إبطال الصلاة

بتركها عمدًا، فيقتضي الأول كونها فضيلة، ويقتضي الثاني كونها واجبة، إلا أن يخرج على بطلان ترك الصلاة لمن ترك السنة عمدًا. وقد اختلف المذهب في من تركها عمدًا على ثلاثة أقوال. فقيل: يستغفر الله ولا شيء عليه، وهو يقتضي أنها فضيلة، وقيل: يسجد قبل السلام، وهذا يقتضي أنها سنة، وقيل: يعيد أبدًا، وهذا يقتضي أنها واجبة، ولو ترك قراءتها سهوًا، فالمشهور أنه يسجد قبل الإسلام. وفي مختصر أبي إسحاق بن شعبان لا سجود عليه، واستقرئ منه استحبابًا، وهل يقرأ في الركعتين الآخرتين بالسورة مع أم القرآن أم لا؟ فيه روايتان، واستحبه محمد بن عبد الحكم وهو قول الشافعي من حيث كانت الصلاة محل الإدراك، وصح هذا عن ابن عمر وغيره. والمشهور أنه لا يستحب. ولو قرأ بالسورة فعل يسجد أم لا؟ فيه قولان، فقيل: هي زيادة يسجد لها والمشهور ألا سجود عليه. قوله: ((وعورة الرجل المخاطب بسترها (في الصلاة) من ستره إلى ركبته)): وهذا هو المشهور من المذهب، وهما داخلان في ذلك، وقيل: لا عورة منه السوأتان فقط، وقيل: من السرة إلى الركبة، وهما غير داخلتان في ذلك، والأصل في ذلك حديث ابن جرهد وفيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (غط فرجك فإن الفخذ عورة) ويعارضه أنه -عليه السلام- كشف فخذه بمحضر

أصحابه ولو كان عورة ما فعل ذلك. واختلف المذهب في عورة الأمة، فقيل: هي كعورة الرجل، وقيل: كعورة الحرة والقولان في المذهب. قوله: ((وتجزئ الصلاة في ثوب واحد)): وهكذا كما ذكره، لأن المقصود ستر العورة، والإجزاء حاصل بالثوب الواحد، وإنما كره أنه يعري كتفيه لقوله تعالى: {يا بني ءادم خذوا زينتكم} [الأعراف: 31]. قوله: ((وليس له كفت ثوبه ولا شعره)): هذا كما ذكره لثبوت النهي عن ذلك خرجه مسلم في صحيحه. وإنما كره التلثم لأنه من زي المخادعين، وقد يكون للمتكبرين. واختلف المذهب في تغطية الذقن على قولين الكراهية والجواز، وقد قيل: إنه زينة بالليل ومذلة بالنهار.

باب السهو وما يفسد الصلاة وما يتصل بذلك

باب السهو وما يفسد الصلاة وما يتصل بذلك قال القاضي -رحمه الله-: ((السهو يقع على وجهين بنقصان وبزيادة)) إلى آخر الفصل. السهو والذهول، والنسيان، والغفلة، ألفاظ مترادفة على معنى واحد. وقد يطرق الإنسان عند شعبة الخواطر، وقد يلحقه فجأة من غير سبب، وذكر أنه بزيادة أو نقصان، ومراده به [لا ينضبط] فقد يجتمع الزيادة والنقصان في صورة واحدة، فلو رأى ذلك لقال: يكون السهو بزيادة أو نقصان، وبالزيادة والنقصان معًا. والأصل في السهو قوله -عليه السلام-: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) وفي حديث ذي اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله قال: كل ذلك لم يكن) الحديث.

قوله: ((وله سجدتان كثر أم قل)): يريد أن السجود لا يتكرر عليه بتكرير السهو في الصلاة الواحدة. قوله: ((فيؤتى به في النقصان قبل السلام)): إلى آخره. اختلف الناس في حكم سجود السهو، ومذهب طائفة أنه يسجد قبل السلام، ومذهب طائفة أنه يسجد بعد السلام، وبالأول: قال الشافعي، وبالثاني: قال أبو حنيفة، وفرق مالك بين الزيادة والنقصان جعل السهو للزيادة بعد السلام، وللنقصان قبله. وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- سجود قبل السلام وبعده، وجمع مالك بين الأحاديث وبنى على بعض، ولو اجتمعت الزيادة والنقصان لغلب النقصان على المشهور من المذهب. قوله: ((ويكبر لهما في ابتدائهما والرفع منهما)) إلى آخره. شرح اختلف العلماء في التكبير لهما (والتشهد) لهما والسلام منهما على أربعة أقوال، قيل يكبر لهما، ويتشهد لهما، ويسلم منهما، وقال قوم من أهل العلم: لا يكبر، ولا يسجد لهما، ولا يسلم منهما. والقول الثالث: يكبر

لهما ولا يسلم منهما، والقول الرابع: عكسه. وتحصيل مذهب مالك في ذلك (تفصيل) أما اللتان بعد السلام فيكبر لهما ويتشهد ويسلم منهما بلا خلاف عندنا، لأنهما مستقلتان بحكمهما، وليستا من صلب الصلاة. وحكى الأشياخ عن المذهب رواية ثانية أنه لا يحرم لهما قياسًا على سجود التلاوة. وأما اللتان قبل السلام فيكبر لهما ولا يسلم منهما للاكتفاء بسلام الصلاة، وفي التشهد لهما روايتان حكاهما القاضي، أحدهما التشهد، إذ لا يكون السلام إلا عقب التشهد. والثاني: نفيه إذ لا يجتمع تشهدان في جلوس واحد. وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه اكبر فيهما أربع تكبيرات، وأنه سلم في ثبوت تشهده نظر قاله الإمام أبو بكر بن المنذر. وفي صفة السلام منهما روايتان فقيل كالسلام من الصلاة، وقيل: هي قياس على السلام من الجنائز على ما فيه من خلال. قوله: ((وإن سهى عنهما)): تحصيل القول في تركهما لا يخلو أن يسهو عن السجود اللتين بعد السلام أو قبله، فإن سهى عن اللتين بعد السلام فلا يخلو أن يطول الأمر أم لا فإن لم يطل سجدهما وصحت صلاته، لأن المتصل بالشيء كحكمه وإن طال فالمشهور صحة صلاته، وحكمه أن يسجد متى ما ذكر. وأما اللتان قبل السلام فهل تبطل الصلاة بتركها إذا طال الأمر أم لا؟ فيه خمسة أقوال في المذهب المشهور أنها تفسد، والثاني: أنها لا تبطل مطلقًا، والثالث: انها تبطل غن كان السجود واجبًا على ترك فعل، ولا

تبطل إن كان على ترك قول، والرابع: أنها تبطل بنقص الجلوس الوسطى، وأم القرآن من ركعة، ولا تبطل من ترك غير ذلك، والخامس: أنها تبطل كان النقص في القول أو في الفعل إلا أن يكون المتروك تكبيرتين أو في معناها مثل سمع الله لمن حمده. سبب الخلاف هل يعطي البدل حكم (المبدول) منه أم لا؟ فإنهما مشروعتان بدلاً من ترك سنة، فإن كان (المبدول) من غير واجب فالبدل مثله، ومن جعلهما من صلب الصلاة أبطل الصلاة بتركهما. والتفريق استحسان. ولو قدم سجدتين بعد السلام أو أخر اللتين قبل السلام فلا يخلو أن يفعل ذلك عامدًا أو ناسيًا أو متأولاً، فإن ذلك ناسيًا أو متأولاً صحت صلاته، وإن فعل ذلك عامدًا، ففي بطلان الصلاة قولان مبنيان على مراعات الخلاف. قوله: ((والمتروك بالسهو أربعة أنواع: فريضة، وسنة، وفضيلة، وهيئة)): قلت: عد القاضي الهيئة قسمًا رابعًا، وهي راجعة إلى أحد الأقسام الأول قطعًا، ثم لما تكلم في أحكام ذلك أعاد الهيئة عن حكم يحصلها، إشارة إلى ما ذكرناه من إدراجها تحت ما قبلها إلا أنه شخصها في العدد وإن تساوت في الأحكام تنبيهًا على أن الصلاة مطلوبة بأقوالها وأفعالها وهيئاتها كالجلوس في مواضعه والإسرار والجهر ونحو ذلك. وأشار الشيخ أبو الوليد الباجي في المنتقى إلا [أن] الإسرار والجهر من الهيئات في الصلاة وجعله قسمًا مستبدًا بنفسه.

قوله: ((ومن لم يدر كم صلى بنى على يقينه)): الأصل في هذه المسألة ما رواه أبو سعيد الخدري قال؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا، أم أربعًا فليصل ركعتين، ويسجد سجدتين، وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتين ترغيمًا للشيطان) وهذا الحديث حجة على المذهب لأن فيه السجود قبل السلام للزيادة لإمكان أن تكون خامسة. وتحصيل القول في من شك في صلاته أنه لا يخلو أن يكون مستنكحًا أو غير مستنكح. فالمستنكح يبني على غالب ظنه وأول (خاطريه)، وهل يؤمر بالسجود له أم لا؟ فيه قولان، أحدهما: أنه يؤمر به، إذ لا مشقة فيه، والثاني: أنه لا يؤمر به، ومتى يؤمر بالسجود هل قبل السلام أو بعد السلام فيه قولان أحدهما: أنه يسجد قبل السلام، لأنه يجوز النقص. الثاني: يسجد

بعد السلام، لأن هذا السجود ترغيمًا للشيطان. وإن كان غير مستنكح طرح الشك وبنى على اليقين، وهل يسجد قبل السلام اعتمادًا على حديث أبي سعيد الخدري، أو بعده لأنه إنما شك في الزيادة أو عدمها فلا يطرق للنقصان بوجه. قوله: ((ولا يسجد المأموم لسهوه والإمام يحمله (عنه))): وهذا مذهب جمهور أهل العلم وشذ مكحول فرأى على المأموم سجود السهو اعتبارًا بحكم نفسه. واختلف المذهب في القاضي بعد سلام الإمام هل يجب عليه حكم الإمام أم لا؟ فيه قولان. قوله: ((ويسجد هو مع الإمام في سهو الإمام)): تحصيل القول فيه أن المأموم يتبع إمامه في سهو سواء أدركه المأموم أو كان مسبوقًا، وحكمه أن يسجد معه، يتبعه إن كان السجود قبل السلام، وإن كان سجود الإمام بعد السلام فهل يتبعه فيه المأموم أم لا؟ فيه قولان فقيل: يسجد معه كي لا تقع المخالفة، وقيل: لا يسجد، لأن حكم الصلاة قد انفصل لسلامه. وإذا قلنا: إنه يسجد معه سجود الزيادة فما حكمه فيه؟ فمالك خيره بين أن يجلس أو يقوم عند سلامه من الصلاة، واستحب ابن القاسم أن يقوم، لأن السلام فاصل. قوله: ((ومن قام من اثنتين قبل الجلوس رجع ما لم يعتدل قائمًا)): تحصيل القول فيمن نسي الجلوس للوسطى أنه لا يخلو أن يتذكر بعد القيام، أو هو جالس، أو يتذكر بين الجلوس والقيام فإن تذكر بعد أن اعتدل قائمًا فإنه لا يرجع بلا خلاف في المذهب. فإن تذكر بعد أن ينهض ولم يفارق الأرض فإنه يرجع وهل يسجد أم لا؟ فيه قولان في المذهب، أحدهما: أنه

يسجد لعلة الفعل، والثاني: أنه لا يسجد وإن تذكر وهو بين الجلوس والقيام فهل يرجع إلى الجلوس أو يتمادى إلى القيام فيه قولان في المذهب، أحدهما: أنه يرجع إلى الجلوس من حيث إنه لم يلبس بالفرض إلا بتقدير اعتداله قائمًا. الثاني: أنه يتمادى على القيام، لأن الحركة إليه مقصودة، وإذا اعتدل قائمًا وأمرنا ألا يرجع فلا يخلو أن يرجع عامدًا، أو جاهلًا، أو ناسيًا، أو متأولاً، فإن رجع ناسيًا فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه قولان، البطلان لكونه زاد في صلاته عمدًا، وعدمه مراعاة الخلاف لأن من العلماء من قال: إنه يرجع. فإن رجع ناسيًا لم تبطل صلاته بلا خوف، وكذلك المتأول. وفي الجاهل قولان فقيل: هو كالعامد وقيل: كالناسي. وإذا قلنا: إن صلاته صحيحة إذا رجع إلى الجلوس بعد اعتداله قائمًا فهل يؤمر بالسجود أم لا؟ فيه قولان. ومتى يكون سجوده هل بعد السلام أو قبله، فيه قولان، أحدهما: أنه يسجد قبل السلام، لأنه نقص وزيادة فغلبه نقصان. الثاني: أنه يسجد بعد السلام، لأن الرجوع إلى الجلوس ناب منابة الأول، فتحققت الزيادة بالنهوض. قال القاضي -رحمه الله-: ((ويفسد الصلاة اثنتا عشرة خصلة)) إلى آخره. شرح: ضابط القول في ذلك أن الصلاة تفسد بترك واجب من واجباتها أو سنة عمدًا على خلاف فيه. وابتداء القاضي ((بقطع النية عنها جملة))، ويتصور ذلك على وجهين إما بأن يعي عنه النية للذهول ( ... ئها)، وإما بأن يكون مستحضرًا للصلاة قاصدًا لهزل والاستخفاف والعبث، لا أداء العبادات على وجهها.

قوله: ((فأما تغييرها ونقلها فله تفصيل)): إشارة إلى ما تقرر في المذهب فالتغيير كالمسافر يحرم بنية القصر ثم يحدث له القصر في الإتمام أو بالعكس. والنفل مثل أن يدخل بنية النافلة، ثم يعتقد الفريضة، أو بنية الفريضة، ثم يعتقد النافلة أو بنية الطهر، ثم يتذكر أنه صلاها، فلينتقل بنيته إلى العصر أو بنية الجمعة، ثم ينتقل بنيته إلى يوم الخميس، وبعض هذه المسائل مختلف فيها. وإلى ذلك أشار القاضي والله أعلم. ثم ذكر الردة، ومن المعلوم أن الردة مبطلة لحكم الإسلام ناقضة لمسماه. فإذا أبطلت أصل الإسلام اتبعه الفروع، فيصدق أن يقول القائل الردة أبطلت الصلاة وأعم منه أن يقول الردة أبطلت حكم الإسلام مطلقًا. ولعل القاضي إنما تكلم على الردة في حال الصلاة فهي مفسدة لها من حيث كان عند إحرامه مسلمًا مستهلًا بوجه صحيح. وطرء الحديث ناقض مطلقًا، لأنه مضاد لشرط الصحة، والجمهور من أهل العلم لا شيء مع الحديث الغالب، وقال أبو حنيفة ما بيناه. وفي المذهب فيه خلاف شاذ. وقيد عمد الكلام المفسد تقييدًا حسنًا. قوله: ((وذكر صلاة يجب عليه ترتيبها)): تقييد جار على المذهب، وهو المشهور، وذلك في صلاة اليوم فما دونه.

قوله: ((وفساد صلاة الإمام)): إشارة إلى أصل المذهب في الارتباط. قوله: (((بغير سهو))) إشارة إلى أن الإمام إذا صلى محدثًا ناسيًا لم تبطل صلاة من وراءه، وهو مشهور المذهب في نسيان الإمام دون عمده. قوله: ((وإن كان قدرًا مختلفًا فيه، سهل الأمر)): إشارة إلى أن الدم اليسير يعفي عنه بعد التلبس، وتجزئ الصلاة مع وجوده، وكذلك العورة المختلف فيها، وهي ما عدا السوأتين، وقد تقدم أن العورة على قسمين (متفقة) وهي السوأتان (ومختلفة) وهي ما عداهما.

باب في الإمام والجماعة، وقضاء الفوائت والنوافل، وأوقات النهي ومواضعه، والجمع وما يتصل بذلك

باب في الإمام والجماعة، وقضاء الفوائت والنوافل، وأوقات النهي ومواضعه، والجمع وما يتصل بذلك الأصل في طلب الإمامة قوله -عليه السلام-: (أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفون) الحديث وقال -عليه السلام-: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) وقال -عليه السلام-: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلامًا) الحديث. وهو متفق

على تصحيحه. واتفق الفقهاء على (اختبار في الاختبار في الفا ..... الشرعية والخلقية والمكانية). قوله: ((والفقيه أولى من القارئ)): وهذا إجراء على أصل المذهب، وهي مسألة اختلف الفقهاء فيها، فقال مالك والشافعي: الأفقه أولى بالإمامة من الأقرأ. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل: الأقراء أولى من الأفقه. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم -عليه السلام-: (يؤمهمأقرؤهم) فحمله مالك وأصحابه على أن المراد به الأفقة لوجهين: الأول: قراءة الصحابة كانت فقهًا، ولذلك مكث ابن عمر في سورة البقرة ثمانية سنين وقيل: اثنتي عشرة سنة. الثاني: أن الحاجة في الصلاة إلى الفقه الذي به يصلح ما عساه أن يسهى فيه، أهم من الحاجة إلى (تجويد) القراءة والتلفظ بالمخارج على ما فيه من تكلف، ولو اجتمع الفقيه والصالح لكان الفقيه أولى، إلا أن يمنعه من ذلك مانع شرعي، فإذا اجتمع الأفقه والأصلح، فهل الأفقه أولى بالتقديم من الأصلح أم الأصلح؟ اختلف العلماء فيه والشافعي فيه قولان: أحدهما: تقديم الأصلح لأنه وسيلة إلى قبول الشفاعة. الثاني: تقديم الأفقه لما جاء من فضل العالم على العابد. فاعتبار النوادر من الصور. وعلى الجملة والمختار

من صفة الإمام أن يكون فقيهًا صالحًا شريفًا في النسب، كبيرًا في سنة، كامل الصورة، حسن اللباس، عارفًا بالقراءة، مالك الموضع إن كان مملوكًا. وإنما شرطنا الفقه، لأن به يحسن الأداء، وإنما شرطنا الصلاح، لأنه مظنة قبول الشفاعة. قوله: «ولا تجوز إمامة الفاسق، ولا المرأة، ولا الصبي إلا في نافلة، فتجوز دون المرأة ولا العبد في الجمعة»: تعرض -رحمه الله- للموانع المانعة من الإمامة وهي على قسمين منها ما يمنع الإجزاء، ومنها ما يمنع الكمال، فأما ما يمنع الإجزاء فهو أقسام: الأول: يمنع من تكميل أجزاء الأركان جميعها، وهذا لا خلاف أنه معتبر في الباب مثل أن تكون به علة تمنعه القيام أو غيره من الأركان. وسنفصل ذلك عند ذكر إمامة الجالس، وكذلك إذا كانت به علة تمنعه القراءة. القسم الثاني: ما يرجع إلى الاعتقاد الفاسد. القسم الثالث: ما يرجع إلى الفسق بالجوارح. وأما إمامة الجالس فتحصل القول فيه أنه إما أن يستوي حال الإمام والمأمومين في المرض المبيح للجلوس، أو يختلف، فإن استوى حالهم في الصحة فلا كلام في هذه الصورة أنهم يصلون قيامًا أجمعين، وإن استوى حالهم في المرض، ففي جواز إمامة الجالس لهم قولان في المذهب: الجواز، والمنع، وإن كان الإمام مريضًا والمأمومين أصحاء، ففي جواز إمامة المريض لهم قولان. الأول: الجواز اعتمادًا على إمامته -عليه السلام- للناس جالسًا وهو مريض.

الثاني: المنع لقوله -عليه السلام-: (لا يؤم أحد جالسًا) وهذا الحديث مرسل مروي عن جابر بن [يزيد] الجعدي وهو كذاب فيما أسند فكيف فيما أرسل. وهو أيضًا ممن يقول بالرجعة. وذهبت طائفة من أهل العلم أن فرض القيام يسقط عن المأموم لمرض الإمام المبيح للجلوس لقوله -عليه السلام-: إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون) فتحصل من

التقسيم أربعة أقسام: الأول: إمامة القائم للقائم، ولا خلاف في جوازها، والثاني: الجالس للجالس، وفيها قولان في المذهب، ويتعلق بهذا فروع: الأول: إذا أجزنا إمامة الجالس المريض للمريض الجالس أيضًا فصح المأمون في أثناء الصلاة، ففيها ثلاثة أقوال في المذهب. أحدهما: أنه يقطع الصلاة كالأمة تعتق في أثناء الصلاة. الثاني: أنه يتم الصلاة وراءه قائمًا مراعاة لجوازه ابتداء على قول بعض أهل العلم. الثالث: أنه يتم لنفسه منفردًا. الفرع الثاني: لو كانت العلة في الإمام قطع جارحة من أعضاء محدودة كقطع اليد، كانت إمامة جائزة على الأشهر، وفي رواية ابن وهب ما يدل على أن إمامته باطلة لقوله-عليه السلام-: (أمرت أن أسجد على سبعة آراب) الحديث، وأما ما يمنع القراءة فهو قسمان إما أن يمنع وجودها، أو كمالها، فالأول: لا يؤمن. والثاني: كالألكن واللحان. أما الألكن

ففي إمامته قولان: أحدهما: أنها صحيحة، وهو المشهور. والثاني: أنها باطلة، لأن اللكنة مانعة من النطق بالحروف، وكذلك اختلفوا في إمامة اللحان على أربعة أقوال، فقيل: لا تصح أصلاً، وقيل: إنها جائزة، والقول الثالث: أنه إن غير المعنى فإمامته باطلة، وإلا فلا. وقد روى عن الشيخين أبي محمد وأبي الحسن من لم يفرق بين الظاء والضاد فلا تجوز إمامته، لأن اللحن كالتبديل. وأما النقص الراجع إلى الفسق، فإما أن يكون فاسقًا بالاعتقاد أو بالجوارح، فالأول: إما أن يوجب التكفير أم لا، فإن أوجب التكفير فإمامته باطلة، والصلاة وراءه غير جائزة، ولو صلى الناس وراءه غير عالمين بكفره، ثم استمر على إظهار الإسلام، وجبت إعادة جميع ما صلى خلفه ما لم يلفظ بالكلمة، ويتحقق له أحكام الإسلام، وقد روى سحنون فيمن لم يستمر بكفره ذلك وعلم على إسلامه، فإن تمادى ترك، وإن لم يتمادى فهي ردة، ونزل الصلاة منزلة التلفظ بالشهادة لقوله -عليه السلام-: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة) الحديث. وعلى هذا الاختلاف اختلفوا في إيجاب الإعادة على من صلى خلفه، وإن لم يوجب التكفير،

كاعتقاد المعتزلة والخوارج وغيرهم، ففي المذهب ثلاثة أقوال في صلاة من ائتم بهم، أحدها: الإعادة مطلقًا بناء على تكفيرهم وهذا أحد قولي القاضي والشافعي ومالك فيهم. والثاني: الإعادة في الوقت بناء على نقصهم في الفسق، الثالث: نفي الإعادة مطلقًا، ولعله بناء على كل مصل يصلي لنفسه. قال مالك: ولا يصلي خلف الإمام القدري إلا أن تخاف على نفسك فصل معه. قال ابن القاسم: ورأيت مالكًا إذا قيل له في إعادة صلاة من صلى خلف أهل البدع يقف ولا يجيب عن ذلك وهذا إشارة إلى ما ذكرناه من الخلاف. فأما بالجوارح كشرب الخمر، والزنا، وغير ذلك من أصحاب الكبائر، فقد اختلف المذهب في جواز إمامتهم، والمشهور أنها لا تجوز. ومن صلى وراء صاحب كبيرة منهم أعاد أبدًا إذا علم بذلك منه، والشاذ أنها جائزة، وصلاة من صلى وراءه صحيحة، لأن فسقه غير متعلق بأحكام الصلاة ولو تعلق فسقه بأحكام الصلاة، مثل أن يعلم من حاله أنه يصلي بغير طهارة، فلا خلاف أنه متهاون لا تجوز إمامته، واحتج أهل الظاهر على جواز إمامة الفاسق بعموم قوله -عليه السلام-: (يؤم القوم أقرؤهم) وهذا احتجاج بالعموم في غير مقصوده. واختار الشيخ أبو بكر الأبهري أن فسقه (إن كان) مقطوعًا به أعاد المصلي وراءه أبدًا، وإن كان مظنونًا أعاد في الوقت، وأجاز قول الفاسق بالتأويل كالجميع بشرب النبيذ دون الفاسق غير المتأول.

وأما إمامة المرأة، فالجمهور من أهل العلم على أنها لا تجوز للرجال ولا للنساء. وشذ قوم، منهم أبو ثور والطبري، فأجازوا إمامتها مطلقًا للرجال والنساء، واعتمادًا على حديث أم ورقة (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يزورها في بيتها وجعل لها (مؤذنًا يؤذن لها) وأمرها أن تؤم أهل دارها) وفي رواية أخرى: (أن تؤم قومها). خرجه أبو داود وفي بعض طرقه أنه -عليه السلام-: (كان يقول لأصحابه سيروا معي نزور هذه الشهيدة). وأخبر -عليه السلام- على أنها تستشهد قبل وقوعه، وهو دليل نبوته كما ذكرنا في كتاب المنقول من معجزات الرسول. وفي مذهب مالك قولان في جواز إمامتهم للنساء، والمشهور أنها لا تؤمهم، وأجاز الشافعي محصول المساواة. وقوله -عليه السلام-: (أخروهن من حيث أخرهن الله) يدل على أن النساء يمنعن من ذلك، وقد منعها الله الإمامة الكبرى، والصغرى مثلها، لأن الصحابة قالوا:

هو إحداهما على الأخرى بدل على تساويهما في كثير من الأحكام. وأما الصبي ففي إمامته ثلاثة أقوال: أحدهما: الجواز مطلقًا اعتمادًا على ما أخرجه البخاري من حديث عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه دون البلوغ. الثاني: المنع مطلقًا، وتأولوا هذا الحديث على أنه -عليه السلام- يعلم ذلك وهو باطل لما جاء من الروايات، والصحيح أنه -عليه السلام- قدمه لذلك، وقدم حتى اشتروا له القميص، وقوله من طريق المعنى، لأن الصبي معتقد النافلة، فيكون من باب إمامة المتنفل بالمفترض، وذلك ممتنع على الأشهر وانفصل عنه آخرون، بأن الصبي معتقد للوجوب. والثالث: أن ذلك يجوز (في) النافلة دون الفريضة، وعلى هذا نشأ الخلاف في إعادة من صلى وراءه، فقيل: يعيد مطلقًا، وقيل: يعيد في الوقت، وروى أبو مصعب أن الصلاة وراءه صحيحة اعتمادًا على حديث عمرو بن سلمة. وأما العبد فلا يجوز اتخاذه إمامًا راتبًا في الجمعة بلا خلاف، إذ ليس من أهلها، فإن حضرها فهل تجوز عن ظهره، أو هل يجوز ابتداء الإمامة وراءه، أم لا، في المذهب فيه قولان: المشهور أنه لا يجوز، والشاذ الإجزاء إن وقعت، ولعله بناء على أن الجمعة واجبة عليه بالأصل، وإنما سقط لحق السيد والله أعلم. قوله: ((ومقاما المأموم مع الإمام أربعة)): وهذا كما ذكره، ولا خلاف

أن الواحد يقوم عن يمينه اعتمادًا على حديث ابن عباس: (حين بات في بيت خالته ميمونة فقام عن يسار النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأقامه عن يمينه)، وشذ قوم فقالوا: إن الواحد يقوم عن يسار الإمام وهو خطأ لمخالفته للسنة. وأما الرجلان فاختار القاضي أن يقوما خلفه لقوله -عليه السلام-: (الاثنان فما فوقهما جماعة) وفي المذهب قول آخر أنهما يقومان عن يمينه وشماله لقوله -عليه السلام-: (عن يمينه ملك وعن يساره ملك) الحديث. قوله: ((والجماعة في غير الجمعة مندوب إليها)): هذا مذهب جمهور الفقهاء بناء على صحة التفضيل وذلك بعض حصول الإجزاء، جاز الانفراد، قال -عليه السلام-: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا) وفي رواية أخرى: (سبعة وعشرين درجة) وأوجب أهل الظاهر شهود الجماعة للقادر عليها اعتمادًا على حديث

عتبان بن مالك وعلى غيره. قوله: ((ويستحب للمنفرد إعادة ما عدا المغرب)): وهذا كما ذكره، وإنما ذلك لتحصيل مزيد الدرجات، وبأي نية تعاد. اختلف المذهب فيه على أربعة أقوال أحدها: أنه يدخل بنية النافلة، لأن الفرض قد سقط عنه بصلاته فذا. الثاني: بنية الفرض، ولعله بناء على صحة الفرض. الثالث: أنه ينوي إكمال الفرض حكاه الشيخ أبو وليد الباجي. الرابع: أنه يفوض الأمر فيه إلى الله وهو مذهب ابن عمر -رضي الله عنه-، وينبني على هذا الاختلاف، إذا تبين له بطلان أحد الصلاتين، فإن قلنا: إنه يعيد بنية النافلة فتبين له بطلان الأولى سقطت عنه الإعادة إلا أن يريد تكميل إعادة الثانية التي هي نافلة، وإن قلنا يعيد بنية فريضة فتبين الحال فيها، وجب عليه إعادتها فقط، وكذلك إن قلنا إنه ينوي تكميل الفرض بالثانية أو يفوض الأمر فيه إلى الله. قوله: ((ما عدا المغرب)): تنبيهًا على المشهور وقال المغيرة

المخزومي: يعيد المغرب، وقد قيل: إلا المغرب والعشاء الآخر إذا أوتر بعدهما، لقوله -عليه السلام-: (لا وتران في ليلة) وقد ألزم المغيرة إعادة العشاء بعد أن أوتر من حيث رآى إعادة المغرب وهي وتر صلاة النهار، والمشهور أن المغرب والعشاء الآخر إذا أوتر بعدها لا يعادان، واختلف في فروع تتعلق بهذا. الفرع الأول: إذا قلنا إنه يعيد المغرب أبدًا فأعادها ثانية، ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال: فروى ابن وهب عن مالك أنها يعيدها ثالثة ويعيد وترًا، وقيل: لا يعيدها الثالثة، وقيل: إن تذكر بالقرب شفعها برابعة وجعلها نفلاً، وإن تباعد مضى وسقطت الإعادة والإضافة. الفرع الثاني: إذا قلنا في العتمة بإعادتها، فهل يعيد الوتر أم لا؟ فيه قولان مبنيان على ما ذكرناه من الإعادة، هل هي بنية الفريضة أو بنية النافلة. الفرع الثالث: اختلاف المذهب إذا قلنا بمنع الإعادة، فأعاد، ثم ذكر في الصلاة أن ذلك منهي عنه، فقيل: يقطع ولو بعد ركعة واحدة، وقيل: يتمادى (وهو) مبني على تقابل مكروهين، ولو صلى في جماعة أعظم منها، المشهورة أنه لا يعيد، وقال لابن حبيب يعيد في الجماعة العظمى وفي الجامع

العتيق، وفي المساجد الثلاثة. وألزمه اللخمي أن يعيد فيها فذًا، ولا يلزمه ذلك، وهو مبني على طلب الكمال. الفرع الرابع: إذا صلى وحده لم يؤم غيره في تلك الصلاة لإمكان أن يكون نفلاً في حقه فيكون من باب ائتمان المتنفل بالمفترض، ولو أم فيها أعاد من ائتم به. قال ابن حبيب: ((يعيدون أفذاذًا مراعاة للخلاف)). قال القاضي -رحمه الله-: ((والترتيب في الفوائت واجب)) إلى قوله: ((وأما سجود القرآن)). شرح: تضمن هذا الفصل أحكامًا بدأ منها بحكم الفوائت، وهذا الذي قاله هو جار على أصل المذهب في قضاء الفوائت، وقد انعقد الاجماع على وجوب قضاء الصلوات الفوائت بنسيان أو نوم وإن زادت على الخمس، وذهب من لا يعتد بقوله فقالوا: لا يقضي ما زاد على الخمس. واختلف في المتروك عمدًا، والجمهور على وجوب قضائها بعد التوبة والاستغفار، والدليل على وجوب قضاء المتروكات نسيانًا الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} وأما السنة فقوله -عليه السلام-: (من نام على صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: {وأقم الصلاة لذكري} الآية) وإنما قال الجمهور: يقضي المتروك عمدًا قياسًا على التنبيه بالأدنى على الأعلى. وقد اضطرب المذهب في الترتيب بين المنسية والحواضر، فحكى البغداديون عن مالك في ذلك روايتين، إحداهما أنه واجب مع الذكر ساقط

مع النسيان. وتحصيل القول فيه أن الذكر للصلاة المنسيات إما أن يذكرها قبل التلبس بالوقتية أو بعده، فإن ذكرها قبل التلبس بالوقتية فلا يخلو أن تكون كثيرة أو قليلة أو متوسطة، فإن كانت كثيرة فلا خلاف أنه يبدأ بالوقتية، وذلك كالخمس عشرة صلاة فما فوقها. وشذ محمد بن مسلمة من أهل المذهب فقال: يبدأ بالمنسيات، وإن كانت صلاة شهرين، وروى عن أشهب أنه بخير بين الابتداء بالمنسيات وبالوقتية لتقابل حقين: حق الترتيب، وحق الوقت، وإن كانت يسيرة بدأ بالمنسية، وإن كانت متوسطة فقولان: أحدهما: الابتداء بالمنسية، والثاني: يبدأ بالحاضرة وهذا كعشر صلوات. والمشهور من المذهب أنه يبدأ بها ما لم يخف فوات وقت الحاضرة. واختلف المذهب هل فوات وقتها الاختيار أو الاضطرار، وفيه قولان في المذهب مبنيان على تقابل المكروهين، فيقع النظر في تغليب أحدهما، ولا خلاف في المذهب بأن الأربع صلوات في حد اليسير، وأن الستة في حد الكثير. واختلف المذهب في الخمس على قولين فقيل: هي لاحقة بالكثير وقيل: باليسير إذ تكرار فيها. وإن ذكرها بعد التلبس بالصلاة وهو في أثنائها، فلا يخلو من قسمين إما أن تكون المذكورة مستحقة التقديم على الحاضرة أم لا؟ فإن كانت غير مستحقة التقديم فلا تأثير لذكرها، وحكمها أن يتمادى على الحاضر التي تلبس بها، وإن كانت مستحقة التقديم، لأنها في حيز اليسير. فتحصيله أنه يخلو أن يكون إمامًا أو مأمومًا أو فذًا، ولا تخلو الصلاة التي هو متلبس بها، إما أن تكون فريضة أو نافلة، فإن كانت فريضة

وكان إمامًا. ففي المذهب قولان: أحدهما: أنه يقطع بناء على وجوب الترتيب. والثاني: يتمادى بناء على نفي الوجوب. وإذا أمرناه بالقطع فهل يجري حكم القطع على من خلفه أو يحمله أن يستخلف فيه قولان أحدهما: أن المأمومين يتبعونه بالقطع بناء على الارتباط. الثاني: أنه يستخلف قياسًا على الحدث. وإذا أمرناه بالتمادي أمرناه بعد الإعادة، وهل الإعادة واجبة، أو مستحبة، فيه قولان في المذهب: الوجوب والاستحباب بناء على وجوب الترتيب أو عدمه، وهل يعيد المأمومون بإعادة إمامهم أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور الإعادة بناء على الارتباط، والشاذ نفيها إعطاء لهم حكم أنفسهم. وإن ذكر ذلك وهو مفترض مأموم تمادى مع إمامه ولم يقطع. واختلف المذهب هل تبطل عليه الصلاة التي هو فيها أم لا؟ وفيها قولان أحدهما البطلان لقوله -عليه السلام-: (من ذكر صلاة وهو في صلاة بطلت عليه التي هو فيها) الثاني: نفي البطلان، بناء على أن الترتيب ليس بواجب. وإن كان فذًا فلا يخلو أن يذكر وهو في شفع من صلاته أو في وتر. فإن ذكر بعد أن صلى ركعتين قطع، وجعلها نافلة، وعاد إلى صلاة المنسية، ثم الحاضرة بعد. وإن تذكر بعد أن صلى ركعة، أو ثلاث ركعات فقولان: فقيل: يتمادى إلى الاثنين، وإلى الأربع وتبطل المنسية والحاضر بعد تكميل الأولى نافلة، وقيل: يقطع على وتر، وهو مبني على تقابل مكروهين. وإن تذكر ولم يكمل ركعة فلا يخلو أن يتذكر قبل أن يركع أو بعد أن يركع، وإن تذكر قبل أن يركع ففيه قولان: أحدهما، أنه يتمادى ويتمها نافلة بناء على أن تكبيرة الإحرام ركن. والثاني: أنه يقطع بناء على أنها ليست بركن. وإن تذكر بعد عقد الركعة فقولان أيضًا: القطع والتمادي.

وقد اشتهر الخلاف المذهبي في عقد الركعة ما هو؟ هل وضع اليدين على ركبتين، وقيل: رفع الرأس منها. وإن ذكر ذلك وهو في نافلة، فإما أن يعقد منها ركعة كملها بأخرى نافلة، وإن لم يعقد ركعة فقولان أحدهما: يكملها ويضيف أخرى. والثاني: أنه يقطع بناء على ترجيح أحد المكروهين المتقابلين. أنظر لو ذكر منسية وهو في صلاة الجمعة. وتحصيل القول فيه أن المنسية إن كانت مستحقة التقديم فلا يخلو أن يطمع بإدراك الجمعة بعد قضائها أم لا؟ فإن طمع تمادى على جمعته وقضاء المنسية بعد، وهل يعيد الجمعة ظهرًا أم لا؟ فيه قولان مبنيان على وجوب الترتيب ونفيه، وإن لم يطمع بإدراك شيء من الجمعة تمادى عليها، ثم إذا صلى الجمعة قضى المنسية، ويجري حكم إعادة الجمعة على ما قدمناه. ولو ذكر صلاة يوم فهل يبدأ بالصبح من ذلك اليوم لأنها أول صلاة النهار، أو بالظهر لأنها أول الصلاة في إمامة جبريل -عليه السلام-، فيه قولان في المذهب. قوله: ((ويقضيها على صفة أدائها)): هو كما ذكره. وظاهر كلامه العموم في شروطه السابقة المقارنة ولأركانها. والخلاف في الأذان للفوائت معلوم. والمشهور من أقوال العلماء الإقامة دون الأذان. وهو قول مالك وأصحابه. قوله: ((قضي أولها كما فعل الإمام)): تنبيه على حكم المستوفي. وقد

(اختلف) المذهب هل يعد بانيًا أو قاضيًا. وعندنا فيه ثلاثة أقوال: قيل: هو بان مطلقًا، وقيل: هو قاض مطلقًا، وقيل: إنه بان في الأفعال قاض في الأقوال، وهو المشهور من المذهب. وأصل الاختلاف اختلاف الروايات في قوله -عليه السلام-: (ما فاتكم فاقضوا) وفي رواية (فأتموا). ثم النوافل قسمان. والأمر في ذلك كما ذكره. قال القاضي -رحمه الله-: (((وأما) سجود القرآن)) إلى قوله: ((فأما الأحوال)). شرح: يتعلق بهذا الفصل الكلام في سجود التلاوة. وقد اختلف المذهب في حكمه، فقيل: سنة، وقيل: فضيلة وكلاهما مستقيان من المذهب.

والدليل على إسقاط وجوبه قول عمر بن الخطاب بمحضر الصحابة: (إن الله لم يكتبها علينا أن نشاء). قوله: ((إحدى عشرة سجدة)): بناء على المشهور من المذهب، وقد اشتهر الخلاف فيه عندنا، وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال، فقيل: إن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة وهو المشهور، وقيل: أربعة عشرة سجدة، وقيل: خمسة عشرة سجدة، والثابت رواية المصريين عن مالك هو القول الأول. وقد اختلف أشياخنا في هذه الثلاثة الأقوال، فمنهم من جعلها مختلفة. واختار أبو محمد وغيره أن السجود مأمور به في هذه الخمسة عشر إلا أن في الأحد عشر آكد وأقوى، ولذلك سماها الفقهاء عزائم. واختلف الأحاديث هل سجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المفصل. وجاء من طريق أبي هريرة وغيره أنه -عليه السلام-: (سجد في المفصل وسجدوا معه) والمثبت أولى من المنفى على ما تقرر في علم الأصول.

واختلف أهل المذهب في فعل السجود في أربع سجدات: الأولى: سجدة الانشقاق، فقيل: في آخر السورة، وقيل: عند قوله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الإنشقاق: 21] في المذهب لم يثبت فيها سنة. الثاني: سجدة حم تنزيل، فقيل عند قوله: {لا يسئمون} [فصلت: 38] وقيل عند قوله: {إن كنتم إياه تعبدون} [فصلت: 37]. والموضوع الثالث: سجدة ص فقيل عند قوله: {وحسن مئاب} [ص: 40] وقيل: عند قوله: {وخر راكعًا وأناب} [ص: 24] واختلف في الحج هل فيها سجدتان، أو سجدة واحدة، فقيل: سجدتان الأولى عند قوله: {إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] والثانية عند قوله: {لعلكم تفلحون} [الحج: 77] وفي الحديث: (فضلت الحج بسجدتين)، المشهور أنه ليس فيها إلا السجدة الأولى. قوله: ((ويسجدها من قرأها في صلاة أو نفل)): وهذه مسألة خلاف في الفريضة دون النافلة فلم يختلف المذهب في جواز قراءة السجدة في صلاة النافلة، ويسجدها في محلها مع سجدات الصلاة، ولا يكون ذلك زيادة في أعداد السجدات أصلاً، وكذلك يسجها المنفرد في الفريضة. واختلف المذهب في قراءة الإمام بها في الفريضة، وفي المذهب في

ذلك أقوال فقيل: بجوازه مطلقًا لقوله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق: 21] ومقتضاها الذم على ترك هذا السجود مطلقًا. والقول الثاني: المنع مطلقًا، لأن ذلك زيادة في أعداد سجدات الفريضة. والقول الثالث: جواز ذلك في يوم الجمعة خاصة من حيث جرى عمل النبي -صلى الله عليه وسلم-. القول الرابع: جواز ذلك في صلاة الجهر دون صلاة السر خوف الالتباس. القول الخامس: جواز ذلك إذا كانت الجماعة يسيرة، لأنه يأمن التشويش بخلاف الجماعة الكثيرة. قوله: ((واختلف عنه في فعلها في الأوقات المنهي عنها)): وفي المذهب في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بعد العصر وبعد الصبح، وهو قوله في الموطأ. والثاني: جوازه فيها. وهو قول مالك في المدونة. وقال ابن حبيب تجوز بعد الصبح، ولا تجوز بعد العصر لأن كراهية الصلاة بعد العصر أشد من كراهيتها بعد الصبح، إذ تأخير العصر إلى الاصفرار محرم أو مكروه، وتأخير الصبح إلى الإسفرار جائز، أو مكروه على ما فيها من الخلاف المذهبي في الفصلين. ويشترط في هذا السجود ما يشترط في الصلاة من الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة. واختلف المذهب هل يكبر للسجود عند الهوى، والرفع أم لا؟ والمشهور أنه يؤمر بالسجود بالتكبير وكرهه غيره، وقال ابن القاسم هو مخير في ذلك إن شاء كبر للهوي وإن شاء لم يكبر. قال القاضي -رحمه الله-: ((وأما (الأحوال) التي نهى عن التنفل فيها)) إلى قوله: ((وصلاة المريض)).

شرح: اختلف المذهب في الداخل يوم الجمعة، والإمام يخطب، والمشهور من المذهب أنه لا يركع، لأن المأموم مأمور باستماع خطبة الإمام وقراءته. قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له} [الأعراف: 204] الآية. قال الشافعي: إنه مأمور بالركوع لقوله -عليه السلام- للداخل: (قم فاركع ركعتين) وهي رواية محمد بن الحسن عن مالك، وقيل: إن هذا الأمر مخصوص بالرجل بعينة، وحديث سليك الغطفاني هو المعمول عليه في هذا لثبوته عنه -صلى الله عليه وسلم-. وقول القاضي: ((وشروعه في الصلاة)) وهذا كما ذكره لقوله -عليه السلام-: (أصلاتان معًا) وقال -عليه السلام-: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا

المكتوبة). قوله: ((والاختيار في التنفل مثنى مثنى)) وهذا كما ذكره. وقد صح ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- قولاً وفعلاً. وصح عنه التنفل بأربع من غير تفصيل بسلام. وأجاز الإسفراييني وغيره التنفل كيف ما أمكن بواحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربعًا أو خمسًا وغير ذلك من غير سلام، والسنة ترد عليهم قولاً وفعلاً. قوله: ((والجهر بالقراءة فيها جائز ليلاً ونهارًا)): وهذا كما ذكره والتوسط بين السر والجهر افضل اعتمادًا على حديثه -عليه السلام- لأبي بكر حين سمع قراءته فوق هذا، وقال لعمر دون هذا. قوله: ((وتكره الصلاة في معاطن الإبل)): وهذا من المواضع السبعة التي نهى عن الصلاة فيها على ما رواه الزهري وغيره. واختلف المذهب

في تعليل نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في معاطن الإبل فقيل: لأنها خلقت من جن، وقيل: لأنها تمنى كما يمنى بني آدم، وهذا لا حجة فيه، لأن منيها وبولها وروثها تابع للحمها في الطهارة، وقيل: لنفورها، وقيل: لأنها كانوا يستترون بها عند قضاء الحاجة. واختلف المذهب فيمن صلى في معاطن الإبل على هذا، فقيل: يعيد أبدًا، وقيل: يعيد في الوقت. وأما البيع والكنائس، فالنهي عن الصلاة فيها ظاهر المعنى، لأنها حفرة من حفر النار. قوله: ((والفرض داخل البيت)): احترازًا من (داخل) البيت، وقال الفرض تحرزًا من النفل. وقد اختلف المذهب فيمن صلى الفريضة داخل البيت، فقيل: يعيد أبدًا، قيل: لا إعادة عليه، وقيل: يعيد في

الوقت، وقد تأول اللخمي، وغيره على أشهب جواز الفريضة فيها ابتداء. واختلف المذهب في النفل فيها، وفيه قولان: الجواز والمنع، ومبناه على اختلاف الروايات، ففي حديث ابن عباس أنه -عليه السلام-: (لم يصل فيها يوم دخلها) وفي حديث بلال وابن عمر أنه صلى وكل أخبر عما شاهد، ولعلها حالان مظنونان أو يكون أحدهما لغوية، والآخر شرعية، وإنما منعت الصلاة داخل البيت، لأن المصلي داخلها مستقبل به بعض القبلة ومستدبر بعضها، والمأمور به استقبال جميعها أو غيرها، وكذلك فوق البيت إذا لم يجعل ساترًا، فهل تكره الصلاة على ظهرها أم لا؟ فيه قولان في المذهب. قوله: ((وتجوز الصلاة في مراح (الغنم والبقر))): وهذا كما

ذكره وهو نص عنه -صلى الله عليه وسلم-. قوله: ((ويجوز الجمع بين الصلاتين في السفر)): وهذا كما ذكره، لما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كان إذا جد به السير جمع بين الصلاتين) وفعله حجة على جميع الأمة، وروي عن ابن شعبان أنه أجازه للنساء وكرهه للرجال ولا حجة في ذلك مع الخصوصية. واختلف المذهب في السفر المبيح للجميع، فقيل هو: السفر الجاد الذي يخاف بترك الجمع فوات الحاجة، وقيل: يجوز جد السير أم لا؟ قوله: ((في آخر وقت الأولى، وأول وقت الثانية)): تحصيل القول في هذه المسألة أن المسافر إما أن يعلم أنه يقدر على النزول لكل صلاة في وقتها المختار أم لا؟ فإن علم ذلك صلى كل صلاة لوقتها. وقد ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن اختلفت أوقاته وأحواله، فإن سافر قبل الزوال، وعلم أنه ينزل قبل الاصفرار يرخص بتأخير الظهر، وصلاها عند الاصفرار، وإن سافر بعد الزوال، ففي المذهب قولان المشهور أنه يجمع بينهما بتقديم الظهر، ثم العصر بعدها من غير تأخير، والشاذ أنه يصلي كل صلاة لوقتها، والذي

يعول عليه في ذلك فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وكان إذا ارتحل قبل الزوال جمع بينهما في (أول) الوقت). واختلف المذهب في حكم المغرب، والعشاء، وفي المدونة عن ابن القاسم لم يذكر في المغرب والعشاء مثل ما ذكر في الظهر والعصر، وعلل الأشياخ قول ابن القاسم حيث فرق من جهة أن الغالب السير في وقت الظهر والعصر، والنزول عند المغرب والعشاء ولعله أجاب في حال. وسوى القاضي بينهما، ولعله اختار قول سحنون وبنى عليه. قوله: ((ولا ينتفل بينهما)): هو كما ذكره، لأن الجمع لهما شرع للتخفيف، وذلك يناقض التشاغل بالنافلة ولم يذكر القاضي ههنا الجمع للمريض في مشهور أصل المذهب على جوازه. لأن المشقة في المرض أشد من المشقة في السفر والمطر، وقد روى أن المريض لا يجمع، ويصلي كل صلاة في وقتها، وإن حضر وقتها، وعقله مغلوب عليه، سقطت عنه، لأنه غير مكلف، وإنما يجوز الجمع بينهما للمريض بناء على المشهور إذا خاف الغلبة على عقله، فإن كان أرفق به وكان لا يخاف الغلبة على عقله، ففي جواز الجمع قولان: المشهور: الجواز والشاذ: نفيه، بناء على تحقيق مناط

الجمع، وإذا أجزنا الجمع للمريض فهو على ما ذكرناه بالتقديم مرة، وبالتأخير أخرى، وإذا أجزنا تأخير الظهر فيجمع بينها وبين العصر، فإلى أي وقت تؤخر؟ اختلف المذهب على ثلاث روايات، ففي المدونة أول الظهر توخر إلى وسط وقتها. واختلف الأشياخ في تفسيره، فقيل: مع القامة وقيل: نصفها، واختار سحنون أنها تؤخر إلى آخر وقتها، وكذلك المغرب والعشاء يجمع بينهما عند مغيب الشمس إن ترخص بالتقديم، أو عند مغيب الشفق إن ترخص بالتأخير على حسب أحوال والله أعلم. قوله: ((ويجوز في الحضر لعذر المطر في المغرب والعشاء دون الظهر والعصر)): تنبيه على مذهب المخالفين والجمهور من أهل العلم على أن الجمع بهذه الأعذار مشروع في كل المساجد، وشذ بعض أهل العلم فقالوا: إنه مخصوص بمسجد الرسول -عليه السلام- لأنه جمعه عليه لخصوصية فضله، وقيل: إنه جائز مع النبي -عليه السلام- لفضل الصلاة، ورآه الجمهور على عموم الإباحة، وقيد بقوله في الحضر، لأن السفر مبيح بنفسه لا يفتقر إلى انضمام عذر المطر إليه، وذكر المطر من حيث كان معظم الأسباب، وهي ثلاثة: المطر، والطين، والظلمة، فإن اجتمع ثلاث فالجمع جائز بلا خلاف تفرعًا على القول بالإباحة، وإن انفردت الظلمة، فالجمع ممنوع. وإن انفرد المطر وحده جاز الجمع بلا خوف. واختلف المذهب انفرد الطين والوحل هل يباح الجمع أم لا؟ وفيه قولان في المذهب.

واختلف إذا ارتفع العذر بعد صلاة المغرب فقط، هل يرتفع حكم الرخصة أم لا؟ وفيه قولان عندنا استقريا من المذهب. قوله: ((دون الظهر والعصر)): تحرزًا من مذهب الشافعي وغيره حيث اجازه في الظهر والعصر، كما أجازه الجمهور بين العشاءين، وعول في ذلك على ما رواه مالك في موطئه من حديث ابن عباس وغيره قال: (جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المغرب والعشاء والظهر والعصر من غير خوف ولا سفر). قال مالك أراه كان في المطر. قال المصنف عفا الله عنه: هذا التأويل ضعيف من وجهين: الأول: إن في بعض صحيح طرقه: ((ولا مطر)). الثاني: إنه أول مقتضى التأويل خلاف مذهبه في الظهر والعصر، المشهور من المذهب أن الجمع بين الظهر والعصر بعذر المطر لا يجوز لانتفاء معنى المشقة أو قبلها في ذلك الوقت بخلاف المغربين وقد روى عن المذهب جواز ذلك كقول الشافعي، وهو استقراء الأشياخ كأبي القاسم بن الكاتب وغيره. واختلف المذهب في فروع تتعلق بهذا الفصل: الأول: في وقت الجمع، وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال: الأول يصلي

المغرب في أول وقتها، والعشاء بعدها من غير تأخير، وهو الصحيح عملا (بظاهر) حكمه، وقيل: يؤخر المغرب قليلًا قدر اجتماع الناس، ثم يصلي العشاء بعدها من غير تأخير، وقيل: يؤخر المغرب إلى آخر وقتها ثم تصليان معًا. الثاني: صفة الجمع، وفيه خلاف، المشهور أنه بأذان واحد وإقامتين، إذ لا معنى للأذان الثاني، وقيل: بأذانين وإقامتين أيضًا لكل واحدة، من الصلاتين حكمها وسنتها، وقيل: بالإقامة من غير أذان أصلاً، وهذا لا أصل له، والصحيح إبقاء كل صلاة على سنتها وحكمها، وإذا قلنا بالأذان الثاني فقيل: يكون داخل المسجد، لأن معنى الإعلان حصل بالأذان الأول، فقيل: في خارجه، لأنها مشروعة الأذان. قوله: ((ومن رعف في صلاته)): إلى آخر الرعاف. وتحصيل القول في الرعاف أنه لا يخلو أن يكون الرعاف يسيرًا يذهب الفتل، أو كثيرًا لا ينقطع حتى ينقضي وقت الصلاة، أو متوسطًا، فإن كان يسيرًا فتله بأنامله، ومضى على صلاته، وإن كان كثيرًا لا يرجى انقطاعه بالخروج صلى على حاله، وأما المتوسط الذي ينقطع عند خروجه فحكمه أن يخرج على الصفة التي أدركها بعد، ثم لا يخلو أن يكون طرأ له الرعاف بعد أن عقد ركعة بسجدتيها، أو قبل ذلك، ثم لا يخلو أن يكون إمامًا أو مأمومًا أو فذًا. أما الفذ فهل يجوز له البناء إن كان عقد ركعة أم لا؟ قولان في المذهب، مذهب المدونة أنه يبني إن عقد ركعة بسجدتيها. والقول الثاني: أنه لا يبني.

وسبب الخلاف اختلاف الفقهاء في علة البناء، هل هي حرمة الصلاة، ويمنع من قطعها، أو حرمة الجماعة، فإن قلنا إن البناء جائز لحرمة الجماعة، اختص ذلك بالإمام دون الفذ، وإن قلنا: لحرمة الصلاة تساوي الفذ والإمام والمأموم. وأما الإمام فيجوز له البناء إن كان قد عقد الركعة فما فوقها. واختلف المذهب في الأفضل، هل البناء، أم القطع، فمذهب ابن القاسم أن القطع أفضل، وقال مالك البناء أفضل، لأن الله سبحانه يقول: {ولا تبطلوا أعمالكم}. واختلف المذهب في فروع: الأول: إذا كان الدم كثيرًا لا يرجى انقطاعه كجرح صلى على حاله، وهل ينتقل فرضه إلى الإيماء أم لا؟ فيه تفصيل إن اضطر بجسده جاز له الإيماء، ويسقط عنه الركوع والسجود للضرورة الظاهرة، وإن خاف على ثيابه التلطخ دون جسده هل يسقط عنه فرض الركوع والسجود وينتقل إلى الإيماء أم لا؟ فيه قولان في المذهب، والمشهور أنه لا يسقط ذلك تغليبًا لحق الله على الآدمي. الفرع الثاني: إذا اختار الخروج لغسل الدم فصفة الخروج أن يخرج ممسكًا لأنفه قاصدًا لأقرب المواضع إليه غير متكلم ولا ماش على نجاسة. فقولنا: ((ممسكًا لأنفه)) احترزا من تلويث المسجد. وقولنا: ((قاصدًا لأقرب المواضع)) احترازًا من أن يتجاوز موضع الماء إلى ما بعده، فإن جاوزه بطل البناء، ووجب الابتداء عليه. وقولنا: ((غير متكلم)) احترازًا من المتكلم في خروجه، لأن حكمه حكم المصلي، والمصلي ممنوع من الكلام، فإن تكلم عامدًا قطع، وإن تكلم ناسيًا ففيه ثلاثة أقوال:

الأول: إنها تبطل مطلقًا، لأن حكم الصلاة مستدام. الثاني: أنها لا تبطل، وهو قول ابن سحنون وغيره، وعليه أن يسجد لسهوه بعد السلام، لأن كلامه زيادة إلا أن يكون كلامه والإمام لم يفرغ من صلاته، فيكون من سهو الإمام الذي يحمله عنه إمامه، ولا يلزم فيه سجود أصلًا. والقول الثالث: أنه إن تكلم في سيره لم تبطل، لأنه منفصل عن الصلاة حسًا، وإن تكلم في عودته بطلت، لأنه راجع إلى الصلاة، فله حكم المصلي حسًا. واختلف المذهب في الجاهل هل هو كالعامد أو كالناسي، وقد قدمناه والماشي على النجاسة كالمتكلم، وفرق ابن سحنون بين قشب اليابس، والنجاسة الرطبة، فإن مشى على نجاسة رطبة بطلت صلاته، ويبني إن شاء على قشب يابس، لأنه لا يتعلق بالرجل ولا بالثوب. الفرع الثالث: إذا أجزنا له البناء فذلك إذا عقد ركعة بسجدتيها، فإن أصابه الرعاف قبل عقد الركعة، فهل يجوز له البناء أم لا؟ فيه قولان في المذهب أحدهما البناء لأن حرمة الصلاة حاصلة وهو قول ابن مسلمة. الثاني: نفيه لنفي الإعادة بما دون الركعة شرعًا. الفرع الرابع: إذا خرج ظنًا أنه دم فكشف الغيم بعد خروجه أنه ليس بدم، فهل يجوز له البناء أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أو لا؟ واختلف في صلاة المأمومين فقال ابن عبدوس لا تبطل وهو قول سحنون، وقال محمد بن سحنون تبطل صلاتهم. الفرع الخامس: إذا عقد ركعة وبعض أخرى فهل يبتدئ الثانية، ويبني على الأولى وهو المشهور، أو يبني على ما مضى من الثانية وهو قول عبد الملك ومحمد بن مسلمة.

الفرع السادس: إذا غسل الدم عنه، ورجع إلى صلاته، وهل يلزمه الرجوع إلى المسجد أم لا؟ أما إن علم أن الإمام لم يكمل صلاته فلا بد من رجوعه، وإن علم أن الإمام فرغ من صلاته، فإن كانت غير جمعة فلا يعود، وإن عاد بطلت صلاته، لأنها زيادة مستغنى عنها، وإن كانت جمعة فيه ثلاث أقوال في المذهب: فقيل: يعود، لأن شروط الجمعة معتبرة في جميعها، وقيل: لا يعود بناء على أن الشروط مشترطة في أوائلها، وقيل: إن حال بينه وبين العودة حائل صلى في موضعه، وأجزاه وإلا فلا. الفرع السابع: إذا أصابه الرعاف وهو صلاة الجنازة أو صلاة العيدين فحكمه حكم ما لو كان صلاة الفريضة، والتكبير في صلاة الجنازة كالركعة في غيرها، وروى عن أشهب أنه إن رعف قبل أن يعقد ركعة من صلاة العيدين، أو تكبيرة من صلاة الجنازة، وخاف فوات الصلاة إن هو خرج لغسل الدم عنه، فله أن يصلي على حاله، ولا ينصرف، وكذلك إذا رأى في ثوبه نجاسة ولا يعفي عنها، وخاف فوات الصلاة إن اشتغل بغسلها، فله أن يصلي على حاله، لأن الصلاة على هذه الحالة أولى من فوات الصلاة. الفرع الثامن: إذا لم يدرك مع الإمام ركعة يعتد بها، ثم رعف، فهل يبتدئ تكبيرة الإحرام، أو يبني على تكبيرة الإحرام أم لا؟ فيه قولان: والصحيح أنه يبتدئ من حيث لم يحصل له ركن يعتد به. قال القاضي -رحمه الله-: ((وصلاة المريض بحسب إمكانه)) إلى آخر الباب. شرح: الأصل في صلاة المريض ما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب فرسًا فصرعه فجحش شقة الأيمن فصلى جالسًا فصلى الناس بصلاته

جلوسًا وقال: (إنما جعل الإمام) الحديث. قوله: ((ويختار له أن يجلس متربعًا)): وهذا هو المشهور عملاً بفعل ابن عمر وكان يتربع. قوله: ((ولا يجذب إليه أحدًا)): تنبيهًا على مذهب المخالف، وعمدة المذهب قول عائشة -رضي الله عنها-: (شبهونا بالكلاب لقد رأيتني معترضة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتراض الجنازة فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا رفع بسطتها). قوله: ((ويستحب للمصلي في الفضاء أن تكون بين يديه سترة تحول بينه وبين المارين)): وهو كما ذكره، والأصل في السترة ما ثبت أن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت له سترة توضع له إذا صلى، وكان يصلي إلى سترة، وإنما ذلك في حق الإمام والفذ إذا صليا بحيث لا يأمنا المرور فإن آمنا فهل يتوجه عليهم بالسترة أم لا؟ فيه قولان، قال مالك والإمام سترة لمن خلفه، وفي لفظ آخر: سترة الإمام لمن خلفه، والمعنى مختلف وهو ظاهر.

باب (في) قصر الصلاة في السفر

باب (في) قصر الصلاة في السفر الأصل في القصر في السفر قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوات} [النساء: 101] الآية، وثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قصر الصلاة وأصحابه، ثبت ذلك عنه قولاً وفعلاً. وأجمعت الأمة أنها مشروعة، وإنما اختلف الفقهاء في أصل الفرض، فذهبت طائفة من أهل العلم سلفهم وخلفهم إلى مقتضى حديث ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم أربعًا في الحضر، وركعتين في السفر، وركعة في الخوف). فهؤلاء رأوا أن الفرض في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقالت طائفة بل كان أصل الفرض ركعتين فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر على حالها، وهو مقتضى حديث عائشة -رضي الله عنها-، وقالت

طائفة من أهل العلم: بل فرض كل واحد منهما على ما هو عليه، ففرضت صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين، وظاهر قوله سبحانه: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} أن أصل الفرض كان على التمام، لأن القصر لا يقصر، وقد رد أبو المعالي وغيره حديث عائشة -رضي الله عنها- بناء على أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول لتوقي الرواة على نقل مثله. قوله: ((القصر في الصلاة الرباعية)): وهو كما ذكره، ولا خلاف بين الأمة إلا ما روي عن ابن عباس وغيره أن العتمة لا تقصر، لا أصل له من السنة، وأما المغرب وصلاة الفجر فالإجماع على أنهما لا تقصران. قوله: ((وأداؤها على صفة أداء التامة)): الضمير عائد على الصلاة المقصورة، والمعنى أنها في التكبير، والركوع، والقراءة، وسائر أقوالها وأفعالها كانت تامة سواء، وإن خالفها من جهة العدد لا من جهة الهيئة مورد استثناء القاضي بقوله: ((إلا في الاتمام)) والجمهور من أهل العلم أن القصر المراد بقوله تعالى: {أن تقصروا من الصلاة} هو قصر العدد لا قصر الهيئة.

قوله: ((وحد سفر القصر ثمانية وأربعون ميلاً)): يتعلق بهذا الكلام في حكم القصر، وفي حد المسافة، وقد اختلف الفقهاء في حكم القصر في السفر، فقيل: هو فريضة، والاتمام ممنوع احتجاجًا بحديث عائشة -رضي الله عنها-، وحققه الأئمة، لأنها كانت تتم، ولأنه -عليه السلام-، يتم وقيل: القصر سنة، لأنه -عليه السلام- فعله مظهرًا مداومًا عليه. وهو حقيقة السنة، وقيل: إنه رخصة، لأن سبب الرخصة قائم، وهو المشقة اللاحقة، فرخص للمسافر في القصر والفطر، وقيل: إنه مباح اعتمادًا على حديث أنس قال: (سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنا الصائم، ومنا المفطر، ومنا المتم، ومنا المقصر، فلم يعتب أحد منا على الآخر) وهذا معقول الإباحة. والذي اختاره القاضي من المذهب ونصره أن القصر سنة، والاتمام مكروه اعتمادًا على الفعل الدائم المستمر. وأما المسافة المبيحة فاختلف السلف فيه اختلافًا كثيرًا. وتحصيل المذهب في ذلك أن السفر إما أن يكون بريًا أو بحريًا، وأما المسافة ففي المذهب روايتان، إحداهما: التحري بالزمان. الثانية: بالمكان. واختلفوا في تعيين الزمان على روايات. الرواية الأولى أنه لا قصر إلا في مسيرة اليومين التامين. الرواية الثانية أن لا قصر إلا في مسيرة اليوم والليلة. الثالثة: أنه لا قصر إلا في مسيرة اليوم. والذين حدوه بالمكان اختلفوا ي تعيينه، فقيل: أقل

من ذلك ثمانية وأربعون ميلاً، لا قصر في أقل من ذلك. وقيل: خمسة وأربعون ميلاً، وقيل: أربعون ميلاً، وقال ابن القاسم إن قصر في ستة وثلاثين ميلاً لم يعد. وحكى أبو محمد بن عطية المفسر في كتاب التفسير عن المذهب القصر في ثلاثين وقال: وفي المذهب أيضًا القصر في ثلاثة أميال فصاعدًا. قلت وهذا غير معروف في المذهب، والمشهور ما ذكرناه من الروايات الأولى، وهذه الروايات الواقعة في المذهب مبنية على اختلاف الأحوال وتقارب الزمان، لأن هذه المسافة المكانية هي مظنة لا يقطعها المسافر في هذه المسافة الزمانية، وإن اختلفت فذلك بحسب اختلاف المسافرين في المشاة والركبان، وقد قال -عليه السلام-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يومًا وليلة مع غير ذي محرم) ففي هذا النص الصريح ما يدل على أن هذه المسافة توجب حكم السفر، ومفهومه أن أقل من ذلك لا يوجب. وثبت في هذا الباب آثار مختلفة عن السلف من الصحابة والتابعين، وذكرناها في موضعها، وأما سفر البحر فأكثر الرواة على أنه كسفر البر، وقال مالك بقصر أهل البحر في مسافة (اليوم) التام هكذا وقع في

المبسوط، وإنما حده بالزمان، لأن الأميال قد لا تنحصر فيه غالبًا، ولهذا اختار بعض الأشياخ التفصيل، فإن كان المسافر (ملجئًا) اعتبرناه باليوم التام، وإن كان (مسهلاً) اعتبرناه بالأميال على اختلاف الروايات فيه، وكل ذلك اختلاف في أحوال لا في فقه، فإن اجتمع السفر في البر والبحر غلب الكثر، وقيل يقع التلفيق. قوله: ((فإن كان خلف مقيم فليتبعه)): وهذا الذي ذكره هو المشهور من المذهب، وعندنا في الصورة قولان: احدهما: أن المسافر يتبع الإمام المقيم بدل المخالفة، والثاني: أنه لا يتبعه بناء على أن فرضه القصر، فزيادته على الركعتين تبطل صلاته وإذا أمرناه بالاتباع هل يعيد في الوقت أم لا؟ فيه قولان في المذهب، وهو جار على ما قدمناه في حكم القصر، وعندنا قولان أيضًا في من أتم عامدًا، فقيل: صلاته باطلة بناء على وجوب القصر، وتعيين عدد الركعات، وقيل: صلاته صحيحة مراعاة للخلاف. قوله: ((وإن كان خلف مسافر فأتم فلا يتبع)): وهذا أيضًا فيه قولان عندنا الاتباع بدل المخالفة، ونفيه بناء على أن القصر مطلوب شرعًا. قوله: ((ويستمر المسافر على القصر وإن عرضت له (إقامة) ما لم يبلغ بعزيمته إقامة أربعة أيام وليالهن)): وهذا مذهب مالك -رحمه الله-، والدليل على تخصيص هذه المسافة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (حرم على المهاجرين المقام بمكة أكثر من ثلاثة أيام): فدل على أن ما زاد، في حكم الحضر، وأن الثلاثة في حكم السفر.

قوله: ((ولا يقصر حتى يفارق بلده، ويخلفه وراء ظهره)): وهذا الذي ذكره هو المشهور من المذهب وعندنا فيه قولان أحدها: ما ذكره. والثاني: ما ذكره ابن القاسم وابن حبيب أنه لا يقصر حتى يجاوز البلد بثلاثة أميال، لأن هذا المقدار هو الذي يلزم فيه إتيان الجمعة، وكأنه في حكم الحاضر، ولا يتحقق له حكم المسافر إلا بالزيادة على ذلك. قوله: ((ولا يقصر العاصي بالسفر)): وهذا هو المشهور من المذهب أيضًا، وعندنا قولان في العاصي هل يرخص له لعموم ورود الرخصة ام لا يباح له، لأن في ذلك إعانة على المعصية، والمشهور ما ذكره القاضي. قوله: ((وإن فرغ من صلاة مقصورة ثم عزم على الإقامة لم تلزمه إعادة)): وهذه المسألة لم يختلف فيها المذهب، وإنما الخلاف إذا حدثت له نية الإقامة في أثناء الصلاة، ومبناه على أصل، وهو هل يلزمه عدد الركعات أم لا؟ وفي هذا الأصل قولان في المذهب قال مالك: إذا عقد منها ركعة وهو مسافر، ثم نوى الإقامة أضيف إليها أخرى، وجعلها نافلة، وصلى صلاة مقيم. وقال ابن دينار يبتدئ الصلاة، وإن كان إمامًا أتبعه المأموم، وابتدأ جميعهم الصلاة، وقال ابن القاسم إن كان إمام قدم غيره وخرج.

باب الجمعة

باب الجمعة قال القاضي -رحمه الله-: ((وهي فرض)) إلى آخر الباب. شرح: الجمعة واجبة بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] الآية والأمر وإن اجمل فالقرائن الفعلية والمقالية تخلصه للوجوب، وثبت العمل بها، والمواظبة بالمدينة حتى مات -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وأجمع جمهور أهل العلم على وجوبها. وعندنا في المذهب رواية عن أصبغ أن الجمعة سنة، وتحرز القاضي بقوله: ((وهي فرض على العيان)) من فرض الكفاية الذي يسقطه البعض. ولها شروط وجوب وشروط اداء، كما ذكره القاضي، وحصر شروط الوجوب في ستة: البلوغ: تحرزًا من الصبي، لأنه غير مكلف. والعقل:

احترازًا من المجنون. والحرية: احترازًا من العبد، فلا جمعة على العبد ولا على المسافر، لأنه مستغرق في حق سيده. والذكورية احترازًا من المرأة. والإقامة احترازًا من المسافر، ولا جمعة على العبد ولا على المسافر. وموضع الاستيطان تحرزًا من الموضع الذي لا يستقر فيها، وليست وطنًا، وتتفضل هذه الصلاة على سائر الصلوات باشتراط الإمام والخطبة والجامع. قوله: ((ولا حد لهذه الجماعة)): احترازًا من مذهب المخالف. فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال عديدة مبناها على اختلاف الروايات في عدد من بقي في الصلاة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم (ورود) العير من الشام، وبسبب ذلك أنزل الله -عز وجل-: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا افضوا إليها} [الجمعة: 11]، الآية وقد روي عن مالك: أن حد الجماعة ثلاثون رجلًا، وروى عنه خمسون رجلاً، واختار بعضهم أربعين رجلاً. واختلف المذهب على قولين إذا كان هذا العدد ممن لا تلزمهم الجمعة كالعبيد والنساء هل تنعقد بهم أم لا؟ وكذلك اختلف المذهب هل هو شرط مستدام أم لا؟ وفيه قولان. قوله: ((ووقتها وقت الظهر)): وهذا مذهب جمهور اهل العلم، فلا تصلي قبل الزوال عندنا، وقوله في حديث طنفسة عقيل بن أبي

طالب: (فنقيل قائلة الضحى). وهو مصدر تشبيه فنقيل قائلة مثل قائلة الضحى. واختلف المذهب في آخر وقت الجمعة على خمسة أقوال، فروى مطرف عن مالك أنه يصليها ما بينه وبين غروب الشمس، وقال ابن القاسم عن مالك ما لم يبق للعصر بعدها أقل من ركعة، وروى عن مالك أنه وقع منها ركعة في آخر وقت الظهر، وركعة في أول وقت العصر كانت جمعة، وروى عنه أن آخر وقتها أن تدخل وقت العصر، وروى عنه أن وقتها ما لم يبق لغروب الشمس أربع ركعات فهي جمعة. وسبب هذا الاختلاف اختلافهم هل هي صلاة قائمة بنفسها، أو بدل من الظهر، فيعطي البدل حكم المبدل منه، وكذلك أيضًا اختلفوا هل يبرد بها كما يبرد بالظهر أم لا؟ وفي المذهب فيه قولان الصحيح أنه -عليه السلام- لم يبرد بها قط، ووقع في البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتد البرد عجل الجمعة، وإذا اشتد الحر أبرد بصلاة الجمعة. قوله: ((يؤذن لها على المنار لا بين يدي الإمام)): تنبيهًا على مذهب

المخالف. قوله: ((والخطبة فيها قبل الصلاة)): قلت الخلاف في سبع مواضع: الأول: هل هي واجبة أو سنة، وفي المذهب فيه قولان المشهور أنها واجبة وقيل: هي سنة. الثاني: هل هي شرط في صحتها أم لا؟ قال ابن الماجشون: على أي وجه كان، فالجمعة صحيحة والمشهور انها شرط. الثالث: هل لها قدر أم لا؟ ويجزئ منها ما يسمى عند العرب خطبة، وفي ثمانية أبي زيد إذا صعد المنبر وتكلم بما كان فهي خطبة وجمعتهم صحيحة. الرابع: هل الطهارة لها شرط أم لا؟ واختار القاضي أنها مشروطة مع الذكر، وقال سحنون: هي مشروطة مطلقًا، وقال أصبغ: إن خطب على غير وضوء اجزأه، لأن ذكر الله على كل حال. الخامس: هل من شرطها الجلوس بين خطبتها، والمشهور أنها سنة واجبة.

السادس: هل القيام شرط فيها أم لا؟ وفيه قولان. قال القاضي: ((إن خطب جالسًا إيماء اجزأه، ولا شيء عليه)). السابع: هل حضور الجماعة مشترطًا في الخطبة كاشتراطه في الصلاة أم لا؟ وفيه قولان. مبنيان على الخلاف في افعاله -عليه السلام- هل هي محمولة على الوجوب أم لا؟ وفيه قولان. وذكر أن الخطبة فيها قبل الصلاة وهو الذي كان عليه عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده وقد قال تعالى: {وتركوك قائمًا} إشارة إلى قيامه في الصلاة، وقيل: وتركوك قائمًا في الخطبة وكانت الخطبة حينئذ بعد الصلاة، ثم نسخ ذلك، ذكره أبو داود. قوله: ((متوكيًا على قوس أو عصا)): قد قيل: إنما ذلك خوفًا أن يتشاغل بالعبث بيده. قوله: ((ولا يركع من دخل والإمام يخطب)): وهذا فيه خلاف في المذهب المشهور انه لا يركع، وروى محمد بن الحسن عن مالك أنه يركع وهو قول الشافعي اعتمادًا على قوله -عليه السلام- لسليك بن الغطفان (قم فاركع ركعتين) الحديث، وتأوله المالكية على أنه كان فقيرًا فأراد -عليه السلام- أن

يراه الناس فيتصدقوا عليه، وقد وقع هذا التعليل في بعض طرق هذا الحديث. قوله: «وتدرك بقدر ركعة من فعلها أو وقتها»: أشار بقوله: ((من فعلها)) إلى المسبوق الذي أدرك مع الإمام منها ركعة فقط فهو مدرك للجماعة عند الجمهور من أهل العلم، خلافًا لمن رأى أن من لم يدرك الخطبة فلا جمعة له بناء على أن الخطبة بدل من الركعتين. قوله: ((أو وقتها)) إشارة إلى من يستجمع شروط وجوب الجمعة أو أدائها إلى آخر وقتها بمقدار ما يبقى منه ركعة منها فقط، فإدراك الوقت المقدر بالركعة كإدراك المسبوق بالركعة فتأمله فهو ظاهر. قوله: ((ومن سننها المتأكدة الغسل متصلاً بالرواح)): وهذا هو المشهور من المذهب أن غسل الجمعة سنة، والدليل على قول عمر -رضي الله عنه- للداخل الوضوء أيضًا، ولو كان واجبًا لأمره به، وقال -عليه السلام-: «من توضأ للجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل». قوله -عليه السلام-: «الغسل للجمعة واجب»

يريد وجود السنن والله أعلم. قوله: «ولا يجمع إلا في موضع واحد»: وتحصيل القول في هذه المسألة أن إقامتها في جمعتين جائزة في المصر الكبير الذي لا يكتفي فيه بجامع واحد. وأما المصر الصغير فلا يقام فيه في جامعين، فإن أوقعت في جامعين فالمشهور أن الصلاة صلاة أهل الجامع العتيق. قوله: ((إلا أن يظهر عذره)): احترازًا من المسجون والمريض، وهل يصلون الظهر جماعة أم لا؟ فيه قولان: المشهور: المنع، والشاذ: الجواز تحصيلًا لفضيلة الجماعة.

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف الأصل في صلاة الخوف قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} [النساء: 158] الآية وسبب نزول الآية أن المشركين استقبلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة، فنزل عليه جبريل -عليه السلام- بهذه الآية بين الظهر والعصر. وأجمع العلماء على أن هذه الصلاة مشروعة في حياته -عليه السلام- وأنه صلاها مرارًا كثيرة، فقيل: عشر مرات، وقيل: ثلاث مرات، وقيل: أكثر من ذلك. واختلف هل هي باقية بعد موته أم لا؟ فذهب الجمهور على أنها باقية بعد موته اعتمادًا على عمل الصحابة وصلاتهم على هذه أدعية بعد موته -صلى الله عليه وسلم- وشذ (محمد بن الحسن)

وغيره فرأوها غير مشروعة تعلقًا بمقتضى خطاب الواحد المفهوم من قوله: {وإذا كنت فيهم} [النساء: 102] الآية، وإذا ثبت أنها مشروعة، فقد ورد لها هيئات مختلفة عنه -صلى الله عليه وسلم- تبلغ خمسة عشر هيئة ذكرناها في المطولات. واختلف الفقهاء في المختار منها، والذي عول عليه الجمهور من المالكية هو العمل على حديث صالح بن خوات وهو الذي ذكره القاضي -رحمه الله- وهو ان يقسم العسكر فريقين فيصلي بالفرقة الأولى شطر الصلاة إن كانت رباعية أو ثنائية، وإن كانت ثلاثية صلى بالطائف الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة واحدة، فإذا صلى بالأولى فهل يتمون لأنفسهم فينصرفون قبل الإمام بعد تكميلهم لأنفسهم، أم ينصرفون قبل التكميل فيستقبل العدو وهم في حكم الصلاة، ثم تجيء الطائفة الثانية، فتدرك مع الإمام الركعة الثانية فما فوقها فيه قولان في المذهب مبنيان على اختلاف الأحاديث. فروى ابن عمر أن الطائفة الأولى لم يكملوا. واختار ذلك أشهب من حيث لا يكون

إلا بعد سلام الإمام، وفي حديث صالح بن خوات أنهم اكملوا لأنفسهم، وهو المختار عند المالكية فرارًا من العمل في الصلاة، وقال تعالى: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} [النساء: 102] فهل المقصود لأنفسهم أو سجودهم. قوله: ((فإذا فرغ من تشهده قام إلى الثانية)): وهذا الفرع فيه خلاف، وذلك إذا صلى الإمام بالطائفة الأولى، وقامت للقضاء لأنفسهم على ما هو المختار من المذهب، وانتظر الإمام قضاءهم، وإتيان الطائفة الثانية، فهل ينتظرهم قائمًا او جالسًا، لا يخلو أن يكون موضع جلوس أم لا، فإن كان موضع جلوس فإنه ينتظرهم جالسًا، وإن لم يكن موضع جلوس فهل ينتظرهم جالسًا أو قائمًا، فيه قولان في المذهب منيان على تقابل المكروهين، فينظر في تغليب أحدهما، وذلك أن زيادة القيام مستغن عنها ومكروه، وزيادة جلوس مستغن عنها كذلك، ويقع النظر في ترجيح أحدهما، وإذا قلنا إنه ينتظرهم قائمًا، فهل يسكت، أو يقرأ، أو يسبح فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه يسكت، لأن القيام ليس هو للقراءة، بل للانتظار، وقيل: يقرأ، لأن الصلاة محل القراءة، وقيل: يسبح، لأن الصلاة محل الذكر. وإذا فرغ من (الصلاة) بالطائفة الثانية، فهل يسلم، ثم تسلم الطائفة بعد تكميلها أو ينتظر تكملتهم، ثم يسلم بعد ذلك، فيه قولان في المذهب الأشهر: أنه يبادر بالسلام بعد كمال صلاة نفسه، ثم يسلم المأمون بعده، لأن ذلك حكم المأموم، وقد جاء أنه -عليه السلام- انتظر إكمالهم ثم سلم. قوله: ((فأما إن اشتد خوفهم)): إلى آخره وهذه الصلاة سائفة، وللسائف

أن يصلي كيف امكنهم مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها راكبًا أو ماشيًا أو مطاعنًا، لأن دين الله يسر، وتأخير الصلاة عن وقتها لا سبيل إليه وإنما أخر -عليه السلام- الصلاة يوم الخندق حتى غربت الشمس نسيانًا، والناسي غير مؤاخذ. فرع: لو قسم الإمام في المغرب ثلاثة طوائف، فصلى بكب طائفة ركعة، أو قسم من معه في الظهر، وسائر الرباعيات أربع طوائف، فصلى بكل طائفة ركعة، ففيه نظر تفصيله: أما في المغرب ففي صلاة الإمام، والطائفة الثانية والثالثة قولان أحدهما: أنها باطلة لأنهم زادوا في صلاتهم جهلاً، وأخرجوها من الصفة الشرعية. والثاني: أنها صحيحة بناء على أن هذه الصلاة مشتملة على التوسعة والتخفيف. وأما الطائفة الأولى فصلاتهم باطلة باتفاق، وكذلك الرباعية تبطل فيه صلاة الأولى والثانية لأنهم فارقوا إمامهم من غير موضع المفارقة. واختلف المذهب في صلاة الإمام والثالثة والرابعة على قولين أحدهما: أن صلاتهم صحيحة، والثاني: إنها باطلة بناء على ما ذكرناه.

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين قال المؤلف الأصل في صلاة العيدين قوله عز وجل: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14، 15] قيل: هو إشارة إلى صلاة العيدين. وقال تعالى: {فإذا فرغت فأنصب} [الشرح: 7] قيل: هو إشارة إلى صلاة العيدين وجمهور أهل العلم على أنها سنة. وقال قوم من أهل العلم هي فرض كفاية لما فيها من إظهار شرائع الإسلام، وقد استمر عليه عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بعده إلى الآن، وجعلها مؤكدة تنبيهًا على ما ذكرناه من إقامة شعائر الإسلام. قوله: ((وسنتها المصلى دون المسجد)): وهذا كما ذكره إلا في أهل مكة فإنهم يقيمونها في المسجد لأن داخل الحرم أفضل من خارجه، والمقصود

تحصيل الأفضل ويخرج إليها الإمام، وكل من تلزمه الجمعة بقدر ما إذا (بلغ) المصلي حلت الصلاة. واختلف المذهب على قولين فيمن لا تلزمه الجمعة، هل يؤمر بالخروج إليها لما في ذلك من المباهاة أو لا يؤمر بها، والصحيح الأمر بذلك اعتمادًا على حديث أم عطية قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرج العواتق والحيض (وذات الخدر) والحديث ثابت. قوله: ((ويستحب في الفطر الأكل قبل الغدو، وفي الأضحى تأخيره إلى الرجوع من المصلى)): وهذا كما ذكره، وعليه كان عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث بريدة قالت: (كان -عليه السلام- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي). قوله: ((ومن سنتها الغسل والطيب)): قد اشتهر أن غسل الجمعة

والعيدين سنة مؤكدة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن هذا اليوم جعله الله عيدًا فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك) والحديث ثابت في الصحيح. قوله: ((والتكبير في المشي والجلوس إظهارًا لملة المسلمين)): وأما الرجوع من غير الطريق التي أتى منه فسنة ثابتة عنه -صلى الله عليه وسلم-. وقد اختلف العلماء في تعليل ذلك، فقيل: لكثرة الخطوات، وقال بعضهم: إنما كان -عليه السلام- لتصافحه ملائكة الطرقات، وقيل: لكثرة السواد والمباهاة للعدو، وقيل: لتنال بركته الطريقان، وقيل: ليتصدق على أهل الطريقين إلى غير ذلك من التعاليل التي ذكرها علماؤنا، ويحتمل أن يكون فعله -عليه السلام- معللًا بجميعها. قوله: ((يزاد في الأولى ست تكبيرات بعد الإحرام، وفي الثانية خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام)): وهذا مذهب مالك -رضي الله عنه-، والحكمة في ذلك أن يجتمع في هذه الصلاة عدد تكبيرة الرباعية فهذا هو من التخصيص. قوله: ((بسبح والغاشية)): هذا هو المختار، وبهذا كان يقرأ

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وروي أنه كان يقرأ ((بقاف)) في الأولى، وفي الثانية ((باقتربت)). واختلف المذهب في فروع: الأول: إذا لم يكبر حتى قرأ، فأمرناه بإعادة التكبير، فهل (يعيد التكبير) أم لا؟ فيه قولان في المذهب، وإذا أمرنا بإعادة التكبير فهل يسجد أم لا؟ فيه قولان في المذهب، وإن لم يكبر حتى ركع تمادى وسجد قبل السلام. الفرع الثاني: إذا أتى المسبوق بعد تكبيرة الإحرام فهل يكبر في حال قراءة الإمام أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يكبر اعتبارًا له بحكم غير المسبوق. والثاني: أنه لا يكبر، لأن ذلك مخالفة على إمامه. الفرع الثالث: إذا أدرك المسبوق التشهد، وقام بعد سلام الإمام، فهل يعتد بتكبيرة الإحرام أو يكبر سبعًا، لأنه غير مدرك للصلاة، فتكبير الأولى غير مجزئة عنه، ولا داخل في تكبيره، فيه قولان في المذهب ومبناهما على ما ذكرناه.

الفرع الرابع: إذا كبر الإمام في أثناء خطبته، فهل تكبيره محصور بعدد أم لا؟ فيه قولان فقيل: لا حد له، وقيل: حده سبع. الخامس: هل يكبر الناس حينئذ بتكبيره أم لا، فيه قولان: فقيل: لا يكبرون، بل يصلون بالسماع والإنصات، وقيل: يكبرون اتباعًا للإمام. قوله: ((ولا أذان فيها ولا إقامة)): هذا هو الذي مضى عليه العمل. قوله: ((ويكبر خلف الصلوات يبدأ بالظهر من يوم النحر)): الأصل في التكبير في أيام التشريق في أدبار الصلوات الاقتداء بأهل منى والأصل في تكبيرات الغدو إلى المصلى قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله} [البقرة: 185] الآية. واختلف المذهب في هذا التكبير دبر الصلوات في مسائل: الأولى: هل ينحصر بأدبار الصلوات فيه، أم يكون في سائر الأوقات، والمشهور أنه ينحصر بأدبار الصلوات، والشاذ: عمومه في سائر الأوقات لأهل منى خاصة. الثانية: متى ينقطع هذا التكبير على أقوال كثيرة بين السلف، وفي المذهب في ذلك قولان، فقيل: ينقطع في صلاة الصبح من يوم الرابع، وقيل: في صلاة الظهر، ومبناه على اختلاف الروايات الواقعة فيه.

والثالثة: إذا نسي صلاة من أيام التشريق، ثم ذكرها بعد انقضائها هل يكبر أم لا؟ فيه قولان: التكبير إعطاء لها حكم وقتها الثاني نفي التكبير إعطاء (لها) حكم وقت القضاء. الرابعة: اختلفوا في المستحب من التكبير، والمشهور ما ذكره القاضي، وقيل: يقتصر على ((الله أكبر)). فرع: إذا صليت صلاة العيد في المصلى فلا يتنفل قبلها ولا بعدها عنده اقتداء بالعمل لوجهين الأول: سد الذرائع خيفة من أهل البدع. الثاني: قال ابن حبيب: صلاة العيد حظ ذلك اليوم من النافلة. فإن صليت في المسجد ففي جواز التنفل ثلاثة أقوال، فروى ابن القاسم عن مالك جواز التنفل قبلها وبعدها، وروي أشهب عنه لا يتنفل قبلها ولا بعدها. قال ابن حبيب: يتنفل بعدها، ولا يتنفل قبلها خشية التطويل في النافلة فتؤخر عن وقتها.

باب صلاة الخسوف

باب صلاة الخسوف الكسوف، والخسوف: عبارة عن إظلام القمرين قال ابن حبيب: هو تغيير لون الشمس، وقيل: إنها تغور في البحر فينقطع ضوؤها، وقد يكسف منها البعض، فيسمى كسوفًا، وقد يأتي الخسوف في جميعها فيسمى خسوفًا، ولا خلاف في المذهب أنها سنة مؤكدة، والخلاف بعد ذلك في عشرة مواضع: الأول: من تلزمه، وفي المذهب فيه قولان: فقيل: كل من تلزمه الجمعة، وقيل: كل مكلف. الثاني: هل تصلي في المسجد قياسًا على سائر النوافل، أو يبرز لها إلى المصلى قياسًا على صلاة العيد فيه قولان عندنا. الثالث: لا خلاف في تطويل القراءة والركوع، واختلف في حد الطول، والمشهور أنه بقدر ما يقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن وسورة البقرة، وفي

الركوع الثاني من الركعة الأولى بآل عمران. والقول الثاني: غير محدود وهو قوله: (ما لم يضر بمن خلفه). الرابع: هل يطول السجود كما يطول الركوع فيه قولان مبنيان على اختلاف الروايات في الأحاديث. الخامس: هل يقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن أم لا؟ المشهور القراءة، وقال ابن مسلمة لا قراءة عليه لأنها ركعة واحدة. السادس: هل القراءة فيها سرًا أو جهرًا فيه روايتان في المذهب مبنيتان على اختلاف الروايات، ففي حديث عائشة نحو سورة البقرة، وهذا يقتضي السر، وروي أنه -عليه السلام- جهر فيها بالقراءة. السابع: اختلف المذهب في وقتها، فقيل: قبل الزوال كصلات العيدين والاستسقاء، وقيل: إنها من طلوع الشمس إلى صلاة العصر كصلاة النافلة. الثامن: اختلفوا في كسوف القمر، فقيل: إنها كصلاة الكسوف، وقيل: كسائر النوافل لا يعتبر فيها. [الجمع].

التاسع: هل يجمع لكسوف القمر أم لا؟ فيه قولان والمشهور أنه لا يجمع له. العاشر: إذا تجلت الشمس في أثناء الصلاة هل تكمل على صفتها أو على صفة النوافل فيه قولان في المذهب.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء الاستسقاء هو: طلب السقي من الله عز وجل، وأجمعت الأمة على أنها مشروعة بالدعاء والتضرع والابتهال إلى الله -عز وجل-، والأصل فيه قوله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} [النمل: 62] الآية وثبت ذلك من فعله -صلى الله عليه وسلم- وفعل الصحابة بعده. واختلف هل الصلاة من سنته، والجمهور على أنه دعاء، وصلاة كسائر النوافل لما ثبت في ذلك من عمله -صلى الله عليه وسلم- وشذ أبو حنيفة فرأى أنه دعاء ليس معه صلاة. واختلف المذهب بعد هذه القاعدة في مسائل تتعلق به. المسألة الأولى: اتفقوا على أن من سنتها الخروج إلى المصلى، وهل يكبرون في حال الخروج قياسًا على العيدين أولًا يكبرون قياسًا على سائر النوافل فيه قولان في المذهب، المشهور نفي التكبير، لأنه موضع الخضوع،

وموضع الاستكانة، والتكبير موضع المباهاة، وإظهار شرائع الإسلام. الثانية: اتفق العلماء على أن كل من لزمته الجمعة يؤمر بالخروج لها، واختلف في البهائم والأطفال الصغار هل يؤمر بخروجهم، لأن تضرعهم مظنة الإجابة والقبول أم لا؟ فيه قولان في المذهب، وكذلك اختلف في خروج النساء المتجالات، وأما الشابة التي يخاف الفتنة بخروجها، فلا خلاف أنها لا تخرج، لأن خروجها داع إلى الفساد والفتنة. الثالثة: اختلفوا في أهل الذمة هل يمنعون من الخروج لها أم لا؟ قولان: المشهور أنهم لا يمنعون: لأن الله يجيب دعاءهم استدراجًا، والشاذ أنهم يمنعون، وإذا أجزنا خروجهم فهل يخرجون منفردين أو مجتمعين مع المسلمين في يوم خوفًا ألا يجاب دعاء أهل الإسلام امتحانًا لهم، ويجاب دعاء الكافر فيه استدراجًا، فيه قولان في المذهب. الرابعة: هل يؤمر الناس قبل الخروج للاستسقاء بالصدقة والصيام أم لا؟ والمشهور أن ذلك غير متوجه خوفًا من اعتقاد الإجابة، واستحبه ابن حبيب في هذا الموطن، لأنه أقرب إلى الخضوع وأدعى إلى الإجابة. الخامسة: هل يجوز الاستسقاء بعد الزوال فيه قولان الجواز قياسًا على سائر النوافل، والمنع قياسًا على صلاة العيدين. السادسة: لا خلاف أن الخطبة مشروعة في هذه الصلاة، إلا أنهم اختلفوا هل تقام قبل الصلاة قياسًا على الجمعة، أو تقدم الصلاة عليها قياسًا

على العيدين قولان في المذهب. السابعة: اختلف المذهب هل يجوز التنفل قبل هذه الصلاة وبعدها، لأن ذلك خير أو يكره قياسًا على صلاة العيدين وفيه قولان في المذهب. الثامنة: لا خلاف في المذهب أن تحويل الرداء في هذه الصلاة مشروع رجاء التفاؤل بانتقال حالهم من الجدب إلى الري، ومن الضر إلى النعماء، واختلفوا فيمن يؤمر بالتحويل، وفي وقت التحويل، أما النساء فلا يؤمرن بالتحويل، لأن ذلك تعرض للفتنة. ولم يختلفوا أن الإمام يحول رداءه، واختلفوا في المأمومين هل يحولون أم لا؟ بناء على اختلاف روايات الأحاديث، ففي بعضها أنهم حولوا، وفي بعضها أنهم لم يحولوا واختلف المذهب في التحويل فقيل: (بعد) الخطبتين، وقيل: بعد كمال الخطبتين، وهو مبني على اختلاف روايات الحديث، وكذلك اختلفوا متى يستقبل الإمام القبلة، فقيل: بعد الفرغ من الخطبة، وقيل: في أثنائها، والقولان في المذهب.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز الجنائز جمع جنازة بفتح الجيم وكسرها، ينطلق على الميت بنفسه وعلى السرير الذي يحمل عليه، وبدأ بغسل الميت. قوله: ((وغسل الميت المسلم واجب)): وهذا كما ذكره، وقد اختلف المذهب في حكم غسل الميت على قولين، فقيل: هو واجب على من حضره من المسلمين، فيلتحق بفروض الكفاية، فمن قام به من الناس سقط على (البعض)، وقيل: هو سنة، والقولان في المذهب. ومبنى الخلاف على اختلاف في أوامره -عليه السلام- هل تحمل على الوجوب أو على الندب، وقد قال -عليه السلام- لما ماتت ابنته (اغسلوها بماء وسدر) الحديث. ويدخل تحت عموم لفظ القاضي الصغير من الأطفال المسلمين، لأنه له بحكم الإسلام.

قوله: ((ويستحب (فيه) الوتر)): وهذا كما ذكره لقوله -عليه السلام-: (اغسلها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك) ويحمل هذا الأمر عندنا على الاستحباب. قوله: ((وتنزع ثيابه)): وهذا قد اختلف فيه، فقالت طائفة: ينزع عنه القميص، وقال الجمهور لا تنزع ثيابه. وسبب الخلاف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غسل في قميص، وسمع من جانب بيته -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنزعوا عنه القميص) فهل ذلك خاص به أو عام فيه الخلاف المذكور. قوله: ((وتستر عورته)): وهذا كما ذكره، لأن ستر العورة فرض، وقد ذكرنا تفصيل العورة. واختلف المذهب هل تستحب خرقة على صدره أم لا؟ فيه قولان في المذهب، الجواز والاستحباب لأن ذلك كان الميت يكره كشفه، ومن أهل العلم من استحسن ذلك في ما أنهكته العلة والمرض. واختلف في هذا الغسل

هل هو عبادة فلا يجزئ إلا بالماء المطلق، أو مشروع للنظافة فيغسل الميت حينئذ بماء الورد وماء الريحان ونحو ذلك فيه قولان في المذهب، وعلى هذا اختلف المذهب هل يستحب تقديم الوضوء قبله أم لا؟ وفيه قولان: والمشهور أنه يتوضأ، لأن ذلك أبلغ في النظافة، وقد صح أنهم وضؤوه -عليه السلام- حين غسلوه، وذلك حجة، واختلفوا هل يتكرر الوضوء بتكرير الغسلات أم لا؟ فيه قولان في المذهب. قوله: ((وإن (اضطر) إلى مباشرتها فبخرقة)): وهذا كما ذكره وقال ابن حبيب: ((لا يباشر عورة بيده وإن احتيج إلى ذلك)). قال بعض الأشياخ: يريد إلا بخرقة. واختلف المذهب هل يكره غسله بماء زمزم أم لا؟ وفيه قولان عندنا، المشهور جوازه، لدخوله تحت عموم المياه، والشاذ الكراهية تعظيمًا، ولما يزعم أهل مكة أن من استنجى به يحدث به الباسور. قوله: ((ويعصر بطنه)): وهذا فيه خلاف بين أهل العلم والمشهور ما ذكره القاضي، وقيل: لا يعصر قياسًا على الحي، وإذا خرج بالعصر حدث، فهل يعاد الغسل أم لا؟ فيه قولان في المذهب، وإذا قلنا: بإعادة الغسل فهل واحدة، أم ثلاثًا، أم سبعة، فيه خلاف بين أهل العلم. قوله: ((ولا يزال عنه شيء من خلقته من ظفر أو شعر)): وهذا هو

المشهور من أقوال أهم العلم وقيل: يقلم ظفره، ويؤخذ من شعره، وليس فيه أثر، وإنما هو من باب القياس على الحي. قال القاضي -رحمه الله-: ((ويغسل كل واحد من الزوجين صاحبه)) إلى آخر الفصل. شرح: أصل مذهب مالك جواز غسل أحد الزوجين صاحبه، هل يقضى بذلك أم لا؟ فقيل: إن ذلك حق يقضى به لكل واحد منهما عند موت صاحبه، لأن حق الزوجية باق، وقيل: لا يقضى به وحكى في الرجعية قولان: بناء على الخلاف في جواز الخلوة بالمطلقة طلاقًا رجعية. وفي هذا الأصل خلاف في المذهب. واختلف المذهب في ذوي المحارم من الرجل هل يغسل نساؤهم من ذوي المحارم أو ينتقل إلى التيمم فيه قولان في المذهب. واختلف المذهب في الصغيرة التي لا تشتهي هل تعطى حكم الذكر أو حكم الأنثى فيه قولان في المذهب. قوله: ((ويستحب الاغتسال من غسل)): وهذا لقوله -عليه السلام-: (من حمل ميتًا فليتوضأ، ومن غسله فليغسل) وفي هذا الحديث مقال من جهة

الإسناد. والميت الكافر يلف ويوارى، ولا يحل للمسلم موالاته، وقيل: له أن يغسله، والأصل في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: حيث مات أبو طالب ((فواراه)). قال القاضي -رحمه الله-: ((والكفن والحنوط من رأس المال)) وهذا كما ذكره، إلا أن يوصي الميت في كفنه سرف فيه قولان، فقيل: ترد وصيته في ذلك، وقيل: تمضي من الثلث، واختلف إن كفن ثم سرق كفنه هل يلزم الورثة إعادة كفنه أم لا؟ فقيل: يعاد، وقيل: لا يلزمهم ذلك مطلقًا، وقيل: يلزمهم إن لم تقسم التركة ولا يلزمهم إن اقتسموا، والثلاثة الأقوال في المذهب، وهل يجوز الكفن في الحرير أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: جوازه مطلقًا، ومنعه مطلقًا، وجوازه للنساء فقط. وجه الأول أن التحريم قد سقط بالموت، ووجه المنع أن ذلك من السرف، وهو منهي عنه. ووجه التفريق أن

ذلك مباح للنساء في حال الحياة. وإنما استحب في الكفن الوتر والبياض، لأنه كفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الصحيح أنه كفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة واختلف الشيوخ في معناه فقيل: ليس بمعدود، وقيل: ليس بمحدود. قال القاضي -رحمه الله-: ((الصلاة على الميت واجبة)) إلى آخر الفصل. شرح: اختلف المذهب في حكم الصلاة (على) موتى المسلمين، وفي المذهب في ذلك قولان: فقيل: إنها فرض كفاية، وهو قول سحنون وابن أبي زيد، وقيل: إنه سنة وهو قول أصبغ، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم} [التوبة: 84] الآية، نهاه عن الصلاة على المنافقين، فيقتضي الأمر بالصلاة على موتى المسلمين. قوله: ((ولا تجوز إلا بطهارة)): تنبيهًا على مذهب المخالف حيث لم

يشترطوا فيه الطهارة، ولأنها صلاة لغوية لا شرعية. والجمهور على أنها صلاة شرعية لا سيما أنها على التكبير والدعاء والتسليم. واختلف المذهب على قولين هل فيها قراءة أم القرآن أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور أنها ليس فيها قراءة، وقال أشهب يقرأ فيها أم القرآن اعتمادًا على قوله -عليه السلام-: (كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) وكذلك فعل ابن عباس لتعلموا أنها سنة. قال سحنون: قلت لابن القاسم هل وقت مالك في الصلاة على الجنائز دعاء؟ فقال: لا أعلمه إلا الدعاء فقط.

قال المؤلف: هذه الفتوى المشهور، واستحب في القول الشاذ أن يفتح بالحمد وبالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى عوف ابن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صلى على جنازة فقال: اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه وأكرم نزله [ووسع مدخله] واغسله بماء وثلج وبرد ونقله من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وقه من فتنة القبر، ومن عذاب الناس، قال عوف: فتمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). قال مالك: وهذا أحسن ما يدعى به للميت لثبوته عنه -صلى الله عليه وسلم-. قوله: ((يكبر فيها أربعًا)): وهو قول جمهور أهل العلم اعتمادًا على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كبر على النجاشي أربعًا. واختلف المذهب إذا زاد الإمام تكبيرة خامسة هل ينتظره المأموم حتى يسلم ويسلمون، وعندنا فيه قولان:

أحدهما: الانتظار لأن جنس التكبير مشروع في الصلاة، وقطع المأموم قبل إمامه مخالفة. والثاني: أنهم لا ينتظرونه حماية للذرائع. ولو سلم الإمام من ثلاث تكبيرات رجع إلى الصلاة ما لم يطل، فإن طال أعاد الصلاة، إن كان الميت لم يدفن، فإن دفن هل تعاد الصلاة على قبره أم لا؟ فيه قولان مبنيان على الخلاف في مشروعية الصلاة على القبر، واختلف في مسائل: الأولى: هل يرفع اليدين في تكبيرة الجنائز أم لا؟ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: الرفع، والثاني: ترك الرفع في الجميع، والثالث: الرفع في الأولى فقط وهو مبني على الرفع في الصلاة. الثانية: هل يعدو بعد التكبيرة الرابعة أو يسلم عقيبها فيه قولان في المذهب قياسًا على سائر التكبيرات ونفيه، لأنه لو دعا بعد الرابعة لافتقر إلى تكبيرة يختم بها الدعاء بعدها. الثالثة: هل يجهر بالسلام من صلاة الجنازة أو يسر فيها، فيه قولان في المذهب، فقيل: إنه يجهر بالسلام كسائر الصلوات، وقيل: يسر، ويعلم المأمومين كمال الصلاة. قوله: ((وهي جائزة في كل (الأوقات))): وهذا كما ذكره، لأنها نافلة، فتفعل في أوقات النوافل. قوله: ((إلا أن يخاف تغييرها)): يشير إلى حال الضرورة، وهو مبني على القول بأن لا يصلي على القبر، وهو أحد أقوال المذهب. قال أحمد بن حنبل: رويت الصلاة على القبر على النبي -صلى الله عليه وسلم- من (طريق حسان ... )

وقال غيره: رويت من تسع طرق فرواها الشيخان البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة وذكر ذلك مالك من مراسيل أبي أمامة وهو قول الشافعي ورواية (أشهب)، وتأول الجمهور من أصحابنا حديث السوداء على أنه مخصوص، لأنه كان وعدها -عليه السلام- أن يصلي عليها، وأنه -عليه السلام- صح أيضًا عنه أنه صلى على قبر أبي بشر بن البراء الذي أكل معه الشاة المسمومة، وإنما استحب ذلك اقتداء بحديث السوداء، وحمله على عمومه وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على أهل البدع، وأصل المذهب ما ذكره. واختلفت الآثار هل صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما عز. ولا خلاف في المذهب أن الجنين يحكم له بحكم الحياة باستهلاله صراخًا فيغسل ويصلي عليه، وكذلك يصلي على الأطفال عندنا، وروي أنه -عليه السلام- قال: (الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخًا). وروى عنه أنه -عليه السلام- صلى على ابنه إبراهيم وهو ابن سبعين ليلة وقيل: إن إبراهيم ابنه -صلى الله عليه وسلم- مات

وهو ابن ثمانية أشهر ولم يصل عليه. وقال أبو حنيفة إذا كان الجنين في البطن أربعة أشهر صلى عليه، لأنه حينئذ فيه الروح كما جاء في حديث ابن مسعود، قال حدثنا الصادق المصدق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين صباحًا) الحديث. قوله: ((ولا يغسل الشهيد في المعترك ولا يصلى عليه)): وهذه المسألة مشهورة بالخلاف بين العلماء، ومذهب مالك -رحمه الله- ما ذكره القاضي، والدليل عليه قوله -عليه السلام- في شهداء أحد: (زملوهم بكلومهم) الحديث وإن حمل من المعترك حي غير منفوذ المقاتل، ثم مات بعد ذلك صلى عليه، وإن

حمل منفوذ المقاتل فحكمه حكم الشهيد. واختلف المذهب إذا كان الشهيد جنبًا هل يغسل أم لا؟ وفيه قولان أحدهما: أنه يغسل حملًا على حديث حنظلة بن سعد الذي غسلته الملائكة حين استشهد، وكان بنوه يعرفون ببني غسيل الملائكة. والثاني: أنه لا يغسل لعموم قوله -عليه السلام- في الشهيد، ثم تكلم على من استحق التقديم في الصلاة على الجنازة، وجعله أولًا إلى الأئمة، ثم إلى العصبة وهو المشهور.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة قال القاضي -رحمه الله-: ((الزكاة من فروض)) إلى آخر الفصل. شرح: الزكاة في اللغة هي: النماء، من قولهم: زكا الزرع إذا نما، ومنه تزكية القاضي الشهود، لأنها تنمية لحالهم، وهي في الشريعة: نقصان محسوس، فسميت بذلك لأنها تنمو عند الله تعالى، وقيل: لأنها تؤخذ من الأموال النامية، وقيل: لأن صاحبها ينمو حاله عند الحق. واجتمعت الأمة على أنها ركن من أركان الإسلام. قال تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43]، وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم} [التوبة: 103]، وقال -عليه السلام-: (بني الإسلام على خمس) فذكر الزكاة. وانعقد الإجماع على ذلك، فمن جحد وجوبها فهو كافر، ومن امتنع منها مقرًا بها أخذت من ماله فهو آثم، هل تجزئه أم لا؟ فيه قولان مبنيان على الخلاف في الزكاة هل تفتقر إلى نية أم لا؟ وبدأ القاضي بصفة المالك وهو المسلم، لأن الكافر لا يقبل التطهير.

قوله: ((كبارًا كانوا أو صغارًا)): تنبيهًا على خلاف أبي حنيفة. وقد اختلف الفقهاء، هل تجب الزكاة على اليتامى أم لا؟ ومذهب مالك وجوبها عليهم لعموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم} ولقول عائشة: {اتجروا في أموال اليتامى ليلا تأكلها الزكاة}. وأجرى اللخمي الخلاف في مال اليتامى إذا كانوا أغنياء ولم يتجر لهم فيه وليهم على الخلاف في مال المعجوز عن تنميته. قوله: ((وصفة الملك أن يكون تامًا غير ناقص)): احترازًا من العبد والمديان، لأن ملكهما غير تام. قوله: ((وأما المملوك فكل عين جاز بيعه جاز تعلق الزكاة به)) قلت: لا (معنى) للذكر هاهنا، لأن الحكم الواقع المقدر خلافه، ومقتضى الفقه معرفة الأحكام الواقعة إلا ما لا يجوز أن يضعه الشرع حكمًا. وقد انعقد الإجماع على أن متعلق البيع أعم من متعلق الزكاة لاختصاصها بالعين، والحرث، والماشية، وذلك بعض المبيعات، فالقضية لا تطرد إلا من جهة الجواز الذي لا مدخل في هذه المحل، فهي غير صادقة، وانظر هل ينعكس أم لا؟ ثم عد العروض التي لا زكاة فيها، وخالف أبو حنيفة في نوعين منها الخيل والعسل، فأوجب الزكاة في العسل في كل عشرة (أزق) واعتمد

على حديث ورد في ذلك، وأوجب الزكاة في الخيل إذا كانت كلها إناثًا أو ذكروا وإناثًا، فإن كانت كلها ذكورًا فلا زكاة فيها، إذ هي غير نامية بالنتاج. قوله: ((وأما زكاة العين التي (هي) الذهب)): ففيه ثلاثة أقوال في المذهب: أحدها: أن حكمه حكم العرض، فلا زكاة فيه حتى يبيعه، فيزكي عن ذهب وعرضه زكاة واحدة. والثاني: أنه يزكي وزنه تحريًا وهو قول ابن القاسم. والثالث: مراعاة الأكثر فيعطى الحكم له، فإن كان قيمة الجوهر أكثر زكى الجميع زكاة العرض، وإن كان الذهب أو الفضة أكثر، زكى ذلك وزنًا. وكان العرض حكمه، هذا حكم غير (المدير) وأما المدير فيزكي وزن الذهب وقيمة التجارة بلا خلاف. المسألة الثانية: أن يتخذ الحلى ليصدقه (امرأته) ففي كتاب ابن المواز

عن مالك أنه يزكيه، وقال أشهب: لا زكاة فيه، وأنكره محمد بن المواز. الثالثة: أن يتخذه كراء، فقال ابن القاسم: الزكاة فيه واجبة، وقال أشهب: لا زكاة فيه. الرابعة: أن يتخذه ينتظر به امرأة يتزوجها تلبسه أو جارية يشتريها، ففيه قولان: وجوب الزكاة وإسقاطها، وكذلك إذا اتخذه ليرصد به ابنة صغيرة تكبر له فتلبسه، ففيه قولان أيضًا مبنيان على تغليب الموجب أم المسقط. وقوله: ((ويجمع بين الذهب والفضة)): وهذا لا خلاف فيه عندنا قياسًا على المعز والضأن والبقر، والجواميس، والبخت، والعراب

لتقاربه غالبًا. قوله: ((وله أن يخرج من أحد الجنسين عن الآخر بالقيمة)): وهذا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: جواز إخراج أحدهما عن الآخر لتساوي المقصود. والثاني: المنع، لأن الزكاة متعلقة بالعين. والثالث: جواز أنفقهما عن أكسدهما. وإذ قلت بجواز الإخراج بالقيمة فهل المرعى صرف دينار الزكاة: الدينار بعشرة دراهم، أو صرف الوقت، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: التعويل على صرف دينار الزكاة، الثاني: التعويل على صرف الوقت. الثالث: اعتبار الأكثر منهما تغليبًا لحق الله -عز وجل- على حق الآدمي. قوله: ((ولا يجوز تقديم الزكاة قبل وجوبها)): وهذا هو المعول عليه، جرى لها مجرى العبادات المنوطة بأوقات معينة، فلا يجوز تقديمها عليها، ولا خلاف في المذهب أنه إن أخرجها قبل الحول بالزمان الكثير أنه لا تجزئه، وهل يجوز تقديمها بالزمان اليسير أم لا؟ فيه قولان مبنيان على أن ما قارب الشيء هل له حكمه أم لا؟ وتغليب حكم العبادات تقتضي المنع، وملاحظة معنى الإباحة تقتضي الجواز واختلفوا في حد اليسير على أربعة أقوال، فقيل: اليومين والثلاثة، وثيل: نصف الشهر، وقيل: خمسة أيام وقيل: الشهر ونحوه. قال القاضي -رحمه الله-: ((والفوائد نوعان)) إلى آخر الفصل.

ظاهر كلام القاضي أن الفائدة تطلق على الأرباح وأولاد الماشية ونحو ذلك مما كان أصله مملوكًا، وعلى ما لم يتقدم عليه ملك، وذلك كالميراث والهبة وغير ذلك، والمعول من اصطلاح أصحابنا أن الفائدة هي: كل ما لم يتقدم ملك على أصله وعلى هذا لا يسمى الربح فائدة والخلاف في ربح المال في ثلاثة مسائل: الأولى: هل يضم إلى الأصل أم لا؟ وتحصيل القول فيه أنه إذا اشترى سلعة فربح فيها فلا يجوز أن يكون الأصل ملكًا (له) أو لغيره، فإن كان ملكًا له فلا يخلو أن يكون الربح قبل النقد أو بعده، فإن اشترى ونقد الثمن، ثم باع فربحه مضموم إلى رأس المال فلا خلاف في هذه الصورة، فإن ربح قبل أن ينقد ففي هذه الصورة قولان، فالمشهور أن الربح فيها مضمون إلى الأصل، فتزكى على حول الأصل، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وروى أشهب عن مالك أن يتأنف بالربح حولًا، وهل يضاف إلى المال يوم ملك المال، أو يوم التحريك، أو يوم الحصول فيه ثلاثة أقوال في المذهب. وفائدة هذا الخلاف يظهر فيما إذا كانت عنده عشرة دنانير حال عليها الحول فأنفق منها خمسة، ثم اشترى بالخمسة سلعة فباعها بخمسة عشر، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب الزكاة مطلقًا، وسواء اشترى قبل الإنفاق، أو بعده، بناء على أن الربح مضاف إلى الأصل يوم ملك الأصل، وثانيهما: إسقاط الزكاة مطلقًا لنقصان النصاب بالاتفاق. والقول الثالث:

أنه إن كان الإنفاق بعد الشراء وجبت الزكاة لاستكمال النصاب بالتحريك، وإن كان الإنفاق قبل الشراء سقطت الزكاة لنقصان النصاب. المسألة الثانية: إذا كان الأصل لغيره مقل: أن يستلف عشرين دينارًا فيبيع بأربعين فقيل: يستقبل بالربح حولًا، ولا يضمه، لأن الأصل ليس له، وقيل: يبني على حول الأصل، وكذلك إذا اشترى بدين فريح فقيل: يضاف الربح إلى الأصل يوم ملك الأصل، وقيل: يوم الشراء، وقيل: يستقبل الحول، والثلاثة الأقوال في المذهب. المسألة الثالثة: إذا اشترى سلعة بثمن استقرض نصفه فباع فربح هل يقضي الربح، فيزكي منه ما يقابل المنقود من ماله أو يزكي جميعه (فيه) قولان: فقال مطرف: لم يختلف قول مالك في زكاة الربح كله، وروى ابن نافع عن مالك أنه يزكي ربح ما دفع من ماله. قوله: ((وما سوى النماء كالميراث والهبة لا يضم إلى النصاب)): وهذا كما ذكره، وهي المسماة حقيقة فائدة، ولا خلاف أن يستقبل بها حولًا لقوله -عليه السلام-: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول). وهو الواجب في الأرباح لولا شبهها بولادة الماشية من حيث إن النماء من جنس المال متولد عنه، فكان حكمه. ثم تكلم على الفوائد المختلفة الأحوال، وتحصيل القول فيها: إذا أفاد مالين في وقتين أنه لا يخلو من أربعة أقسام: الأول: أن يكون في كل واحد منهما نصاب، أو يكون معًا دون

نصاب، وفي مجموعهما النصاب، أو يكون الاول دون النصاب، والثاني نصابًا، أو الأول نصابًا والثاني دون النصاب. فإن كان كل واحد منهما نصابًا مثل: أن يستفيد عشرين، ثم يستفيد بعدها بستة أشهر عشرين أخرى، فإنه يزكي كل واحد منهما بحولها، (ويعتبرها) بنفسها، فإن كانت الفائدة الأولى دون النصاب، والثانية نصاب ضم الأولى إلى الثانية، وكان الحول من يوم الفائدة الثانية بلا خلاف، فإن كان الأولى نصابًا، والثاني دون النصاب فإنه يزكي الأولى بحولها ولا يضمها ولا يضم إليها. واختلف المذهب في مسائل هذا الباب. المسألة الأولى: زكاة الوديعة، وفي المذهب فيها قولان، فقيل: تزكي لكل عام وهو اختيار الشيخ أبي القاسم، وروى ابن نافع أنها تزكى لعام واحد. (المسألة) الثانية: المال الملتقط إذا (أداه) الملتقط إلى صاحبه هل يستقبل به صاحبه حولًا، أو يزكيه لعام واحد، أو لكل عام، فيه ثلاثة أقوال في المذهب، وكذلك اختلفوا في المال يدفنه صاحبه ثم يجده بعد أعوام فقيل: يزكيه لما مضى من السنين، لأنه مفرط، وقيل: يزكيه لعام واحد تشبيهًا بالدين، وقيل: عكسه إذا دفنه في موضع محفوظ فهو قادر على استخراجه بالهدم والبحث. واختلفوا في المال المغصوب، فقيل: يزكيه لما مضى، وقيل: لعام واحد وقيل: لا يزكيه حتى يحول عليه الحول من يوم رجوعه إلى يديه، لأنه غير قادر على قبضه.

المسألة الثالثة: اختلفوا في المال الموروث إذا قبضه وكيل الوارث وحبسه عنده بغير أمر الوارث، فقيل: يزكيه لكل عام من يوم قبضه، لأن يده كيد الموكل، وفيه يزكيه لعام واحد وإن أقام في يد الوكيل أعوامًا كثيرة تشبيهًا بالدين، ولو أوقفه الحاكم لمستحقه كان قبضه عنده كقبض مستحقه على أحد القولين عندنا، وقيل: لا يكون كذلك. قوله: ((وإذا وجبت الزكاة فلم يخرجها حتى تلف المال لم يضمن)): قلت: ضياع مال الزكاة على نوعين: أحدهما: أن يضيع قبل زمان الوجوب، وهذا لا خلاف في سقوط الزكاة فيه، إلا أن يبقى ما تجب الزكاة فيه فتعتبر بنفسه. والثاني: أن يضيع بعد زمان الوجوب، فإما أن يقع التلف في قدر الزكاة خاصة، أو في جميع المال، فإن تلف جميع المال بعد وجوب الزكاة فيه، فإما أن يكون بتفريط، أو بغير تفريط، فإن فرط في ذلك بتأخير إخراجها مع الإمكان فهو ضامن. وإلا فلا ضمان عليه وكذلك لو عزل زكاته حتى يفرقها فهلكت بأمر من الله سبحانه بغير تفريط فلا ضمان عليه، هذا هو أصل المذهب، والقول الشاذ أنه يضمن بالتأخير بعد إمكان الأداء من غير تفصيل. ومبنى هذا الخلاف على أصلين: الأول: هل إمكان الأداء شرط في الوجوب أم لا؟. الثاني: هل الفقراء شركاء الأغنياء في عين المال أم لا؟. قوله: ((والدين مسقط للزكاة على قدر ما يقابله من العين)) إلى آخره. وهذا كما ذكره وهو أصل مذهب مالك -رحمه الله-. وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدهما: أن الدين مسقط للزكاة مطلقًا، والثاني: أنه لا يسقطها مطلقًا،

والثالث: هو قول مالك -رحمه الله- فيسقط زكاة العين دون زكاة الحرث والمعدن والحاشية، والدليل لها من طريق النص والمعنى. أما النص فما روى نافع عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا كان للرجل ألف درهم [وعليه ألف درهم] فلا زكاة عليه) وقال -عليه السلام-: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) والمديان (ليس بغني) لأن رب الدين قادر على انتزاع ماله من يده شرعًا، وصح أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-[كان] يأمر بأداء الديون عند الحول، لم ينظر هل بقي بعد أدائه ما تجب فيه الزكاة وذلك بمحضر الصحابة وأما المعنى فقد اعتبر فيها أصحابنا وجوهًا:

الأول: الدين مرتب عن عوض، والزكاة عن غير عوض فكان ما رتّب عن عوض أولى، وقابله آخرون بأنه إذا تقابل حقان: حق الله، وحق الآدمي، فترجيح حق الله أولى. الوجه الثاني: أنه لما قدم الدين على الوصية والميراث، وجب تقديمه على الزكاة لاشتراكهما في اللزوم، ومقتضى هذه الأدلة التسوية بين العين وغيرها من الحبوب والمواشي، إلا أن المشهور التفريق بينهما. واختلف الأشياخ في تعليل الفرق على المشهور، لأن العين خفي، والحبوب والمواشي على خلاف ذلك، فلو أسقط الدين زكاة الحرث والماشية مع ظهور الأمن في ذلك لتطرقت التهمة لأرباب المال أن يظهروا الديون لإسقاط حقوق الزكاة، وقال بعضهم: العمدة في ذلك على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده كانوا (يفتون) المال على الزكاة من غير تنبيه على اعتبار الديون. واختلف المذهب في مسائل تتعلق بذلك: المسألة الأولى: اختلفوا في جنس الديون المسقطة للزكاة، والقول الكلي فيه: إن كان ما ثبت في الذمة عن عوض، فهو مسقط للزكاة، فأما ما سواه ففيه تفصيل ونظر، من ذلك دين الزكاة، إذا فرط فيها، وفيها قولان في المذهب، ففي المدونة: إن دين الزكاة مسقط للزكاة، وقيل: لا يسقطها، فمن لحقه بسائر الديون أسقط الزكاة به لاشتراكهما في الوجوب،

والمعنى من رأى أنه يخرج بعد الموت من الثلث ضعف درجته عن درجة الديون الثابتة عن عوض. المسألة الثالثة: اختلفوا في مهور النساء ونفقة الأقارب، هل هي من جملة الديون المسقطة للزكاة أم لا؟ وفيه قولان في المذهب. والمشهور أن المهور غير مسقطة اعتبارًا بالعادة من حيث إنها لا تطلب غالبًا إلا وقت المشاحنة والقول الثاني كسائر اليون لثبوتها في الذمة عن عوض وكذلك اختلفوا في نفقة الأقارب كالأبناء والآباء، وفيه ثلاثة أقوال في المذهب: الأول: إنها مسقطة، والثاني: إنها لا تسقط، لأنها من باب المواساة. الثالث: إن قضى بها فوجبت سقطت الزكاة وإلا فلا. وفيه قول رابع: أن نفقة الأبناء تسقط مطلقًا، قضى بها أم لا؟ ونفقة الآباء لا تسقط إلا أن يقضي بها الحاكم، لأن نفقة الأبناء واجبة بالأصل، ونفقة الآباء بخلاف ذلك. قوله: ((إلا أن تكون هنا عروض تباع فتجعل بإزائه)): وهذا هو المشهور كما ذكرناه، وهو عام في كل الديون، فتجعل في العروض على الأشهر، وقد قيل: إن دين الزكاة لا يجعل في العروض، والأول أصح وأحوط للفقراء، وقال ابن عبد الحكم: لا تجعل الديون إلا في العين. وإذا قلنا: إن الديون تجعل في العروض، هل في عروض القنية والتجارة، أو في عروض التجارة خاصة ففيه قولان، فقيل: تجعل في جميعها، وهو المشهور لأنه تباع عليه فيه، وقيل: لا تجعل إلا في عروض التجارة فقط. والصحيح أن تجعل في كل ما يباع عليه، ولا تجعل فيما ستره، واختلف في

خاتمه. قال أشهب: لا يجعل دينه فيه، وكذلك اختلفوا في ثياب جمعته هل يجعل دينه فيه أم لا؟ بناء على الاختلاف هل تباع عليه في دينه أم لا؟ قال القاضي -رحمه الله-: ((وأما زكاة القيمة فهي (في كل) عرض ابتيع)) إلى آخر الفصل. شرح: اختلف العلماء في العروض هل تجب فيها الزكاة أم لا؟ وفي مذهب مالك أنها واجبة فيما كان منها للتجارة دون ما يراد للقنية، والدليل على صحته قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة) وإذا بنينا على مذهب مالك بما تخلص من العروض لأحد أمرين القنية أو التجارة، فحكمه ظاهر، فتسقط زكاة المخلص للقنية، وتجب الزكاة في المخلص للتجارة، وفي المشتري للتجارة والقنية قولان، كممن اشترى جارية للوطء والتجارة معًا فقيل: يغلب باب التجارة ترجيحًا لحق الله -عز وجل-، وقيل: تلحق بعروض القنية، ومبناه على اجتماع موجب ومسقط، فيقع النظر أيهما يغلب، فكذلك اختلفوا إذا اشتراه للغلة، فقيل: يزكي ثمنه ساعة يبيعه والمشهور أنه يستقبل بثمنه الحول لأنه من باب الفوائد. قوله: ((فما ابتيع من ذلك بنية القنية أو بغير نية التجارة فلا شيء فيه ولا في ثمنه)): وهذا كما ذكره لما تخلص فيه النية للقنية فحكمه ما ذكره لما ذكرناه من الحجة، وأما ما عرى عن النية حين الشراء فمحمول على أصل العروض، وهو القنية، فلذلك سقطت الزكاة، كما لو نوى به القنية. قوله: ((وإذا بيع (ثمنه) زكى لسنة واحدة)): وهذا كما ذكره، لأن

ذلك وقت نضوض المال الذي تعلقت بعينه. واختلف فيما اشترى من العروض للقنية فنوى به التجارة، والمشهور أنها لا تنقل إلى فرعها، إلا بالنية والعمل، وينتقل إلى أصلها بالنية فقط، وهذا كما ذكرناه. قال القاضي -رحمه الله-: ((والديون على ثلاثة أضرب)) إلى آخره. شرح: قال الإمام: الدين كل ما خرج عن يد المالك إلى ذمة فاستقر فيها. ثم هو بعد ذلك على ضربين: فيه ما يثبت في الذمة على ألا زكاة فيه البتة، ثم لا يخلو مالكه أن يكون مديرًا أو غير مدير، فإن كان مديرًا فسنذكره بعده. وإن كان غير مدير فقبضه بعد حول فأكثر لسنة واحدة إذا كان عن أصل يتعلق الزكاة به. واختلف المذهب في أصل وهو: هل الزكاة واجبة في الدين قبل قبضه، وإنما لم يخاطب بتعجيلها خيفة ألا يقبضها، أو هو كعرض التجارة لا تجب الزكاة ولا تتعلق به إلا بعد قبضه كما لا تجب في عرض التجارة إلا بعد بيعها وقبض ثمنها، وفي هذا الأصل قولان في المذهب وثمرة هذا الخلاف تظهر في مسائل: المسألة الأولى: إذا قبضه متفرقًا فقد قبض عشرة لا يملك غيرها، وقبض بعد ذلك عشرة أخرى هل يكون حولها من يوم وقت قبض الأخيرة أو يجعل حول كل واحد من يوم قبضها فيه قولان مبنيان على الاختلاف في الأصل المذكور. والثانية: إذا قبض عشرة فضاعت، ثم قبض أخرى هل تجب عليه الزكاة فيها بناء على اعتبار كل واحد بحولها، أو لا تجب بناء على أن المعتبر حول

الثانية، فيه قولان في المذهب، وقد قال سحنون: إن ضاعت بسببه فعليه الزكاة، وإن ضاعت بأمر من الله سبحانه فلا زكاة عليه، وهو جار على ضياع مال الزكاة، وقيل: يزكي الثانية بحصتها ولا زكاة عليه في (الثالثة) وله وجه. وله اقتضى عشرة فأنفقها، ثم اقتضى عشرة بعد ذلك وجبت الزكاة فيهما بلا خلاف لأنه نصاب واحد جمعه (المالك) في الحول، أنفق بعضه مختارًا، وإن كان الدين ثابتًا في الذمة عن أصل لا تتعلق الزكاة به مثل أن يكون ثمن سلعة قنية المراد بها التجارة، فلا يخلو أن تباع بدين أو بنقد. فإن بيعت بثمن نقدًا فحول ثمنه من يوم قبضها. وإن بيعت بثمن إلى أجل فاختلف المذهب متى يكون حولها على قولين: أحدهما: أن الحول من يوم قبضها، وهو المشهور كسائر الديون. والثاني: أن الحول من يوم البيع، لأن زيادة الأجل يوجب الزكاة في الثمن، فهو من نوع التجارة سيما إذا تبينت الزكاة فصار بمنزلة ما لو باعها بنقد، ثم اشترى بالثمن بعد قبضه، فالزكاة واجبة عليه بالقبض. وإن قبض الدين متفرقًا، فلا يخلو أن يكون قبض أولًا نصابًا فما فوقه، أو أقل من ذلك. فإن اقتضى أولًا نصابًا بنى عليه، وزكى ما اقتضى بعده من قليل أو كثير، وإن اقتضى أقل من نصاب، فلا زكاة عليه، إلا أن يكون عنده مال غيره قد حال عليه الحول، فيزكي حينئذ ما اقتضاه (من قليل)، أو كثير، ويضم ما قبض منه إلى ما عنده من مال غيره. واختلف المذهب في فروع من هذا النمط: الأولى: لو اقتضى من دينه عشرين دينارًا فزكاها، ثم اقتضى بعدها عشرة فزكاها فهل يبقى حول كل واحد على يوم زكاها، وأن يكون حول

الجميع من الثانية، فيه قولان، فقال ابن مسلمة: يكون الحول فيهما بعد حول الثانية، والمشهور كل واحدة على حولها، إذ هو الأصل. فلو اقتضى عشرة، ثم عشرة. فقال ابن القاسم: يكون حول الأولى يوم اقتضى ثانية، وحول الثانية يوم اقتضيت. وقال أشهب: حول كل واحدة يوم اقتضيت. قال ابن مسلمة: حول الجميع يوم اقتضيت (الثانية) ولو اختلطت أحوال الاقتضاء، فالمعول عليه أنه يضيف الأخرى منها إلى الأول تغليبًا لحق الفقراء ومراعاة لاختلاف العلماء، لأن أكثرهم يوجبون الزكاة في الدين وإن لم يقبض. والضمير في قوله: ((وابتياعه)) عائد على الدين، وصورة ذلك أن يشتري دينًا بعرض قنية، فيستقبل الحول بالدين بعد قبضه. قوله: ((أو (يكون معدنًا))): يريد لأن الحول لا يشترط في المعادن، فإذا اقتضى من دينه دون النصاب، وكان عنده ما يكمل النصاب به من مال حال عليه الحول أو من المعدن الذي لا حول فيه، كمل النصاب بذلك، وزكاه، ثم بنى عليه فزكى بعد ذلك ما يقتضيه من قليل أو كثير، وكان النصاب أصلًا يبنى عليه. قال القاضي -رحمه الله-: (((والمدير) ضربان: عارف بحول (ماله))) وقد ذكرناه حكمه. شرح: التجار على قسمين: محتكر ومدير، فالمحتكر لا زكاة عليه حتى يبيع، والمدير قسمان: مدير لا يبيع بالعين، ومدير يبيع بالعين والعروض معًا، ففي المدبر الذي لا يبيع بالعين البتة، قولان: أحدهما: أن حكمه حكم

المحتكر فلا زيادة عليه حتى يبيع بالعين، والثاني: أنه يقوم كما يقوم المدير، وأما المدير الذي يبيع بالعين والعروض معًا فحكمه التقويم، ويجعل لنفسه من السنة شهرًا فيقوم عروضه كلها المرادة للتجارة. واختلف الأشياخ في علة ذلك، فقيل: لأن حوله غير محصل ولا مظنون، وقيل: لأنه كما كثرت إدارة العروض في يده صارت بمنزلة العين. واختلف المذهب في الآلات التي انقطعت لعمله كانوا له، وزبرة الجداد ونحو ذلك، هل يقومه أولًا، بل يجعل عروض القنية، وكذلك اختلف المذهب فيما استغله أيضًا من الثمار والحب. وتحصيل القول فيه: أن ما استغله من ذلك إن كان مما يجتمع في زرعه وثمره نصاب زكاة الحبوب لم يقومه، إذا لا تجمع في زكاة عين، وزكاة قيمة، وأما ما لا تجب فيه الزكاة من ذلك، اختلف هل يقومه مع جملة عروضه أن لا؟ وفيه قولان في المذهب المشهور تقديم ذلك: إن كان مرادًا للتجار لا للاستغلال، وإن كان مرادًا لتفكه فلا يقوم البتة، إذ هو كالأغذية. وأما المرجو من ديونه الحالة فلا يخلو أن يكون من بيع أو سلف، فإن كانت من بيع، فقولان: المشهور احتسابها، لأنه من جملة النماء الذي هو علة في وجوب الزكاة في محلها المخصص، والشاذ أنه لا يحتسب ديونه لاحتمال التلف، وهو جار على مراعاة الطوارئ، وإن كانت من قرض فهل يحسبها أم لا؟، فيه قولان، المشهور أنه يحسبها كالوديعة وغيرها من مال المملوك الذي لا مقابل له، والشاذ أنه لا يحسبها بناء على ما ذكرناه. واختلف المذهب في فروع تتعلق بذلك: الأول: إذا قلنا: إنه لا يقوم إلا أن ينض له شيء من العين، فاختلف في قدره على قولين: المشهور أنه إذا نض له درهم واحد قوم، إذ به يحصل له اسم العين. القول الثاني: لا يقوم حتى ينض له مقدار نصاب الزكاة فما فوقة وهو أصح في النظر لأن ما دونه من العين لا تجب فيه الزكاة.

الفرع الثاني: إذ اعتبرنا حصول العين فهل يراعى حصوله في أي وقت كان أو في آخر الحول، لأنه وقت إخراج الزكاة، فيه قولان. الفرع الثالث: إذا قلنا: إن من يبيع العرض بالعرض من غير أن يتخلل بيعه عين، له حكم المدير فهل يخرج عرضًا بقيمته، أو يلزمه أن يخرج عينًا، فيه قولان، ولعله مبني على الاختلاف في جواز إخراج القيمة عن الزكاة. الفرع الرابع: إذا بارت عروض المدير فهل يعطى حكم المحتكر أو حكم المدير فيه قولان في المذهب، وفصل اللخمي فقال: إن بار جميع عروضه، أو أكثره فله حكم المحتكر بلا خلاف، وإن بار أقلها فهو محل الخلاف، وأجرى غيره فيه الخلاف مطلقًا. الفرع الخامس: اختلف الأشياخ في مدة البوار، فقيل: العامات فأكثر، وقيل: يحمل على العادة. الفرع السادس: إذا كان بعض عروضه بائرًا، وبعضها غير بائر، فإن تساوت أعطى كل واحد حكم نفسه وإن كان أحدهما تبعًا فثلاثة أقوال: أحدها: أن يعطى كل واحد حكم نفسه، الثاني: أن الأقل تبع للأكثر والثالث: التفصيل، فإن كان البائع هو المبار روعيت القيمة وعكسه تغليبًا لحق الفقراء. الفرع السابع: هل يقوم المدير من دينه ما كان طعامًا من بيع أو لا؟ فيه قولان، فقيل: يقوم ذلك، وقيل: لا يقوم، لأن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز.

قال القاضي -رحمه الله-: ((وتجب الزكاة في معادن الذهب)). شرح: الأصل في وجوب زكاة المعدن قوله -عليه السلام-: (ليس فيما دون خمس أوراق من الفضة الزكاة) الحديث، فدخل في ذلك المعدن وغيره، وفيه دليل على اشتراط النصاب فيه، وإنما لم يشترط فيه الحول قياسًا على الزرع والحبوب. ومن العلماء من اشترط ذلك فيه. وأقاويل العلماء فيه ثلاثة، فاشتراط الشافعي في المعدن الحول والنصاب، ولم يشترطها أبو حنيفة فرآى أنه يخمس. واشترط مالك النصاب دون الحول. قوله: ((ويبنى فيها (على) ما خرج من النيل الواحد)): تحصيل القول في هذه المسألة أن النيلين إما أن يكونا في معدن أو في معدنين، فإن كانا في معدنين قال ابن مسلمة وغيره: يضم النيل الثاني إلى الأول إذا اتصلا، فإن بلغا النصاب زكاها وإلا فلا زكاة عليه، وقال سحنون: لا يضم وإن كان في معدن واحد، واتصل أحد النيلين بالآخر أيضًا. وجب ضم

أحدهما إلى الآخر. واختلف المذهب في النذرة على ثلاثة أقوال: المشهور فيها الخمس وهو مذهب المدونة. وفي كتاب ابن سحنون تزكى، وقيل: إن كثرت ففيه الخمس، وإن قلت ففيه الزكاة. وحكى بعض المتأخرين من شيوخ عصرنا عن المذهب أنها إن احتاجت إلى تصفية زكيت، وإن لم تحتج إليها خمست وهذا فيه نظر لأنها إذا احتاجت إلى التصفية فليست بندرة. قوله: ((ولا زكاة في الركاز)): والركاز في اللغة هو من قولهم: ((ركزت الخشبة في الأرض إذا أثبتها))، كما أن المعدن مركز بالمكان الذي فيه. واختلف المذهب في حقيقة الركاز بناء على اختلاف أهل اللغة فيه. قال الخليل الركاز: اسم لما يوضع في الأرض، وإنما هو فيها من أصل خلقتها، وقال بعضهم: هو (مال دفنه دافن) وأما ما خلقه الله فيها من الذهب والفضة يوم خلق الله السماوات والأرض فهو معدن وليس بركاز، وقيل: دفن الجاهلية فقط. وفي المذهب ثلاثة أقوال، فقيل: كل ما دفنه

دافن في الأرض أي دافن كان، وقيل: إنه مختص بالذهب والفضة من دفن الجاهلية، وقيل: إنه مختص بدفن الجاهلية فقط عينًا كان أو عرضًا. واختلف المذهب فيه في مسائل: الأولى: إذا وجده من لا تجب عليه الزكاة كالكافر هل يخمس أم لا، بناء على أنه من باب الزكاة، أو من باب الأحكام المالية. الثانية: هل يشترط فيه النصاب أو يزكى قليله وكثيره على ما ذكره. الثالثة: ما يوجد من ذلك عرضًا هل يخمس أم لا؟ وفيه قولان في المذهب.

باب زكاة الماشية

باب زكاة الماشية قال القاضي -رحمه الله-: ((وتجب الزكاة في الماشية)) إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في زكاة الماشية ما خرجه مالك في موطئه أن ((أبا بكر الصديق كتب هذا الكتاب لما توجه إلى البحرين بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين والتي أمر الله بها)) الحديث خرجه البخاري وعليه الاعتماد وبه القضاء والاستناد، وعليه عمل الخلفاء الراشدين. وذكر القاضي مجيء الساعي مع الحول والنصاب، ولا خلاف أن الحول والنصاب شرطان في الوجوب. واختلف الأئمة في خروج الساعي هل هو شرط في الوجوب أو في الأداء، وفيه قولان عندنا أحدهما: أنه شرط في الوجوب كالحول، فإذا حال الحول على أرباب الماشية، ولم يخرج

السعاة، لم تجب عليهم الزكاة على هذا القول. والثاني: أن الزكاة واجبة لحلول الحول فقط، خرج السعاة أم لا قياسًا على غير الماشية من الأموال، والأول هو المشهور من المذهب تغليبًا للعمل الجاري في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده. وتظهر فائدة هذا الخلاف في مسائل وقعت في المذهب: المسألة الأولى: إذا حال الحول على الماشية فمات ربها قبل إتيان الساعي فقال في المدونة: لا تجب على رب المال زكاة بناء على ما ذكرناه. والقول الثاني: أن الزكاة واجبة عليه. الثانية: إذا تخلفت السعاة عن الخروج لعذر فأخرج أرباب الماشية زكان ماشيتهم هل تجزئهم أم لا؟ فيه قولان الأول: أنها لا تجزئهم لأنها حينئذ تطوع فلا تجزئ عن الفرض، الثاني: الإجزاء بناء على ما ذكرناه. الثالثة: إذا حال الحول ولم يخرج السعاة فمات المالك فهل يجب إخراجها، وإن لم يوص بها بناء على أنها وجبت بالحق، فكانت دينًا، ودين الله أحق بالقضاء، وقيل: إن أوصى بها كانت في الثلث غير مبدأة على غيرها من الوصايا، وقيل: تبدأ ترجيحًا لحق الله سبحانه. قوله: ((ولا زكاة في الإبل حتى تبلغ خمس ذود ففيها شاة)): قلت: قد قدمنا أن الاعتماد على زكاة الماشية على كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو كتاب ثابت عمل عليه الخلفاء. وأجمع المسلمون على القول بمقتضاه.

أول نصيب الإبل خمس ذود إلى عشرين ومائة، فلم يختلف في ذلك أحد من علماء الأمة واختلف أهل اللغة في تفسير الذود فقال ابن قتيبة: ما بين الثلاث إلى العشر وهو اسم جماعة الإبل قال: لو كان واحدًا لما جاز أن يقول: خمس ذود، وقال عيسى بن دينار: ((الذود واحد حكاه ابن مزين)). قوله: ((ففي خمس وعشرين بنت مخاض فإن لم يكن فابن لبون ذكر)): وهذا كما ذكره، وتحصيل القول فيه إما أن يوجد فيها بنت مخاض وابن لبون أو يفتقد أو يوجد أحدهما ويعدم الآخر، فإن وجدا معًا فالواجب عليه بنت مخاض اتباعًا للنص، فإن اتفقا على ابن لبون مع وجود بنت مخاض، ورأى الساعي ذلك نظرًا للفقراء ففيه قولان: أحدهما: جائز لأن الساعي وكيل عن الفقراء، فيتصرف لهم بالصلاح، وهو قول ابن القاسم

[الثاني]: أن ذلك لا يجوز عملًا بظاهر نص الحديث الذي قدمنا الاعتماد عليه في هذا الباب، وبناء على أن القسم في باب الزكاة (معتقدة). فإن عدما كلف ابنة مخاض، فإن تراضيا حينئذ على ابن لبون جرى فيه ما ذكرناه. وإن عدم أحدهما، ووجد الآخر أخذ الموجود إذ (هو) مقتضى النص. وقد اختلف في معنى قوله: ((فابن لبون ذكر)) فقيل: إن الصفة للتوكيد، وقيل: تنبيه على معنى الشرف والتعظيم. واختلف المذهب في مسائل: الأولى: إذا وجبت الغنم في زكاة الإبل أخرج المزكي من غالب الأغنام، وهل يعتبر غالب ملكه أو غالب ملك البلد فيه قولان: الأول: أصح، لأنه هو المخاطب بنفسه. الثاني: إذا وجبت عليه سن (فأخرج) فأفضل منها، أجزى ذلك إذا تراضيا عليه. وإن أعطى النقص من الواجب عليه وزاد (على) الفضل، أو أخذ الساعي أفضل، وزاد من مال الفقراء ثمنًا، فقيل: يجوز ابتداء، ويجزئ، وقيل: لا يجوز ولا يجزئ أصلًا، وقيل: يكره ابتداء وإن

وقع جاز. قوله: ((إلى عشرين ومائة)): وهذا كما ذكرنا (ما يجمع) عليه، فإذا زادت واحدة على العشرين ومائة، ففيها ثلاث روايات: أحدها: أن الساعي مخير في ذلك بين حقتين أو ثلاث بنات لبون وهو قول ابن القاسم، وقيل: ليس له إلا حقتان حتى تبلغ ثلاثين ومائة وهو قول المغيرة، وقيل: فيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ ثلاثين ومائة فيكون فيها بنتا لبون وحقه. قوله: ((ويتغير الفرض بزيادة عشر)): معناه: أنه إذا كانت مائة وثلاثين فيها بنتا لبون وحقه (وفي الأربعين ومائة حقتان وبنت لبون) وفي خمسين ومائة ثلاث حقاق. وفي الستين ومائة أربع بنات لبون، وفي السبعين ومائة ثلاث بنات لبون حقه، وفي مائتين أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، وفي ما زاد في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون. قوله: ((وفي تغييره بما دونها خلاف)): إشارة إلى الخلاف الذي قدمناه فيما إذا زادت واحدة على العشرين ومائة، وهو جار على ما لم تبلغ ثلاثين ومائة، فقد تغير الفرض بلا خلاف، والصحيح أن الفرض لا يتغير إلا بالعشر لقوله -عليه السلام-: (فما زاد ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقه). فعلق تغيير الفرض بالعشرة. قوله: ((فإذا قيل: بتغير الفرض، قال: يخير الساعي)): هذا إشارة إلى

تفصيل الخلاف الذي أجمله، فإذا قلنا: بالتخيير فقد تغير الفرض من حيث كان الواجب بالعشرين ومائة حقتان لا غيرهما، فإذا زادت انتقل الفرض إلى تخيير الساعي فقد زال تغيير الفرض بتخيير الساعي على هذا القول، وزاد على قول ابن القاسم بثلاث بنات لبون قطعًا وهذا من تغيير الفرض بما دون العشرة. قال القاضي -رحمه الله-: ((ولا زكاة في البقر حتى تبلغ)) إلى آخر. شرح: الأصل في زكاة البقر حديث معاذ: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا من كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارًا أو عدله (عرضًا)) قد خرجه النسائي. وذكر مالك في الموطأ: (عن حميد بن قيس عن طاوس: أن معاذ بن جبل أخذ من ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن أربعين بقرة مسنة وأتى بما دون ذلك

فأبى أن يأخذ منه شيئًا: وقال: لم أسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه شيئًا حتى ألقاه فسأله، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يقدم معاذ بن جبل). هذا هو الصحيح أن معاذ بن جبل قدم بعدما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأول نصاب البقر ثلاثون. هذا ما اجتمع عليه الجمهور، وشدت طائفة فقالت: في كل عشرين من البقر شاة إلى ثلاثين ففيها تبيع، وقيل: إذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين، والصحيح ما اجتمع عليه الجمهور أن أول نصاب ثلاثين ففيها تبيع. واختلف المذهب في مسائل: الأولى: في سن التبيع، فقال القاضي أبو محمد: سنه سنتان وقيل: الذي أكملهما، ودخل في الثالثة، وكذلك اختلف العلماء في سن المسنة فقيل: بنت ثلاث سنين وقيل: (الذي) أكملها ودخل في الرابعة.

واتفق المذهب على أنه لا يؤخذ في الأربعين إلا مسنة أنثى اتباعًا لنص الخبر. واختلفوا هل يجزئ من ثلاثين تبيعه أم لا؟ يؤخذ إلا تبيع ذكر، فيه قولان عندنا، فقيل: لا يؤخذ إلا الذكور قاله مالك. قال محمد: ويجوز أن يؤخذ التبيع أنثى إذا سامح بذلك ربها، وقيل: الخيار في ذلك للساعي. قال القاضي -رحمه الله-: ((ولا زكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين)). شرح: أول نصاب الغنم أربعين، ولا خلاف في ذلك إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاث مائة، فإذا زادت واحدة ففي كل مائة شاة، وهذا التقدير لا حظ له للمعنى، وتحديد لا يتلقى إلا بالتوقيف. واختلف المذهب في سن الجذع فقيل: ابن ستة أشهر وقيل: ابن ثمانية أشهر، وقيل: ابن عشرة، وقيل: ابن السنة الكاملة. والثني الذي دخل في السنة الثانية، والبخت والعراب نوع واحد والجواميس والبقر كذلك. والضأن والمعز نوع واحد، فإذا اجتمع نوع من هذه الأنواع ضم بعضها إلى بعض، هذا لا خلاف فيه، وشذ ابن لبابة فرأى أن الضأن

والمعز صنفان لا يجتمعان في الزكاة، والعرف خلافه. واختلف المذهب أيضًا في صفة الجذع من الشأن والثني من المعز، فقيل: لا يكونان إلا أنثى لأنه مقتضى نص حديث أبي بكر المرجوع إليه في هذا الأصل، وقيل: يجزئ الثني ذكرًا كان أو أنثى، وذلك موكول إلى خيار الساعي حيث يرى صلاحًا للفقراء. قوله: ((من غالبها)): إشارة إلى اجتماع النوعين، ولا يخلو النوعان أن يكونا متساويين، أو أحدهما أكثر، فإن كان متساويين فالساعي بالخيار أن يأخذ من أي نوع شاء، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر. فقال ابن القاسم: يأخذ من الأكثر، لأن الأقل تبع غير معتبر بنفسه، وقال محمد بن مسلمة: يأخذ من أيهما شاء. قوله: ((والعاملة والسائمة سواء)): وهذا صريح مذهب مالك أن الزكاة واجبة في العاملة والسائمة والمعلوفة اعتمادًا على نص قوله -عليه السلام-: (في كل أربعين شاة) ......................

وقدم العراقيون المفهوم على العموم فقالوا: لا زكاة في المعلوفة لأنها فائدة التخصيص. وجمهور العلماء على أن حول البنات حول الأمهات والعجاجيل والسخال في وجوب الزكاة فيها كالكبار لدخولها تحت مقتضى العدد المنصوص عليه. قوله: ((ويضم ما استفاد إليها من غير نمائها إلى نصاب إن كان عنده منها)): أصل المذهب أن فوائد الماشية بخلاف فوائد العين، وتفصيل ذلك: إن كانت الأولى نصابًا من الماشية، ثم استفاد نصابًا من جنسها، أو دون نصاب، فهل يضيف الفائدة الثانية إليها ويزكيها لحول الأولى، أو يستقبل بالثانية حولًا، فيه قولان في المذهب المشهور أنه يزكيها لحول الأولى، والقول الثاني: أنه يستقبل بالفائدة الثانية الحول، ولا يضيفها إلى حول الأولى. فإن كانت في الثانية نصابًا فإنه يجعل حولها من يوم استفادها، وإلا

انتظر تكميل النصاب فيها إن كانت أقل من النصاب واختلف شيوخنا في علة الفرق على طريقين فمنهم من قال: لأن العين لا سعاة لها فيزكي كل واحد على حولها بخلاف الماشية فيضيف، إذ لا يتكرر خروج السعاة في العام الواحد، ومنهم من فرق بينهما، لأنه يؤدي ذلك إلى مخالفة النصاب الشرعي مثل: أن يملك أربعين، ثم بعد نصف سنة يفيد أربعين أخرى، فلولا الضم لأخرج من ثمانين شاتين وهو خلاف السنة. واختلف في نوعين: الفرع الأول: هل يخرج الإمام السعادة عام الجدب أم لا؟ وفيه قولان. المشهور أنهم يخرجون، والشاذ أنهم لا يخرجون. الثاني: إذا طرق فحل الوحشي أنثى من أحد الأنواع الثلاثة، فكان النتاج فهل تجب (في الولد الزكاة) أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: وجوب الزكاة وإسقاطها، واعتبار الأم، فإن كانت وحشية لم تجب، وإن كانت من بهيمة الأنعام وجبت، لأن الولد تابع لأمه. قوله: ((ولا (زكاة) في الأوقاص)): وهذا هو المشهور كما ذكره. وقد اختلف المذهب في هذا الأصل وهو: هل الأوقاص مزكاة أم لا؟ وتظهر فائدة هذا الخلاف في الخلطة.

قوله: ((ولا يؤخذ في زكاة الماشية كرائمها)) إلى آخره. قلت: القول الكلي فيه أنها إن كانت كلها كريمة كلف الوسط، وكذلك إن كانت كلها رديئة، وإن تساوت أخذ منها غير تكليف الشراء، هذا أصل المذهب في الإتيان فإن طاع أرباب المواشي، فأعطى الأفضل، فالجمهور على الجواز، لأنه داخل تحت طيب النفس، وقيل: لا يجوز لقوله -عليه السلام-: (إياكم وحزرات الناس) وذلك عندما راجع إلى حال المشاحنة لا إلى المسامحة. قال القاضي -رحمه الله-: ((وللخلطة في الماشية)) إلى آخره. شرح: اختلف العلماء في تفسير الخلطة وهل هي مؤثرة، فقال بعضهم: الخلطة والشركة سواء فهو قول العراقيين، وقيل: الخلطة أعم من الشركة فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريك، والفرق بينهما أن الشريك لا يعرف عين ماله بخلاف الخليط. واختلفوا هل هي مؤثرة في الزكاة أم لا؟ والجمهور على تأثيره، وإنما تقتضي أن يزكي المالكان زكاة المالك الواحد والأصل في تأثيرها قوله -عليه السلام-: (وما كان من الخليطين فإنهما يترادان بالسوية). فأوجب -عليه السلام- التراجع بين الخليطين، وذلك يقتضي

التأثير. واختلف القائلون بتأثيرها في مسائل نتتبع فيها سياق القاضي -رحمه الله-. قوله: ((إذا كان لكل واحد منهما نصابًا كاملًا)): تنبيهًا على خلاف الشافعي، لأن مالكًا -رحمه الله- اشترط لتأثير الخلطة في الزكاة أن يكون في ملك كل واحد منهما نصابًا، ولم يشترطه الشافعي، والدليل لمالك قوله -عليه السلام-: (في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة) خرجه مسلم، وإذا كان كل واحد منهما مخاطبًا في نفسه بوجوب الزكاة في ماشيته، اشترط النصاب، لأن اجتماعهما لا يوجب سقوط النصاب في كل واحد منهما، إذا كان في المجموع نصابًا واحدًا من مسألة الخليطين أحدهما ذمي أو عبد، فهل يزكيان زكاة الخليطين أو زكاة الانفراد فيه قولان. فاللزوم من القول بأنهما يزكيان زكاة الخلطاء بناء على أن النصاب ليس بشرط من حيث إن الذمي غير مكلف بالزكاة، كما أن من لم يملك النصاب كذلك، فإذا غلب حكم الاجتماع، وجبت الزكاة في المحلين، ومبناه على اجتماع موجب ومسقط، هل يغلب الموجب أو المسقط وهذا الأصل فيه قولان عندنا. قوله: ((اختلطا في جميع الحول أو في بعضه)): وهذا كما ذكره، والأصل في ذلك ألا يكون اختلاطهما لقصد الاضطرار، بل الاستصلاح والإرهاق، وهل ذلك معتبر بالزمان، أو بالقرائن، فيه قولان في المذهب، وإذا قلنا: إنه معتبر بالزمان فقد اختلفوا في تحديده، فقيل: الشهران ونحوهما،

وقيل: الشهرة ونحوه، فإذا اختلطا قبل خروج الساعي بهذا المقدار من الزمان فهي خلطة مؤثرة والصحيح أن ذلك موكول إلى الاجتهاد، وما يظهر من قرائن الأحوال، لا إلى الزمان، فإن قصد الارتفاق والاستصلاح فهي خلطة تقدمت بالزمان الكثير أو القليل، وإذا فرغنا على مذهب مالك وهو اشتراط النصاب لكل واحد منهما، فاختلطا، فكان في مجموع ملكيهما نصابًا وليس لكل واحد منهما نصاب، فأخذ الساعي من أحدهما هل هي مصيبة منهما جميعًا، أو من صاحب الغنم الذي أخذ الساعي منها، فيه تفصيل، فإن قصد الساعي الغصب فهي ممن أخذها منه، ولا تراجع بين الخليطين في ذلك، لأنه ظالم له في ذلك، وإن رعى الاختلاف، ولم يقصد الغصب، فالمشهور التراجيع بينها، لأن الخلطة سبب في تأويل الساعي، فإن كان لأحدهما نصاب، وللآخر دون أن يكون يضر صاحبه بصاحب النصاب أم لا؟ فإن (أضر) به فهي مصيبة لمن أخذت منه والساعي ظالم له، فلا تراجع مثل أن يكون لإحداهما مائة وعشرة، وللآخر إحدى عشرة، وإن لم يضر به فقولان، المشهور عندنا، التراجع بين الخليطين إلا أن يتبين أن الساعي غاصب من غير تأويل، والشاذ نفى التراجع اعتبارًا بنقص النصاب. وإذا قلنا: بالتراجع بين الخليطين في ذلك، فقد اختلف المذهب في كيفية التراجع فيه على قولين، فقيل: يتراجعان في الشاتين وتكونان بينهما بالسوية، وقيل: في شاة واحدة، لأن التأويل إنما وقع فيها، وأما الشاة الواحدة فواحدة على صاحب النصاب من غير خلاف. ونظرة أشياخنا بما لو شهد أربعة بالزنا، واثنان بالإحصان، ثم رجعوا فالواجب عليهم الدية، فقيل: تكون على الشهود الستة على عدد الرؤوس، وقيل: تكون الدية عليهم نصفين: نصف على الشهود بالزنا، ونصف على شهود الإحصان لأنهم شركاء في (القتل) على السواء.

وذكر القاضي -رحمه الله- أن الخلطة تفيد تخفيفًا وتثقيلًا، وبين الصورتين بالمثال البين، والأمر في تأثير التخفيف أظهر، وصورة تأثيرها بالتثقيل أن يكون لأحد الخليطين مائة وعشرون وللآخر إحدى وثمانون فعليهما بالافتراق شاتان. فإذا اجتمعا كان عليهما ثلاث شياه لأنها مائتان وشاة وهو معنى نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الجمع والتفريق لقصد الاضطرار، فإن فعلاه غرما بنقيض قصدهما وأخذ بما كانا عليه قبل، هذا نص المذهب، وقد استقرئ من المذهب أنهما يؤخذان بحكم الخلطة أشار إليه اللخمي. قوله: ((وما به يكونان مختلطين هو أن يجتمعا في الراعي والمرعى والفحل والدلو والمسرح والمبيت)): تكلم في هذا الفصل (في واجبات) الخلطة، وبدأ بالراعي الواحد، فإن كان راعي الغنم واحدًا فهو أحد الشروط الخمسة، فإن اشتركت الرعاة وتعددت، فإما أن تدعو الحاجة إليهم أم لا؟ فإن دعت الحاجة إليهم لكثرة المواشي فاشتركوا في الرعاية بإذن الإمام فهو كالأول، فإن اشتركوا في رعاية المواشي من غير أن تدعو الحاجة إلى ذلك، فإما أن يكون بأمر أرباب المواشي أم لا؟، فإن كان بأمر من أرباب الأغنام ففيه قولان: المنصوص أن ذلك كالراعي الواحد، وروى بعض الأشياخ أن ذلك لا يكون كالراعي إلا مع دعو الحاجة إلى ذلك، وعلم أرباب المواشي به، وإلا فلا، وهو اختيار أبي الوليد الباجي. والمرعى: هو مفعل اسم لمكان الرعي. والفحل: هو الذكر الذي يطرق

إناثها، والدلو: هو آلة السقي، وفي معنى ذلك الاشتراك في ملك نفسه وفي ملك أرضه. واختلفوا في المراح، فقيل: هو مجتمعهما للراعي بالمشي عند انصرافها للبيت، أخذ من الرواح الذي هو ضد الغدو، وقيل: هو موضع إقامتها، والأول أشهر. واختلف المذهب في المعتبر من هذه الخمس. وتحصيل القول فيها أنها إذا اجتمعت كلها فلا خلاف في صحة الخلطة، وإن انفردت فاختلف المذهب في المعتبر منها على الأقوال الأربع التي حكاها القاضي -رحمه الله-: فقيل: المراعي أكثرها، وقيل: اثنان منها ما كانا، فقيل: الراعي لأنه الأصل والمرعى والدلو تبع له، وقيل: للراعي والمرعى والمقصود الاشتراك في المنفعة التي جعلت المالكين كالمالك الواحد. قوله: ((ولا خلطة في غير المواشي)): تنبيه على مذهب المخالف، لأن الماشية هي مظنة المعنى المقصود بالخلطة غالبًا، وبقيت مسائل تتعلق بالخلطة. المسألة قد ذكرنا اختلاف المذهب في الأوقاص هل هي مزكاة أم لا؟ وذكرنا أن فائدة ذلك تظهر في فروع منها: إذا كان لأحدهما تسعة من الإبل، وللآخر خمس هل يتساويان في الإخراج أو يتفاضلان على حسب الأجزاء فيه قولان عندنا، وكذلك لو كان بينهما مائة وعشرون شاة لأحدهما ثلثها وللآخر الثلثان ففيها شاة واحدة نصفها على صاحب الثلث ونصفها على صاحب الثلثين، ثم يرجع صاحب الثلث على صاحب الثلثين بسدس شاة لتحقيق التساوي بينهما في المواضعة. الثانية: من شروط صحة الخلطة أن يكون كل واحد من الخليطين مخاطبًا بالزكاة.

واختلف المذهب إذا كان أحد الخليطين ذميًا هل يزكي زكاة الانفراد، أو زكاة الخليط، فيه قولان عندنا، المشهور: أنه يزكي زكاة المنفرد إذا كان الذمي لا زكاة عليه بناء على أنه غير مخاطب بفروع الشريعة على المشهور. الثالثة: اختلفوا في خليط الخليط هل هو خليط أم لا؟ وصورة المسألة أن يكون لرجل أربعون وللآخر أربعون منها، خالط بها صاحب الأربعين، والأربعون الأخرى خالط بها رجل آخر، ففي هذه الصورة رواية مختلفة، الأصح منها أن الجميع خلطا فيزكون شاتين على كل واحد من أصحاب الأربعين نصف، فعليهما شاة، وعلى صاحب الثمانين شاة، فعلى الثلاثة شاتان على ما ذكرناه وهذه الرواية أعدل الروايات، فلذلك اعتمدنا عليها. قوله: ((ومن أبدل جنسًا من أموال الزكاة بجنسه لم تسقط الزكاة عنه كان بنوعه أو بخلافة)): وهذا كما ذكره، وتحصيل القول فيه: أنه إن أبدل نوعًا بنوع مثل: أن يبدل بقرًا ببقر وبجواميس أو غنم بمعز أو معز بغنم أو بختًا بعراب أو عراب ببخت، فإن أبدلها بماشية من غير جنسها كإبل بغنم أو بعكس، فهل يستقبل بالثانية أو يبني على حول الأولى ففيه قولان عندنا المشهور: الاستقبال بالثانية لاختلاف الجنس، والقول الثاني: البناء على حول الأول ويعد ذلك كالأرباح المعتبرة بحول أصلها. ولو باع ماشية بعين فهل يستقبل بعين حولًا، أو يبني على حول الماشية، فيه قولان الاستقبال نظرًا إلى الاختلاف والبناء نظرًا إلى أنهما معًا من جنس الزكاة. ولو باع ماشية بذهب ثم اشترى بالذهب ماشية، فهل يبني، أو يستقبل فيه قولان أيضًا إلا أن يفعل ذلك كله فرارًا من الزكاة، واحتيالًا على سقوطها عنه، فلا تسقط في جميع الصور إجماعًا.

قوله: ((ولا يخرج في الزكاة قيمة)): وهذا كما ذكره تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن أهل العراق أجازوا إخراج القيمة، بناء على أن المقصود الإرفاق وهذا داخل بالعين والقيمة، وعندنا أن المقصود الإرفاق، ولتشريك الفقراء في أعيان ما بأيدي الأغنياء لعدلهم.

باب زكاة الحرث

باب زكاة الحرث قال القاضي -رحمه الله-: ((وشرطها النصاب دون الحول)) إلى قوله: ((خمسة أوسق)). شرح: الأصل في زكاة الحبوب قوله تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} إلى قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} فهذا بيان للوجوب والجنس، إجمال في المقدار، وإذا قلنا: إنه بيان للوجوب تمسكًا بصيغة الأمر في محل الإتيان، وإنما قلنا: إنه بيان لجنس الوجهين: الأول: قوله: {معروشات} فبين جنس المزكى. الثاني: قوله {يوم حصاده} فخرجت البقول إذ ليست مما يحصد تنبيهًا لقوله -عليه السلام-: (ليس فيما دون خمسة أوسق من الحب صدقة) والبقول والخضروات ليست مما يكال. وقد اختلف علماء السلف في الحق المراد في الآية، فقيل: الزكاة بناء على أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وقال كثير من الصحابة ومن بعدهم: الحق المشار إليه هو (المواساة) منه والإحسان للقاصد إليه.

واختلف العلماء في الحبوب والثمار هل يشترط فيها النصاب أم لا؟ فقال الجمهور باشتراط النصاب فيها لمقتضى نص قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس فيما دون الخمسة أوسق الزكاة). وقال أبو حنيفة: لا يشترط النصاب في الحبوب لعموم قوله -عليه السلام-: (فيما سقت السماء العشر) وضعفه الجمهور لأن المقصود منه بيان المقدار المخرج، لا بيان القدر المخرج منه مع أنه عام والخاص يقضي على العام، ولم يشترط فيه الحول لقوله سبحانه: {وآتوا حقه يوم حصاده}. قوله: ((وهي واجبة في المقتاة وما يجري مجراه)): هذا هو أصل المذهب، وقد اختلفت الروايات فيه عندنا، فقال ابن الماجشون: الزكاة واجبة في كل شيء كالرمان والتفاح والسفرجل، والرواية الثانية: أنها تجب في كل مقتاة، متخذ للعيش غالبًا، والرواية الثالثة: أنها تجب في كل ما يخرج من الحبوب. والرواية الرابعة: أنها تجب في كل مقتاة، وإن لم يكن أصلًا للعيش كالتين ونحوه. قال ابن حبيب: يزكي بالأندلس، لأنها عندهم قوت، واختلف في زريعة العصفر، فقيل: يزكى، وقيل: لا زكاة فيه، وقيل: إن أكثر زيتها وجبت فيه الزكاة، وإن قل لم تجب، وكذلك اختلفوا

فيما لا يزبب من العنب وفيما لا يخرج زيتًا من الزيتون، وفيما لا يصير ثمرًا في النخل هل في ذلك كله زكاة أم لا؟، وفيه قولان عندنا: وجوب الزكاة وإسقاطها، وقد روي عن مالك في كتاب محمد إسقاطه في القطاني وكذلك اختلفت الرواية في حب الفجل والكتان هل فيه زكاة أم لا؟. وكل ذلك نظر في تنقيح مناط الحكم، لأن الشارع صلوات الله عليه قصد نص على التمر تنبيهًا به على مقتضى العلة الذي علق الشرع الحكم عليها وهي الاقتيات الغالب، إذ كان التمر غالبًا القوت بالحجاز، ثم تعلق أصحابنا بما ذكرناه من لفظ ((الحصاد)) والحب والكيل، وكل ذلك غير مطرد في البقول. قوله: ((وتجب الزكاة بطيب الثمر ويبس الزرع)): وهذا الأصل قد اختلف المذهب فيه على أربعة أقوال: الأول: هو المعتبر الذي حكاه القاضي -رحمه الله-. وهو المعروف عن مالك. قال مالك: إذا زها النخل، وطاب الكرم وأفرك الزرع فاستغنى عن الماء واسود الزيتون أو قاربه وجبت فيه الزكاة هذا نص المتقدمين من أصحابنا. الثاني: أنهما إنما تجب في الحبوب والثمار بالخرص وهو قول المغيرة. الثالث: أنها إنما تجب بالجداد وهو قول ابن مسلمة.

الرابع: أنها تجب ببدو الصلاح. والأول هو المشهور لأن الطيب واليبس نهاية الكمال، والصحيح الانتفاع، وأما من أوجبها فينزل الخارص منزلة الساعي، وزكاة الماشية إنما تجب بخروج الساعي على ما فيه من اختلاف. وأما من اعتبر الجداد فينزله منزلة الحصاد المنصوص على اعتباره في الآية ومن اعتبر بدو الانتفاع اعتبر بدو الصلاح. وتظهر فائدة ذلك الخلاف إذا مات رب الثمرة، أو باع في أثناء هذه الأحوال، فلا خلاف في وجوب الزكاة عليه إن باع بعد الجداد، وكذلك في الموت، ولا خلاف في سقوطها عنه إذا باع أو مات قبل بدو الصلاح، واختلف إن مات في أثناء ذلك على الاختلاف المذكور. فرع: إذا باع الثمرة بعد وجوب الزكاة عليه، وقبل إخراجها فهل يرجع المصدق على المشتري إن وجد الثمرة بعينها أو يتبع البائع، ولا شيء على المشتري، فيه قولان. قال ابن القاسم: يرجع المصدق على المشتري، لأن الزكاة متعلقة بالعين، فلم يرجع المشتري على البائع إذا أيسر. وقال أشهب: يتبع المصدق للبائع ولا شيء له على المشتري، لأن الوجوب متعلق بالبائع. فرع: إذا باع الثمرة بعد وجوب الزكاة عليه، فاشترط الزكاة على المشتري للقدر الواجب عليه وهو نصف العشر. قوله: ((وكل جنس معتبر بنفسه)): وهذا كما ذكره والأصل في ذلك تقارب المقصود، واتفاق المنفعة المقصودة غالبًا، والمنصوص عندنا أن القمح والشعير والسلت صنف واحد، وقيل: هما صنفان، ووافقه

بعض المتأخرين كالسيوري وغيره. واختلف المذهب في القطاني فقيل: إنها صنف واحد في الزكاة والبيوع وقيل: إنها أصناف مختلفة. والقول الثالث: إنها صنف واحد في الزكاة تغليبًا لحق الفقراء، واحتياطًا لهم، وأصناف مختلفة في البيوع، وقد كان مراعاة جانب الاحتياط في البيوع يوجب كونها جنسًا واحدًا احترازًا من الربا. قوله: ((وإذا (كان) نوعًا واحدًا أخذ الزكاة منها)) إلى آخره. قلت: الأصل في أخذ الزكاة من العين الذي تعلق منها الوجوب، فإذا كانت العين نوعًا واحدًا فلا إشكال حينئذ، وإن كانت أنواعًا مختلفة فالوسط عدل بين الفقراء، وأرباب الأموال هو مقصود الشرع، وقيل: يؤخذ من كل نوع بقدره كما ذكره القاضي، وهو سديد، اعتبارًا لكل عين بنفسها، كذلك وقع في كتاب محمد وقد قيل: إذا كان كله جيدًا أخذ منه، وإذا كان كله رديئًا أخذ منه، ولا يكلف المزكي أن يأتي بما ليس عنده رفعًا للحرج والمشقة. قال القاضي -رحمه الله-: ((والنصاب خمسة أوسق)) إلى قوله: ((ويخرص الرطب)). هي ستة أقفزة، وربع قفيز بإفريقية. والواجب فيه معتبر بسقيه فما احتاج إلى آلة كالدلو وغيره، ففيه نصف العشر تخفيفًا على أرباب الأموال،

وما شرب سيحاً أو بعلًا أو من ماء السماء والعيون ففيه العشر بلا خلاف إلا أن يكون رب الأرض لا يملك ذلك، وإنما يشرب بالثمن، فهل يجري مجرى أصله، أو مجرى ما يسقى بالدلو فيه قولان عندنا، فقيل: فيه نصف العشر، لأن شراءه بالثمن يتنزل منزلة الآلات، وقيل: فيه العشر اعتبارًا بأصله، ولأن المؤنة ربما كانت فيه أحف من المسقى بالدلاء، فإن سقى بالأمرين بالنضح والسماء ففيها تفصيل، إن كان أحدهما أكثر فثلاثة أقوال: أحدها: اعتبار الأكثر، فيعطى حكمه بناء على أن الاتباع غير مراعاة (بنفسها) وهو الذي حكاه القاضي. والثاني: كل واحد بنفسه. والثالث: النظر إلى (الأخير) (منهما) لأن به حيي الزرع، فإن حيي بماء المطر فالعشر، وإن حيي بماء الدلاء والسواني، فنصف العشر، وإن تساوى الحال فيهما، فإن سقى بهما معًا سقيًا واحدًا ففيه قولان في المذهب، فقيل: الواجب فيه ثلاثة أرباع، وقيل: المعتبر الأخير الذي حيي به الزرع. قال القاضي -رحمه الله-: ((ويخرص الرطب والعنب)) إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في الخرص أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بعث عبد الله بن رواحة

إلى يهود خيبر للخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي فكانوا يأخذونه) الحديث. وخرج الترمذي في حديث: (عتاب بين المنذر بن الأسد) أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم) وخرج أيضًا من حديث سهل بن أبي حثمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (إذا خرصتم فخذوا ودع الثلث فإن لم تدع الثلث فدع الربع) وهذا رد على أبي حنيفة حيث قال: الخرص باطل لأنه قال من باب المزابنة إذ فيه بيع التمر بالتمر كيلًا وتأولوا قصة أهل خيبر، وقد ذكرنا ذلك في شرح الحديث، ولا خلاف في مذهب مالك في جواز خرص النخل والعنب، واختلف مذهب مالك هل (يخرص) الزيتون والزرع إذا احتاج أهله إلى الأكل منه أم لا؟ فقال ابن الماجشون: يخرص ذلك عليهم، وقال ابن

عبد الحكم، وقال داود بن علي: لا خرص إلا في النخل إذا أزهت وأمنت (من) العاهات، لأنه الذي كان غالبًا تختبر حينئذ. واختلف أشياخ المذهب في علة منع خرص الزيتون، فقيل: لأن أوراقه تستره، وقيل: لأنه لا يؤكل رطبًا بخلاف النخل، وإذا قلنا بالخرص فقد اختلف المذهب، هل هو شهادة فلا يكفي فيه أقل من خارصين، أو حكم فيكتفي فيه بخارص واحد، وفيه قولان في المذهب، وكذلك اختلفوا في القائف والطبيب وحاكم الجزاء في الصيد. وحديث عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف أصل في ذلك. واختلف المذهب هل يخفف عن أصحاب الثمار في الخرص للغرباء والضيف أم لا؟ وعندنا فيه قولان، فقال في المدونة: لا يترك لهم شيء، وقال ابن حبيب: يخفف عنهم وهو الصحيح اتباعًا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك. وإنما بنى في المشهور على أن الزكاة وجبت بالطيب، فلا يجوز إسقاط الواجب، ولا شيء منه. قوله: ((ولا تضر مخالفة الوجود للخرص)): هذا إذا ثبت على غلط

الخارص. وتحصيل القول فيه: أنه إن لم يكن عارفًا بالخرص، فالرجوع إلى ما تبين لا إلى قوله. وإن كان من أهل المعرفة، ثم تبين أنه أخطأ فزاد أو نقص فهل يؤخذ بقوله أو بما تبين، فيه قولان في المذهب مبنيان على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ والخلاف فيه مشهور. قال الشيخ أبو القاسم: إذا كان الإمام عدلًا، والخارص عدلًا فالخرص حكم متبع لا سبيل إلى نقصه في الزيادة والنقصان، فلا ينقص الزكاة مع النقص، ولا يزاد مع الزيادة، وإن كان الإمام والخارص جائرين زكى رب المال على ما وجد، وروى عن مالك أنه إذا زاد الخرص فأحب إلى أن يؤدي عن الزيادة، قال بعض القرويين: أحب بمعنى أوجب، وقال غيره: هو على ظاهرة، ثم تكلم القاضي على ما لا يزبب من العنب، ولا يثمر من البسر، وجعل المثل والثمن في ذلك كالعين. واختلف فيما يستعمل (منه زيت) إذا بيع قبل تناهيه فقيل: يخرج زكاة من ثمنه، وقيل: من حبه أو دهنه. حكاه الشيخ أبو القاسم. ثم تكلم على الخضروات والبقول والخلاف في ذلك مشهور، وقد تقدم من ذلك ما فيه كفاية.

باب زكاة الفطر

باب زكاة الفطر قال القاضي -رحمه الله-: (((وزكاة الفطر) تلزم الرجل عن نفسه)) إلى آخر الباب. شرح: اختلف العلماء هل مأخذ زكاة الفطر من الكتاب والسنة، أو من السنة فقط، فقال بعضهم: إن الكتاب دال عليهما عمومًا وخصوصًا. أما من جهة العموم فلدخولها تحت عموم قوله سبحانه: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة] [البقرة: 43]. وأما من جهة الخصوص فلقوله تعالى: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} الآيات [الأعلى: 14 - 15]. والمراد زكاة الفطر، وصلاة العيد، وقيل: إن وجوبها (من السنة) ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حرًا، أو عبدًا، رجلًا، أو امرأة، صغيرًا أو كبيرًا صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير) هذا خرجه مسلم، ومن العلماء من ذهب إلى أنها منسوخة بالزكاة المفروضة، وعن قيس بن سعد قال: أمرنا

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهانا، ونحن نفعلها وكنا نصوم عاشوراء فلما قرض شهر رمضان لم يأمر ولم ينه). وأمر الله سبحانه (بها) لحكمتين: الأولى: أن تكون طهرة تقرب للصوم. الثانية: إغناء الفقراء عن سؤال يوم العيد، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (أغنوهم عن سؤال هذا اليوم) وفي مذهب مالك -رحمه الله- في حكم هذه الزكاة قولان فقيل: هب واجبة، وقيل: هي مسنونة، وروى عن مالك أنها فرض بالقرآن لدخولها تحت عموما قوله في الآية المقتضية وجوب الزكاة، وتأول بعض المالكية ((فرض)) في حديث ابن عمر بمعنى ((قدر)) لا بمعنى ((وجب)). قوله: ((تلزم الرجل عن نفسه)): هذا كما ذكره سواء كان (مالكًا لنصاب) أم لا. عندنا إذا كان له فضل عن قوت يومه، وإن لم يجد إلا قوت يومه لم يلزمه إخراجها. هذا أصل المذهب. وقد اختلفت الروايات عندنا، فوقع في المذهب إن كان من يجوز له أخذ زكاة الفطر لا يجب عليه إخراجها، وقال عبد الملك بن الماجشون في المبسوط من حلت له سقطت عنه، وفي

كتاب محمد: قيل: من له عشرة دراهم، فأخرج زكاة الفكر أيأخذ منها؟ فقال: يخرج، ويأخذ إذا كان هكذا فلا يأخذ منها. قال القاضي أبو محمد يخرجها الفقير ما لم يلحقه ضرر بإخراجها، وإفساد (معاشه) وجوعه وجوع عياله. وقيل: تجب على من يحجف به إخراجها، وقيل: من قدر على أن يتسلفها ويخرجها وجب عليه إخراجها، هذه رواية وقعت في المذهب ولعلها تكون على حسب الأحوال، والأصل ما ذكرنا، ولا خلاف عندنا أنه يؤمر بإخراجها عمن تلزمه نفقته من الآباء والأبناء والفقراء، وهل يخرجها عن زوجة أبيه أم لا؟ فيه قولان مبنيان على وجوب الإنفاق عليه في ذلك، والصحيح أنه ينفق على زوجة أخيه، ويخرج عنها زكاة الفطر كما يجب عليه أن يزوجه إذا خاف العنت. واختلف المذهب إذا كان للأب الفقير زوجتان هل يلزم الولد الإنفاق عليهما، وإخراج زكاة الفطر عنهما أم لا؟ فيه قولان مبنيان على تحقيق المناط. ويخرج زكاة الفطر على ولده الصغار الفقراء بلا خلاف. وأما الكبير الزمن الفقير فهل يجب إخراجها عنه كما يجب عليه الإنفاق لعجزه عن الكسب أم لا؟. فيه قولان عندنا. وأما الزوجة فإن كانت مدخولًا بها فالمشهور أنه يخرج عنها زكاة الفطر تبعًا للنفقة، وروى ابن أشرس عن مالك أنه لا يخرج عنها إن أبى ذلك، لأن النفقة في مقابلة الاستمتاع فهي كالأجير، وإن كانت (مدخولًا) بها وجبت عليه زكاة الفطر

حيث تجب عليه النفقة، وذلك بالتمكين والدعاء إلى الدخول، وبلوغ الزوج، وكون الزوجة ممن يستمتع بمثلها. واختلف المذهب في اليتيمة على قولين، فقيل: النفقة وزكاة الفطر واجبتان على الزوج بالعقد، وقيل: هي كغير اليتمية، وكذلك يلزمه إخراجها على خادمها إن كانت ممكن يليق بها ذلك، ولو احتاجت إلى خادمين (لمنصبها وشرفها) هل يقضى عليه بنفقتها، وصدقة الفطر عنهما أم لا؟ فيه قولان مبنيان على العادة. واختلف المذهب في العبد المعتق بعضه على ثلاث روايات، فقيل: صدقة فطره على سيده وقيل: عليه بقدر حصته، وعلى العبد بقية ما ينوبه، وقيل: على السيد بقدر حصته، ولا شيء على العبد والمدبر والمعتق إلى أجل وأم ولد كالعبد المعتق. واختلف المذهب في المكاتب فقيل: على سيده مراعاة للملك، وقيل: على نفسه مراعاة للنفقة، وكذلك اختلف المذهب أيضًا في المخدم، فقال في المدونة زكاة فطره على المالك، وفي كتاب محمد على من له الخدمة. وقال ابن الماجشون إن قلت الخدمة فعلى المالك وإن كثرت فعلى المخدم وكذلك (العبد يشترى بمال) القراض فقيلك صدقة فطرهم من رأس المال كنفقتهم، وقال ابن القاسم: صدقة فطرهم على رب المال من ماله لا من مال القراض ونفقتهم من مال القراض وقيل: إن كان في القراض ربح فزكاة فطرهم منه، فإن كان فيه ثلث فعلى المالك سدس

زكاتهم وإن كان الربع فعلا العامل الثمن إن قارضه على النصف. واختلف المذهب أيضًا في العبد المشترك بين جماعة، والمشهور أن على كل واحد نصيبه، فروى عن مالك أن لكل واحد بقدر نصيبه، وروى عن مالك أن على كل واحد من الشركاء الفطر كاملة، وأنكر سحنون هذه الرواية لما فيها من الحيف على الشركاء. قوله: ((وقدرها صاع (من غالب قوت) والبلد وقوت المزكي نفسه))، وقد روى عن مالك أنه يخرجها من الحنطة نصف صاع لورود ذلك في مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب، والأصح التعويل على حديث ابن عمر، ونبه القاضي بقوله: ((ولا ينقص من صاع من أيها أخرجت)) على هذه الرواية الشاذة. قوله: ((وتجب بغروب الشمس)) قلت: اختلف في وقت وجوبها، فقيل: إنها تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، لأنها زكاة فطر، فتجب عند انقضاء زمن الصوم، ودخول زمن الفطر ووجوب الصوم ينتفي بمغيب الشمس، ولأنها مطهرة للصوم فتجب بختامه، وقيل: بطلوع الفجر من يوم الفطر وهي رواية ابن القاسم لأن الفطر إنما يعتبر في محل الصوم، والليل ليس بمحله، فيتعلق الوجوب بطلوع الفجر الذي هو عار من الصوم شرعًا، ولأنها مضافة إلى اليوم، فتجب بافتتاحه، وهي رواية أشهب عن مالك، وقيل: بطلوع الشمس من يوم الفطر لأنه وقت إرفاق المساكين وقيل: وقت وجوبها موسع إلى غروب الشمس من يوم الفطر توسعًا خفيفًا.

وتظهر فائدة هذا الخلاف إذا ولد مولود في أثناء هذه الأوقات، أو باع العبد أو ابتاعه، أو مات فيما بين هذه الأوقات هل تخرج عنه هذه الزكاة أم لا؟ ولو قدم إخراجها قبل وجوبها فقال مالك: إن أخرجها بيوم أو بيومين فلا بأس به، وهو اعتماد على عمل ابن عمر يتحقق فيه التوسع على الفقراء بطحن القمح وتيسره والانتفاع به. وقال ابن مسلمة وابن الماجشون: لا تجزئه فإن فاتت بيد آخذها وجبت عليه تكريرها، وإن كانت قائمة استرجعت من يده، وقد تقدم الكلام فيمن تجب عليه بما فيه كفاية.

باب في قسم الصدقات

باب في قسم الصدقات قال القاضي -رحمه الله-: ((ومصرفها في الأصناف الثمانية)) إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في مصرف الصدقات قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية [التوبة: 60] فبدأ سبحانه بكلمة الحصر التي هي لتحقيق المتصل، وتحقيق المنفصل (أبدانا) وإعلانًا بأنها لا تخرج في غير هذه الوجوه. وقد اختلف أهل اللغة في الفقير والمسكين هل هما اسمان على مسمى واحد أو على معنيين مختلفين؟، فقيل: هما بمعنى واحد، وقيل: هما مختلفان، وعلى هذا أيضًا اختلفوا أيهما أسوأ حالًا فقيل: الفقير، وقيل: المسكين (والاحتجاجات) على ذلك من اللغة معلومة في موضعها. وقد اختلف العلماء هل هذه اللام في قوله سبحانه: {للفقراء} لام الملك أو لام المصرف، فمن رأى أنها للملك، رآى أن كل واحد من هذه الثمانية مالك لحظة من الصدقة، فلا يخص به أحد من الأصناف دون أحد فمن رآى أنها لازم المصرف جعل للإمام النظر (في ذلك) بحسب المصلحة، فإن أراد أن يخص أحد الأصناف الثمانية لمقتضى المصلحة جاز. والعاملون عليها جباتها وسعاتها، ومعناها: ويأخذون بقدر عملهم إن كانوا فقراء، وإن كانوا

أغنياء فهل يأخذون منها قولان، المشهور أنهم يأخذون بحكم الإجارة، وروى ابن القاسم أن الغني لا يأخذ عائلًا أو معالًا، وكذلك إن كان العامل عبدًا، أو نصرانيًا، فمنع ابن المواز من ذلك فقال: لا يعطون شيئًا. وأجاز (محمد) بن نصر الداودي فقال: يعطون أجرتهم منها. واختلف العلماء في {والمؤلفة قلوبهم} فقيل: حكمهم (منسوخ الآن لقوة الإسلام وهو قول القاضي. وقيل: حكمهم) باق إلى الآن وهم قوم استجلبوا ولم يتمكن الإسلام في قلوبهم فكان -عليه السلام- (يستلفهم) بالعطاء، وقيل: بل هم كفار كان -عليه السلام- يطعمهم رجاء إسلامهم وإسلام قومهم. واختلف العلماء في تفسير: {وفي الرقاب} فقيل: إعانة المكاتبين في آخر نجومهم لتخليص رقابهم، وقيل: ابتداء العتق وهو الذي حكاه القاضي. وأجاز ابن عبد الحكم أن تفك من الصدقة الأسارى، وأدخله تحت قوله: {وفي الرقاب} والمشهور أنه لا يجوز، وكذلك اختلف المذهب هل يجوز أن يعتق من الزكاة بعض عبد أم لا؟ وفيه قولان عندنا،

وكذلك عبد العبد. {والغارمين} هم المديانون في غير سفه، فإن أقلعوا عن السفه والفساد بعد أن أدركتهم الديون في ذلك فهل يعطون من الزكاة تجليبًا للطاعة إلى قلوبهم أم لا؟ لأن أصل الدين إنما ركبوه عن معصية، فيه قولان عندنا، فإن كانوا مستمرين على الفساد غير مقلعين عنه لم يعطوا الزكاة إجماعًا، واختلف المذهب فيمن مات وعليه دين لا يجب قضاءه هل يؤدي عنه دينه من الزكاة أم لا؟ فيه قولان في المذهب وقال: (فدين الله أحق أن يقضى) واختلفوا فيمن بيده من المال ما يؤدي منه دينه إلا أنه يعفى بأدائه فلا يسأل الناس، هل يعطى من الزكاة إبقاء للتعفيف من المسألة أم لا؟ فيه قولان عندنا. ((وسبيل الله)): هو الجهاد والرباط، وقيل: هو الحج والعمرة، والأول قول مالك قال ابن عبد الحكم: يجعل منها نصيب في السلاح والمساح والقسي لحفر الخنادق والجبال لعمل المنجنيقات.

وإنشاء المراكب للغزو ويدفع منها كراء النوانية ويعطى منها جواسيس المسلمين على الكفار، مسلمين كان الجواسيس أو نصارى وهذا كله من سبيل الله. {وابن السبيل} هو الغريب المنقطع به لفقره إذا كان سفره غير معصية، واختلف المذهب إذا كان غنيًا ببلده، ووجد من يسلفه هل يكلف بالسلف فيكون بذلك غنيًا، قاله مالك في كتاب ابن سحنون أو لا يكلف (سعاية) السلق قاله ابن عبد الحكم، ولما يخاف من تلف ماله، وبقاء الدين في ذمته. قوله: ((ولا يجوز نقلها عن موضع وجوبها)): فهذا كما ذكره لقوله -عليه السلام-: (تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم) فإن كانت الحاجة أشد نقلت إليهم على الأشهر رعيًا للمصلحة. قوله: ((كره، وجاز)): يعني كره ابتداء، وجاز وقوعًا، ولو قال: وأجاز كان من جاز. قوله: ((ولا يجوز صرفها إلا للمسلمين)): تنبيهًا على مذهب المخالف، وقد أجاز بعض العلماء أن يعطى فقراء الكفار من الزكاة لعموم قوله: {للفقراء} وكذلك اختلفوا هل يشترط مع الفقر الحرية والجمهور على

اشتراطه، لأن العبيد أغنياء لسادتهم. قوله: ((ولا في غير الأصناف المذكورة)): اعتبارًا بنص الآية. قال مطرف رأيت مالكًا يعطي لقرابته من زكاته. وفي المدونة لا يعجبني أن يلي ذلك بنفسه. وقال مالك وابن أبي ذئب والثوري، والنعمان وأبو يوسف أفضل من أعطيته زكاتك أهل رحمك الذين لا تعول، قال ابن حبيب: وله أن يوسع عليهم إذا كان فيهم التعفيف والصلاح. قال القاضي -رحمه الله-: ((يكره دفع جميع الزكاة إليهم))، فإن فعل أجزأته. وكره (مالك) له تفريق زكاته بنفسه لقرابته أو لغيرهم خوف المحمدة. قال القاضي -رحمه الله-: ((ويعشر أهل الذمة)) إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في تعشير أهل الذمة إذا اتجروا فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بمحضر الحصابة ولا مخالف له في ذلك. واختلف المذهب

هل يؤخذ منهم هذا العشر لحق وصولهم إلى غير (بلدهم)، أو لحق انتفاعهم بالتجارة وفيه قولان عندنا، وينبني على ذلك إذا دخلوا ببضاعة فأرادوا الرجوع قبل أن يبيعوا ويشتروا. قال ابن القاسم: لا عشر عليهم إلا بالانتفاع. وقال ابن حبيب: عليهم العشر، وإن رجعوا به على حاله لحق وصولهم إلى القطر، وعلى قول ابن القاسم عول القاضي حيث قال: ((بعد أن (يحصل) لهم غرضهم)) ولا خلاف أن العشر يتكرر عليهم بتكرير الرجوع في السنة الواحدة، ولو ألف مرة. واختلف المذهب في فروع (تتعلق بذلك). الأول: هل المسلمون شركاء لأهل الذمة في الأعيان، أو في الأثمان فيه قولان عندنا. وتظهر فائدة ذلك إذا قدم تجار بإماء. قال ابن حبيب: يمنعون من وطئهن واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن بناء على أن الشركة في الأعيان. وابن القاسم لا يرى المنع. فرع: إذا قدم تجار بخمر أو خنزير أو نحو ذلك مما لا يجوز للمسلمين تمليكه، فإن أرادوا بيعه من أهل الإسلام منعوا من ذلك بلا خلاف، وإن أرادوا بيعه من أهل الكفر، فهل يمكنوا من ذلك أم لا؟ فيه قولان. المشهور أنهم يمكنون فإذا باعوا أخذ منهم عشر الثمن. وإن خاف الإمام خيانتهم جعل عليهم أمينًا، وقيل: لا يمكنون من بيع ذلك بحكم الإسلام. فرع: قال سحنون: إذا اشترى الذمي فأخذ منه العشر، ثم استحق ما بيده أورده بعيب رجع بالعشر. فرع: إذا ثبت أن على الذمي دينًا لمسلم، فباع له وقاصه في دينه فهل

يؤخذ منه العشر أم لا؟ ففيه قولان لأصحاب مال، والصحيح الأخذ لأنه انتفاع، وقال أشهب: لا عشر عليه في هذه الصورة. فرع: أخذ العشر عام في كل الأشياء، وفي كل قطر إذا وصلوا به إلى المدينة، فقيل: يؤخذ منه العشر، وقيل: نصف العشر ليكثر الحمل إلى المدنية، وهو الذين فعله عمر بن الخطاب. فرع: الحربيون إلى الإمام فإن شاء صالحهم على العشر أو على أكثر منه، وقيل: هم كتجار أهل الذمة والأول أصح.

كتاب الصيام

كتاب الصيام قال القاضي -رحمه الله-: ((الصوم الشرعي هو إمساك جميع أجزاء النهار بنية قبل الفجر، أو معه إن أمكن)). شرح: الصيام في اللغة هو الإمساك. قال الله تعالى: {إني نذرت للرحمن صومُا} [مريم: 26] وقال الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما وقال امرؤ القيس:

فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النها وهجرا وهو في الشرع: إمساك مخصوص عن شيء مخصوص في وقت مخصوص بنية التقرب إلى الله -عز وجل-. وأدخل القاضي -رحمه الله- في حده مكروهة ومانعة ومصححة، وذلك كل تركيب في الحد. والمقصود في ظاهر الشريعة كسر النفس عن شهواتها ومنعها عن محبوباتها وملاهيها وفي باطنها التشبيه بالذوات المالكية الروحانية تتغذى غذاء خارجًا عن غذاء الأجسام (لكهفة) وذلك (لاقتصاص) المتجليات الإلهية الربانية (الواردات) بواسطة صفاء القلب وانفصل اللذة. والمقصود صوم رمضان، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} إلى قوله: {أيامًا معدودات} [البقرة: 183]. فاختلف في المراد بالأيام فقيل: أيام رمضان لقلة نسبته إلى جميع العام وقيل: إلى الأيام البيض، وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر غير معينة، وقيل: المقصود به يوم عاشوراء

وتكرير مجيئه كتعديداته فلذلك جمعها، وثبت وجوبه قولًا وفعلًا وإجماعًا من كافة أهل الإسلام من جحد وجوبها فهو كافر، والمقر بذلك الممتنع من فعله غير كافر، ويجبر على الصوم بأن يتعلق عليه في بيته، ويحال بينه وبين المفطرات، فإن شهر هذا (فأكل) فهل يقتل أو (يعذر). اختلف العلماء فيه، والذي قدمناه في تارك الصلاة جار فيه، والمختار أنه يعذر ولا يقتل، وقد قيل: يقتل كفرًا كتارك الصلاة مقرًا بأصلها، وهو قول أحمد بن حنبل وأصحابه، ورواية ابن حبيب عن مالك وقيل: يقتل حدًا لا كفرًا. هكذا قدمناه تارك الصلاة. ونص أشياخ المذهب على أن حكم ترك الصيام حكم ترك الصلاة. والأولى بنا أن نتبع مساق القاضي لأن ذلك أهم من التفريع بالتنبيه إلى مقصود الكتاب. قوله: ((أو معه إن أمكن)): قيد بالشرط، لأن المقارنة قد تتعذر غالبًا. قوله: ((فيما عدا (زمن) الحيض والنفاس وأيام الأعياد)): تعرض لذكر موانع الصوم من جهة الزمان والحال، وقسم علماؤنا الصوم على خمسة: واجب، ومحظور، ومكروه، ومندوب، ومباح. فالواجب على قسمين: واجب بالسبب، وواجب بغير سبب، فالواجب بغير سبب صوم رمضان. والواجب بسبب خمسة أقسام: صيام كفارة قتل النفس، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله، وقضاء رمضان، وصيام النذر وهو على قسمين: معين وغير معين. والمحظور صوم يوم العيدين، والمكروه صوم أيام التشريق، وقد جعله بعض شيوخنا مختلف بين الحظر والكراهية، وكذلك صيام الدهر.

والمندوب صوم الأيام البيض ويوم الخميس ويوم الاثنين ويوم عرفة وعاشوراء وعشرة من ذي الحجة ونحو ذلك، والمباح ما عدا ذلك. قال المصنف: إدخال الصوم في باب المباحات غير مستقيم عندي، لأن أصله مندوب إليه مثاب فيه مرغب إليه لقوله -عليه السلام-: (إن في الجنة بابًا يقال له: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون) والأحاديث في تفضيل الصوم كثيرة. قال القاضي -رحمه الله-: ((والذي يجب الإمساك عنه في الصوم)) إلى آخر الفصل. شرح: تكلم في هذا الفصل على الممنوعات في الصوم وضبطها تحت داخل وخارج وجميع الأقسام التي قسمها داخلة تحت وجوب الإمساك عنه بمقتضى نصه، وفصل أحكام ذلك بعد، فنتتبع مساقة. ومقتضى المذهب: أن هذه الممنوع التي ذكر منها ما يمتنع على جهة العزم والإيجاب، ومنها ما يمتنع منه على جهة الاستحباب كالحصا وما في معناه مما (لا يغذي) ولا يتطعم البتة. وذكر الكحل والدهن، والشموم في جهة الممنوعات التي يجب الإمساك عنها، وفيه روايتان بالشين المعجمة، ورواية فيه بالسين غير المعجمة، وكلامه حينئذ على ما إذا (عرضنا المتأول (بسين)) ومن رواه بالشين المراد ما يشمه من المشمومات، فإنها من جنس الممنوعات، وإنما يقع الإمساك العام بالامتناع من ذلك كله، وليست في وجوب الامتناع منها بأبعد من الحصا، والدرهم، والتراب، ونحوه، وسياق كلامه أن الضمير في مثله عائد على الدراهم والحصا وسائر

الجامدات. والأظهر من طريق المعنى أن الكحل والدهن والشموم راجع إلى قسم ما يتطعم، وكل ذلك سواء على مقتضى نصه في وجوب الامتناع منه ابتداء، وربما يقع الاختلاف في موجباتها، لأن منها ما يوجب القضاء والكفارة، ومنها ما يوجب القضاء فقط، ومنها ما يستحب فيه القضاء على ما سنذكره. قوله لما ذكر الخارج من البدن: ((لا نحتاج أن نقول مما يمكن التحرز منه، لأن ما لا يمكن ذلك فيه لا يصح الإمساك عنه)): إشارة والله أعلم إلى الاحتلام في نهار رمضان، فإن ذلك لا يمكن التحرز منه، وإلى أصحاب السلس، فإن من استمر منيه أو مذيه لعلة معذور في باب الصيام والطهارة والصلاة رفعًا للحرج ونفيًا للمشقة، فلو قال: ((إنزال الماء الدافق الذي يمكن التحرز منه))، لكان قيد الإمكان من حيث إنه ليس للكلام إلا فيما يمكن التحرز منه، إذ هو الذي يتعين الإمساك عنه، وما لا يتحرز منه لا يدخل تحت وجوب الإمساك عنه، فهو غير معتبر في الباب. وتكلم القاضي في أحكام هذه الممنوعات بعد ي حكم القضاء وما يتعلق بها ونتبع مساقه. قال القاضي -رحمه الله-: ((وأما ما يفسد الصوم فثلاثة أنواع: أحدها إعراؤه مما اشترط فعله فيه)) إلى آخر الفصل. شرح: بدأ في هذه الأنواع الثلاثة التي جعلها مفسدات الصوم بإعرائها مما اشترط فعله فيه من النية والإمساك، ولا شك أن هذا مفسد الصوم، فإنه إذا لم ينو الصوم البتات، أو نوى الصوم، ثم رفض النية، كان عملًا بغير نية، وقد قال -عليه السلام-: (الأعمال بالنيات) وتسميته مع الأمر المطلق، أو الرفض صومًا إنما هو إطلاق لغوي ولا شرعي، وسواء في ترك النية بالعمد، أو بالسهو، والتفريط، والعذر والتقصير في الاجتهاد، فصورة العمد ظاهرة، وذلك إذا كان ذاكرًا ممسكًا عابثًا لا متقربًا. والسهو أن يكون غير ذاكر للشهر

أو ذاكر غير مستحضر نية الصوم فيه لغفلة وردت عليه، والتفريط أن يكون ذاكرًا لشهر عازمًا على صومه، إلا أن يتشاغل بالأكل، والجماع، أو نحوه من المفسدات تاركًا النية تفريطًا، والعذر يتصور في مسائل منها: المرأة تظن اليوم يوم حيضها فتفطر، والمريض يظن أن الحمى تأتيه في ذلك اليوم فترك اعتقاد الصوم لذلك، فلا تأتيه فيتمادى على الإمساك غير قاصد النية عند الفجر. والتقصير في الاجتهاد أن يكون ذاكرًا، إلا أنه يتشاغل بنوع من المفطرات ظانًا أن الفجر لم يطلع. فسمى القاضي الصوم في هذا المحل كلها فاسدًا وفيه تجوز في اللفظ ومراده أنه لا يجزئ، ولا يسقط بها القضاء، والفساد إنما يتحقق مع العمد والتفريط، لا مع السهو، والعذر، والتأويل، وإن وجب القضاء فكل واحد من هؤلاء يؤمر بالإمساك بنية يومه، ويجب عليه القضاء بعد، لأن هذا الصوم قد عرى عن ركن من أركانه. قوله: ((أو خرم الإمساك عن شيء مما ذكرناه)): قلت: بالخاء المعجمة ومعناه القطع، يريد قطع الإمساك بالفطر في بعض أجزاء النهار عمدًا أو سهوًا، أو مجتهدًا ظانًا دحول الليل كما ذكره، وحكم ذلك في وجوب الكفارة يختلف، (نذكره) بعده. قوله: ((والنوع الثاني: ما يكون عن غلبة، وهو ينقسم (إلى) ضربين)): ذكر في هذين الضربين موانع الوجوب، وموانع الاستدامة. فالضرب الأول: الذي شابه مانع الوجوب إن كان مانعًا، وهو الذي لا يصح وجوده إلا مفسدًا للصوم، ولا يقع إلا عليه كما ذكره، ومثله بالحيض والنفاس، فإن وجودهما مانع من عقد الصوم ابتداء، وطروهما مانع من استدامة استصحابه، فكل مانع للعقد مانع للاستدامة بالأصل ولا ينعكس؟ وقولنا: بالأصل تحرزًا من يسير الجنون بعد انعقاد الصوم على الصحة، وكذلك الجنون والإغماء مانعان من العقد إذا سبق وقت الانعقاد واقترنا به، وأشار بقوله: ((وقد يمنعان من استصحابه على وجه)) إلى من جن وأغمي

عليه بعد الفجر، واستمر ذلك عليه حتى مضى جل النهار، أو غربت الشمس فيجب عليه القضاء، فلا يجزئه استدامة صومه بقية النهار لأنه كان عامة النهار غير مخاطب، ولو أغمي يسيرًا من يومه أجزأه إن كان إغماؤه بعد الفجر، ويجعل ذلك كالنوم لسلامة وقت الانعقاد. واختلف المذهب إذا أغمي عليه قبل الفجر فلم يفق حتى طلع الفجر، فقال ابن القاسم: لا يجزئه صومه، وعليه القضاء اعتمادًا (على أن) وقت الانعقاد أدركه هو بصفة غير المكلفين. وقال أشهب: يجزئه صومه لأنه استيقظ بقرب الفجر، ولو ارتفع الحيض والنفاس قبل الفجر فلا يخلو أن ينقطع قبل الفجر بزمان يمكنها فيه الاغتسال أم لا؟ فإن ارتفع قبل الفجر بزمان يمكنها فيه الاغتسال فاغتسلت ونوت الصيام قبل الفجر، فلا خلاف أن صومها صحيح، لأنه واقع على صفة الإجزاء فإن أمكنها الغسل قبل الفجر، وفرطت ولم تغتسل. ففي المذهب قولان: أحدهما: أن صومها صحيح قياسًا على حديث الجناية. وثانيهما: أن صومها لا ينعقد إلا بعد الاغتسال، فقيل: إنها تصوم في هذه الصورة، وتقضي قاله (ابن مسلمة) وقيل: (لا تصوم) وعليها القضاء، ولا معنى لصومها الآن وقضاؤها بعد. وأما إن انقطع الدم عن الحائض والنفساء قبل الفجر بزمان لا يتسع للغسل فقال عبد الملك: لا يجزئها الصوم، لأن الصوم لا ينعقد إلا بعد المخاطبة بالصلاة، والمشهور من المذهب ان الصوم يصح بغير غسل

والمشهور صحة صومها قياسًا على حديث الجنابة كما ذكرناه. تكميل: المشهور من المذهب ألا يراعى في الحائض فراغها من غسلها قبل الفجر بخلاف الصلاة فلذلك احتيج إلى تقدير الفراغ من الطهارة قبل مضي زمان الصلاة، فأقصى مراتب النفساء أو الحائض أن تكون كالجنب. قوله: ((والضرب الآخر يتصور وقوعه عن غلبة، وعن اختيار)): وهذا كما ذكره، لأن المكلف إن ترك في ذلك ودام عليها لم يكن وقوع ذلك إلا اختيارًا، وإلا فإكراه، والمكره على نوعين: كما أشار إليه القاضي، مكره جعل كالأكل لم يبق له من الدواعي شيء كإيجاز الطعام والشراب في الحلق، ومكره بقي له من الاختيار ما يرجح الفعل على الترك كالمكره بالقتل (أو) الضرب على الأكل فإنه مختار، ومكره باعتبارين مختلفين، وكل ذلك سواء في إطلاق لفظ الإكراه، وإن اختلف بخصوصية معناه. قوله: ((وكذرع القيء)): قد يظن أن في كلام القاضي تناقضًا من حيث جعل درع القيء ههنا ضمن المفسدات، وقال في فصل آخر بعد هذا، ((ولا يفسده ذرع القيء)) ولا تناقض في ذلك في المعنى، لأن الذي جعله مفسدًا للصوم ذرع القيء الذي يرجع منه إلى الخلق شيء يقدر على طرحه، فإن استرجاعه قد يفسد الصوم على نفسه. وجعله غير مفسد إذا لم يرجع منه إلى حلقه شيء إذا رجع، ما لم يقدر على طرحه، فهما صورتان مختلفتان فعليهما ينزل كلام القاضي. قوله: ((ويقرب من الضربين سبق الماء إلى الحلق)): إشارة إلى ضربي الإكراه، ويحتمل أن يكون إشارة إلى الضربين الأوليين المقدم ذكرهما، وهما ما لا يصح وقوعه إلا عن غلبة، وما يتصور عن غلبة واختيار، فإن نظر إلى سبق الماء الحلق باعتبار (مباديه) فهو اختيار أولي فعلي.

وقوله: ((والنوع الثالث لا يتصور وقوعه إلا عن (اختيار) وقصد)): ومثل هذا النوع بالردة واعتقاد قصد النية. أما اعتقاد قطع النية فلا يكون إلا اختيارًا، لأنه عمد ذلك، ولا يتصور الإكراه على الأعمال القلبية، وكذلك الردة، لأنها عبارة عن اعتقاد الكفر، والأعمال تابعة للاعتقاد، فإن أكره على الكفر فذلك لا يسمى ردة في غالب اصطلاح الفقهاء وإن صدرت منه أعمال الكفار، فلذلك [أ] دخل الردة في قسم الاختيار، لأن الإكراه إنما يتعلق بالظاهر، وحكم الردة لا يثبت إلا باعتقاد الباطن القلبي، والله الموفق. تكميل: أخذ المتأخرون الكلاف في رفض الوضوء هل يؤثر أم لا؟ والمشهور أنه لا يؤثر، وهل يجري حكم الصوم على ذلك أم لا؟ فيه أيضًا قولان، كما في الوضوء. والصحيح عندنا أن ذلك غير مؤثر لأن أصل الاعتقاد صحيح، ورفض الحاصل بعد حصوله له غير متصور. قال القاضي -رحمه الله-: ((فأما ما يتعلق على ذلك من الأحكام فأربعة أضرب)). قلت: قدم القضاء، لأنه أعم الكفارات لاختصاصها وعمومها. وجعل قطع التتابع، وقطع النية أحكامًا متعلقة على فساد الصوم في ذلك، فالكفارة والقضاء ظاهر، وأما قطع التتابع وقطع النية فليسا بحكم عندي بل هما من لوازم الحكم، فإذا أفسد الصائم الصوم بنوع من المفسدات التي نوعها القاضي صرف الشرع عليه حكمان: القضاء والكفارة في محلهما مشروعان للجبر والعقوبة، أو للجبر فقط إن انفرد القضاء، فإذا حكمنا بفساد الصوم، (ولزم) من ذلك انقطاع التتابع، فيقع النظر بعد، هل كان انقطاعه لعذر، أو لغير عذر. وتظهر ثمرة ذلك في جواز البناء أو عدمه كما بينه القاضي بعد. فانقطاع التتابع لازم للحكم بفساد الصوم لا نفس الحكم، وكذلك قطع النية

سبب للحكم بفساد الصوم الشرعي بدليل صحة قولنا حكم الشرع بفساد الصوم سبب قطع النية، وهذا بين لمتأمله إن شاء الله. قال القاضي -رحمه الله-: ((والصوم ضربان واجب (ونفل))) إلى قوله: ((وصوم رمضان واجب مفروض (على الأعيان))). شرح: قد تقدم الكلام في حكم الصوم وأنواعه، ومقصود هذا الفصل الكلام في وجوب النية فيه. ولا خلاف في المذهب في وجوبها في الصوم، وانها ركن من أركانه (لأنها) عبادة تفتقر إلى نية الطهارة، والصلاة. والاستدلالات المتقدمة في وجوبها في الطهارة جارية هاهنا. وروت حفصة أم المؤمنين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) صححه أكثر أهل الحديث مسندًا، وموقوفًا على حفصة. وخرجه الدارقطني من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال فيه: (قبل طلوع الفجر). وقد روى موقوفًا على عائشة، فإن قيل: الصوم

(ترك)، والتروك لا تفتقر إلى نية كالزنا وشرب الخمر، قلنا: التروك على قسمين: مطلقة غير مختصة بزمان فلا تفتقر إلى نية، ومختصة بزمان فتفتقر إلى نية كالصوم. قوله: ((مستحقه في جميع أنواعه)): تنبيهًا على مذهب المخالف لأن من مذهبه [أنه] لا يفتقر صوم رمضان إلى نية إلا أن يكون الصائم مريضًا أو مسافرًا بناءً على تعيين الزمان للصوم، حتى إنه نوى فيه صيام غير رمضان انقلب إلى رمضان. قوله: ((يوقعها المكلف لكل يوم)): قلت: من كل نوع - يعني - من أنواع الصيام المفروض وغير المفروض على اختلاف. قوله: ((من (ليلته) ويستديمها إلى آخره حكمًا)): بيان لمدار من العقد، واختلف المذهب في مسائل تتعلق بذلك. (المسألة) الأولى: هل تجزئ النية بعد الفجر أم لا؟ اختلف الفقهاء فيه، والمشهور من مذهب مالك أن ذلك لا يجزئ، بناءً على اشتراط تقديمها قبل الفجر، أو مقارنتها له، وذلك في الفرض والنفل سواء، وفي الأسمعة عن مالك في الحائض تشك هل طهرت أم لا؟ فلا تستبرئ بعد طلوع

الفجر، قال: تصوم، واستقرئ من هذا أن عقد النية بعد الفجر جائز، وروى عن مالك أن صوم يوم عاشوراء بنية بعد الفجر جائز، وهو استناد إلى حديث معاوية الذي خرجه مالك في موطئه أنه قال: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن هذا يوم عاشوراء وإني صائم فمن شاء فليصم). والمشهور الاعتماد على حديث حفصة الذي صدرنا بذكره، وهو عام في النوافل، والفرائض. (المسألة) الثانية: هل يشترط النية لكل ليلة، أم يجزئ (التبييت لليلة الواحدة الأولى). فتستصحب على جميع الشهر فيه قولان في المذهب أحدهما: اشتراط التجديد لتخليل الفطر كل ليلة، والمشهور الاكتفاء بنية أول ليلة، لأنه كيوم واحد من حيث إن الفطر المتخلل ليس إلا في الليل، والليل ليس بمحل الصوم. قوله: ((ما لم يقطعه فيلزم استئناف النية)): قلت: هذا الفرع فيه قولان عندنا، وهو إذا طرأ في رمضان ما يبيح الفطر من الاعذار، فهل يفتقر إلى إعادة النية أم لا؟ فيه قولان: المشهور الإعادة لانفصال حكم النية الأولى بانفصال الصوم عند طرو العذر، والشاذ الاكتفاء بالنية الأولى، لأنها مستصحبه حكمًا وهو ضعيف. وشهري التتابع في رمضان في الاكتفاء بالنية

الواحدة اعتبارًا (بتعيين) الزمان. واختلف المذهب فيمن اعتاد سرد (صوم) النافلة هل يلزمه (النية) كل ليلة متمسكًا بعموم حديث حفصة، ولأن كل يوم مستقل بنفسه (أو يكتفي) بالنية الأولى، لأن اعتياد الاتصال كوجوبه، فليلتحق بزمان (رمضان) وشهري التتابع في ذلك فيه عندنا قولان في المذهب. وقول القاضي: ((والقياس منعه)) إشارة إلى مراعاة الانفصال الحكمي، واستقلال كل يوم بنفسه، وإن اتصل حسًا، فقد انفصل حكمًا، وقد تقدم الخلاف في رفض نية الصوم هل يؤثر أم لا؟ وفيه قولان في المذهب قد قدمناهما. قال القاضي -رحمه الله-: ((وصوم شهر رمضان واجب مفروض على الأعيان)) إلى قوله: ((ثم إن ثبت)). شرح: قد انعقد الإجماع على أن صوم شهر رمضان (فرض)، وقد قدمنا الدليل على ذلك وشروط وجوبه ستة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والصحة، والإقامة، والنقاء من دم الحيض والنفاس. فالإسلام تحرزًا من الكافر، وهو غير مخاطب بالصوم إلا بعد تحصيل الشرط الأول. والعقل تحرزًا من الجنون، ولا شك أن القلم مرفوع عنه بنص الحديث الثابت الصحيح، فلذلك اتفق الفقهاء على أن الجنون والإغماء مناقضان لانعقاد الصوم، وإذا بطل الانعقاد لزم عنه بطلان القضاء. ومذهب مالك وجوب القضاء عليه، قال مالك: من بلغ مجنونًا فمكث سنين ثم أفاق فليقض صوم تلك السنين، ولا يقضي الصلاة كالحائض، واحتج بقوله تعالى: {فمن

كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] ورأى أن ذلك داخل تحت حكم المرض. وقال المدنيون من أصحاب مالك: إنما يقضي الصوم في مثل الخمس سنين ونحوها، وأما صوم عشرة أعوام، أو خمسة عشر عامًا، فلا قضاء عليه وهو قول أصبغ. قال الشيخ أبو الطاهر: أما من لم يبلغ مطبقًا، وقلت سنون جنونه (وجب عليه القضاء بلا خلاف في المذهب، وإن بلغ مطبقًا، أو كثرت سنون جنونه) ففي المذهب ثلاثة أقوال: القضاء مطلقًا، ونفيه مع كثرة السنين، ومثلوه بالعشرة فما فوقها وإثبات القضاء مع قلة السنين كالخمسة ونحوها. فمن رآى (أن) العقل شرط في الأداء لا في الوجوب، أوجب القضاء مطلقًا، ومن رآه شرطًا في الوجوب أسقط القضاء وهو الصحيح، والتفريق استحسانًا لا وجه له. والبلوغ احترازًا من غير البالغ وهل يؤمر بالصوم كما يؤمر بالصلاة فيه قولان عندنا: المشهور أنه لا يؤمر، لأن الصوم لا يتكرر. والشاذ أنه يؤمر لأنه عبادة كالصلامة. ((والصلاة)) احترازًا من المرض، والإقامة احترازًا من السفر، وهو مبيح للفطر إجماعًا. والنقاء من دم الحيض والنفاس تحرزًا من النفساء والحائض، لأن الصوم ساقط عنهما، لكن هل يسقط الصوم عن الحائض والمريض والمسافر بعد وجوبه عليهم لطرء العارض، أم لم يجب البتة عليهم، فيه قولان عند الأصوليين. قوله: ((واجب مفروض على الأعيان)): هو توكيد كما ذكره، وقدم هاهنا الواجب، وقدم في أول الكتاب الفرض على الواجب، وذلك يشعر بالترادف والتوكيد. قوله: ((وللعلم بدخول ثلاثة طرق)): قلت: الأصل في ذلك قوله -عليه السلام-: (فلا تفطروا حتى تروا الهلال، ولا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم

فاقدروا له) الحديث. أما الرؤية فهي على قسمين: عامة وخاصة، فالعامة: هي المستفيضة الواقعة من العدد الكثير الذي يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، فينزل ذلك منزلة الأخبار، فيقبل فيه الحر والعبد والعدل وغيره، والمقصود من ذلك أن يقع في الحجم الغفير فيجب بها، ويجب العمل بهذا في الأقطار المتباينة إذا دخلت تحت حكم إمام واحد تحت طاعته على الأصح، والخلاف في ذلك بين أهل العلم معروف، فروى ابن القاسم والمصريون عن مالك أن الهلال إذا (ثبتت) رؤيته عند أهل بلد نفذ حكمهم إلى غيره من أهل البلدان، فإن أكلوا في ذلك اليوم الذي صامه غيرهم وجب عليهم قضاؤه وهو قول الشافعي وأحمد، وروى المدنيون عن مالك أن لكل بلد رؤيته إلا أن يحمل الإمام الناس على ذلك وهو قول ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك. والأصل في هذا الباب ما خرجه مسلم من حديث [كريب] وأن أم الفضل بنت الحارث

(بعثته) إلى معاوية بالشام قال: ((فرأيت الهلال يوم الجمعة، ثم قدمت المدينة من آخر لشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم؟ قلت: رأيته يوم الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزل نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه؟ فقال: لا يكتفي برؤية معاوية، فقال: [لا] هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا الحديث الثابت الصحيح نص في أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعد. وإنما عول أحمد والشافعي ومالك في رواية المصريين عنه على أن البلاد إذا لم تختلف مطالعها كل الاختلاف فهي كالأفق الواحد والله أعلم. وأما الرؤية الخاصة فهي من باب الشهادات، فيشترط فيها العدالة، والإسلام، والحرية، والذكورية. فلا يخلو أن يشهد العدلات برؤية الهلال في يوم صحو (أو يوم غيم، فإن كان في يوم غيم فتقبل شهادتهما، وإن كان في يوم صحو) والبلد كثير فهل تقبل شهادتهما أم لا؟ فيه قولان، المشهورقبول شهادتهما اعتبارًا بعدالتهما والشاذ أن شهادتهما غير مقبولة. قال سحنون: هؤلاء شهود، سوء، إشارة إلى أن الإفراد من اتفاق الموانع مظنة للتهمة سيما إذا كان القطر نحو صورة واحدة. قوله: ((والجنس والعدد مستحقان فيه)): يريد جنس الرجال وعددهم، وذلك اثنان فصاعدًا. قوله: ((ولا يقبل (في ذلك) النساء)) وهذا لا خلاف فيه عندنا.

قوله: ((ولا الواحد من الرجال)) وهذا كما ذكره على الأشهر، وقد قيل شهادة الرجل وحده مع الغيم، ويجب الصيام بقوله، روى عن مالك، حكاه الشيخ أبو محمد. وهل يلزمه الرفع وحده أم لا؟ أما العدل والمستور فلا خلاف عندنا أنه (يرفع) لاحتمال أن يشاركه غيره، وأما المكشوف الحال في الفسق، فهل يؤمر بالرفع أم لا؟ فيه قولان، المشهور أنه لا يرفع، إذ لا معنى لرفعه ولا فائدة لقوله، وقيل: يرفع لاحتمال الاستتار والانتشار برفعه، وهل يلزمه الإمساك ام لا؟ ولا خلاف في لزوم ذلك في حق نفسه، فإن أفطر فسنذكره بعد حين ذكره القاضي. قوله: ((وليس من جهات العلم بدخوله قول منجم او حاسب)): وهذا مذهب الجمهور كما ذكره، وذهب مطرف بن عبد الله بن الحسن من كبار التابعين وابن سريج وغيره من الشافعيين إلى العمل على التنجيم في ذلك، وحكى أصحاب الشافعي عن الشافعي أن مذهبه الاستدلال بالنجم، ومنازل القمر في ذلك وهي رواية شاذة في المذهب. رواها بعض البغداديين من أصحاب وعليه حمل قوله -عليه السلام-: (فاقدروا له) من التقدير بالحساب والتنجيم، والجمهور

على أن المراد به تكميل العدد، ثبت مجيئه مفسرًا كذلك من طرق عديدة. قوله: ((إذا تراءى الناس الهلال فلم يروه)) إلى آخره. يتعلق (هذا) الكلام بصيام يوم الشك. وقد خرج الترمذي من حديث عمار بن ياسر قال: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-) هذا حديث حسن صحيح. فقد اختلف الفقهاء في (محمل) الحديث. فقيل: المراد به من صامه على أنه من رمضان، قال بعضهم: المراد من صامه تطوعًا، وحمله (بعضهم) على الإطلاق، وهو ظاهر اللفظ. وكذلك اختلف الفقهاء في جواز صومه على ثلاثة أقوال: منهم من منع ذلك مطلقًا تمسكًا بعموم النهي، ومنهم من اجازه حملاً للحديث على التأويل الأول الذي ذكرناه قال محمد بن مسلمة: من شاء صامه تطوعًا ومن شاء أفطره، ومنهم من أجازه تطوعًا لمن عادته سرد الصوم دون من خصه بالصوم، وهل يؤمر بصومه

(احتياطًا وتحريًا أم لا؟ اختلف المذهب فيه، فالمنصوص أنه لا يصام تحريًا، فإن صامه أنه لا يصام تحريًا، فإن صامه أنه لا يصام تحريًا، فإن صامه كذلك لم يجزه، ووجب عليه القضاء مطلقًا، وهو يؤمر بصومه) تحريًا مطلقًا في الصحو والغيم أخذًا من قول مالك فيمن شك هل طلع الفجر أم لا؟ أنه يؤمر بالإمساك وفي الحائض في أيام الاستظهار أنها تصوم وتصلي وتقضي احتياطًا، ولعلهما مختلفان في المعنى، فمثاله: أشار إليه الشيخ أبو الطاهر، وحكاه القاضي أبو محمد أنه يؤمر بالصوم فيه إذا كانت السماء متغيمة احترازًا. وحقق جواز الفطر فيه بقوله: ((وترك صومه)) والأكل فيه جائز من غير حظر، كما لا يجوز مع الأصحاء، والله أعلم، ويصومه من ندره، وليس مورد النهي على الأصح من أقاويل العلماء. قال القاضي -رحمه الله-: ((ثم إن ثبت بعد طلوع (الفجر) أن الهلال رئي في أمسه)) إلى قوله: ((وتعيين النية)). شرح: وهذه المسائل التي ذكرها ظاهرة، ولا خلاف في هذه الصور إلا في جواز صومه تطوعًا، أو احتياطًا كما ذكرناه، وبدأ بمن يصومه على أنه من رمضان قطعًا، أو احتياطًا، والقضاء فيها واجب، والاحتياط في ذلك بمنزلة من صلى الظهر على شك، أو اغتسل على أنه إن كانت عليه جنابة فقد ارتفعت بهذا الغسل، وكل ذلك باطل، لا تجزئ النية، وكل من صامه لرمضان، أو لغيره من الواجب في الذمة، أو الواجب بالنذر المعين، أو غيره، فعليه قضاؤه لرمضان، أو لغيره من أنواع الصيام الواجب إلا أن يصومه

لنذر معين، فيفطر لعذر، أو نسيان، ففي وجوبه عليه قولان، لأن بالتعيين صار كرمضان، والإسقاط بناء على اعتبار العذر والنسيان، ولا قضاء عليه إن صامه تطوعًا، وإنما يقضيه عن رمضان فقط. قال القاضي -رحمه الله-: ((وتعيين النية واجب لكل صوم واجب)) إلى آخر الفصل. شرح: وهذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء أن تعيين النية للصوم واجب، لقوله -عليه السلام-: (وإنما لكل امرئ ما نوى). ومن العلماء من رآى الاكتفاء بنية الصوم المطلق وهو قول أبي حنيفة قال: إن أطلق نية الصوم أجزأه، وكذلك إن نوى في رمضان صيام غير رمضان انقلب إلى رمضان إلى أن يكون مسافرًا، فإن النية لا تنقلب في حقه من حيث كان له الفطر والصوم فلم يتعين الصوم في حقه كتعيينه في حق الصحيح الحاضر، وكذلك اكتفى بالإطلاق حيث يتعين الصوم، ونبه القاضي على ذلك في أثناء كلامه. قوله: ((فإن عين غيره لم يجزه عن رمضان ولا عما نواه)) وهو كما ذكره. أما عدد إجزائه عن رمضان فلأنه لم ينوه، وأما إن نواه عن غير رمضان فلأن الزمان متعين لرمضان. قوله: ((وإن جمع في نيته وجهين)): لم يجزه عن واحد منهما لاشتراك المناقض لخصوصية كل عبادة منهما. ثم تكلم على ما إذا رآى الهلال ظاهرًا. ولا يخلو أن يرى قبل الزوال أو بعده، فإن رئي بعد الزوال، فلا خلاف في المذهب أنه لليلة المستقبلة، لأن ما بعد الزوال عشاء عند العرب حكاه الجوهري في الصحاح، واختلف إذارأي قبل الزوال هل

يجعل لليلة الماضية، أو يجعل للمستقبلة فيه قولان عندنا، وكذلك اختلف الفقهاء فيه، [فقال] أبو حنيفة والشافعي هو لليلة المستقبلة، وقال أبو يوسف وأبو بكر بن داود: هو لليلة الماضية، وهو قول ابن حبيب من أصحابنا، والمعتمد عليه من المذهب أنه لليلة المستقبلة، وفي الآثار: أن عمر بن الخطاب بلغه أن قومًا رأوا الهلال فأفوا. فكتب إليهم يلومهم. وقال: إذا رأيتم الهلال قبل الزوال فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا. وقال علي بن أبي طالب نحوه. وفي حديث علي: فإن الشمس ترفع عنه، أو تميل عنه. ولم يصح في هذا الباب عن النبي -صلى الله عليه وسلم -شيء. قوله: "ويلزم المنفرد برؤية الهلال (من الحكم) ما يلزم من شورك في رؤيته": وهذا مذهب مالك كما ذكرنا. وقد تقدم الكلام هل يؤمر بالرفع أم لا؟ وشذ (الحسن) وعلي بن أبي رباح فقالا: لا يصوم إلا برؤية غيره معه، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب من طريق ضعيف الإسناد،

وكذلك اختلفوا هل يفطر برؤية نفسه وحده أم لا؟ فقال الشافعي، وغيره: فيجب عليه الفطر لأنه يؤمر بجزم الصوم على مقتضى قوله. وتحصيل مذهب مالك أنه يصوم برؤيته وحده، وهل يفطر برؤيته أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يفطر سرًا بناء على علمه أنه يوم محرم الصوم. والثاني: أنه لا يفطر خوفًا من (الفساد) وسد الذرائع. وإذا رأى هلال الصوم وحده، وأوجبنا عليه الصوم فأفطر عامدًا غير متأول، فعليه القضاء والكفارة، وإن أفطر عامدًا متأولاً أن الصوم لا يلزمه، أو جاهلاً، فهل تجب على الكفارة، أو القضاء، أو القضاء فقط، فيه قولان بناء على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ وهل الجاهل كالعامد أو كالناسي، وفي الأصلين خلاف مشهور. قوله: "وصلوا العيد إن كان قبل الزوال": وهذا كما ذكره، لأنه محل لهذه الصلاة، وهل تصلي بعد الزوال أو من الغد. واختلف الفقهاء فيه، والمذهب كما ذكره القاضي والله المستعان. قال القاضي -رحمه الله -: "الأيام على خمسة أضرب" إلى آخر الفصل. شرح: ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن صيام يومين يوم فطركم من صيامكم ويوم تأكلون فيه من نسككم) وكذلك أجمع الجمهور من العلماء

على تحريم صومهما مطلقًا وهو أول الأقسام الخمسة. واتفق المذهب على جواز صوم يوم التشريق الثاني والثالث للمستمتع، ولو كان صومهما محرمًا لعينهما لمنع للمستمتع وغيره وهو القسم الثاني. واختلف المذهب هل يقضي فيهما رمضان أم لا؟ وهل يصامان أيضًا على الكفارة أم لا؟ فيه قولان، وكذلك اختلف المذهب في النادر لهما بعينهما هل يصومهما أم لا؟ المشهور أنه لا يصومهما لشيء من ذلك، ويصوم الرابع للنذر، وقيل: لا يصومه أيضًا. والمشهور جواز صوم الرابع للنذر دون الثاني والثالث، لأن الرابع لا يتناوله قوله. والقسم الثالث: هو ما يصح أن يصام ويكره على وجه، وهو الرابع من أيام التشريق فيصومه من نذره، ولا يصومه غير الناذر. والقسم الرابع: أيام رمضان المستحقة له المتقربة بصيامه. والقسم الخامس: ما عدا رمضان وهذه الأيام. وكره بعض العلماء صوم يوم السبت خوف الاشتراك مع اليهود في تعظيمه، وكره بعضهم صوم يوم الجمعة وحده خوفًا من مضاهاتهم في تعظيم يومًا من الأسباع، والنهي عن ذلك ثابت في الصحيح، وأجاز مالك صومه اتباعًا للعمل، وقال بعض أهل الفضل: يتحراه. وقد تقدم الكلام في صوم يوم الشك.

قال القاضي -رحمه الله -: "ولا يفسد الصوم ذرع قيء ولا حجامة". شرح: لا يخلو القيء أن يكون اختيارًا، أو غلبة، فإن كان اختيارًا فاستدعاه وقصد إليه فجمهور العلماء على أنه يفطر خلاف طاوس فإنه قال: لا يفطر مطلقًا. وإذا قال بقول الجمهور فإما أن يكون لضرورة دعته إليه، أو لغير ضرورة، فإن استدعاه لضرورة، فعليه القضاء خاصة، وهل القضاء على جهة الإيجاب أو على جهة الاستحباب ففيه عندنا قولان. فاختار الشيخ أبو القاسم بن الجلاب أنه استحباب، لأنه لو كان واجبًا لاستوى مختاره وغالبه كالأكل والشرب إذا قصده أو أكره عليه. واختيار غيره أنه إيجاب لا استحباب، ولا خلاف في نفس الكفارة عليه في هذه الصورة ولا كفارة عليه، وإن استدعاه لغير ضرورة فعليه القضاء على ما ذكرناه. وفي وجوب الكفارة قولان في المذهب المشهور سقوطهما إذا لم يصل إلى الحلق شيء، والشاذ وجوبها، وهو اختيار الشيخ أبي الفرج إذ لا يسلم غالبًا من أن يرجع إلى حلقه شيء، وإن أتاه غلبة فجمهور العلماء على أنه [لا] يفطر خلافًا لربيعة، فإنه قال يقضي مطلقًا اعتمادًا على حديث ضعيف ورد به. قوله: "ولا حجامة": تنبيه على مذهب (ابن حنبل) حيث رأى أنه إذا

احتجم فقد أفطر الحاجم والمحتجم. اعتمادًا على حديث ورد بذلك، صححه أحمد. قوله: "ولا إصباح على الجنابة": تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن مذهب عروة ابن الزبير والحسن البصري وطاوس وعطاء وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن صيام الجنب باطل. واختلف النقل فيه عن أبي هريرة. والجمهور على صحة صوم الجنب اعتمادًا على حديث عائشة: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يصبح جنبًا من غير احتلام وذلك في رمضان). وقد تقدم الكلام في الحائض والنفساء إذا ارتفع دمها، وتركت الاغتسال قبل الفجر. قوله: "ولا ركوب مأثم لا يخرجه عن اعتقاد وجوبه": تحرزًا من قطع النية أو خرم الإمساك تهاونًا، فإن ذلك مناقضًا لاعتقاد الوجوب. وشذ بعض أهل العلم فرآى أن الغيبة، والقذف، والكذب، ونحو ذلك من جملة المفطرات تمسكًا بظاهر قوله -عليه السلام -: (من لمن يدع قول الزور والعمل به

والرفث في الصوم، فليس لله حاجة في ترك طعامه وشرابه) الحديث. وقد اختلف العلماء في السواك للصائم ومذهب مالك كراهية السواك الرطب للصائم خيفة أن يصل إلى حلقه، ولا بأس بالسواك (اليابس) في النهار كله، وكرهه الشافعي بعد الزوال لأنه يذهب بخلوف فم الصائم الذي هو عند الله أطيب من ريح المسك. قوله: "ويكره له ذوق قدر، ومحو مداد، ومضغ علك": وهذا مما اختلف العلماء فيه ومذهب مالك ما حكاه القاضي. وانظر كيف نص في هذا المقام على أن ذلك من جنس المكروهات للصائم، وأدخله في الفصل الأول تحت ما يجب الامتناع منه، لأن هذا كله من جنس المطعومات ففي كلامه (تجوز) ظاهر، ونحن نفصل الكلام في حكم الصائم يتناول شيئًا من تلك الممنوعات بالصوم. أما الطعام والشراب فلا خلاف في وجوب (الاكتفاف) عنهما في حال الصوم في وجوب القضاء عليه إن تناولهما. واختلف في مسائل: (المسألة) الأولى: إذا كان في فمه حصاة أو لؤلؤة أو نواة أو عود أو

نحو ذلك مما لا يغذي فيسبق إلى حلقه. قال ابن حبيب: عليه القضاء في السهو والغلبة وإن تعمد ذلك فليكفر قاله ابن الماجشون. وقال أصبغ عن ابن القاسم: كل ما ليس فيه غذاء مثل الحصا واللوزة يقشرها فلا يقضي في سهوه، ويقضي في العمد، وقيل في المذهب: لا شيء عليه في التراب والحصا والدرهم، لأنه لا يتطعم ولا يغذي. المسألة الثانية: الدهن والكحل. قال مالك في الكحل وصب الدهن في الأذن هو أعلم بنفسه، منهم من يدخل في حلقه، ومنهم من لا يدخل ذلك. ونص الشيخ ابن الجلاب على كراهية الكحل، وأما الشموم (فهي) جوامد يتطعم، فلو تناولها عامدًا وجبت عليه الكفارة لأنها من المطعومات والشموم المستدامة كالمتطعم من الأغذية إذا وصلت كالدهن ونحوه. المسألة الثالثة: الفلقة من الطعام بين الأسنان ولا قضاء عليه، وقيل: يجب من غبار الطريق، لأنه مما يمكن الاحتراز منه دون ما لا يمكن ذلك كالدقيق ونحوه، فقال ابن القاسم: ومن داوى جائفة بدواء مائع فلا قضاء عليه، واختلف في البلغم إذا أمكن طرحه فابتلعه، فقيل: يقضي، وقيل: لا قضاء عليه لأنه لا يغذي، وكذلك في القلس. وقال

الشيخ أبو الطاهر: ولا خلاف في سقوط الكفارة في الواصل إلى المعدة، أو إلى الحلق من غير الفم إلا ما قاله أبو مصعب فيما دخل (من منفذ واسع)، وهو بعيد جدًا، لأن هذا مما لا تتشوق النفوس إليه فيعلق عليه الكفارة، وإنما ظن أن الشريعة عليه الكفارة (بوصول) شيء إلى المعدة مع العمد والقصد، وسيجيء الكلام في الأكل والشراب والجماع ومقدماته بعد. قال القاضي -رحمه الله -: "والأحكام المتعلقة بإفساد الصوم أربعة". شرح: قد قدمنا أن القضاء والكفارة أحكام مرتبة على الفساد، وأن قطع النية وقطع التتابع لازمان للإفساد، أحدهما: لزوم السبب، والآخر: لزوم المسبب. وقسم الصوم المتعين قضاؤه إلى أقسام ثلاثة. وبدأ بالمعين بتعيين الله تعالى، وهو رمضان، والإجماع منعقد على وجوبه. قوله: "وقضاؤه ما بينه وبين رمضان ثان": وهذا (التوسع) يقتضي أن قضاء رمضان ليس على الفور، والدليل عليه قول عائشة: "كنت أقضي الصوم في شهر (شعبان) لاشتغالي بخدمة رسول -صلى الله عليه وسلم -" والبدار إلى

قضائه أبرأ للذمة، وأحوط للواجب، فإن أخر قضاءه إلى دخول رمضان المقبل اشتغل بصوم الداخل، وكان عليه قضاء من الخارج بعد، والفدية، فإن صام الداخل قضاء على الخارج ففيه ثلاثة أقوال في المذهب، فقيل: لا يجزئه عن واحد منهما، وعليه قضاء شهرين فلا يجزئه عن الداخل لأنه لم ينوه، ولا يجزئه عن الخارج لأن زمانه معين للداخل، وهي رواية عن ابن القاسم وأشهب، وقال ابن القاسم: يجزئه عن الخارج، وعليه قضاء الداخل لقوله -عليه السلام -: (وإنما لامرئ ما نوى) وقيل: يجزئه عن الداخل، وعليه الخارج والفدية، لأن الزمان متعين للداخل، وإنما يجب عليه الفدية مع القضاء، إذا أخر القضاء بغير عذر، فإن كان معذورًا في بعض المدة دون بعض أطعم في الأيام التي لا عذر له فيها، وقيل: عند وجود العذر. والإطعام مد لكل مسكين بالمد الأصغر من غالب القوت. وأما إذا أفطر في أيام الصوم المعين فلا يخلو أن يكون لعذر أو لغير عذر، فإن كان لعذر، فلا قضاء عليه وإلا فعليه. وفسر الأعذار بالمرض والإكراه، والإغماء، والسهو، والحيض، وخطأ الوقت والأمر في ذلك بين. واختلف الفقهاء في صيام التطوع على ثلاثة مذاهب: فقال الشافعي: الصائم المتطوع أمين نفسه إن شاء صام وإن شاء لم يصم. وقال أبو حنيفة: عليه القضاء مطلقًا سواء أفطر لعذر، أو لغير عذر، وقال مالكك: إن أفطر فيه لعذر فلا قضاء عليه، وإلا فالقضاء عليه، واعتمد الشافعي على حديث عائشة قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يصبح صائمًا فقلت له: أنا صانع

لك حيسًا فقال: أما أنا كنت أريد الصوم ولكن قربيه) خرجه أبو داود واعتمد أبو حنيفة على قوله -عليه السلام- لعائشة وحفصة حين أصبحنا صائمتين فأفطرنا فقال لهما: (اقضيا يومًا مكانه) وخرجه أبو داود أيضًا من حديث أم هانئ قالت: لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عند يسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأم هانئ عن يمينه قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم تناولته أم هانئ فشربت منه، ثم قالت: يا رسول الله قد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها -عليه السلام-: (أكنت تقضين شيئًا؟ قالت: لا. قال: فلا يضرك إن كان تطوعًا) وجمع مالك -رحمه الله- بين هذه الأحاديث ورآه أولى من طرح بعضها، فأسقطه مع العذر، وأوجبه مع عدم العذر والمرض والحيض والجنون والنسيان أعذارًا، وفي السفر خلاف في المذهب. وأجمعوا على أن من قطع نافلة تلبس بها قبل تكملها فلا قضاء عليه، وأجمعوا على وجوب

قضاء حج التطوع إذا قطعه. فالصوم فرع بين أصلين: الحج والعمرة المتطوع بهما وقضاؤهما بالقطع واجب إجماعًا، والصلاة ناسيًا في صوم التطوع فعليه القضاء والجمهور على خلافه. قال القاضي -رحمه الله- "وأما الكفارة فضربان" إلى قوله: "وأما الصغرى فهي". شرح: أجمع العلماء على أن الكفارة في هذا الباب تنقسم إلى صغرى وكبرى، وبدأ بالكبرى. والأصل فيها حديث الأعرابي خرجه مسلم من حديث أبي هريرة جاء رجل إلى النبي _صلى الله عليه وسلم- فقال: هلكت (وأهلكت) يا رسول الله قال: (وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما [تعتق به رقبة، قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما؟ تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، ثم جلس فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر فقال: تصدق بهذا، فقال: تصدق بهذا، فقال: أعلى أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك). وفي طريق آخر: (قال: فلكه) وفي حديث عائشة: (فجاءه عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به) وقال أبو داود: (فأتى بعرق تمر فيه قدر عشرين صاعًا)

وطريق حديث مسلم أصح وأشهر، وليس فيها صوم يوم، ولا مكيلة التمر، ولا الاستغفار. وذكر مالك في مراسيل ابن المسيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: (هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: هل تستطيع أن تهدس بدنة؟ قال: لا) الحديث. قال المصنف: اختلفت الروايات في ذكر أنواع الكفارات في هذا الحديث. ففي بعض الطرق عتق الرقبة، ثم الصيام، ثم الإطعام، وفي بعضها ذكر العتق ثم البدنة، وذكر البدنة في هذا الحديث جماعة من الرواة منهم: الحسن ومجاهد وقتادة وعطاء الخرساني. وفي حديث ابن المسيب أن رسول الله أمره أن يعتق رقبة أو بكفارة الظهار. قوله: "فأما الكبرى فلا تجب إلا في رمضان": وهذا كما ذكره لا أعلم فيه بين العلماء (خلافًا) إلا ما روى عكرمة وقتادة أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه الكفارة، فقيل: كفارة رمضان، وقيل: بدنة مقلدة. قوله: "وتجب بالخروج عن صومه على وجه الهتك من كل معتقد لوجوبه من رجل أو امرأة" فخرج الناسي بقوله: "على وجه الهتك"، لأن الناسي ليس بهاتك. ويخرج المتأول كمن أفطر ناسيًا فاعتقد سقوط حرمة الصيام فأفطر بعد ذلك متعمدًا. واختلف المذهب في أصلين: الأول: من جامع في نهار رمضان ناسيًا

للشهر هل عليه الكفارة أم لا؟ وسنذكره بعد. الأصل الثاني: إذا أفطر ناسيًا ثم أفطر متأولًا من غير نسيان فعليه القضاء بلا خلاف ... واختلف المذهب في وجوب الكفارة عليه على قولين، من ذلك المرأة ترى الطهر ليلًا فلا تغتسل فظنت أن من لم يغتسل لا يصوم فتأكل، أو الرجل يفطر ناسيًا لسقوط حرمة الصوم فيفطر متأولًا، والرجل يدخل من سفره ليلًا فيظن ألا صوم عليه إلا بالدخول نهارًا فيفطر، والمسافر سفرًا قريبًا يظن أنه يبيح الفطر (بعذر) ومن رأى الهلال وحده فأفطر ظانًا بأن الصوم لا يلزمه والمرأة تفطر ظانة أن اليوم يوم حيضتها والمسافر يفطر ظانًا أنه يخرج لإكماله فيقيم والمريض يظن أن الحمى تأتيه يومه ذلك فلا تأتيه. فهذه المسائل كلها يتصور فيها جه من التأويل، فلا خلاف في وجوب القضاء فيها، وفي وجوب الكفارة فيها قولان في المذهب، المشهور سقوط الكفارة عذرًا بالتأويل سيما إذا كان التأويل ظاهرًا، والخلاف في ذلك بعد هذا التأويل. قال ابن القاسم: رأيت مالكًا يسقط الكفارة في كل ما (سئل) عنه من هذه الوجوه على التأويل. قال ابن الماجشون والمغيرة في المجموعة وابن حبيب: من أفطر ناسيًا ثم أفطر بعد ذلك متعمدًا، أو وطئ متأولًا فليكفر. قال ابن حبيب: إن وطئ متأولًا كفر، وإن أكل متأولًا لا يكفر. قوله: "لكل يوم كفارة": هذا هو المشهور، وقيل: لكل هتك كفارة، وتظهر فائدة ذلك إذا تكرر الهتك في اليوم الواحد مرارًا فتتعدد عليه الكفارة، وقيل: لا يتعدد أنواع الهتك، إعطاء الثاني حكم الأول، وكما وجبت الكفارة بالأول كذلك تجب بالثاني، ومن رأى أن الحرمة تسقط بالهتك الأول اكتفاء

بالكفارة الأولى، وهذا الخلاف قائم إذا كفر عن الهتك الأولى ثم انتهك، وأما لو انتهك فلم يكفر حتى انتهك ثانية فحكى أشياخنا أن الكفارة لا تتعدد في هذا المحل، والذي يقتضيه) النظر تعدد الكفارة مطلقًا، اعتبارًا بصورة الهتك. قوله: "لا يسقطها عن يوم وجوبها في آخر" معناه: إن تعدد الانتهاك في اليوم يوجب لكل يوم كفارة، ولا أعلم فيه خلافًا. قوله: "من غير اعتبار بالأنواع التي يخرج (بها عن الصوم) ": يعني أن أنواع الإفطار سواء بالأكل أو بالشرب أو الجماع اعتبارًا بالمعنى الجامع، فلذلك ألحقنا بالجماع غيره من أنواع المفطرات ونبه بذلك على مذهب المخالف حيث قصر الكفارة على الجماع فقط وهو قول الشافعي. سبب الخلاف فيه: هل الانتهاك بالأكل الشرب في معنى الانتهاك بالجماع أم لا؟ فقال الشافعي: الكفارة عقوبات لانتهاك الحرمة، والنفس للجماع أميل طبعًا، فكان تعليق الكفارة على خصوصية الجماع مناسبًا لمقصود الشارع، فلا يلحق به ما ليس في معناه، ولما كان ذلك عقوبات على الانتهاك وجب على ذلك قصر الكفارة على العامد دون الناسي من حيث كان غير منتهك بالمعنى. وكذلك لا تجب على مقتضى ذلك على المكره، وفي الأصلين عندنا خلاف الأولى إذا جامع في نهار رمضان ناسيًا فلا خلاف في وجوب القضاء، وفي وجوب الكفارة قولان الوجوب، لأن الاستفصال في قرائن الأحوال في مواضع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال، والإسقاط وهو المشهور لأنه غير مكلف ولا طالب الانتهاك، وكذلك المكره على الجماع، هل تجب عليه الكفارة أم لا؟ فيه قولان عندنا أيضًا الوجوب إذ لا

يأمن لذة (قبلة)، ولا يتعلق بها الإكراه البتة وهو قول ابن الماجشون، والإسقاط لأن تلك اللذة طبيعية لا اختيارية، إذا كان الجماع مكرهًا عليه في حال الصوم، كانت أسبابه الداعية إليه وإلى الإنزال محرمة كالفكر والنظر والقبلة والملاعبة والمباشرة، لأن ذلك كله استدعاء المني ويستنزل به اللذة الطبيعية غالبًا، ولا خلاف أن فعل هذه المقدمات التي عددتها في حال الصوم يستدعي المني، لا يجوز. وإنما الخلاف هل يمنع (بنفسها) للاستدعاء، أو إنما يمنع الاستدعاء فقط، ومنه نشأ الخلاف في جواز القبلة للصائم، والخلاف في ذلك بين السلف مشهور، وفي المذهب في القبلة للصائم ثلاثة أقوال: التحريم مطلقًا لأن مظنة الشيء كالشيء غالبًا، والكراهية لما فيها من الاحتمال لإفساد الصوم، وعدم إفساده. وجوزوها للشيخ، ومن علم من نفسه سلامته غالبًا. منعها للشاب ومن لا يتقي سلامته منها غالبًا والخلاف في ذلك بين السلف مشهور. وصح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يملك إربه). وروى عن ابن عمر قال: (رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فرأيته لا ينظر إلي فقلت: يا رسول الله ما شأني؟ قال: ألست الذي تقبل وأنت صائم؟ قلت: والذي بعثك بالحق لا أقبل بعدها، وأنا صائم أبدًا) وفي إسناده

متكلم. وأما الفكر والنظر لغير استدعاء المني فجائز، وأما المباشرة، والملاعبة فممنوعة لقوله سبحانه: {فالأن باشروهن} الآية [البقرة: 187] ومقتضاها تحريم المباشرة بعد الفجر. تكميل: اختلف الفقهاء في من فعل مقدمات فأمنى مثل القبلة والمباشرة عل تجب عليه الكفارة، لأن فاعل السبب كفاعل المسبب في قضاء الانتهاك، أو لا يجب، لأن وجوب الكفارة معلق عن الجماع. والأول هو المشهور عندنا. وكذلك اختلف المذهب فيمن استدام النظر فأمذى، هل القضاء عليه واجب، أو مستحب، فيه قولان مراعاة للقصد، والاستدامة، والاستحباب اعتبار للسلامة. ولو استدام النظر فأمذى فالقضاء في هذه الصورة مستحبة، ولو نظر فالتذ بقلبه فلا شيء عليه. ولو أنعظ، فالمشهور القضاء خاصة ولا كفارة عليه. وعندنا وجوب الكفارة عليه إذا استدام النظر حتى أنعظ، لأن ذلك علامة على تحريك المني وقرب خروجه، ولو استدام النظر فأمنى فالكفارة واجبة عليه، وإن لم يداوم النظر فأمنى فلا خلاف في وجوب القضاء عليه. وفي وجوب الكفارة عليه قولان فقيل: عليه الكفارة إذا قصد النظر والمشهور سقوطها، لأن النظر لا يكون سببًا للمني غالبًا. وحكى الشيخ أبو القاسم فيمن نظر أو تذكر فأنزل روايتين في وجوب الكفارة، فقيل: إنها واجبة، وقيل: عليه القضاء دون الكفارة. ولو قبل فالتذ بقلبه فلا شيء عليه، وإن أنعظ فقولان وجوب القضاء، إذ الإنعاظ علامة على تحريك المني للخروج، وإسقاطه، لأن الاعتبار بالخروج لا (بالتمييد) للخروج،

وكذلك حكم المباشرة، أو الملاعبة إن لم ينعظ فلا شيء عليه، وإن أنعظ فقولان في القضاء: الوجوب والإسقاط، ولو قبل أو باشر أو لاعب (ناسيًا) فههنا وجبت عليه الكفارة بلا خلاف، ولو مس ذكره فأمنى أو مست المرأة فرجها فأمنت فعليها القضاء، والكفارة رواية عن المذهب. وكذلك إن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو جامع فيما دون الفرج فأنزل، فإن جامع دون الفرج فلا كفارة إلا أن ينزل فلا يختلف حينئذ وهل يجب عليه القضاء إذا جامع دون الفرج فلم ينزل، نص البغداديون على وجوب القضاء. فقال: بعض شيوخنا الممنوعات التي يجب أن يمسك (عنها الصائم) نفسه ثلاثة: الأول: الجماع ودواعيه. والثاني: ما يصل (إلى البطن) من منافذ الجسد. والثالث: الاستقاء. الواجب بذلك ينقسم خمسة أقسام. الأول: يوجب القضاء والكفارة باتفاق، وهو الوطء العامد، فالكفارة في (هذا القسم) واجبة باتفاق. الثاني: ما يوجب القضاء باتفاق، واختلف في وجوب الكفارة، وهو من قبل أو باشر مرة واحدة فأنزل، ومن أسقط نية الصوم من قبل الفجر إلى غروب الشمس عامدًا أو الوطء ناسيًا، والأكل والشرب جاهلًا، ومن قالت:

حيضتي اليوم فأفطرت قبل الحيض حاضت فيه، والمريض القادر على الصوم يقول: اليوم يوم حماي فيفطر قبل مجيء الحمى والإكراه على ما يفسد الصوم، ومن أصبح على سفر فأفطر ولم يسافر فالقضاء في جميع ذلك واجب، وفي وجوب الكفارة قولان عندنا. الثالث: ما يوجب القضاء باتفاق، ولا كفارة فيه، وذلك الأكل والشرب نسيانًا، ومن ظن أن الشمس غابت، وأن الفجر لم يطلع ثم تبين خلافه. ومن نظر أو لمس أو قبل أو باشر، وقد كرر ذلك عامدًا ولم ينزل. الرابع: اختلف في القضاء ولا كفارة فيه كالفتائل للحقنة وصب الدهن في الإحليل ومن يداوي جحائفة بدواء مائع، وغيار الطريق الدقيق فلا كفارة في ذلك كله، وفي وجوب القضاء قولان. الخامس: اختلف في القضاء والكفارة فيه كالفلقة من الطعام بين الأسنان يبلعها عامدًا أو جاهلًا. وعليه قد اختلف في وجوب القضاء والكفارة على قولين، فقيل: القضاء خاصة دون الكفارة، وقيل: عليه القضاء والكفارة، وقد تقدم الكلام فيمن جامع عامدًا. ويتعلق بذلك حكم المرأة، ولا يخلو أن تطاوعه على الجماع أو يكرهها، فإن طاوعته فعلى كل واحد منهما القضاء والكفارة، وإن أكرهها فهل يلزمه التكفير عنها أم لا؟ فيه قولان في المذهب اللزوم تغليظًا عليه، ونفيه، لأن كفارته تجزئ عن الهتك، قال مالك: ومن قبل امرأته قبلة واحدة فأنزل فعليه القضاء والكفارة.

قوله: "ولا بالوجه الذي يخرج عن الصوم من اعتقاد تركه": يعني اعتقاد ترك الصوم وذلك أمسك عابثًا لا متقربًا. قوله: "إن بعد عقده": يعني أن يتركه. ويفسد عقده فهو كالأول. قوله: "بقطع نية أو إمساك" أو قطع إمساك فهو تنويع لنوع الفساد، إما قطع النية وإما قطع الإمساك. قوله: "ولا بطروء عذر بعد ذلك أو عدمه": يعني إذا أفطر منتهكًا، ثم لم يقض اليوم حتى جدت له معنى يبيح الفطر، فالقضاء والكفارة واجبان عليه لمقصوده الأول، والطارئ لا يرفع حكم الكفارة الثابت قبل الطروء. قوله: "والكفارة الكبرى ثلاثة أنواع": هذا كما ذكره، وقد اختلف في هذه الكفارة هل هي على الترتيب أو على التخيير، وذلك مبني على اختلاف روايات الحديث ففي بعضها هل تستطيع أن تعتق رقبة أخرى، وذلك يقتضي الترتيب وهي رواية ابن وهب عن مالك، وبذلك يقول الشافعي وأبو حنيفة. وجمهور أصحاب مالك على أنها على التخيير. فإذا قلنا: إنها على التخيير، فقد اختلفوا في الأفضل من أنواعها، (فقيل) هو الإطعام. قال

ابن القاسم: ولا يعرف مالك غيره، وروى ابن القاسم عنه أن المستحب في الفطر بالأكل الإطعام، ثم الصوم، ثم العتق، وقال أبو مصعب: إن أكل أو شرب فليس عليه إلا الإطعام، وإنما العتق والصيام في الوطء لأنه أعظم جرمًا. وقال مالك: الجميع في الاختيار سواء. واعتبر بعض الأشياخ حال المكفر، وحال البلد والوقت، فالإطعام في زمان الجوع أفضل، والعتق في زمان الرخاء أفضل، إلا أن يكون المكفر من أهل الرفاهية فيغلط عليه بالصيام وهذا استحسان، وإذا قلنا: إنها على الترتيب فشرع في الصوم ثم أيسر في أثنائه فهل ينتقل أم لا؟ فيه قولان في المذهب، والصحيح أنه ينتقل، لأنه بالدخول فيه قد تعين. تفريع: اختلفوا في السفيه هل يجزئ عنه الصيام، وإن كان واجدًا لغيره أم لا؟ وفيه قولان عندنا. أحدهما: أن فرضه الصيام، لأن العتق والإطعام إتلاف للمال، وقيل: هما مرتبان عن سبب فليستا بإتلاف شرعًا. قوله: "إعتاق رقبة كاملة": احترازًا من المعتقة بعضه. قوله: "غير ملفقة". قوله: "مؤمنة": احترازًا من الكافرة. قوله: "محررة": أي ليس فيها عقد حرية، ويشترط أيضًا أن تكون سالمة من العيوب، وكذلك حكم كفارة الظهار وغيره من أنواع الكفارة. والخلاف عندنا مشهور، هل يعتبر قوت المكفر نفسه أو قوت أهل البلد. قال القاضي -رحمه الله-: "وأما الصغرى فهي إطعام" إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في الكفارة الصغرى قوله سبحانه: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184]. والجمهور على أن هذه غير منسوخة بل محكمة للحبلى والمرضع،

ولا خلاف أنها مد بمد النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاء مفسرًا في السنة، ويتعلق بمؤخر قضاء رمضان إلى رمضان من غير عذر، والمرضع، والحامل، والشيخ الكبير المفند والعطشان الذي يخاف الهلاك على نفسه. أما مؤخر قضاء رمضان من غير عذر فلا خلاف في وجوب القضاء، وهذه الكفارة الصغرى عليه. واختلفوا في المرضع هل تجب عليها هذه الكفارة مع القضاء إذا أفطرت لعذر أم لا؟ وفيه روايتان عندنا، فكما سهل الشيخ أبو القاسم بن الجلاب فقال: ليس عليها إلا القضاء فقط كالمريض، وقيل عليه القضاء (والكفارة) وكذلك المعطش والشيخ المفند هل تجب عليه (الكفارة) أيضًا أم لا؟ فيه قولان عندنا. ونص القاضي على أنها مستحبة في حق المرضع والهرم. وأما الحامل ففيها أربعة أقوال: الأول: وجوب القضاء والكفارة مطلقًا سواء خافت على نفسها، أو على ولدها. الثاني: سقوط القضاء مطلقًا. الثالث: وجوبه فيما بعد الستة الأشهر، لأنها في حكم المريض وسقوطها فيما قبل ذلك. الرابع: أنها إن خافت على نفسها فلا كفارة عليها، وإن خافت على ولدها فعليها الكفارة مدان والاستدلال عليها غير متحصل على التحقيق. قوله: "وأما قطع التتابع فهو أن يفطر بغير عذر أو بعذر يمكنه دفعه

كالسفر": قد ذكرنا أن تسمية القاضي قطع التتابع وقطع النية حكم فيه تأمل، وإنما لاحظ في ذلك أنه إذا قطع التتابع بغير عذر، وجب عليه الابتداء، أو حرم النية فهو حكم يوجب الابتداء وامتناع البناء، وجعل السفر عذرًا اختياريًا لا يعتبر مع الأعذار التي ذكر، وقد تقدم الخلاف في ذلك في صيام التطوع، وأما السهو والمرض وخطأ العدة والحيض بأكله بقيته. قوله: "وأما قطع النية فهو إفساد الصوم أو تركه على الإطلاق": وأشار بالإفساد إلى خرمه بوجه مفسد بعد انعقاده (وأشار) بقوله: "أو تركه على الإطلاق" إلى من يعقده (البتة)؟، وهذا القسم فيه نظر، لأن الترك المطلق لا يصدق على قطع النية، وكلام القاضي يقتضي حمله عليه، فلو قال القائل: قطع النية ترك الصوم لكان الكلام غير مفهوم البتة، وكذلك ليس إفساد الصوم أيضًا هو غير قطع النية، بل القطع فعل المكلف، والإفساد حكم شرعي مترتب على المكلف. قوله: "ولا يقطع استدامتها وإنما يقطع استصحاب ابتدائها": إشارة إلى أن الأعذار التي هي المرض، والسفر، وإن كانت مانعة من (انحتام) مانع عقد الصوم فهي لا تمنع استدامته، لأن للمريض والمسافر أن يصوما (إنذارًا) لفعل الصوم، وتحملًا للمشقة في طاعة الله، غير أنهما إذا اختارا الصوم لزمهما تجديد النية وقطع هذا العذر استصحاب ابتداء النية المتصلة في جميع الشهر كما في حق الحاضر، ومن لا عذر له من المكلفين، فيلزم المريض والمسافر تجديد كل ليلة، لأن العذر مانع لهما من استصحاب النية الأولى، والضمير في قوله: "ولا يقطع" عائد على العذر الذي هو المرض والسفر.

قال القاضي -رحمه الله-: "وكل مسافر (سفر القصر) " إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في جواز الفطر للمسافر الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} الآية [المائدة: 6] فافطروا، وهو من لحن الخطاب. وأما السنة فحديث أنس قال: (سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم، ومنا المقر، فلم يعب أحد منا على الآخر) وانعقد إجماع الأمة على ذلك، واختلف المذهب في حكم ذلك كما تقدم في قصر الصلاة، والمشهور من المذهب أن الصوم أفضل، واحتج بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم} الآية [البقرة: 184]. وأما السنة فما ثبت من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد فأفطر، ثم أفطر الناس، فكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فابتداؤه -صلى الله عليه وسلم- يدل على أنه الأفضل، وعكسه آخرون فقالوا: رجوعه -عليه السلام- إلى الفطر يدل على أنه الأفضل وأما من قال بالتخيير فاحتج بحديث أنس، وقد قيد القاضي بقوله: سفرًا يجوز له قصر الصلاة فيه" فإن ما

دون ذلك لا يجوز له الفطر فيه، ولا القصر لانتفاء السنة غالبًا. قوله: "ولا ينحتم عليه إلا بأن يقيم بعزيمة في موضع لا أهل له به أربعة أيام ولياليها": قلت: لأنه إذا نوى أربعة أيام صار حكم المقيم، يدل على ذلك أنه -عليه السلام- لما هاجر من مكة أذن لمن تخلف عنه أن يقيم ثلاثة أيام، وقد كان منع من الإقامة بها بعد هجرته -عليه السلام-، فدل على أن الثلاثة الأيام في حكم السفر لا في حكم الإقامة. فرع: إذا أصبح صائمًا في الحضر، ثم عرض له سفر فسافر فهل يجوز له الفطر أم لا؟ المشهور أنه لا يجز له ذلك اليوم لانعقاد نية الوجوب عليه، وأجازه ابن حبيب، وحكى الشيخ أبو الحسن بن القصار عن المذهب كراهية الفطر لا تحريمه. فإذا قلنا: إنه لا يجوز له الفطر، وهل يستحب ذلك في حقهم أم لا؟ فإن (تأول المسافر) فأفطر فلا يخلو أن يفطر قبل السفر أو بعده فإن أفطر بعد خروجه فقال المغيرة وابن كنانة عليه الكفارة لأنه بانعقاد سبب الوجوب عليه صار هاتكًا. وقال مالك: لا كفارة عليه، لأنه لم يفطر إلا في حال (لا يجب) عليه الصوم فيه. وإن أفطر قبل خروجها فاختلف في وجوب الكفارة عليه على ثلاثة أقوال. الأول: وجوبها عليه، خرج أو لم يخرج مراعاة لزمان الانعقاد، وحال الفطر. قال ابن القاسم: لا كفارة عليه لأنه متأول، وقد ذكرناه قبل، سواء خرج أو لم يخرج وهو قول أشهب وسحنون. وروى ابن

حبيب عن ابن القاسم وابن الماجشون أنه إن (أفطر استعمال أسباب السفر). مسألة: وإذا صام في السفر ثم أفطر فهل تجب عليه الكفارة أم لا؟ قولان (وجوبه ونفيه) وقيل: تجب مطلقًا، لأن دخوله في الصوم أوجبه عليه، وأراد التخيير، وقيل: لا كفارة عليه اعتبارًا بأصل التخيير وقيل: إن أفطر فجامع فعليه الكفارة، وإن أفطر ولم يجامع فأكل فلا كفارة عليه، لأن ذلك يقوي على السفر بخلاف الجماع. قوله: "والأعذار التي يسوغ معها الفطر في رمضان ضربان": مقصود هذا الفصل أن يبين أن من الأعذار ما يؤمر المكلف بالإمساك بقية يومه مع ارتفاعه، ومنها ما لا يؤمر بالكف في (يومه) كالمسافر والمريض والمرضع يموت ولدها لا يجب عليهم الكف، وأما الناسي، ومخطئ الوقت والعدد، عليهم ذلك. فالناسي هو الداهل عن كون اليوم من رمضان. وأشار بمخطئ الوقت إلى الأسير. والخطأ في العدد ظاهر وذلك عند الأهلة. وانظر قوله: "منها ما لا يوجب ذلك فيه" هل يقتضي إثبات الاستحباب، أو التخيير، ومقتضى اللفظ نفي الإيجاب فقط. وأشار بقوله: "مع العلم" بكون اليوم من الشهر، أو بشرط عدمه (إلى) كلا القسمين، فإن المسافر والمريض والمرضع أبيح لهم الفطر مع علمهم باليوم، وأما الناسي ومخطئ الوقت والعدة فإنما أفطروا لعدم العلم باليومين، فقابل القسمين بطرفين، قابل المسافر والمريض والمرضع بطرف العلم، وقابل الناسيء ومخطئ الوقت والعدة

بالطرف الآخر الذي هو عام العلم باليوم، وقابل شيئين بشيئين وهي مقابلة حسنة، والتفات صحيح في الكلام. والضمير في قوله: "أو شرط عامه" عائد على العلم، والإباحة المطلقة، إشارة إلى الإباحة في محل العذر، فهي مطلقة في محلها والله الموفق.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف قال القاضي -رحمه الله-: "والاعتكاف قربة" إلى قوله: "وليل المعتكف". شرح: الاعتكاف في اللغة اللزوم. قال الله تعالى: {يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: 138] وقال: {سواءً العاكف فيه والباد} [الحج: 25]. وهو الشرع: "ملازمة المسجد، للعبادة". أجمع العلماء على أنه من أعمال البر لا سيما في رمضان، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخيار المسلمين فعلوه وكانوا عليه فيه. واختلف الفقهاء في حكمه، فأطلق القاضي أبو محمد، والشيخ أبو محمد بن أبي زيد وكثير من القرويين عليه أنه نافلة، وقال بعض الأندلسيين: سنة مؤكدة سيما في عين رمضان رجاء التماس ليلة القدر، وهي عبارة أبي الوليد بن رشد. وسماه القاضي قربة من حيث كان داخلًا في أعمال البر، ثم خصصه بحكمه، وهو من نوافل الخير، فلفظ القربة عام، ولفظ النافلة خاص، فلا يظن بكلام القاضي ههنا الترادف والتوكيد، بل

هما إطلاقان: عام، وخاص، وفي كلام مالك ما يدل على كراهيته لأنه شاق قد يكون يقدر الإنسان على الوفاء بجميع شروطه. وفي الشرع ينقسم قسمين: نذر وتطوع. فالنذر على وجهين: معين، وغير معين، فالمعين يلزمه بتعيينه فإن كان في رمضان يلزمه قضاؤه، وإن كان في غير رمضان فأفطر فيه لمرض أو غيره من الأعذار فهل يلزمه قضاؤه أم لا؟ قولان حكاهما الشيخ أبو القاسم لزوم القضاء ملاحظة الالتزام، ونفي اللزوم ملاحظة التعيين وغير المعين هو المطلق، ويلزمه قضاؤه إجماعًا. ولا يجوز جعله في صوم رمضان، ولا في غيره من أنواع الصيام الواجب كصوم الظهار، وقتل النفس والتطوع، وهو ما يشرع فيه من غيره. قوله: "ويلزم بالنذر" هو كما ذكره لقوله سبحانه: {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ولقوله -عليه السلام-: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). قوله: "ومعناه في الشرع": هو تخصيص شرعي والصوم شرط فيه لا سيما اعتكافًا شرعيًا لأنه لا بد عندنا منه. وقد اختلف العلماء في ذلك، فاستقرئ من مذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا اعتكاف إلا بصوم، وبه قال من السلف كثير. منهم: ابن عمر وابن عباس وقال الشافعي: الاعتكاف بغير صوم جائز.

وسبب الخلاف فيه أمران: أحدهما: أن الله سبحانه قرنه به في الآية التي تضمنت ذكر الصوم. الثاني: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعتكف قط إلا في رمضان، فهل ذلك الاقتران الفعلي مقصود. والثاني هو مورد النظر، والأصح أنه مقصود. واحتج الشافعي بحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين قال: لله علي أن أعتكف ليلة فقيل: إن نذره باطل، إذ لا اعتكاف إلا بصوم، والليل ليس محل الصوم، وقيل: يلزمه اعتكاف يوم وليلة لارتباطهما، (ولا) سيستغني بأحدهما عن الآخر وكذلك اختلفوا إذا قال: لله علي أن أعتكف يومًا، فقيل: لا يجوز لفعله -صلى الله عليه وسلم- كان تطوعًا لا منذورًا. وكذلك اختلف أهل العلم إذا قال: لله علي أن أعتكف مطلقًا هل يلزمه فيه التتابع، وهو قول مالك وأبو حنيفة أو لا يلزم، وهو قول الشافعي. قوله: "مع صوم إما له (أو) لغيره": وهذا فيه تسامح، لأن ظاهر كلامه عموم ذلك في اعتكاف النذر والتطوع، واعتكاف النذر لا يجوز فيه إلا الصوم المراد له، حتى إنه لا يجوز في شيء من أنواع الصيام الواجب كما ذكرناه على نصوص المذهب، وحكى بعض المتأخرين اختلاف المذهب فيمن

نذر اعتكافًا مطلقًا هل يكون الصوم منذورًا أم لا؟ على قولين، فمن قال منذورًا لم يجز أن يجعله في صوم واجب، ومن قال: ليس بمنذور جعله في أي صوم شاء، وهذا جار على مقتضى ما قاله القاضي أبو محمد. قوله: "والمرأة والرجل (في ذلك سواء) ": تنبيهًا على مذهب المخالف أبي حنيفة حيث قال: "اعتكاف المرأة في بيتها أفضل" كما أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاة المسجد كما جاء في الخبر. ومن العلماء من رأى أن اعتكافها في المسجد أفضل مع زوجها كما كان -عليه السلام- يفعل مع أزواجه. قوله: "ولا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد": قلت: أكثر العلماء على أن الاعتكاف الشرعي لا يصح إلا في المسجد، وقال ابن لبابة: يصح في غير المسجد، وقال قوم: لا يكون الاعتكاف إلا في المسجد الجامع لما يلزم المعتكف من حضور الجمعة والخروج إليها. قوله: "ولا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لأربعة أمور أحدها حاجة الإنسان": وهذا لا يتصور الاعتكاف فيه، وكذلك طرؤ حيض أو نفاس أو مرض. واختلف المذهب هل يخرج لشراء طعامه أم لا؟ فالمشهور جواز ذلك، والشاذ المنع من ذلك، ويؤمر بتيسر أشيائه وتهيئ معيشته قبل الدخول،

وكذلك اختلف المذهب عندنا هل يخرج لصلاة الجمعة إذا اعتكف في غير مسجد الجمعة، وهل يخرج للجنازة في خارج المسجد أم لا؟ وهل يخرج لصلاة العيدين، ولغسل الجمعة، ولغسل ثيابه إذا احتاج إلى ذلك، وفي ذلك كله عندنا خلاف في المذهب فقيل: لا يخرج، لأن ذلك مناقض لسنة الاعتكاف، فإن خرج بطل اعتكافه، وقيل: يخرج لأن ذلك ضرورة وطاعة، وكذلك لا يخرج لطلب دين له، وهل يخرج لدين عليه أو لا؟ لا يخلو أن يدخل لدداً أو غير لدد، فإن دخل لدداً فلا خلاف في إخراجه جبراً، وإن دخل على غير وجه اللدد فهل يخرجه الحاكم جبراً أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال، فقيل: يخرجه مطلقًا تغليبًا لحق الآدمي، وقيل: لا يخرجه مطلقًا تغليقًا لحق الله سبحانه، وقيل: إن بقي له من الاعتكاف اليوم واليومين فلا يخرجه، فإن طال الأمر أخرجه، قال ابن القاسم: إن خرج لطلب دين عليه ناجز وجب عليه بطل اعتكافه، وروى عن مالك أنه لا يبطل، لأن هذا ضرورة، وإن طلب بأداء شهادته. قال مالك في (العتبية): يؤديها في المسجد، وقيل: ينقل عنه، وأجاز النقل عنه، وإن كان صحيحًا لأجل العذر. قوله: "ويلزم المعتكف من حكم الاعتكاف في حال خروجه ما يلزمه في حال مقامه": وهذا كما ذكره لأن حكم الالتزام باق عليه، وإنما أباح له الخروج وجود العذر. قوله: "ولا يجوز له الخروج لغير ما ذكرناه من عيادة المريض أو صلاة على جنازة، وإن كان لأهله".

قلت: اختلف المذهب في العمل الذي يخص الاعتكاف، قيل: الصلاة وذكر الله، وقراءة القرآن لا غير ذلك، وقيل: جميع أعمال البر الأخروية، فيدخل في ذلك الصلاة على الجنازة ودراسة العلم ونسخه، وكل عمل فيه ثواب وقربة، ولا يبيح الاشتراك فيه إباحة ما ليس فعله في الاعتكاف كالحج والعمرة، والخلاف في ذلك بين أهل العلم مشهور، قال مالك: قد اعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرف المسلمون سنته، فإن اشترط ما يغير سنة الاعتكاف، فحكى ابن القصار أن ذلك لا يفيد. قوله: "ويتجنب المعتكف جميع أنواع المباشرة": قلت: الأصل في ذلك قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون} الآية [البقرة: 187]. نبه بالمباشرة على ما في معناها من أنواع الاستمتاع، فإذا فعل من هذه الممنوعات شيء بطل اعتكافه، ووجب عليه القضاء، هذا مذهب جمهور العلماء وشذ ابن لبابة فقال: إن المباشرة تحرم على المعتكف في المسجد، وأما في غير المسجد فلا. وإن جامع عامدًا في غير المسجد لم يبطل اعتكافه عنده، وهذا شذوذ عن أقوال الجماهير ولا يعول عليه، وربما كان به مسندًا بالآية، وقال أبو حنيفة: إن قبل أو باشر لم يبطل اعتكافه. وأجمع العلماء على أن المعتكف إذا ارتكب كبيرة بطل اعتكافه، ولو بطل اعتكافه لعذر جاز له البناء. قوله: "وله أن يعقد النكاح لغيره أو لنفسه": وهل (يجوز) النكاح للمحرم، والخلاف في ذلك مشهور.

قال القاضي -رحمه الله-: " وليل المعتكف ونهاره سواء" إلى آخره. شرح: قد تقدم العمل الذي يخص الاعتكاف، وبقي النظر في الوقت الذي يدخل المعتكف إلى معتكفه، واختلف العلماء في ذلك، قال مالك: يختار له الدخول قبل الغروب (للشمس) من ليلة الذي هو مبتدأ اعتكافه ليأتي عليه (الليل) السابع بيومه وهو معتكف، وهذا إذا بنينا على اعتبار الليل، وقال الأوزاعي: يدخل بعد صلاة الصبح، وقال (الشافعي) والليث: وروى فيدخل قبل طلوع الفجر لتحقيق اعتكاف اليوم فقط من حيث كان الليل مرادًا بنفسه للاعتكاف ولا معتبر فيه، والصحيح في ذلك الاعتماد على ما خرجه البخاري عن عائشة قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في رمضان فإذا صلى الغداة داخل مكانه الذي كان يعتكف فيه). قوله: "والاختيار فيه ألا ينقص عن عشرة أيام": أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا حد له، واختلف في أقله وقيل لا حد لأقله، وقيل: يوم وليلة، إذ لا يجوز ليلة، لأن الليل ليس محل الصوم، فلا أقل من يوم وليلة لتحقق الصوم الذي هو شرط الاعتكاف، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: عشرة أيام. ورواه ابن القاسم عن مالك اعتمادًا على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، هل ذلك التحديد أداء (للواجب) أو للأفضل، هو مورد النص، وصح حديث عمر بن الخطاب الذي أمره -عليه السلام-

أن يوفي بنذره، وأما التحديد بثلاثة وما دونها فاستحسان لا دليل عليه. قوله: "وفي حقيقة الواجب أن يدخل قبل طلوع الفجر": لأنه (مبدأ) اليوم الذي هو محل الاعتكاف، إذ الليل ليس محلًا عند الجمهور، وبغروب الشمس ينقضي اليوم، فعنده يتحقق جواز الخروج، واستحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان ألا يرجع إلى بيته إلا بعد أن يصلي العيد، وإن خرج بعد غروب الشمس ليلة الفطر أجزأه، وقال سحنون وابن الماجشون: إن رجع إلى بيته قبل طلوع الفجر من ليلة الفطر فسد اعتكافه لأن الليلة الفائتة من العشر هي المجتمع عليها، فإن بقي عليه أيام من الاعتكاف النذر بعد يوم الفطر، شهد العيد ثم عاد إلى الاعتكاف، وقيل: لا يخرج إلى العيدين، والأول أصح، لأنه مشهور ما يؤمر بمحضره. قوله: "والاعتكاف مقتضى بإطلاقه التتابع": وقد تقدم الخلاف في ذلك، وعمدة مذهب مالك أن الصوم المنذور المطلق لا يقتضي التتابع بخلاف الاعتكاف المطلق المنذور مثل: أن يقول: لله علي أن اعتكف عشرة أيام فيجب عليه التتابع، ولا يجوز تفريقها، فإن فرقها لعذر بنى، وإن كان لغير عذر ابتدأ. والله الموفق للرشاد.

كتاب المناسك

كتاب المناسك قال القاضي -رحمه الله-: "الحج فرض واجب على مستطيعه" إلى قوله: "وفرض الحج". شرح: الحج في اللغة بكسر الحاء، وفتحها، هو القصد مطلقًا، وفي الشريعة: قصد البيت الحرام لأداء الفريضة المعلومة التي (هي) أحد أركان الإسلام. والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا} [الحج: 29] وقال -عليه السلام-: (بني الإسلام على خمس) وذكر فيها الحج، وقال -عليه السلام-:

(كتب عليكم الحج فحجوا)، وأجمعت الأمة على وجوبه على المستطيع، وسنتكلم على المستطيع بعد. (وإرداف) القاضي بقوله: "فرض واجب" تأكيد كما قدمناه قبل. قوله: "على مستطيعه": (تقييد) يخرج غير المستطيع، والاستطاعة هي شرط مجمع عليه بين الأمة. قوله: "من الأحرار المكلفين": احترازًا من العبيد. قوله: "الرجال": تحرزًا من الصبيان، لأن الصبي لا يسمى رجلًا في حال الصبا باعتباره إطلاق الجنس. قوله: "وشروط وجوبها أربعة البلوغ": احترازًا من الصبي، والعقل احترازًا من المجنون، فلا خلاف بين المسلمين في اشتراطهما في الوجوب، لأن غير البالغ وغير المكلف فاقدان شروط المكلف، وإنما اختلف الفقهاء في حج الصبي، هل ينعقد أم لا؟ قال مالك والشافعي: إذا وقع من الصبي فهو منعقد، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد، واحتج مالك والشافعي بحديث البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مر بامرأة وهي في محفتها

فأخذت بضبعي صبي قالت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) واحتج أبو حنيفة بأن القلم مرفوع عنه بنص الحديث. وقوع العبادات من غير العاقل قال: لا يصح، وهذا عموم لقائله، خصوص لحديث ابن عباس. واختلف القائلون بأن حج الصبي ينعقد هل يجزئه عن حجة الإسلام أم لا؟ قال مالك والشافعي: لا يجزئه وقال داود: يجزئه، واعتمد مالك والشافعي على أنه إذا وقع من الصبي نافلة فلا يجزئ عن الفريضة. واعتمد داود على ظاهر حديث ابن عباس. واختلف أصحاب مالك في صحة انعقاده عن الطفل الرضيع يعقده عنه أبوه أو وليه، واختار بعضهم صحة انعقاده ووقوعه عن ابن السبع، والعشر، لأنه مأمور بالصلاة شرعًا، وروى أن المذهب لم يختلف في ذلك، واشتراط الحرية تحرزًا من العبد. والمتحصل على مالك أن لا حج على العبيد، فإن حج وهو عبد، ثم عتق لم يجزه عن الفريضة كالصبي اعتمادًا على أن العبيد مستغرقون في حقوق السادات، فلم يقع المشترط في الوجوب.

قوله: "وشروط أدائه شيئان: الإسلام": قد قدمنا الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة، وعليه اعتبار هذا الشرط. وأما إمكان السير فهو شرط في الوجوب لأنه راجع إلى الاستطاعة التي أدخلها في شروط الوجوب. إلا أن ظاهر كلام القاضي أن الاستطاعة إلى حال المكلف في نفسه فهي شرط في الوجوب. وإمكان السير راجع إلى الطريق من الأمن، والخوف فلذلك جعلها من شروط الأداء، فلا (تناقض) في كلامه باعتبار هذا المقصود. وقد اختلف العلماء في تفسير الاستطاعة المشترطة، هل هي مقدرة، أو بحسب الأحوال، والمشهور من المذهب أنها بحسب الأحوال كما قاله القاضي. وقال الشافعي وغيره: هي الزاد والراحلة مع أمن السبيل، وروى هذا القول الذي قاله الشافعي عن سحنون وغيره من أهل المذهب. قوله: "كالفيوج": قال ابن سيده في المحكم: الفيج رسول السلطان

على رجليه، وجمعه فيوج يقال: أفاج في الأرض إذا ذهب فيها، وهو الذي يقال له: الرقاص. قوله: "وليس المحرم للمرأة من الاستطاعة": وهذا قد اختلف العلماء فيه. وتحصيل القول فيه: أن الحج لازم لها مع الزوج، أو ذي محرم. واختلف المذهب إذا لم يكن لها ولي على ثلاثة أقوال: الأول: أنها تسافر مع الرفقة المأمونة تقديمًا لفريضة الله تعالى. الثاني: أنها لا تسافر إلا مع الولي المحرم، أو الزوج. الثالث: أنها تسافر بحجة الفريضة مع الرفقة المأمونة، وإن لم يكن لها زوج ولا ولي، ولا تسافر بحجة النافلة إلا مع زوج، أو ذي محرم، وسوى في حقها البر والبحر في زمان يغلب فيه على الظن الأمن وروى عن مالك أنه كره للمرأة الحج في البحر. قال أبو عمر بن عبد البر: فهو كذلك في الجهاد أكره قال بعض البغداديين من المالكية: إنما كره ذلك لصغر السفن بالحجاز، إذ لا يمكن للمرأة الاستتار فيها لضيقها، فأما السفن الكبار فلا بأس بها. وروى عن مالك أنها إذا لم تجد سبيلًا إلا في البحر فلا يلزمها الحج جملة من غير تفصيل. واعتمد من اشترط في استطاعتها المحرم على نهيه -عليه السلام- أن تسافر المرأة من غير ذي محرم منها أو زوجها فوق ثلاثة، وفي بعضها يومين، وفي بعضها

يوم وليلة، وفي بعضها يوم، وفي بعضها بريد، وذلك كله مروي عن ابن عمر، واعتمدوا أيضًا على أنه -عليه السلام-: (رد رجلًا (اكتتب) في الغزو والحج امرأته). واعتمد الآخرون على أن الاستطاعة حاصلة وهي شرط الوجوب. وروى عن ابن القاسم أن المرأة إذا قدرت على المشي، ولا تجد راحلة فلا يلزمها المشي إلا أن يكون الموضع قريبًا جدًا كأحواز مكة وقراها. وروى عن مالك أنه لا يلزمها المشي إن قدرت لضعفها، ولأن ذلك من تكليف المشقة المرفوعة شرعًا. وسئلت عائشة -رضي الله عنها- عن المحرم للمرأة هل هو شرط فقالت: (ليس كل الناس تجد محرمًا). ولا خلاف أن الحج لا يلزم الأعمى الذي لا يجد قائدًا، أو لا يجد من يستبد بخدمته، لأن ذلك من الحرج المرفوع، فإن وجد قائدًا لزمه، لحصول شرط الاستطاعة حينئذ. قوله: "والبحر لا يمنع الوجوب": هو كما ذكره على الشرط الذي ذكره، ولو علم من حاله أنه يميد حتى (يعطل) فريضة واحدة، حرم عليه ركوبه. وأما (المعطوب) الذي لا يمسك نفسه عن الراحلة، ففرض الحج

ساقط عنه لعجزه فقد شرط الاستطاعة، لأنه -عليه السلام- عذر الخثعمية حيث شكت إليه أن أباها شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة فأمرها بالنيابة عنه. فلذلك يدل على سقوطه عنه ببدنه، أو على أنه مخاطب به في ماله، وسنذكره. قال القاضي -رحمه الله-: "وفرض الحج على الفور" إلى آخر الفصل. اختيار المتأخرين من المالكية. والخلاف فيه بين العلماء مشهور. ووقع في المذهب فيمن منعه أبواه أو أحدهما أنه يتربص السنتين والثلاثة، لأنهما واجبان (تعارضا). والمختار عند البغداديين من المالكية أنه على الفور، وهو صريح مذهب أبي حنيفة. وللعلماء في هذه المسألة مسالك منطقية وقياسية. فاعتمد الشافعي، ومن تبعه من المتأخرين من المالكية على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخر الحج بعد أن فرض عليه. وذلك يقتضي التوسعة، إذ لو

كان على الفور لما أخره، عنه الحنفية بأنه -عليه السلام- إنما أخره بتوجيه من الله، إذ كان مشتغلًا بالدعاء إلى الله، وتقرير التوحيد، والإرسال إليه، فأخره لاضطرار العارض، وأحسن السنتين كالزيادة في تأخيره والثلاثة إلا رضا الأبوين، ومنها أنه كان مصدودًا في غالب أحواله، لأن المشركين قد استولوا على مكة حتى أظهر الله أمره، فكان تأخيره -عليه السلام- بعذر، وقد رد الحنفية ذلك من طريق المعنى والقياس المشهور، وذلك أنهم قالوا: كما لا يجوز تأخير الصلاة حتى يذهب وقتها، كذلك لا يجوز تأخير الحج وقت وجوبه على العام الذي توجب فيه التكليف وتحقق في وجوبه على المكلف سيما أن الحياة إلى العام الثاني محتملة. وقال القاضي: "هذا استحسان، ورفق لصعوبته وموضع الاجتهاد في استطاعته" إشارة إلى استحسان التأخير لتعارض النظر والاجتهاد في تحقيق الاستطاعة المشترطة في الوجوب حتى لو تحصلت تحقيقًا لما كان إلى التأخير سبيل، فلما كان موضع اجتهاد، وكان حصولها غير متيقن، جاز التأخير المذكور. قوله: "ومن مات قبل أن يحج لم يلزم الحج عنه": وهذا كما ذكره، وهو صريح مذهب مالك. وقد قسم العلماء العبادات على ثلاثة أقسام: مالية محضة، فالنيابة فيها جائزة إجماعًا، وبدنية محضة فالنيابة فيها ممنوعة كالصوم، ومركبة من المال والبدن كالجهاد والحج، وهذا قد اختلف في جواز النيابة فيه في الفرض. وأجمع العلماء كافة على جواز النيابة في حج التطوع. وتحصيل مذهب مالك -رحمه الله- أن المستنيب في الحج إما أن يكون حيًا،

أو ميتًا، فإن كان ميتًا فلا يخلو أن يوصي به أولًا. فإن لم يوص به فلا حج عنه على المشهور سواء كان ضرورة، أو غير ضرورة. فإن أوصى به هل تنفد وصيته، ويحج عنه أم لا؟ فيه قولان: المشهور تنفيذ وصيته، والاستئجار عليه من ثلثه مراعاة للخلاف. والشاذ أن وصيته لا تنفذ، والنيابة عنه لا تجوز ملاحظة لأصل القاعدة: أن النيابة في الأعمال البدنية لا تجوز. وإن كان حيًا إما أن يكون عاجزًا، أو قادرًا عليه، فإن كان قادرًا عليه لم تجز النيابة عنه بلا خلاف، وإن كان عاجزًا فهل تجوز النيابة عنه أم لا؟ في المذهب فيه ثلاثة أقوال: الأول: جوازها مطلقًا من كل نائب أجنبيًا، كان أو قريبًا عملًا بمقتضى الأحاديث الصحاح الواردة في المذهب. منها: ما خرجه الشيخان البخاري ومسلم من حديث ابن عباس: (أن امرأة خثعمية قالت لرسول الله: يا رسول الله فريضة الله على عباده أدركت أبي كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه، وذلك في حجة الواداع) ومنها: ما خرجه البخاري أيضًا من حديث ابن عباس قالت: (أتت امرأة من جهينة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي نذرت الحج أفأحج عنها؟ قال: حج عنها أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضية؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء). القول الثاني: امتناع النيابة مطلقًا اعتمادًا على قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]. القول الثالث: جواز نيابة الابن فقط دون غيره من (الأجانب والأقارب) قصرًا للحديث على ما ورد عنه. قوله: "ويلزم النائب في الحج عن غيره أن ينوي به من ينوب عنه":

وهذا كما ذكره، لأن فعل النائب إنما (هو) عارية (لمن) ناب عنه، فلذلك خصه بالقصد. قوله: "ويكره لمن لم يؤد فرض نفسه أن ينوب عن غيره": وهذا كما ذكره، والدليل عليه حديث ابن عباس أنه -عليه السلام- سمع رجلًا يقول: (لبيك عن شبرمة، فقال له: ومن شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قال: قريب لي، فقال -عليه السلام-: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة). قوله: "ويكره التنقل بالحج قبل أداء فرضه": وهو كما ذكره، لأن الفرض أسبق وحرمته آكد. قوله: "والنيابة في الحج بأجر وبغير أجر سواء": وهذا كما ذكره، والتسوية بينهما في جواز النيابة على شرطها في محلها غير أن (أخذ) الأجرة على ذلك مكروه شديد الكراهية، لأن الأصل في العبادات أن تفعل تقربًا إلى الله، ولرجائه العوض منه، لا للأغراض الدنيوية. قال مالك: لا يستأجر الرجل نفسه في عمل البر (والحطب التي من هذا). ثم ذكر القاضي أن هذه الإجارة على قسمين أحدهما: أن يكون كسائر (الإجارات) والثاني:

يسميه أصحابنا البلاغ، وبين القسمين، والأمر كما ذكره. ولو وصى بمال معلوم يحج به عنه فوجد الورثة من يحج عنه بأقل من ذلك رد الباقي على ورثته، إلا أن يوصي بذلك لرجل بعينه، فله أخذه، فإن لم يعين عددًا ولا عدد الحجات فوجد من يحج بأقل مما يسمي من المال، فهل يكون الباقي للورثة إن حج عنه بالجميع حجًا. اختلفت الروايات فيه عن المذهب على قولين. واختلف (المذهب) في فروع تتعلق بذلك. الأول: إذا استأجر أجيرًا على الحج فهل يعتبر على الحج شرط في صحة الإجارة، ولا يلزم اشتراط التعيين، لأن العقد يوجبه وإن لم يكن شرط، فيه قولان عندنا، فقيل: يوجب الشرط، وقيل: يحمل بالعقد على السنة. الثاني: إذا أخذ الإجارة على الحج بأن يقيم على الإحرام إلى عام قابل، فهل له ذلك أم لا؟ فيه قولان. الثالث: إذا استأجر عام الحج ... . قوله: "والعمرة سنة مؤكدة": قلت: اختلف الفقهاء في حكمها على قولين: المشهور: أنها سنة، والشاذ أنها واجبة وهو قول طائفة عظيمة من السلف، وقيل: إنها مع باق الخمس والحجة للشاذ قوله تعالى: {وأتموا

الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] (قد قرئ) بالرفع، والمعنى والعمرة لله على ابتداء وخبر. قوله: "مرة في العمر": هو كما ذكره قياسًا على الحج، والتطوع بها جائز كالحج، وهل يكره تكرارها في السنة الواحدة مرارًا أم لا؟ فيه قولان: الكراهية، وهي نص القاضي. الثاني: لأنه محل طاعة وفعل قربة. قال القاضي -رحمه الله-: "وللحج ميقاتان" إلى قوله: "ولا يجوز لمريد الإحرام". شرح: قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] وأجمع العلماء على أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة. واختلف هل جميعه وهو المشهور عن مالك أو عشرة منه، وهو القول الثاني عن مالك، وهو الذي اختاره الشافعي، أو سبع من ذي الحجة وهو قول أبي حنيفة والحجة للأول التمسك بصيغة الجمع، والحجة للثاني القضاء والإحرام، وجواز التحليل قبل انقضاء ذي الحجة فدل على أن أيام الحج منه هي الأيام التي يفعل فيها أفعال الحج. وفائدة هذا الخلاف فيما إذا أخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، فقيل: لا دم عليه، لأن جميعه، وقيل: عليه الدم، لأن المعتبر منه العشر الأولى فقط. قوله: "ويكره الإحرام (به) قبل (أشهر الحج) ويصح إن

وقع": إنما ذكره لوجهين: الأول: مخالفة المشروع، الثاني: المشقة اللاحقة، فيخشى عليه الإفساد، وأما إن وقع قبل أشهر الحج فهل ينعقد أم لا؟ فيه قولان، والمشهور: أنه ينعقد، لأنه عقده على نفسه، والشاذ أنه لا ينعقد قياسًا على من أوقع الصلاة محرمًا قبل وقتها حكاه الشيخ أبو الحسن. قوله: "ولا ينقلب عمرة": تنبيهًا على مذهب المخالف، وهذه الأشهر في مواقيت الحج لا العمرة، إذ لا ميقات لزمان العمرة، وإنما كرهت في أيام منى لمن حج. وأما المكانية فهي خمسة، وثبت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث عبد الله بن عمر وغيره، كما خرجه أهل الصحيح. وروى أن عمر بن الخطاب هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق. وقال الشافعي والثوري: إن (أهل العراق من) الصغير كان أحبَّ إلينا

لثبوت هذا التوقيت لهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "والأفضل الإحرام بالحج من ميقاته زمانًا ومكانًا": وهذا كما ذكره لما في ذلك من ميقاته حكمة الشرع، هذا من مذاهب أهل العلم. قوله: "ولا يجوز لأحد يريد دخول مكة أن يدخلها إلا محرمًا": أما من أراد الحج والعمرة فلا يجوز له دخولها إلا محرمًا، ورخص للحطابين، وقيل: هم كالحجاج. قوله: "ولا يجوز لمريد الإحرام إذا مر" إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في منع المحرم المار على هذه المواقيت أن لا يتجاوزها إلا محرمًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هل لمن أتى بعدهن إلى يوم القيامة) الحديث. واتفقوا على أن لأهل الشام أن يؤخروا الإحرام من ذي الحليفة إلى الجحفة إذا مروا على طريق المدينة، لأن ذلك ميقات لهم، وإليه (أشار) القاضي. واختلف المذهب هل يرخص للمرض أن يؤخر الإحرام إذا مر بذي الحليفة إلى الجحفة، والمشهور جواز ذلك (له) لأن ذلك ضرورة. وقسم القاضي المار على ميقات من هذه المواقيت ثلاثة أقسام:

الأول: أن يمر عليها لحاجة مكة، وحكم هذا ظاهر كما ذكر القاضي. والثاني: أن يريد دخول مكة. والثالث: أن يمر عليها مريدًا للإحرام، وهذا القسم الثالث قد يتوهم أنه هو الثاني، وليس كذلك، لأن الثاني أراد دخول مكة، والثالث مريدًا للإحرام فقط من غير أن يدخل مكة، بل لما مر بالميقات أراد تحصيل العبادات فيه، والاغتسال به، والصلاة المتعلقة بالاغتسال (وما هو سقوط من العبادات). قوله: "فإن تجاوزها رجع ما لم يحرم": وهذا كما ذكره أنه يرجع بالقرب ما لم يحرم، فالمشهور أنه لا دم عليه، وإن لم يرجع لزمه الدم، ولو رجع بعد أن طال الأمر، وأحرم لم يسقط عنه الدم ولو جاز الميقات يريد دخول مكة حلالًا، ثم أحرم بعد أن جاوزه ففيها روايتان: أحدهما: أنه عليه دم، والأخرى لا دم عليه. قوله: "والإحرام من الحرم جائز لمريد الحج": ولو أراد الاعتمار فلا بد له من الخروج إلى الحل، لأن ذلك سنة الاعتمار. قوله: "وفي إحرام القارن (من مكة) خلاف": قلت: المشهور من المذهب في القارن تغليب حكم العمرة، وأنه لا بد له من خروجه من الحرم إلى الحل، لأنه أحوط. والشاذ تغليب الحج، لأنه آكد، وإلى هذا الخلاف أشار القاضي -رحمه الله-. قال القاضي -رحمه الله-: "وأركان الحج" إلى قومه: "والتلبية". شرح: أركان الحج هي دعائمه وفروضه التي لا يتم وقوعه شرعيًا إلا

بها وهي أربعة. وألحق بها عبد الملك جمرة العقبة، والجمهور من أهل العلم أنها ليست بركن اعتمادًا على قوله -عليه السلام-: (الحج عرفة) واعتمد ابن الماجشون على قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج: 29] أشار بذلك إلى جمرة العقبة. قوله: "والقاطع للحج شيئان فوات وإفساد": قلت: ظاهر كلام القاضي أن الحج ينعقد بالنية المنفردة دون أن يقترن بها فعل من أفعال الحج وهو خلاف المعروف. وتحصيل القول فيه: أنه إن انضم إلى النية فعل أو قول كالتلبية فلا خلاف في انعقاد الحج، وإن انفردت النية فالمشهور أن الحج لا ينعقد قياسًا على الصلاة، والشاذ أنه ينعقد، استقرأه أبو الحسن (من) المذهب وفيه نظر، وقاسه على الصوم، وذكر الغسل (للإحرام)، واختلف المذهب هل هو سنة، أو فضيلة، واستقرئ من كلام ابن الماجشون أنه واجب استقراء ضعيفًا، ولو أحرم قبل الاغتسال، وطال الأمر أمر (بإعادة) الغسل بلا خلاف. وإن قرب فهل يؤمر بإعادة الغسل أم لا؟ فيه قولان في المذهب ويؤمر بهذا الغسل كل من عقد الإحرام حتى الحائض والنفساء لأنه مقصود للنظافة لا للعبادة.

قوله: "إلا النساء فيكره لهن رفع الصوت": لأن أصواتهن عورة. قوله: "وأما واجباته فأن يحرم من الميقات ولا يتجاوزه": قلت: ظاهر كلام القاضي معارض لما قبله، فإن قال قبل: "فأما السنن أو المندوبات فأن تحرم من الميقات نفسه إن كان منزله منه، أو قبله، أو مر عليه" فجعل الإحرام من الميقات سنة. ثم قال في هذا الموضع: "وأما واجباته فأن يحرم من الميقات ولا يتجاوزه" فظاهره أن ذلك واجب وهذا قد يفهم فيه التعارض، ولا تعارض في الحقيقة فيه، فالمسنون أن لا يحرم إلا منه، والواجب أن يحرم ولا يتعداه إلى مكة غير محرم، فإحرامه منه واجب، بمعنى أنه لا يتجاوزه إلى مكة مريدًا للإحرام غير محرم منه، وإحرامه منه سنة، بمعنى أن إحرامه قبله مكروه. وقد اختلف المذهب في الإحرام قبله على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جائز، لأنه عمل خير فلا يتقيد. والثاني: أنه مكروه، لأنه مخالفة للمشروع. والثالث: أنه جائز لمن بعد عن الميقات، ومكروه في حق من قرب منه، وقد أحرم الصحابة من الشام وغيره. قال القاضي -رحمه الله-: "والتلبية سنة مؤكدة" إلى آخر الفصل. شرح: التلبية سنة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: هي واجبة لدعاء إبراهيم -عليه السلام- إلى الحج، واختلفوا فيمن تركها فقال: عليه دم، وقال

الشافعي: لا شيء عليه، واختلفوا أيضًا متى يقطعها الحاج والمعتمر، فقيل: حين يدخلان في الحرم، وقيل: إذا دخلا بيوت مكة، والمشهور أن الحاج يقطعها إذا دخل بيوت مكة، ويقطعها المعتمر إذا دخل الحرم، وكان الخلفاء الأربعة يقطعونها إذا زاغت الشمس من يوم عرفة. قوله: "والاختيار أن يقتصر في إحرامه على النية في تعيين ما ينويه دون التلفظ به". قال القاضي -رحمه الله-: "والإحرام يمنع الرجل عشرة أشياء" إلى آخر الفصل. شرح: هذه العشرة التي يجب الامتناع بالإحرام عنها ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولًا وفعلًا. وانظر قول القاضي: "وما دونه مكروه"، واختلف في جواز الكحل للمحرم، فمنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه إذا لم يكن طيب، ولو اكتحل بكحل فيه طيب، فهل يلزمه الفدية أم لا؟ فيه قولان في المذهب، وكذلك اختلفوا في جواز الحمام للمحرم، فالجمهور على منع ذلك، وصح عن ابن عباس أنه كان يدخل الحمام. والأول أصح لأنه من الطيب، وإنما كره المعصفر، لأنه من الطيب. وروى عن مالك أنه قال: لا بأس به للمحرم، وأوجب الفدية بتغطية الرأس، أو بعضه بخلاف تغطية الوجه، والفرق بينهما ظاهر. قوله: "وليس لشيء منها مكان مخصوص": تنبيهًا على مذهب

المخالف، وقيل: إن النسك لأهل مكة، وكذلك الإطعام. قال القاضي -رحمه الله-: "ويحرم على المحرم" إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في تحريم الاصطياد (البري) للمحرم، قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الآية [المائدة: 95]، وقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} [المائدة: 96] والأصل في تحريم ذلك للحلال، قوله -عليه السلام-: (لا ينفر صيدها ولا يختلى خلالها). قوله: "مما لا يبتدئ بالضرر": كالنمر والأسد. قوله: "وبتعريضه للقتل": يريد فعل سبب القتل، وفي هذه الصورة قولان في المذهب مبنيان على فاعل السبب هل هو كفاعل السبب أم لا؟ قوله: "ويستوي في ذلك عمده وسهوه": تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن الله سبحانه قيد بالعمد لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدًا} [المائدة: 95] ومذهب مالك أن العامد والناسي في ذلك سواء، وقال به من السلف: عمر بن الخطاب وولده عبد الله، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم. وذكر علماؤنا في ذلك .. ومنها القياس على كفارة الخطأ. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: إنما ذكر الله

سبحانه العمد خاصة تنبيهًا على لحوق الإثم، وارتفاعه على المخطئ، وأما الكفارة فواجبة عليهما وشبهه بقوله تعالى: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة} الآية [النساء: 25]. ومن المعلوم أن الحد واجب على غير المحصنات. كما يجب على المحصنات. واختلف العلماء فيما صاده الحلال هل يأكله المحرم أم لا؟ ومذهب مالك أنه لا يأكله إذا صاده لأجله، أو لمحرم سواه، فإن صاده لنفسه ثم أهداه إلى المحرم أكله، والأصل في الباب قوله -عليه السلام-: (لولا أني محرم لقبلناه). قوله: "ومن قتل صيدًا فأكله فعليه جزاء واحد": وهذا مذهب جمهور أهل العلم، لأن الله سبحانه إنما علق الكفارة على القتل لا على الأكل. قوله: "ولا يجوز أن يدل أحدًا محرم على صيد، ومن فعل ذلك أثم": وهو كما ذكره لأنه سبب إلى المأثم، والجزاء على القاتل دون الدال، وقيل: على جميعهم، وهي رواية عن مالك: (موافقة لقول) ابن المسيب قال: الصائد والآمر بقتله والمشير والدال عليه سواء والكفارة على جميعهم.

قوله: "وللحلال أن يذبح صيدًا مملوكًا في المحرم": وهذا تنبيه على مذهب المخالف، لأن المعتبر عندنا المكلف لا المحل. واختلف فيما قرب من الحرم هل هو كالحرم أم لا؟ فيه قولان عندنا مبنيان على أن ما قرب من الشيء هل يعطي حكمه أم لا؟. واختلف المذهب أيضًا إذا رمى في الحل فأصاب في الحرم، أو بالعكس، هل ينظر إلى أصلها، أو إلى فرعها، وفيه قولان في المذهب. واختلف العلماء في حرم المدينة هل هو كحرم مكة أم لا؟ فيه قولان عندنا، ومبنى المسألة على جريان القياس في الكفارات. قوله: "ولا جزاء فيه": يعني قطع الشجر وهذا تنبيه على اختلاف شاذ للشافعي. واختلف المذهب إذا أحرم وفي بيته صيد، هل يجب عليه إرساله أم لا؟ فيه قولان مبنيان على اختلاف المفهوم في قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} هل الصيد الاسم أو الفعل. قوله: "والجزاء الواجب بإتلاف الصيد مثل المقتول أو (مقاربه) في الخلقة": يريد الستة صور فإن عدم فحكومة.

قوله: " (ويخيرانه) بين إخراج مثل الصيد وبين قيمته": هذا مذهب جمهور الأمة أنها على التخيير تمسكًا بظاهر اللفظ، فإذا قومه الحاكمان فهل يقومانه حيًا، أو ميتًا، فيه قولان عندنا. قوله: "بموضع الإتلاف": هذا مذهب مالك فإن لم يكن مستحق ففي أقرب المواضع إليه. وقال أبو حنيفة: حيث ما أطعم أجزأه، وإذا قلنا: (إنه) لا يطعم إلا مساكين الحرم فأطعم غيرهم مجتهدًا فيه، هل يجزئه أم لا؟ اختلف المذهب على قولين بناء على رفع الخطأ بالاجتهاد. قوله: "وفي صغير الصيد مثل ما في كبيره": وهذا فيه قولان في المذهب المشهور التساوي لعموم اللفظ، وكذلك معيبة هل هي كصحيحة أم لا؟ فيه خلاف عندنا. قوله: "وللمحرم قتل السباع العادية": وهذا كما ذكره، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: (خمس فواسق يقتلن في الحرم والحل) ونبه بهذه الخمس على كل ضار.

واختلف المذهب في الصغير الذي لا يبتدئ بالضرر، هل يجوز قتله أم لا؟ وفيه قولان عندنا مبنيان على تعارض العموم والمعنى. (قوله: "ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير المحرم": قد تقدم الكلام فيه). قوله: "ومن لم يجد من المحرمين إلا صيدًا، أو ميتة أكل الميتة": (هذا هو) مذهب ابن القاسم أن الميتة (للمضطر) أولى للمحرم (والعطاء جرعًا من صيد المحرم). وقال ابن الماجشون: صيد المحرم أولى لأنه يحل في وقت ما أباحه مطلقًا في غير المضطر. قال القاضي -رحمه الله-: "والإحرام على ثلاثة أوجه: إفراد، وتمتع، وقران": فالإفراد: أن يحرم بالحج وحده والقران: أن يجمع بين الحج والعمرة عند ابتداء الأحكام وعقده، والتمتع: أن يحرم بعمرة في أشهر الحج، ثم يحل ويحج من عامه قبل رجوعه إلى أفقه فقد تمتع بإسقاط أحد السفرين. واختلف الفقهاء في أفضلها. فقال مالك: الإفراد أفضل، وبه أحرم

النبي -عليه السلام- في حجة الوداع على ما روته عائشة. ومما يدل على أنه أفضل سقوط الدم على المفرد، فدل على (كمال) نسكه، إذ الدم إنما شرع جسرًا لما ورد من نقص (وقال أبو حنيفة والثوري وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه: القران أفضل، وحكاه اللخمي عن المذهب) والمشهور عندنا خلافه. قوله: " (في نيته) دون لفظه": بيان لموقع الإجزاء إشعارًا أنه إن اقتصر على النية وحدها، وانعقد إحرامه لا معنى للفظه. واتفق العلماء على أن الحج يردف على العمرة ما لم يطف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، فلو طاف وسعى بطل الإرداف، وإذا أجزنا الإرداف، فقد اختلف في محله

على روايات، فقيل: إنه ما لم يشرع في الطواف، (فإن) طاف ولو شوطًا واحدًا بطل الارتداف، والرواية الثانية: أنه يردف ما لم يركع، وإن أكمل الطواف وهذا عكس قول الأول، والرواية الثالثة: أنه يرتدف ما لم يكمل الطواف، فإن أكمله بطل الارتداف، ومن رآى الشوط منعقدًا به، والرفض غير ممكن أبطل (الارتداف)، ومن رعى الكمال أجزأه ما لم يكمل. فرع: إذا قلنا بنفي الإرداف بعد الشوط فهل يلزمه قضاء الحج أم لا؟ فيه قولان عندنا كناذر يوم لا يصح صومه، لأنه إنما لزم أحكام الحج بشرط صحة الارتداف، فإذا لم يصح الارتداف كان كنادر يوم لا يصح صومه شرعًا. قوله: "وفعل القارن كفعل المنفرد": وهذا كما ذكره، وهل يجب على القارن دم أم لا؟ (فيه) اختلاف، أوجبه عليه عبد الملك مطلقًا، كان مكيًا، أو غير مكي، فإن كان من غير أهلها فلا خلاف في وجوب الدم عليه عندنا. ثم ذكر المتمتع وشروطه، وصح عن ابن عباس: والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله نحدثكم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتحدثونا عن أبي بكر وعمر. قوله: "قبل رجوعه إلى أفقه": وهذا كما ذكره لأنه قد تمتع حينئذ بإسقاط أحد السفرين فإن كان وطنه بعد الحجاز لعاد إليه، وإلى موضع غير الحجاز فعاد إلى موضع أبعد منه لا إلى الوطن نفسه، فقيل: هو كالعودة إلى وطنه، إذ لم يتمتع بإسقاط أحد السفرين. وقال: "أو إلى ما كان من المسافة في حكمه" يدل على أن ما سوى وطنه في المسافة كالوطن.

قوله: "ولا يصح إرداف عمرة على حجة": وهذا كما ذكره لأن من سنة الإرداف أن تتقدم العمرة، ثم يردفها ما هو أعم منها، وهو الحج، وأما إذا (عقد) الحج، فقد دخلت تحت العمرة، فلا معنى لإرادفها، إذ لا يردي اعتقاد العمرة شيئًا، ولا يصح الإحرام بحجتين، ولا بعمرتين. ومن أحرم بذلك لزمة حجة، أو عمرة، ولا يصح إدخال حج على حج، ولا عمرة على عمرة، ولا عمرة على حج، ويصح إدخال الحج على العمرة، لأن الحج أعم، وهذا لا خلاف فيه عندنا. قوله: "والواجب لكل واحد من التمتع، والقران هدي ينحر": وهذا كما ذكره لقوله سبحانه: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فيما استيسر من الهدى} [البقرة: 196] وأقل ذلك شاة. وقال تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله} الآية [البقرة: 196] إشارة إلى أهل (مكة) وذي طوى، ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فهؤلاء حاضرون في المعنى، وقيل: كل من كان دون المواقيت المعلومة، فهو مكي في الحكم. قوله: "ولا يجزئه الصوم ما دام متمكنًا من الهدي": قلت: لأن الله تعالى رتبه فقال: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج} [البقرة: 196] فقيد ذلك بنفي الوجود. قال القاضي رحمه الله: "ويستجيب لمن دخل مكة محرمًا" إلى قوله: "هذه جملة أفعال الحج".

شرح: إنما استحب للداخل من (العقبة العليا) وهي كذاء، لأن ابن عمر وغيره من الصحابة ثبت عنه ذلك، ولم يكونوا يفعلون إلا الأفضل، وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة، وخرج إلى السعي من باب بني مخزوم، وإلى المدينة من باب بني تميم، وكل ذلك واسع إن شاء الله. واستلام الحجر سنة فعلها صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده، وقيل: يشهد يوم القيامة لمن استلمه. قوله: "ثم وضعها على فيه من غير تقبيل": فيه إشعار بالخلاف. وقد اختلف المذهب إذا لم يستطع لمس الحجر بيده، فلمسه بعود ووضعه على فيه، هل يقبله أم لا؟، والمشهور أنه لا يقبل ما مسه به لأن التقبيل المشروع الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لحجر لا لغيره. اختلف المذهب هل يقول إذا قبله: "إيمانًا بك وتصديقًا لكتابك" اتباعًا لما جاء في الآثار، أو لا يقول ذلك تركًا للتحديد.

قوله: "وسنته لغير المكي": هو ظاهر، لأن المكي غير قادم فلا معنى لطواف القدوم في حقه. قوله: "الثلاثة الأولى خببًا والأربعة مشيًا": كذا جاءت السنة، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة) وذلك أن المشركين عام الحديبية قالوا: إن أصحاب محمد قد نهكتهم حمى يثرب. فقصد عليه السلام مخالفة قولهم، وإظهار القوة عليهم ويؤمر بذلك من أحرم من القرب والبعد طردًا للقاعدة. وهل يؤمر المريض بقدر طاقته، والصبي أم لا؟ فإن ترك الرمي فهل عليه هدي أم لا؟ فقيل: عليه الدم، لأنه سنة، وقيل: لا دم عليه. والجمع بين الظهر والعصر بها سنة، وكذلك بعرفة والمزدلفة. قوله: "والاختيار أن يقف راكبًا": وهذا خشية العجز عن القيام، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا خشية من ازدحام الناس عليه، وليبين للأمة. قوله: "عدا بطن محسر": قلت: الأصل في ذلك ما خرجه

الطحاوي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، وميقات منى كلها منحر). قوله: "ثم حلق، أو قصر، والحلاق للرجال أفضل": هو كذلك لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين ثلاثًا) الحديث. وقد تقدم الكلام في رمي جمرة العقبة هل هو ركن أم لا؟ وكذلك اختلف المذهب في طواف الوداع، والمشهور أنه سنة. قال القاضي رحمه الله: "هذه جملة أفعال الحج" إلى آخر الفصل. شرح: الطهارة مستحبة في كل الأفعال، وهي في أفعال الحج كنذر، وهي في الطواف واجبة، لأنه صلاة، ولذلك لا يجزئ منكسًا، وعليه الإعادة، كمن نكس صلاة إلا أن يرجع إلى بلده، فهل يكتفي بذلك الطواف المنكس أم لا؟ فيه قولان في المذهب، المشهور نفي الاكتفاء، لأنه خلاف المشروع، والشاذ الإجزاء مراعاة للخلاف. قوله: "وللإمام تقديم ضعفة أهله ليلة المزدلفة إلى منى": والأصل في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم النساء ليلاً مع الضعفة من أصحابه.

والحلاق سنة لقوله -عليه السلام-: (رحم الله المحلقين) الحديث في ترحمه عليهم يدل على أنهم فعلوا قربة. قوله: "وما يفعل من رمي ونحر وحلاق، فلا شيء في تقديم بعض منه على بعض": قلت: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من تقديم بعضها على بعض فقال: (افعل ولا حرج) فهل هو نفي للإثم والدم أم الإثم، فيه قولان عندنا مبنيان على مراعاة ما ذكرناه، ثم ذكر أن الوطء في الفرج، والإنزال عن استمتاع من غير وطء يفسد الحج ما لم يتحلل بالرمي، ووطء قبل الطواف. وقد اختلف العلماء في الحج الفاسد هل يجب تتميمه أم لا؟ ومذهب مالك أن تتميمه واجب، وذلك لا يغني عن قضائه، وبه قال الجمهور اعتمادًأ على قوله سبحانه: {وأتموا الحج والعمرة لله} الآية. وشذت طائفة من العلماء فقالوا: لا يجب تتميمه قياسًا على سائر النوافل، ولا خلاف أنه يقضي حجة الفريضة إذا أفسدها. واختلف هل يجب عليه قضاء التطوع، والجمهور على وجوب قضائه، لأنه بالدخول فيه والتلبس به صار (التكميل واجبًا). قوله: "ويتفرق الزوجان إذا أراد القضاء": وهذا كما ذكره خوفًا من تكرار الفساد. واختلف المذهب فيمن أفسد حجة القضاء فقال عبد الملك: عليه حجة واحدة، وهي حجة الإسلام، وقال ابن القاسم: عليه حجتان، حجة

عن الأولى، وحجة عن الثانية. قوله: "يلزم بفساد الحج بدنة": وهذا كما ذكره لثبوت ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- ولو أكره أمته أو زوجته على الوطء لزمه أن يحجهما بالنفقة، وأهدى عنهما، فإن لم يكن له مال أنفقتا من مالهما، ورجعتا عليه بذلك، وهل يجوز بيع العبد المحرم والأمة المحرمة بإذن السيد؟ المشهور جواز ذلك ومنع ذلك سحنون إلا بعد انقضاء الحجة لعلة التحجيز. قوله: "وتقلد البدن وتشعر": وهذا لما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قلد وأشعر ليكون ذلك علامة على الهدى تعرف بها، ولا خلاف عندنا أنه مشروع. وقال بعض الفقهاء: هو (سنة) وهذا خطأ لأن السنة قاضية عليه، وهل تشعر البقر التي تهدي لأنها كالإبل أم لا؟ فيه قولان. والتقليد أيضًا سنة، ويستحب أن يكون بخيط ونحوه مما ينبته الأرض وقيل: لا يستحب إلى ذلك. واختلف العلماء في جواز الأكل من جميعها إلا من الأنواع الأربع التي سماها القاضي، وكذلك اختلفوا في جواز ركوبها المشهور من المذهب أهل العلم جواز ذلك. قال القاضي -رحمه الله-: "ومن أحصر بعدو فله التحلل" إلى آخر الفصل.

شرح: الأصل في الإحصار قوله سبحانه: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى} [البقرة: 196]. وقد اختلف الفقهاء في المراد بهذه الآية هل هو منع العدو، أو منع المرض، وقد استوفينا ذلك في شرح الحديث والمعتمد عليه من مذهب مالك أن حصر العدو مخالف لحصر المريض، وغيره ممن امتنع عليه الحج وفاته بخطأ الطريق والهلال فالمحصور بالعدو يحل حيث حصر، يوم حصر، ومن عداه ممن فاته الحج لا يحل إلا بوصوله إلى البيت، فإذا وصل فقد فاته الحج، حل بعمرة، وكان عليه القضاء. وأجمعوا على أن المحصر بعدو [لا] يجب عليه قضاء حجة الفريضة التي صد عنها، ولم يخالف في ذلك إلا من شذ، ولو صده العدو عن حجة التطوع فحل، فهل عليه قضاؤه، لأنه بدخوله فيه صار واجبًا عليه أو لا يجب عليه، القضاء مراعاة الأصل، إذا أبحنا للمحصر من العدو، والمشهور من المذهب أن لا هدي عليه، لأن الآية تتناوله. قوله: "وللصغير حج يحرم به وليه": مقصوده أن حج الصبي منعقد بدليل حديث: (المرأة التي سألته عن صبي أله من حج؟ قال: نعم ولك أجر). قوله: "يحرم به وليه": وهذا كلام مستأنف لبيان أن العاقد عليه

أجر كان ممن يقبل أن يكون في نفسه أهلاً للعقد. ثم ذكر مسألة الصبي يبلغ بعد التلبية بالإحرام، والعبد يعتق فيلزمه الإتمام لدخولهم في العمل، ولا يجزئهم ذلك عن فريضة الإسلام، لأن انعقاد ذلك على وجه التطوع، وللسيد أن يمنع عبده الإحرام مطلقًا إلا بإذنه، وكذلك الزوج له أن يمنع زوجته الإحرام لغير الفريضة بخلاف العبد. ورمي الجمار سنة من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعبدًا لا يعقل له معنى، وقد قيل: إن آدم رمى إبليس لما رآه في ذلك المكان فبقيت سنة بعده إلى الآن. وطواف الوداع مستحب، وهل يؤمر تاركه بالدم أم لا؟ فيه اختلاف وقد اختصرنا الكلام في الحج اتكالاً على استيفائه عند مشاهدته إن شاء الله، وإنما ذكرنا فيه هذا القدر اليسير لأنا لم نراع الإكثار منه، ولا يثبت الأمر إلا بالمشاهدة. نسأل الله ذلك بفضله.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد قال القاضي -رحمه الله-: "الجهاد من فروض الكفاية" وقد يتعين في بعض الأوقات إلى قوله: "وينبغي أن يدعوا قبل قتالهم". شرح: الجهاد في اللغة هو التعب، جاهد يجاهد جهادًا وهو التعب، ويقال: جهد نفسه جهدًا إذا أتعبه، وهو في الشرع تعب مخصوص لا يراد به إلا إتعاب النفس في سبيل الله، ومقاتلة الكفار ليدخلوا في دين الله، وهو أعظم من أعمال البر من حيث إن فيه بذل النفس في سبيل الله، ولا أحب للإنسان من نفسه، لأن سعي الملك وأداة العاجلة والآجلة إنما يريدها لنفسه، فإذا بذل أحب الأشياء إليه في ذات ربه فقد أتى بأعظم أنواع القربات، ولذلك عظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرمته، وبين شرفه ودرجته، وأخبر بأن الشاهداء أحياء عند ربهم يرزقون. ومثل (المجاهد) مثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام،

ولا قيام، وقد اشترى سبحانه من المؤمنين أنفسهم وعوضهم عنها الجنة، وإنها لصفقة رابحة، وتجارة ناجحة وقد أمر -عليه السلام- بدعوى الحق إلى الله في أول الإسلام بالأدلة والبراهين، فقال سبحانه مخاطبًا له: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] ثم لما (بدت) كلمته، وانتشر في الآفاق ذكره وهاجر إلى روضته. فأمر بالجهاد والمقاتلة، لأن في ذلك صرف القلوب إلى الله، وحماية (البيضة) ورد المرشود إلى الموعظة النبوية، والدلائل البرهانية وهو بالمدينة: {قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} [التوبة: 29] وقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] وقال: {انفروا خفافًا وثقالا} [التوبة: 41] أي شبابًا وشيوخًا، وقيل: ركبانًا ومشاءً. وقد أجمع العلماء على أنه فرض كفاية، وشذ (عبيد الله) بن الحسن المقبري فقال: إنه تطوع لقول الله تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] ولا دليل فيه لاحتمال أن يكون المقصود من القاعدين بعد المشرعة واستقلال طائفة من المؤمنين بهذه الوضعية، فالدليل على أنه فرض كفاية قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كآفة} الآية [التوبة: 122] وقال تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى}.

وأجمع أهل الآثار على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يخرج قط للغزو إلا وترك بعض الناس، فلو كان متعينًا لما أخروا عنه. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالاً} منسوخ بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كآفة} الآية. وهذا لا حجة فيه لاحتمال (التأويل في) قوله: {انفروا خفافًا وثقلاً} على وقت التعيين والمقصود بالآية الثانية حيث سقط التعيين فيكون كفروض الكفاية، ولما أمر الله سبحانه بالقتال بعد هجرته إلى المدينة أوجب عليه أولاً أن يقاتل من قاتله، وأن يكف عمن لم يقاتله فقال تعالى: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191] فنزلت سورة براءة بعد تمام (سنتين من الهجرة)، فأمره سبحانه بقتال جميع المشركين فينهض -صلى الله عليه وسلم- بأمر الله، وشمر عن الجد، في مقاتلة أعداء الله أي نهض -صلى الله عليه وسلم-، وقد انتهت غزواته وسراياه نحوًا من أربعين ما بين غزوة وسرية. وقد حكى بعض شيوخنا الإجماع على أنه فرض كفاية وهو إجماع الجمهور لا إجماع الجميع. قال علماؤنا: ويجب على الإمام القائم بأمر الله تحصين الثغور وحراستها بالعدد والعدد، وإغزاء طائفة إلى العدو في كل سنة مرة يخرج بهم نفسه، أو يبعث من يرتضيه (حكاه) الشيخ أبو عمر بن عبد البر وغيره.

قوله: "وقد يتعين في بعض الأوقات": قلت: يتعين في محلين: الأول: إذا فاجأ العدو قومًا من المسلمين، وعجزوا عن مدافعته فيلزم من والاهم معاونتهم لقوله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} [التوبة: 123] وبهذه الآية احتج المنصور -رحمه الله- على صلاح الدين لما بعث إليه عامل دمياط، وغزا -رحمه الله- الأرك. فإن لم يستطع من (والاهم) بدفعه، وجب على كل واحد من علم بذلك، وطمع في إدراكهم النهوض لإعانتهم، وابتدارًا إلى المقابلة معهم. الثاني: أن يعين إمام العدل أحدًا للخروج فيتعين عليه. قوله: "ولا يجوز تركه إلى الهدنة إلا من عذر": وهذا كما ذكره، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد هادن أهل مكة وغيرهم من الكفار حال الضعف فلما قوي الإسلام، وأمر الله (سبحانه) بالقتال فقاتل فنصره الله وأيده، وجعل كلمته العليا. وقد اتفق العلماء على جواز الهدنة في حال الضرورة إذا كان فيها مصلحة للمسلمين، وهل يجوز أن يصالحوا لأكثر من المدة التي صالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها أهل الحديبية أم لا؟ وهل يجوز أيضًا أن يصالحوا على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار في حال الضرورة إذا رأى الإمام ذلك أم لا؟ اختلف العلماء في (كلا) المسألتين، فقال الشافعي: لا يجوز الصلح لأكثر من هدنة -عليه السلام- يوم الحديبية. واختلف أهل الآثار في قدر ذلك، فقيل: إنه -عليه السلام- صالحهم أربع سنين، وقيل: ثلاث سنوات، وقيل: عشر سنين، والجمهور على جواز ذلك من غير تقييد بمدة لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم

فاجنح لها} [الأنفال: 61] بظاهر هذه الآية احتج من أجاز (الصلح) لغير ضرورة. وذكر أهل العلم أن صلحه -عليه السلام- عام الحديبية لم يكن لضرورة. وأجاز الأوزاعي أن يصالحوا على شيء يدفعه المسلمون، واحتج بأن النبي -عليه السلام- هدنهم على أن يعطي من ثمرة المدينة لبعض الأحزاب، فاختلفوا في قدر ذلك فلم ينفذ. قوله: "ولا يكف عنهم إلا بأن يسلموا، أو يدخلوا في ذمتنا ويؤدوا الجزية في دارنا": وهذا كما ذكره، لأن المقصود بالمقاتلة أحد هذه الخصال، فلا يلحق القول في أداء الجزية، والمقصود من يجوز أخذ الجزية منه دون غيره، فالمقاتلة عامة بجميع الكفار، وأخذ الجزية خاص، وقد روى عن مالك أنه لا يجوز ابتداء الحبشة والترك بالقتال تعويلاً على قوله -عليه السلام-: (اتركوهم كما تركوكم، وذروا الحبشة كما وذرتكم). والحديث مشهور، وقد قال مالك: لم يزل الناس يتحامون غزوهم. قوله: "وينبغي أن يدعوا قبل قتالهم": قلت: اختلف المذهب في وجوب الدعوة قبل القتال على خمسة أقوال: أحدها: إيجاب الدعوة مطلقًا. والثاني: أنها ليست بواجبة على الإطلاق. والثالث: أنها واجبة في حق من بعد داره. والرابع: أنها واجبة في حق الجيوش دون السرايا الصغيرة.

والخامس: أنها واجبة إلا أن يعاجلونا. وظاهر كلام (القاضي) أنها مستحبة إلا أن يعاجلونا. هذا تحصيل المذهب فيه. والقول الكلي في ذلك عندنا: أن الدعوة قسمين عامة وخاصة، فالعامة الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة. وقد أجمع المسلمون على أن بلوغ هذه الدعوة شرط في جواز المقاتلة أي أن حرابتهم لا تجوز حتى تكون الدعوة قد بلغتهم بلوغًا صحيحًا، والدليل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع. فأما الكتاب قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]. وأما السنة فقد تواتر قولاً وفعلاً أنه -عليه السلام- دعا الكفار إلى الدخول في الإسلام، وأمر أبو بكر، وهو مقتضى الرسالة. وقد أجمعت الأمة على مقتضى ذلك. وأما الدعوة الخاصة فهي الدعوة المتكررة عند تكرار الحرب، وقد حكينا فيه عن المذهب خمس روايات. وقد اختلف المتأخرون في هذه الروايات الخمس، فمنهم من جعهلا أقوالاً مختلفة، ومنهم من ردها إلى أحوال مختلفة، ورآى الوجوب إنما هو فيمن ترجى إجابته، أو ظن به أنه لم يعلم ذلك فخرج مقتضى من ذكرناه أ، العلماء في الدعوة الخاصة قد اختلفت آراؤهم، فمنهم من استحبها، ومنه من أوجبها، ومنهم من لم يوجبها، ومنهم من يستحبها، ومنهم من يراها على أحوال مختلفة، فإن كان الكفار عالمين والجيش كثير، والإجابة مظنونة فهي واجبة، وإن كان قبولهم مستبعدًا، وإجابتهم غير موجودة فهي مباحة. وإن كان الجيش صغيرًا وخاف أعمال الكفار واستطالتهم فهي محرمة. ومن شيوخنا من أوجب دعوة الترك، وروى عن مالك أنه وقف في الروم والقبط قال: "لا

يقاتلوا حتى يدعوا". وسبب الخلاف في وجوب الدعوة أصلان: الأول: معارضة القول للفعل. والثاني: هل معرفة الله واجبة بالعقل أو بالسمع. أما الأول: فقد ثبت أنه -عليه السلام- إذا بعث سرية قال لأميرها: (إذا التقيت عدوك من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال) الحديث وهو ثابت في الصحيح، وثبت أمره بالدعوة من طرق. وثبت من فعله -عليه السلام- أنه أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، وبعث في قتل كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق غلبة، وكان -عليه السلام- ينتظر، فإن سمع آذنًا، وإلا نشر الغارة، فمن أهل العلم من رجح الفعل، ورأى أنه ناسخ للقول، ومنهم

من رأى أن أمره بالدعوة كان في أول الإسلام قبل انتشار الإسلام، ومنهم من حمل الفعل على الخصوص، ووجب الدعوة، وبه عمل الخلفاء، وأوصى أبو بكر (معاوية) بن أبي سفيان وغيره بذلك، ومنهم من جمع بين القول والفعل ويرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب من يظن به العلم أو لا يظن، ومن قربت داره، أو بعدت، ونحوه. وأما الأصل الثاني: فمن رآى أن معرفة الله وتوحيده معلوم عقلاً أسقطها، ومن رآى أنه شرعًا أوجبها وهو الصحيح، ولعله -عليه السلام-: إنما بعث في قتل كعب بن الأشرف وأمثاله غيلة بناء منه على ما علم من غالب حاله، أو أوحى إليه في شأنه. وقد روى عن مالك أنه حرم البغتة وأجازه محمد، وإذا قلنا بوجوب الدعوة، فمعناها أن يدعوا إلى نفي الشرك والإقرار بالرسالة. وأحكامها على اختلاف تفاصيلها، فإذا أجابوا إلى أصول التوحيد دعوا بعد ذلك إلى فروع الإسلام، فإن أجابوا امتنع قتالهم. الأول: من قتل قبل أن يدعى إلى الإسلام، قال قوم من أهل العلم: لا دية على قتاله بناء على أن معرفة الله واجبة عقلاً، وقال قوم: على عاقلته الدية، وليس في المذهب فيه نص. وحكى بعض البغداديين فيه الخلاف

تخريجًا على هذا الأصل. وأما من قتل قبل أن يلفظ بالإسلام، فالصحيح إيجاب الدية على عاقلته، وحديث أسامة فيه تأويلات ذكرناها في موضعها. الفرع الثاني: هل يدعى اللصوص، ومن خالف الحق من الخوارج، وأهل الأهواء أم لا؟ فيه قولان في المذهب، فمنهم من اسحتب ذلك، لأن الباطل في المعتقد قد شمل جميعهم، ومنهم من أسقط ذلك، إذ الدعوة إنما هي للكفار، لا لأهل الإسلام والأول أصح. قال القاضي -رحمه الله-: "وتجوز النكاية في العدو بكل ما يقدر عليه من إحراق الأراضي" إلى قوله: "ولا يجوز الغلول". شرح: نكاية العدو على قسمين: إما في النفوس، وإما في الأموال. فالأول بالقتل والاستيسار، وسيجيء ذلك بعد، وإما في الأموال بأخذها أو بإفسادها فأخذها غنيمة وإفسادها نكاية. وقد اختلف العلماء في ذلك فأجاز مالك قطع الأشجار، والثمار، وتخريب البنيان، وكره الأوزاعي قطع الشجرة المثمرة، وتخريب العامر من الكنائس وغيرها. قال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا لم يكن

بها معاقل، وكذلك أجاز مالك أن تعرقب الخيل والأول أصح. وإذا قلنا بجوازه فهل تحرق بعد العقر والذبح أم لا؟ واختلفت الرواية فيه، فقال ابن القاسم: ما سمعت أنها تحرق بعد ذلك، وقد قيل: إنها تحرق إذا خشي أن يدركوها قبل فسادها فينتفعوا بأكلها إلا أن يكونوا ممن لا يأكلون الميتة. وروى المصريون عن مالك أن للجيش أن يعرقبوها، أ, يجهزوا عليها، فيذبحوها، فروى المدنيون أنها يجهز عليها، كره أن تعرقب، أو تذبح لأن في ذلك تعذيبًا للحيوان. واختلفت الرواية فيما يقدم عليها من النحل، فكره مالك مرة أن تحرق أو تغرق، وإن كانت كثيرة، وقال أيضًا: تحرق وتغرق سواء كانت قليلة أو كثيرة، لأن ذلك من النكاية، وذلك ما عجز عن إخراجه من الأمتعة والأطعمة فإنه يحرق أو يغرق، وهذا كله ما لم يكن للمسلمين قوة على حيازة ذلك الموضع الذي ظفروا به, وتحصينه بعدد المسلمين وعدتهم والإقامة فيه، وقد ثبت أنه -عليه السلام- حرق نخل بني النضير وقطع كرمهم، ونصب المنجنيق على أهل الطائف، وقد ثبت عن أبي بكر أنه قال: ولا تقطعن شجرًا ولا

تخربن عامرًا. ولعل ذلك من أبي بكر بناء على علمه بالناسخ لفعله -عليه السلام-، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل لهم حيوانًا -ولعله- لأن قتل الحيوان مثله، وقد نهى -عليه السلام- عن المثلة، وإذا قلنا بجواز النكاية فيهم جاز نصيب المجانيق على حصونهم، وإرسال المياه عليهم، وفي إضرام النار عليهم اختلاف في المذهب لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن التعذيب بالنار. وقال علماؤنا المالكية: ويجوز نصيب المجانيق على قلاعهم، وإن كان فيها نسوة وصبيان ورهبان (لأن) المقصود غيرهم، ولو تترسوا بالنساء والذرية تركناهم، إلا أن يؤدي ذلك إلى استئصال المسلمين والظفر بهم، ولو تترس الكافر بالمسلم يحرم دم المسلم إلا أن يخاف استئصال المسلمين، أو ذهاب جمهورهم، فالمرافعة واجبة، وسقط مراعاة المترس به. وقال الأوزاعي: إن كان في الحصن أسارى المسلمين وأطفالهم وجب الكف عن رميهم بالمنجنيق لقوله تعالى: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليمًا} [الفتح: 25]. قوله: "وتخمس الغنيمة كلها عينها وعرضها": وهذا كما ذكره، والأصل فيه قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال: 4] وقال -عليه السلام-: (ما لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس وهو مما أفاء عليكم).

والغنيمة: كل ما أخذ من الكفار بقتال. وهي على قسمين عقار وغير عقار، فالعقار موقوف للانتفاع به في مصالح المسلمين (ولأنفسهم) عى الأشهر من المذهب. وقد روى عن مالك أنه يقسم كغير العقار. وفي المدونة: أن الخيار في ذلك إلى الإمام. وإذا قلنا: إنه لا يقسم فحكمها أ، يؤخذ ثلثها وتصرف في مصالح المسلمين من أرزاق الجيوش، والعمال، وبناء المساجد، والقناطير وغير ذلك من (سبل) الخير، وقد قسم -عليه السلام- وأبقى عمر بن الخطاب ما غنم المسلمون من أرض الشام والعراق لمن يأتي من المسلمين، عليه تأول قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم} [الحشر: 10] وقال: لولا حبل الحبلة. قوله: "والسلب وغيره سواء لا يخص به القاتل إلا باجتهاد الإمام": وهذا كما ذكره أصل مذهب مالك -رحمه الله-. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك ما ذكرناه: أن السلب من الغنيمة لا يختص به القاتل إلا باجتهاد الإمام، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي، وأحمد،

وإسحاق، وأبو ثور، وجماعة من أهل العلم: السلب للقاتل، وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من جعله له من غير شرط، وهو قول الجمهور. وقال الشافعي: لا يكون السلب للقاتل إلا أن قتله مقبلاً غير مدبر، وقالت طائفة من أهل العلم: السلب للقاتل إلا أن يكون كثيرًا فهو غنية وهو قول (الأوزاعي). وسبب اختلافهم فيه اختلافهم في مفهوم قوله -عليه السلام-: (من قتل قتيلاً فله سلبه) هل هو إنشاء للحكم، أو إخبار عنه، والصحيح العمل على مقتضى ظاهر الحديث، وظاهره أنه -عليه السلام- لم يقل ذلك إلا يوم (خيبر) ويوم بدر، وعضدنا هذا بما يصح عن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا لا نخمس السلب على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. (وخرج أبو داود عن عوف بن مالك حمل على

(هرمز) يوم الزأرة) فطعنه طعنة فبلغ سلبه ثمانين ألفًا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن قد بلغ مالاً كثيرًا، ولا أرى إلا خمسه. فقال ابن سيرين: حدثني (أسد) بن مالك أنه أول سلب في الإسلام وأما من رأى أنه قتل حين المعتركة فهي غنيمة فلاحظ المعنى، ورأى أنهم متعاونون في المقاتلة بالاختصاص في السلب، وإذا فرعنا على مذهبنا أن القاتل لا يستحق السلب إلا أن ينص

الإمام على ذلك، فلا خلاف أن الإمام ينفل من شاء بعد القتال، ولا يجوز للإمام أن يقول ذلك قبل القتال ولا أن يعد النفل قبل الحرب خوفًا من إفساد العمل بأن يكون قتله على غرض الدنيا لتكون كلمة الله هي العليا، فإن وقع القتال على ذلك، وشرطه الإمام قبل المعتركة فله شرطه، وقع في كتاب سحنون أنه جائز قبل القتال من غير كراهة، وبه قال جماعة من أهل العلم، قال في كتاب ابنه: وإذا بعث الإمام سرية على أن لهم ثلث ما غنموا، ثم مضى ذلك فلهم ما شرطوا، وأخذوا سهامهم من الباقي بعد شرطهم. ولو شرط الإمام ذلك بعد انقضاء القتال فهي يمضي شرطه، ويمضي حكمه أم لا؟ فيه قولان المشهور نفاذ حكمه بذلك لأنه كالمبايعة، فلا يجوز نقضها، ولو قال للإمام: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه لم يستحق السلب إلا بالبينة ولو أطلق اللفظ فقال: من قتل قتيلاً فله سلبه، ولم يقيده بالبينة فقيل: السلب به، وقيل: لا شيء له. واختلفوا في مسائل تتعلق بذلك: الأولى: السلب المشار إليه اتفقوا على أن السلب هو المعتاد، وقيل: جميع ما وجد على المقتول واستثنى قوم من ذلك الذهب والفضة، وفي المذهب خلاف في النادر من اللباس كالتيجان، والأسورة التي يتخذها عظماء الروح، هل هي من السلب أم لا؟ وكذلك فيما يكون معه من دنانير، والأصل أن ذلك كله من السلب، وكذلك الفرس عند الجمهور. الثانية: اختلفوا إذا كان القائل من لا سهم له كالذمي، والمرأة هل

يستحق السلب أم لا؟ وفيه قولان عندنا، فروى ابن سحنون عن أبيه (إذا كان القاتل ذميًا)، وقال سحنون أيضًا: إن قاتلا فلهما السلب. قوله: "ويأخذ (الإمام) من الغنيمة خمسها": الذي (يأخذها) الإمام فقال مالك: هو منزلة الفيء يأخذ منها الغني والفقير. وقال الشافعي: يقسم الخمس على أربعة أقسام، وهو قول الطائفة من أهل العلم، وهؤلاء عولوا على قوله تعالى: {فأن لله خمسه} افتتاحًا لكلام، وليس قسمًا خامسًا، وقال قوم: إن سهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم القربى سقط بموت النبي -عليه السلام-. واختلفوا في "ذي القربى" فقيل: بنو هاشم، وقيل: بنو عبد المطلب وبنو هاشم. إن سهم النبي وذوي القربى يرد على سائر المستحقين للخمس، وقيل: بل يجعل في السلاح والكراع. قال القاضي -رحمه الله-: "ولا يجوز الغلول" إلى قوله: "والنفل كله من الخمس".

شرح: أجمع العلماء على أن الغلول محرم، والدليل على ذلك الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وما كان لنبي أن يغل} الآية [آل عمران: 161]. وأما السنة فقوله -عليه السلام-: (أدوا الخائط والمخيط، فإن الغلول عار، ونار، وشنار يوم القيامة) والآثار (الصحيحة) في تحريمه كثيرة، خرجها مسلم وغيره. قوله: "ويؤدب فاعله": وهو كما ذكره لأنه فعل معصية، وارتكب كبيرة، واستحق العقوبة، ولا يحرق رحله، ولا يحرم سهمه عند الجمهور خلافًا لمن شذ اعتمادًا على (حديث) ورد بذلك، وفي إسناده مقال ولذلك نبه القاضي، وحكمه إن تاب أن يؤتي به إلى الوالي فيضعه

في المقاسم وتسقط عنه العقوبة حين أتى به تائبًا، فإن جاء به الإمام بعد تفريق الجيش اجتهد الإمام فيه، فإن لم يجد الوالي تصدق به، حكاه محمد بن المواز عن مالك ولو تاب من الغلول في مرضه، وأراد إخراجه فهل يخرج من رأس المال أو من ثلثه، فيه نظر. وتحصيل القول فيه: أنه إن تاب بقرب أخذه قبل افتراق الجيش، فهو من رأس المال، وإن طال ذلك أخرج من ثلثه، ولو سرق من المغنم، وكان فيه من يعتق عليه أو وطيء جارية فهل يدرأ عنه الحد، ويعتق عليه ذو محرمة أم لا؟ فيه خلاف. أما إذا سرق مقدار نصيبه فأقل فرأى أنه لا يقطع للشبهة، والمشهور من المذهب أنه يقطع مطلقًا إذا سرق بعد إحراز الغنائم، وكذلك إذا زنى بالمرأة، فعليه الحد، وقال عبد الملك: لا حد عليه. ومبنى الخلاف على تحقيق الشبهة قال سحنون: ولو أعتق عبدًا من المغنم يكمل عليه ويقوم نصيب أصحابه، وكذلك إذا كان فيه ذو محرم يعتق عليه، فإنه يعتق ويقوم نصيب أصحابه، قال ابن القاسم وأصحابه: إذا أعتق أمة من المغنم فلا عتق له، ولو وطئ جارية حد، ولو حملت (لم تكن له) أم ولد، وقيل: إنه إن وطئ أمة فحملت فهي أم ولده لا حد عليه. حكاه بعض شيوخنا عن المذهب. ثم إن كان سهمه من المغنم يستغرق

الأمة أخذ منه قيمتها يوم الحمل، فإن لم يف سهمه بذلك كمل قيمتها فيما لزمه من الغنيمة، وتبع من قيمة الولد بقدر ذلك. واختلف أهل العلم في إباحة الطعام والعلف للغزاة ما داموا في أرض العدو، فالجمهور إباحة ذلك، ولم يروه من باب الغلول. والأصل فيه ما خرجه البخاري، ومنع من ذلك كله ابن شهاب وغيره من أهل العلم، ورأوه من الغلول، وحكى بعض شيوخنا إجماعًا على إباحة أكل طعام المشركين في أرض الحرب بغير إذن الإمام، وإن تعلف منه الدواب، وكذلك كل طعام من الإدام والمواشي من غير إسراف، وفي هذا الإجماع نظر، وقد حكينا مذهب ابن شهاب في ذلك، وإذا قلنا بالجواز (فحكمه) أن يأخذ منه بقدر حاجته، فإن احتاج إلى الفرس والسلاح أو الثياب قال ابن القاسم عن مالك: أنه يأخذ ذلك بغير إذن الإمام لينتفع به حتى تنقضي غزوته. وروى ابن زياد وابن وهب: أنه ليس له أخذ شيء من ذلك إلا بإذن الإمام. قال ابن حبيب: ولو نهى السلطان عن أكل طعام العدو، ولم يكن ثابتًا أن يأكلوا بعد نهيه إذا احتاجوا إليه، وسواء أحرزه الإمام بعد نهيه أولاً. واختلف المذهب إذا احتاجوا إلى بيع شيء من ذلك يشتروا سلاحًا ونحوه، فقيل: لا بأس به. وقال ابن حبيب: هو مكروه لأنه إذا صار ثمنًا

رجع غنيمة. وكذلك اختلفوا هل يجوز ذبح الأنعام في دار الحرب للأكل منها أم لا؟ وفي المذهب فيه قولان: الأشهر: الجوار وقيل: لا يجوز، ولو فضل من العلف، أو اللحم ونحوه شيء بعد انفصال الجيش، ودخول دار الإسلام فهل يمتلك أو يتصدق به، فيه خلاف، والمشهور أنه إن كان كثيرًا تصدق به، وإن كان يسيرًا فله الانتفاع به. قوله: "وما حصل في أيدي العدو من أموال المسلمين فأسلموا عليه كان لهم": وهذا بناء على أن أهل الحرب مالكون لما حكموا عليه من أموال المسلمين. قوله: "فإن عاد شيء من ذلك إلى الغنيمة فهو لمن كان يملكه من المسلمين" إلى آخره وهذا كما ذكره. هو أصل مذهب مالك -رحمه الله-، والأصل في ذلك ما رواه ابن عباس أن رجلاً وجد بعيرًا له كان المشركون قد أصابوه فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد القسم أخذته بالقيمة)، وقال الشافعي، وأبو ثور هو لأربابه، وليس للغزاة فيه شيء، وهذا بناء على أنهم غير مالكين لما

(حكموا) عليه من أموال المسلمين. وقال علي بن أبي طالب: هو غنيمة للجيش ليس لمالكه فيه شيء، وهذا بناء على أنهم مالكون حقيقة، وهو قول الزهري (وعيسى) بن دينار وغيرهما من أهل العلم، وانظر إطلاق لفظ القاضي في قوله: "ولا يجوز قسمه إن علم به". واختلف العلماء: هل يجوز للغانمين قسمته أم لا؟ وفي مذهب مالك فيه تفصيل، فإن علم أنه لمسلم، وكان صاحبه حاضرًا لم يقسم، وأخذه بغير عوض إذا أثبت أنه كان له، فإن كان صاحبه معلوم العين مجهول البلد لم يقسم أيضًا، وللإمام أن يقفه أو يبيعه ويوقف ثمنه، فإن كان صاحبه معلوم العين والبلد نقل إليه إن خف نقله، فإن صعب اجتهد له فيه الإمام، فإما باعه، وإما أمر بنقله إليه، فإن كان صاحبه مجهول العين والبلد، فتحقق أنه ملك مسلم، فقال مالك: يقسم للمسلمين. وحكى القاضي أبو محمد أنه لا يقسم، ويترك حتى يأتي ربه. وقال محمد بن المواز: هو كاللقطة. فإن كان معلوم البلد مجهول العين، فقال مالك، وابن القاسم: يقسم. وقال البرقي، عن مالك: يبعث به إلى بلده، فإن علم صاحبه وإلا أمر ببيعه. وإذا أشكل الأمر هل هو لمسلم أو لكافر غلب عليه حكم الدار، وقسمه الإمام مع الغنائم بين الجيش.

تنبيه: قد حكينا عن مالك أن الكفار مالكون ما حكموا من مال المسلمين، وخالفه الشافعي في ذلك، فلو أسلم حربي وبيده مال مسلم، فقال مالك، وأبو حنيفة: يجوز له تملكه، وقال الشافعي: لا يصح له تملكه، والدليل لنا قوله -عليه السلام-: (وهل ترك لنا عقيل من دار) وهذا يدل على أنهم مالكون لما حازوا من أموال المسلمين، ومن طريق المعنى أنهم كانوا غير مالكين لضمنه كالغاصب لاستوائهما في القهر والغلبة. وينبني على هذا الأصل لو دخل مسلم إلى دار الكفار على وجه التلصص وأخذ من أيديهم مال مسلم، فمقتضى القول: أنهم مالكون أن اللص أولى به من صاحبه وهو قول أبي حنيفة وقال مالك: هو لصاحبه، وليس للص فيه شيء وهذا غير جار على أهله أنهم مالكون، وأما ما فدى من أيدي اللصوص، فقد اختلف المذهب في حكمه، فقيل لصاحبه بغير شيء وهذا بناء على أنهم غاصبون لا ملك لهم على ما غصبوه البتة، وقيل: يأخذه صاحبه بالأقل من قيمته أو ما أفدى به. واحتج من رآى أنهم غير مالكين بالنقل والمعنى. أما النقل فما روي من حديث ابن عمر أنه كان له فرس فأخذه المشركون فظهر عليه المسلمون فردت عليه في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فروى (ابن عمر) وابن حصين قال: أغار

المشركون على سرح المدينة، وأخذوا العضباء ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت العضباء فأتت ناقة ذلول فركبتها، ثم توجهت (إلى) المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة فأتوا بها النبي -عليه السلام- فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: (بئسما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية)، وفي هذين الحديثين دليل على أنه غير مالكين لما حازوه من أموال المسلمين، وإلا لما رد -عليه السلام- على ابن عمر فرسه، ولا ما رد الناقة إليه من حيث إنهم ملكوها بحيازة، وأما المعنى فإنهم لا يملكون رقاب أهل الإسلام فلا يملكون أموالهم. قوله: "والنفل كله من الخمس": فهذا هو مذهب جماعة من العلماء، وهو قول مالك -رحمه الله-. واختلف في ذلك قول الشافعي، والمختار عندهم أنه من الخمس أي

من حظ الإمام منه، وقال أحمد (وأبو عبيد): وهو من أصل الغنيمة، وأجاز جماعة من أهل العلم أن ينفل الإمام الغنيمة كلها. والدليل على أنها من الخمس الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ} الآية ومقتضاها تعيين الموصوف فلا مدخل للنفل. وأما السنة فما روى مالك عن ابن عمر (أن رسول الله بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهامهم اثني عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا). وهذا يدل على أن النفل كان من الخمس بعد الغنيمة وهو نص في محل النزاع، واحتج من رأى من أصل الغنيمة بقوله تعالى: {يسئلونك عن الأنفال} الآية [الأنفال: 1]، وهذا يدل على أن الحكم فيها للإمام، واحتج أيضًا بما رواه حبيب بن مسلمة أنه -عليه السلام- كان ينفل الربع للسرايا بعد الخمس في البداءة وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة يعني في غدوه وانصرافه. وهذا يدل على أنه من أصل الغنيمة، وبهذا الحديث نفسه احتج من رآى أنه للإمام أن ينفل من الثلث والربع عملاً على حديث حبيب بن مسلمة، وقد رآى طائفة من أهل العلم (ألا يعارض) قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم

من شيءٍ} وقوله: {يسئلونك عن الأنفال} وحمل الآيتين على أن الخيار في ذلك للإمام. وإذا فرعنا على مذهبنا أن النفل والسلب والرضخ من الخمس فهو أعني النفل على قسمين جائز، ومكروه، فالجائز ما كان بعد القتال من غير كراهية، وإذا قلنا بالكراهية فشرط الإمام وجوب الوفاء بالشرط كما ذكرناه، لأنه مبايعة فلا يحل نقضها. قال القاضي -رحمه الله-: "ويستحق الإسهام بثلاثة شروط" إلى قوله: "الأجراء والصناع". شرح: يتعلق بهذا الفصل الكلام في الغنيمة، وشروط استحقاقها، ونحن نتتبع لفظه. قوله: "أن تغنم الغنيمة بقتال أو إيجاف عليها بخيل أو ركاب": وهذا كما ذكره من شروط تسميتها غنيمة، وما عداه يسمى فيئًا وهو ما صار للمسلمين من أموال المشركين من غير إيجاف عليه بخيل أو ركاب. قوله: "فأما ما سوى ذلك مما ينجلي عنه أهله فهو فيء": وهذا كما ذكره، وما يختلس أو يسرق فإنه خاص للمختلس والسارق ويخمس إذا أخذه المسلم الحر، فإن اختلسه أو سرقه عبد فهل يخمس أم لا؟ فيه قولان فقال

ابن القاسم: يخمس إن أخذه العبد، وقال سحنون (وابن المواز): لا يخمس على العبد. قوله: "فإنه يصرفه الإمام في مصالح المسلمين" هو كما ذكره. واختلف العلماء هل يخمس الفيء، فقال الجمهور: الفيء غير مخمس، وهو الثابت عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وغيرهما. وقال الشافعي: الفيء يخمس، ولم يقل به أحد قبله، ورآى أنه مقسوم على الأصناف التي ذكر الله سبحانه في سورة الحشر. قال تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} الآية [الحشر: 7] ألا وهم الذين ذكرهم الله تعالى في الغنيمة. وإذا قلنا بما ذهب إليه الجمهور من أن الفيء غير (مخمس)، فقد اختلفوا بعد ذلك في مصرفه، فقال قوم: هو إلى الاجتهاد فينظر فيه السلطان، فينفق منه على نفسه وعياله من رأي. واحتجوا بما خرجه مسلم عن ابن عمر قال: (كان أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لا يوجب عليه المسلمون بخيل أو ركاب، فكانت له -عليه السلام- خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في السلاح والعدة في سبيل الله). وقال قوم: هو مقسوم على الأصناف الخمسة الذين ذكرهم الله سبحانه في قوله: {واعلموا

أنما غنمتم من شيءٍ} الآية، والآية المذكورة في سورة الحشر. المشهور أنه للأغنياء والفقراء، والمقاتلة والحكام والمؤذنين ونحوهم ممن ينفع المسلمين في شيء. قال ابن حبيب: (السرية) التي مضى عليها (أئمة) العدل فيما أفاء الله على المسلمين من خمس وجزية وخراج أرض وما صولحوا عليه الحربيين من هدنة ما يؤخذ من أعشار الحربيين وتجار أهل الذمة وخمس الغنائم أن هذا لسد مخاوف المسلمين، ومنعة حصونهم، واستعداد آلات الحرب لهم، فإن فضل شيء أعطى قضاتهم وعلماؤهم ومن للإسلام فيهم انتفاع وبناء المساجد والقناطير، فإن فضل من ذلك شيء فرقه على الأغنياء، فإن رآى حبسه لنوائب المسلمين فعل، واختلف العلماء في كيفية الصفة المعتبرة، فقيل: الضرورة والحاجة، وقيل: السائبة والبلاء في الإسلام، وقيل: الأمر في ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام العدل على ما يرى من تسوية، أو تفصيل ويوفر سهم قرابته -عليه السلام- منه إجلالاً لهم، وسدًا لخلاتهم، قاله كله ابن حبيب. قال ابن عبد الحكم: إذا صار الفيء في بيت المسلمين أعطى الإمام منه المقاتلة، وبناء الثغور، وإعطاء النساء، والدرية، والمنفوس والأعراب، ولا يعطي العبيد، وذلك كله على حسب اجتهاد الإمام، وما يراه صلاحًا للمسلمين. قوله: "ولا يسهم لمن مات قبلها": وهذا كما ذكره وبه قال الجمهور، وقال سحنون: إذا قامت الصفوف، ولم يقم القتال، فلا سهم لمن مات، وروى نحوه عن مالك قال: وإنما أسهم بعد المناشبة في القتال. قال ابن حبيب: سمعت أن أصحاب مالك قالوا: إن مشاهد الحصن والعسكر

كالقاتل. قوله: "ولا (لمن" جاء بعدها": تنبيهًا على مذهب أبي حنيفة لأن مذهبه أن من لحق الجيش قبل أن يخرجها إلى بلاد الإسلام وجب له حظه من الغنيمة إن استعمل، والجمهور على أنه لا سهم له، والدليل للجمهور ما رواه أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبان بن سعيد من المدينة قبل نجد فقدم أبان وأصحابه على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما فتحها فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله -صلى الله عليه سلم-: (فقسم لهم -صلى الله عليه وسلم-) واحتج أبو حنيفة بالنقل والمعنى، أما النقل فما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم بدر: إن عثمان ذهب في حاجة لله وحاجة لرسوله، فضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يضرب لأحد غاب عنه فوجب له السهم لاشتغاله بأمر الإمام، وذلك أن زوجته ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت مريضة (بالحصبة) وإن لم تكن حجة في غير المحل، إلا أن فيه

التنبيه على المعنى، وهو اشتغاله بأمر الإمام هو نص فيمن رده الإمام لحاجة، وسنذكره بعد. وثبت أنه -عليه السلام- أسهم لطلحة: وقال: يا رسول الله وأجري؟ قال: (وأجرك)، وكلاهما عندنا. وأما المعنى فكأنهم شبهوا تأثير الغازي في الحفظ بتأثيره في الأخذ، وذلك ان حاضر القتال له أثر في أخذ الغنيمة والمدد لهم تأثير في حفظها، فتساوت المقتضيات وتقاربت. قوله: "ولا أن يكون صحيحًا غير مريض": وهذا شرط مختلف فيه في المذهب على أربعة أقوال: أحدها: أن المريض يسهم له مطلقًا، ولو خرج من بلاد المسلمين مريضًا، ولعل هذا القول محمول على من له أن ينتفع به الجيش. والثاني: أنه لا يسهم إلا أن يمرض بعد شهود القتال لحصول المشاركة. والثالث: أنه لا يسهم له إلا أن يمرض بعد ابتداء القتال لنفسه، لأن مبادئ الانتفاع به قد حصل. والرابع: أنه لا يسمع له إلا أن يمرض بعد الحصول في أرض الحرب، وهذا بناء على أن ما قرب من الشيء له حكمه.

قال الشيخ أبو الطاهر: إن مرض بعد أن أشرفوا على الغنيمة فقولان: الإسهام، ونفيه، والإسهام أشهر، وإن من مرض قبل الإشراف على الغنيمة فقولان: الإسهام، ونفيه وهو المشهور. وإن مرض في بلد المسلمين فقولان الأشهر نفى الإسهام له، وإن كان ذلك بعد حصوله في أرض الحرب فقولان أيضًا، وهذا تفصيل المذهب فيه. واختلف العلماء أيضًا في الضال عن الجيش هل يسهم له أم لا؟ وفي مذهب مالك فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يسهم له مطلقًا لأنه مغلوب. والثاني: لا يسهم له أصلاً إلا أن يضل بعد شهود القتال. والثالث: التفرقة فإن ضل في بلاد الحرب أسهم له، وإن ضل في بلد المسلمين لم يسهم له، وهذا نظر إلى المعنى، لأنه شارف وحاضر نفسه كالقاتل، وقيل: إن ضل بعد القتال، أو بعد الغنيمة أسهم له، وإلا فلا، وهو قول رابع. واختلف فيمن رده الإمام من الجيش لحاجة هل يسهم له أم لا؟ وفيه قولان في المذهب، وقد ذكرنا أن الأصل في ذلك رد النبي -عليه السلام- عثمان لمرض ابنته -صلى الله عليه وسلم- والتي كانت تحت عثمان -رضي الله عنه-. وهذا الخلاف إنما هو فيمن رد في حاجة المسلمين لا للجيش على الخصوص، وأما من رد الإمام لحاجة الجيش، فلا خلاف أنه يسهم له، وحكى ابن شاس عن المذهب أنه لا يسهم له، وهو غير معروف. قال الإمام أبو بكر بن المنذر ثبت أن عمر بن

الخطاب قال: الغنيمة لمن شهد الوقيعة. وأما من رجع من تلقاء نفسه اختيارًا قبل دخول الحرب وقبل الوقيعة، فهل يسهم له أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على أن ما قرب الشيء هل له حكمه أم لا؟ ولو رجع بعد الوقيعة والمقاتلة لا سهم له (بلا خلاف)، ولو غاب بانهزام لم يسهم، فإن قصد التحيز إلى فئة التحيز إلى فئة أخرى لا يسهم له، ولو ادعى على رجل التغيب، فإن ثبتت بينة كافية، أو أمارة ظاهرة عمل بمقتضاها، وإلا فالأصل بعد خروجه وحصوله مع الجيش، وفي بلاد الحرب (حضوره) الوقيعة فيسهم له، وهل يرجع في ذلك إلى شهادة الإمام وحده أم لا؟ فيه قولان في المذهب. قوله: "ومثل ذلك السرية المنفصلة من جملة العسر برأي الإمام": وهذا تنبيه على مسألة الخلاف أيضًا، وذلك أن العلماء أيضًا اختلفوا في مسألتين من هذا المعنى. المسألة الأولى: من خرج بغير إذن الإمام هل يسهم له مع الجيش أم لا؟ الجمهور على الإسهام لجميع الغانمين خرجوا بإذن، أو بغير إذن. وشذت طائفة من العلماء فقالوا: من خرج بغير إذن الإمام فلا يسهم له قصر الفعل على ما ورد بأن جميع السرايا (والجيوش) لم يخرج أحد فيها على عهده -صلى الله عليه وسلم-

إلا بإذنه، فهؤلاء رأوا أن إذن الإمام شرط، إذ هو صورة الفعل الواقع في عهده -عليه السلام-. المسألة الثانية: إذا غنمت السرايا التي تخرج من العسكر هل تختص بالغنيمة أم لا؟ وتحصيل القول فيه: أن السرايا المفردة مخمسة مختصة بالغنيمة بلا خلاف، وفي مذهب مالك خرجت بإذن الإمام أو بغير إذنه. وقال قوم من أهل العلم: لا خمس فيها إذا خرجت بغير إذن، وهي للغانمين خاصة، وقالت طائفة: وكل ما ساقته السرية المفردة الخارجة بغير إذن الإمام. والرجل يأخذ وحده فيتم فهو نفل يأخذه الإمام كله إذا خرج بغير إذنه، قصر الخروج على صفته التي كانت على عهده -صلى الله عليه وسلم-، ولم تكن إلا بإذنه -عليه السلام-، والتي تقدمت بين يدي العسكر، فلا يخلو أن يغنم العسكر، أو تغنم السرايا، فإن غنم العسكر فلا يخلو أن تخرج السرية بإذن الإمام، أو بغير إذنه، فإن خرجت بإذنه شاركوا العسكر في الغنيمة وإن خرجت بغير إذنه لم تشارك العسكر في الغنيمة. وإن غنمتم السرية المتقدمة بين يد العسكر، فالجمهور على أن العسكر يشاركوا أهل السرية في الغنيمة، وإن لم يشهد العسكر العنيمة، ولا القتال، وهو مذهب مالك. لأن الجيش إعانة السرية، إذ لولاه لما قدرت على دخول بلد الحرب، ولما نهضت إلى العدو، فللعسكر تأثير على من حضر القتال ولم يقاتل (لأنه) ألقى الرهبة، وكثر السواد. وقال النخعي: الإمام بالخيار إن شاء خمس ما تغنم السرية، وإن شاء نفذه كله. وقال الحسن: إن خرجت بغير إذنه خمسها، وكان ما بقي بين الجيش كله، وإن خرجت بإذنه خمسها، والباقي للسرية خاصة دون الجيش. قوله: "والثالث أن يكون (المسهم له) من (جيش) (من) يلزمه

القتال": وهذا كما ذكره، واتفقوا على (أن من كملت فيه) سبع صفات فهو (مستحق) للغنيمة: الإسلام، والعقلن والبلوغ، والحرية، والذكورية، والصحة، وإطاقة القتال. وقولنا: "الإسلام" احترازًا من الكافر، وقد اختلف العلماء هل يستعان بالمشركين في الجهاد أم لا؟ وفيه قولان، (المذهب) في المشهور منع لقوله -عليه السلام-: (إنا لا نستعين بمشرك) الحديث خرجه مسلم. والشاذ: الجواز، لأن المقصود غلبة الكفار، وإذا قلنا بجواز الاستعانة بالمشركين، فهل يستعان به في سائر أسباب القتال، أو في الخدمة خاصة فيه قولان في المذهب. قال ابن حبيب في قوله -عليه السلام-: (إنا لا نستعين بمشرك) هذا في الزحف والصف، فأما من هدم حصن أو رمي مجانيق ونحوه فلا بأس به، قال: ولا بأس أن يستعان بمن سأله من أهل الحرب على [ ....... ]، وإذا قلنا بذلك: فهل يسهم للكافر أم لا؟ أما من لم يقاتل فلا يسهم له، وإن قاتل فهل يسهم له فيه في المذهب ثلاثة أقوال. أحدها: أنه يسهم له بحصول المقتول من الخروج، وسبب الغنيمة. والثاني: أنه لا يسهم له بناء على منع الاستعانة. والثالث: أنه إن استقل المسلمون بأنفسهم لم يسهم له، إذ لا ضرورة له ولا سهم له.

وقولنا: "العقل" احتراز من المجنون، والمجنون على قسمين مطبق وغير مطبق، والمطبق على قسمين: إما أن يكون طرؤه عليه بعد الخروج من بلاد الإسلام، والوصول إلى أرض الحرب أو (قبله. فإن كان قبل الخروج من بلاد المسلمين لم يسهم له، وإن كان بعد الوصول إلى أرض الحرب أو) بعد الوقعة ففيه قولان: الإسهام له، لأنه كثر السواد، وقارب الشيء ونفيه، إذ لا يصح منه القتال، وغير المطبق يسهم له إن كان معه من العقل ما يطيق به القتال والإجراء على ما ذكرناه. وقولنا: "البلوغ" احترازًا من الصبي. وقد اختلف العلماء هل يسهم للصبيان أم لا؟ وفيه قولان: الجمهور على أنه لا يسهم (لم) وفي مذهب مالك فيه نظر. تحصيله أنه إن لم يطق القتال فلا يسهم له وإن أطاقه فهل يسهم له أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يسهم إذا حضر الوقيعة قاتل، أو لم يقاتل، لأنه كثر السواد. الثاني: أنه لا يسهم له، لأنه لا يؤمر بالقتال. الثالث: أنه إن (قاتل) أسهم له وإلا فلا، لأن المقصود من حصوره القتال، وإذا قلنا: إنه لا يسهم للصبي، فالمراهق حكمه حكم البالغ، وقيل: حكم الصبي، والأول قول الشافعي. وكذلك اختلفوا أيضًا: هل يرضخ لهم (أم لا) إن قلنا: إنه لا يسهم لهم، ومما احتج به من رأى الإسهام للصبيان

عموم قوله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول}، ومما احتج به من رآى أنه لا يسهم لهم (ما) ذكره ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب وابن عباس. وإنما اشترط البلوغ تعويلاً على حديث ابن عمر. وقولنا: "الحرية" احترازًا من العبد. وقد اختلف العلماء هل يسهم للعبيد إذا قاتلوا أم لا؟ وفي المذهب في ذلك ثلاثة أقوال: الإسهام مطلقًا، ونفيه، والإسهام مطلقًا، ونفيه، والإسهام إن لم يستقل الأحرار بأنفسهم، ونفيه إن استقلوا بأنفسهم، وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال: ليس (أحد) إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم. وقولنا: "الذكورية" احترازًا من المرأة، ولم يختلف المذهب أنها لا تستحق السهم إذا لم تقاتل، فهل يسهم لها أم لا؟ فيه قولان في المذهب. وإذا قلنا: إنه لا يسهم لها فهل يرضخ لها أم لا؟ قال ابن حبيب: إن قاتلت المرأة كقتال الرجال أسهم لها. وسبب الخلاف اختلافهم في الإسهام لهن اختلاف الأحاديث هل كان -عليه السلام- يسهم لهن، أم يرضخ من العطاء ولا يسهم، فروى الأوزاعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسهم للنساء بخيبر. وفي الصحيح: أن أم عطية كان -عليه السلام- يرضخ لها من الغنيمة.

وكذلك اختلفوا في التجار والأجراء إذا قاتلوا هل يسهم لهم أم لا؟ قال ابن القاسم: إن قاتل التاجر أسهم له، وإن كان في رحله لم يسهم له. وقال أشهب في المدونة: وإن قاتل. قال سحنون: إن استؤجر للخدمة فقاتل فله سهمه، وتبطل من أجرته ما عطل من الخدمة، وحكم نوانية البحر حكم الأجراء. وخرج عبد الرزاق أن عبد الرحمن بن عوف قال لرجل من فقراء المهاجرين: أن يخرج معه، قال: نعم. فوعده، فلما حضر الخروج دعاه فأبى أن يخرج معتذرًا بأمر عياله وأهله، وأعطاه عبد الرحمن ثلاثة دنانير على أن يخرج معه، فلما هزموا العدو وسأل عبد الرحمن نصيبه من المغنم، فقال عبد الرحمن: سأذكر أمرك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره (فقال له) -عليه السلام-: (تلك الثلاثة دناننير حظه من الغزو وفي دنياه وآخرته). وإذا قلنا: إنه لا يسهم للعبيد، والأجير، والنساء، ولا التاجر، فخرجوا مع سرية فهل يسهم لهم أم لا؟ فيه قولان في المذهب. قال ابن العطار في الأجير إن خرج للجهاد والإجارة كالخياطة فله سهمه شهد القتال أم لا؟. وإن استؤجر للخدمة فلا يسهم له. وفي كتاب ابن محمد: إن شهد الأجير (القتال) فكان مع الناس عند القتال أسهم له، وفي كتاب محمد: التاجر إن شهد القتال أسهم له، وإن لم يقاتل. وقولنا: "صحة" احترازًا من المريض قد ذكرنا فيه الأقوال الثلاثة الواقعة في المذهب. وقولنا: "وإطاقة القتال" احترازًا من الأعمى، لأنه لا يطيق القتال،

والأقطع، والمقعد والأعرج. قال سحنون: يسهم لهم، والمشهور لا يسهم لهم. ومبنى الخلاف: هل يعدوا في حكم الأصحاء أو في حكم المرضى، تنبيهًا على ما ذكر ابن المواز أن الإمام مخير بين أن يقسم أعيان المغانم أو أثمانها. وقال سحنون: يقسم الأثمان. واختار القاضي أبو الوليد قسم الأعيان وهو الأولى عندنا إلا أن يبيعوا، ويحتمل أن يكون الخيار في ذلك للجيش والإمام، وهو سديد في النظر، لأنهم المالكون. قال القاضي -رحمه الله-: "والمسهم لهم ضربان" إلى قوله: "والإمام في الأسارى". شرح: وهذا أصل مذهب مالك -رحمه الله- أن للفارس ثلاثة أسهم: سهم لنفسه، وسهمان للفرس وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان سهم له وسهم لفرسه. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الآثار فجاء من طريق ابن عباس وغيره أن النبي -عليه السلام- جعل للفارس ثلاثة أسهم سهمان للفارس، وسهم

لراكبه. وجاء من حديث مجمع بن جارية وغيره مثل قول أبي حنيفة. قوله: "ولا يسهم إلا لفرس واحد": فيه قولان في المذهب المشهور ما ذكره. وقال ابن وهب: من له فرسان يتبدل عليهما فإنه يسهم لفرسين، وقد قيل لفرسين فأكثر. ومبناه على مراعاة الطوارئ. قال الشيخ أبو الطاهر: لا خلاف أنه يسهم للفرس الواحد، ولا يسهم على ما زاد على اثنين. وهل يسهم للفرسين يكونان لمالك واحد أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على مراعاة الطوارئ، فمن راعاها أسهم لهما ومن لم يراعها لم يسهم لهما، قال ابن الجهم: من له فرس واحد في حكم (الرجال) لأنه معرض للجراح والهلاك، وقال غيره: لا خلاف عندنا أنه لا يعطى لما زاد على فرسين.

قوله: "وإذا أجاز الإمام الهجن والبراذين أسهم لها": قلت: الخيل على ثلاثة أقسام عتاق قوية يسهم لها، وبراذين غير قوية فلا يسهم له، وبراذين قوية فيسهم لها إن أجازه الإمام، ولا خلاف في مذهب مالك أنه لا يسهم لبغل ولا حمار، لأن المقصود منه الكر والفر، وهو غير حاصل لها. واختلف في مسائل من ذلك: (المسألة الأولى): الفرس المريض هل يسهم له أم لا؟ واختلفت الرواية في ذلك، فقال مالك: يسهم للفرس المريض الذي لا يمنعه من حصول المنفعة المقصودة منه، وقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له، وهذا إذا مرض قبل الوقيعة، وأما المريض بعد الوقيعة والمناشبة له فيه خلاف جار على الخلاف بماذا تستحق الغنيمة ويستقر ملك الغانمين عليها، فقيل: بالقهر والاستيلاء، وقيل: بنفس الغنيمة، وعلى ذلك يجري حكم الفرس وإذا قال بعد الوقيعة. وقد تقدم الخلاف في الرجل يضل على الجيل هل يسهم له، وهو جار على الفرس، وكذلك إذا مات الفرس بعد الوقعة حكمه حكم الغازي والمناشبة به فله سهمه. ولو دخل دار الحرب بفرس مريض، أو عقير فصح وقاتل عليه (فليسهم) له من يومه (لا من) قبله؛

قاله سحنون. وكذلك الفرس الرهيص، قال مالك: يسهم له لأن ذلك لا يمنعه من حصول المنفعة به وما حدث من هذه العيوب بعد الوقيعة لم يمنع له لسبق المنفعة به. المسألة الثانية: الفرس المغصوب والمستعار والمستأجر يسهم له لراكبه بلا خلاف إلا أن يغصبه من (غازي)، ففي سهم الفرس قولان فقيل لغاصبه لأنه المقاتلن وقيل لمالكه، وعلله الأشياخ بوجهين: أحدهما: أن الغاصب قد منع شيئًا فعليه ضمانه للمالك. الثاني: أن استحقاق السهم للمالك ثبت بالخروج، أو بالوصال إلى أرض الحرب، وهذا كله إذا كان الغصب أو الاستحقاق أو العارية قبل القتال، فإن كان ذلك بعد القتال والمناشبة فالسهمان للمالك بلا خلاف لاستحقاقه (ذلك) قبل الإجارة والعارية، ولو استأجر الفرس ببعض سهمه، فالسهم للقاتل، وعليه لرب الفرس أجرة المثل في فرسه، لأنه أجرة فاسدة. المسألة الثالثة: إذا كان الخيل في السفن فهل يسهم لها أم لا؟ المنصوص أنه يسهم لها لأنها معدة للنزول، ويجري فيه الخلاف هل يعتبر الحال، أو يعتبر المآل والأول مختلف فيه. والخيل الصغير الذي يحصل الكر والفر منه كالكبار وإلا فلا.

المسألة الرابعة: الفرس الضعيف هل يسهم له أم لا؟ اختلف فيه. فقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له لأنه لا يمكن القتال عليه حال ضعفه فهو كالكسير، وكذلك الأعجف الذي لا ينتفع به، وقيل: يسهم للضعيف لأنه مرجو البرء. قوله: "ولا يقتل النساء و (لا) الصبيان ولا الشيخ الفاني ولا أهل الصوامع والديارات إلا أن يخاف منهم أذى أو تدبير": وهذا أصل مذهب مالك كما ذكره، وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا. وتحصيل القول فيه أنهم أجمعوا على جواز قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين في حال الحرب، واختلفوا في قتل صبيانهم ونسائهم وشيوخهم ورهبانهم وأجرائهم وخدامهم والأعمى والمعتوه منهم. فقال الشافعي: يقتل جميع هذه الأصناف، (فاستدل) بالكتاب والسنة والمعنى. أما الكتاب فظاهر قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]. وقال تعالى: {وقاتلوا المشركين كآفة} الآية [التوبة: 36]. وأما السنة فعموم قوله -عليه السلام-: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) الحديث. وأما المعنى فرآى أن علة القتل إنما هي

الكفر وهي عامة في جميع الكفار. وحكى الشيخ أبو الطاهر أن (الآية) مجتمعة على خروج الولدان من الأقوال، المشهور عن الشافعي وغيره جواز قتل الولدان والنسوان مطلقًا. وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن هؤلاء إن قاتلوا أو آذوا المسلمين بوجه من وجوه الإيذاء، إما برأي أو تدبير أو بإعانة إما بزاد وإما بقتل، فإنهم يقتلون وإن لم يفعلوا هذا على سبيل الإجمال. فإن فصلت قلت: أما النساء فإن لم يقاتلن لم يقتلن، فإن قاتلن فهل يقتلن أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال في المذهب. أحدها: أنهن لا يقتلن على الإطلاق لعموم نهيه -عليه السلام- عن قتل النساء والصبيان. وثانيها: أنهم يقتلن لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مر على امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه تقاتل) فظاهره أنها لو قاتلت لقتلت. وثالثها: أنها تقتل إن قاتلت في حين القتال، وإلا لم تقتل بعد. وإذا قلنا: إنها تقتيل إن قاتلت، فالمراد قتالها بالسلاح المعتادة، فإن قاتلت بالرمي والحجارة ونحوه فهل هو كالقتال والسلاح فتقتل أم لا؟ فيه قولان، المشهور من المذهب أنها إذا (سرحت) بلساها أو أخرجت مع النسوة في السور والحصون فإنها لا تقتل، وأما الصبيان فلا يقتلون إلا أن

يقاتلوا بالسلاح، ولو قاتلوا بالحجارة أعرض عنهم ولم يقتلوا. وقيل: إذا قاتلوا مطلقًا قتلوا والقولان في المذهب. واختلفوا فيه حد البلوغ في هذا الباب على قولين في المذهب الإنبات، وقيل: الاحتلام، وكذلك اختلفوا أيضًا في الرهبان المنقطعين عن الناس إذا لم يؤذونا بوجه، المشهور أنهم لا يقتلون تعويلاً على قول أبي بكر: فدعنهم وما حبسوا أنفسهم له. وروى ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بعث جيوشه قال: (لا تقاتلوا أصحاب الصوامع) والشاذ أنهم يقتلون لعموم قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كآفة} [التوبة: 36]. ومنبى المسألة على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. واختلفوا في النساء إذا ارتهبن هل يقتلن أم لا؟ وفي المذهب فيه قولان: أحدهما: أنهن يقتلن لأن الرهبانية مختصة بالرجال. والثاني: يتركن لانقطاعهن وانفرادهن عن الناس، واختلفوا في الزمناء، والأجراء، والمريض، ومن لا معونة له برأي، ولا غيره هل يقتل أم لا؟ وفي مذهب مالك في ذلك قولان. أحدهما: أنهم يقتلون تمسكًا بالعموم. والثاني: أنهم يؤمرون ولا يقتلون، وإذا قلنا في الرهبان أنهم يقتلون فكذلك لا يؤسرون أيضًا. قال مالك: ولا ينزل من صومعته، وكذلك

اختلفوا في الحراث، قال الأوزاعي: لا يقتل. قوله: " (ويترك) لهم أموالهم": وهذا كما ذكره، ولا خلاف في المذهب على القول أنهم لا يقتلون أنه يترك لهم أموالهم، وهل جميعه، أو ما يقوم به الأيام اليسيرة، ويؤخذا ما فضل عن ذلك، فيه قولان في المذهب لأن أخذ الجميع قتل في المعنى. قال مالك في المدونة: "يترك لهم ما يعيشون به، ولا يؤخذ كله". قال محمد بن المواز: أما ما لا يشبه أن يكون لهم، فلا يترك ولا يصدق الراهب في مثل هذا. قال مالك: (ويترك) البقرتين والغنيمات (والغليمات) والنخيلات ويؤخذ ما بقي ويحرق. قال مالك أيضًا: ما علم أنه لهم من عبيد وزروع فلا يتعرض لهم فيه. وإذا قلنا: بالقتل فيهم أوقع القتل القتل فيمن يجوز قتله في الأصل، فهو يجوز أن يحرقوا بالنار بعد قتلهم لأنه نكاية، أولاً لنهيه -عليه السلام- عن التعذيب بالنار فيه قولان في المذهب. فرع: لو قتل أحد من هؤلاء الذين لا يجوز قتلهم بعد أن صار مغنمًا فعلى قاتله قيمته بجعلها في المغنم، ولو قتل قبل أن يصير مغنمًا فليستغفر الله قاتله ولا شيء عليه.

قوله: "وأمان الأمراء نافذ": وهذا ثابت بالإجماع، والدليل عليه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين} الآية [التوبة: 6]. وأما السنة فقوله عليه السلام: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ). وسيجيء الخلاف فيه هل هو إخبار أو إنشاء. قال علماؤنا المالكية: الأمان على قسمين: عام لا يتولاه إلا الإمام. وخاص يستقل به الآحاد. وأجمع الفقهاء على أن من كملت (فيه) هذه الشروط فإن إمامته جائزة. فالأول الإسلام ثم البلوغ ثم العقل ثم الحرية ثم الذكورية، وهذه الشروط الخمسة مشترطة في استحقاق الإمامة شرعًا، فإذا حصلت الإمامة المنعقدة بهذه الشروط، وأمن الإمام فلم يختلف المسلمون في جواز تأمينه مطلقًا كان تأمينه أو مقيدًا. واختلف في تأمين غيره فيمن حصلت له هذه الشروط، فقال ابن الماجشون: لا يجوز أمان أحد سوى الإمام إلا بإجازته، أو بإذنه، والجمهور على خلافه. والتفصيل فيه: أما قولنا: "بالإسلام" احترازًا من الكفار، وقد اختلف المذهب في تأمين الذمي إذا كان من الجيش على قولين: أحدهما: أنه ليس بأمان وهو المشهور لقوله -عليه السلام-: (يجبر على المسلمين أدناهم) فشرط

الإسلام في جواز التأمين. والشاذ أنه أمان جائز لأنه تبع للمسلمين، فله ذمتهم وحكمهم في ذل. ولو قال حربي: ظننته مسلمًا فقد اختلف قول ابن القاسم في ذلك فقال مرة: يقبل دعواه، ويرد إلى مأمنه، وقال مرة: هم فيء ولا أمان (لهم) ولا يردون إلى مأمنهم. قال أبو الطاهر: وهذا خلاف في حال، فإن ظهر كذبه لم يقبل عذره، وإن ظهر صدقه قبل، وإن أشكل الأمر فالرجوع إلى الأصل يقتضي الإباحة، والرجوع إلى أشكال الحال يقتضي صحة التأمين. وأما قولنا: "في البلوغ" احترازًا من الصبي في المقاتلة جاز تأمينه وإلا فلا. قال غيره: يجوز تأمين الصبي، أجازه الإمام في المقاتلة أم لا؟ لقوله -عليه السلام-: (يجير على المسلمين أدناهم) والصبي أدناهم. وقلنا: "العقل" احتراز من المجنون لا أمان له. وقولنا: "الحرية" احترازًا من العبد. وفي المذهب في تأمين العبد ثلاثة أقوال: أحدها: جوازها قاتل أم لم يقاتل. وثانيهما: أنه غير جائز، وقال سحنون: إن أذن له سيده في القتال جاز أمانه. وحكى بعض شيوخنا قولاً رابعًا عن المذهب في العبد أنه إن قاتل صح تأمينه وإلا فلا وهو قول أبي حنيفة. وسبب الخلاف في جواز تأمين العبد معارضته للعموم وللقياس. أما

العموم فقوله -عليه السلام-: (ويسعى بذمتهم أدناهم) وهذا يقتضي تأمين العبد. وأما القياس فهو أن التأمين نوع من الحكم والولاية، ومن شرطه الكمال ونقص العبودية مانع من ذلك كمانع (من) الإمامة والشهادة وغير ذلك من مراتب الكمال. وقولنا: "الذكورية" احترازًا من المرأة. وقد اختلف المذهب في تأمين المرأة فأجازه ابن القاسم وأشهب بناء على أن قوله -عليه السلام-: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) إخبار عن حكم الله، وحكى أبو الفرج عن عبد الملك أنه باطل وليس بأمان. وسبب الخلاف ما ذكرناه من الأصليين. الأول: هل قوله: "قد أجرنا من أجرت" إنشاء أم خبر. الثاني: معارضة العموم للقياس. وههنا مسائل اختلفوا فيها: الأولى: هل يثبت الأمان بقول المؤمن، أو بشهادة شاهدين فيه قولان في المذهب فقال ابن القاسم: يثبت بقوله كابتداء الأمان. واشترط سحنون في ثبوته قيام الشهادة، لأنها دعوى على العسكر فيفتقر إلى الشهادة. الثانية: إذا أجزنا تأمين غير الإمام فهو جائز قبل الفتح فإن وقع الفتح، وصار في قبضة المسلمين، فهل يجوز تأمينه، ويكون مانعهن قبله أم لا؟ فيه قولان (عندنا) حكاهما أبو الطاهر: أحدهما: جوازه لأن إجارة أم هانئ كانت بعد الفتح، وقد أمضى ذلك -عليه السلام- لها. وثانيهما: أنه لا يجوز لأنه صار هراق الدم بحصوله في قبضة

المسلمين. الثالثة: يصح التأمين بكل ما يفهمه من نطق، أو إيماء باللسطان القوي إجماعًا. الرابعة: يجوز عندنا التأمين لواحد أو لعدد محصور، ولو عقده لعدد غير محصور لم يجز، لأن هذا من قسم التأمين العام، وعقد مخصوص بالسلاطين لا (يتولاه) غيرهم. قال القاضي -رحمه الله-: "والإمام في الأسارى" إلى آخر الباب. شرح: وهذا هو أصل مذهب مالك (وتبعه) على هذا جماعة من الفقهاء، وذلك عام في جميع أنواع المشركين إلا الرهبان، فإن طائفة من العلماء رأوا أن يتركوا ولا يتعرض لهم برق ولا بإسباء ولا بغير ذلك اتباعًا لفعل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-. وهذه الخصال الخمسة راجعة إلى اجتهاد الإمام فما يراه منها صوابًا فعله، وإذا استرقه فهو (عبد) لجميع الغانمين وهذا أولى من القتال وقد يرشده الله تعالى للإسلام، وقتله جائز إن رآه الإمام صلاحًا، لأنه إنكار العدو. وقد قال جماعة من أهل العلم: لا يجوز قتل الأسير اعتمادًا على ظاهر الحصر المفهوم من قوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} الآية [محمد: 4] فظاهر الآية حصر ما يفعل بالأسير بعد أسره وليس إلا المن والفداء. والجمهور على خلافه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قتل الأسارى في غير ما موضع، وفعله ناسخ للآية إن سلمنا دلالتها على الحصر وفيه نظر. قوله: "وفي الجاسوس الاجتهاد": قلت: اختلف المذهب في

الجاسوس للكفار على خمسة أقوال: فقيل: يقتل مطلقًا من غير استتابة إن لم يتب، وقيل: يكفي ضربه وتنكيله، وقيل: يقتل إلا أن يعذر بجهل، وقيل: إن كان معتادًا لذلك، وإن كان ذلك منه أول الأمر ضرب ونكل. والأصل في المسألة حديث حاطب بن أبي بلتعة، ومن رآى استتابته قاسه على المرتد، ومن رآى نفي الاستتابة قاسه على الزنديق والله أعلم. قوله: "وترد الرهائن وإن أسلموا": هذا مذهب مالك والأصل فيه ما خرجه البخاري في حديثه. ثم تكلم عن أرض الصلح وأرض العنوة، فحكمهما ظاهر. فأرض من أسلم صلحًا ملكًا له، وأرض عنوة من جملة الغنائم لا يرجع إلى أربابها بإسلامهم، وقد قدمنا الكلام على حكم الفيء والخمس وما في معناه.

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور قال القاضي -رحمه الله-: "الأيمان على ضربين: يمين جائزة، ويمين ممنوعة" إلى قوله: "ورفع اليمين". شرح: اليمين، والحلف، والقسم، والألية، بمعنى واحد، وحده بعض شيوخنا فقال: رفض العقد بمسمى معظم حقيقة واعتقادًا. واتفق العلماء على إباحة الأيمان بأسماء الله تعالى، والدليل على أن أصل اليمين جائز، الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} الآية [المائدة: 89] وقال تعالى: {وأقسموا بالله} [الأنعام: 109] وقال تعالى: {فلا وربك} الآية [النساء: 65]. وهذه كلها أقسام صحيحة. وقال -عليه السلام-: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت). وقد أجمع العلماء على جواز اليمين بأسماء الله سبحانه ما لم يمنع من ذلك مانع. واختلف أهل العلم في تأويل قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم} الآية [البقرة: 224]، فقال بعضهم المعنى: لا تكثروا الأيمان بالله، وقال

بعضهم: لا تمنعوا أفعال الخير بأيمان تعدونها على أنفسكم. وأدخل القاضي: عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته في صفة الذات، وفي ذلك بحث، لأن العهد المشار إليه إن كان المراد منه عهده الذي أخذه على نفسه لخلقه، أو على خلقه له، فالأول راجع إلى صفة الذات يدل عليه قوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام: 54] فهذا عهد الله على نفسه لخلقه وهذا من صفات الذات الراجعة إلى العلم القديم الكاشف لأنواع الرحمات التي خص بها خلقه، ويجوز أن يرجع إلى صفة الأفعال فيكون عبارة عن تفسير الرحمة وهي من صفات الأفعال يدل عليه قوله -عليه السلام-: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة). والأظهر في الميثاق، والكفالة، أنهما من صفات الأفعال، لأن معنى الميثاق والتوثيق المأخوذ على اليقين، فيعطى زيادة تحقيق من العهد تمكينًا لأمره، وكذلك الكفالة، والأمانة فهي فعل من أفعال خلقه خلقها سبحانه فيها، أو خلقها فعرضها عليهم، فأدخل ذلك في صفة الذات، بحث تأمله. وقد روى عن أشهب أنه كره اليمين بأمانة الله، قال: لأن لها مصرفين فقد يراد بها الأمانة التي هي صفات الله، وقد يراد الصفة الجارية في خلقه، وكذلك أدخل القاضي أيضًا عزة الله في صفات ذاته، وجعلها كالعلم والقدرة والكلام وذلك فيه نظر، لأن لفظ العزة قد يراد بها العزة المضافة إلى الخلق التي جعلها سبحانه فيهم عمومًا، وفي المؤمنين خصوصًا قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [التغابن: 8] وإذا أراد به العزة المضافة إلى الله تعالى فهي راجعة إلى نفسه، لأن معنى اسمه "العزيز" أنه الذي لا يغلب في أحكامه، ولا مانع في سابق قضائه.

قوله: "والممنوعة الحلف بما (سوى) ذلك": وهذا اللفظ فيه تجوز لأن ظاهره العموم ومن المعلوم أن الوحدانية والقدم (والقدوسية) وغير ذلك من الصفات المعنوية (كالعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات المعنوية) في لزوم اليمين بها على مذهب مالك سواء، وكذلك لا يحلف بوجود الله سبحانه على ما في الوجود من الاختلاف، هل هو نفس الموجود، أو صفة زائدة، والحالف بكل هذا غير ممنوع، فإطلاق القاضي القول في المنع فيه تجوز. ثم الممنوع على قسمين: محرم، ومكروه، فالمحرم ما قصد به المضاهاة كالحالف باللات والعزى، وغير ذلك من الأصنام. وقد أجمع العلماء على أن ذلك محرم، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (لأن أحلف بالله فآثم أحب إلي من أن أضاهي). وفي لفظ آخر: "أحب إلي من أن أحل بغيره فأبر) والمكروه: الحلف بالآباء وغير ذلك من المعظمات، وقد قال -عليه السلام- منبهًا على الحض في القسم الأول: (ومن حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعالى: أن أقامرك فليتصدق) الحديث. وحكى الشيخ أبو الطاهر، وغيره أن اليمين بصفات الفعل لا تجوز بلا خلاف في المذهب، قال: لأنه يرجع إلى غير الله تعالى ولا يجوز اليمين بغيره. قال: فإن حلف بها لم تجب عليه كفارة. وهذا فيه نظر لأن قوله إنما ترجع إلى

غير الله لا معنى .... العالم قد حصل في عقائدهم أن القاتل إذا قال: الخالق أو الرازق، فإن السابق إلى الفهم منه أنه الله سبحانه لا غيره، فهو كالحالف بلفظ الله، فالصحيح أن صفات الأفعال راجعة إلى الحق سبحانه، واليمين منعقد، والتنبيه بقوله: فليحلف بالله على سائر صفات الحق سبحانه، وأما قصر ذلك على لفظ الله فجمود وتعميم. لا معنى له. وقد قال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] فالحكم مجمل على جميع الصفات والأفعال. وحكى الشيخ أبو الحسن عن محمد بن المواز أنه علق الحكم في الحديث بالاسم فقط، فالجمهور عوده إلى صفة النفسية، صفات احتمال وتجوز. وقد اختلفت الرواية فيمن حلف بالمصحف، أو بالقرآن، أو بما أنزل الله، والمشهور من المذهب أن الكفارة لازمة له، لأن ذلك راجع إلى كلام الله سبحانه. وقال ابن زياد: من حلف بالمصحف، أو بالقرآن فلا كفارة، وقد تأول بعض أهل العلم (عليه) الاعتزال من هذا القول، ورأى ذلك منه بناء على أن الكلام صفة من صفات الأفعال فمنعى قولنا: الباري سبحانه متكلم أنه خالق الحروف والأصوات في محل ما (فيسمى) متكملًأ بمعنى أنه خالق الكلام لا بمعنى قيام الصفة به، وهذا مذهب باطل في نفسه، وإلزام على نفسها، والقراءة هي أصوات القرآن ولغاتهم، ولا خلاف في حدوثها. وقد قال الشاعر: يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا

يريد قراءة القرآن، وقال تعالى: {وقرءان الفجر} [الإسراء: 78] يريد قراءته، وقد قال الأشياخ: إن هذه الرواية منكرة عن علي بن زياد. وقال الشيخ أبو عمران: إن صحت رواية علي بن زياد فهي محمولة على أنه أراد بذلك جسم المصحف لا المكتوب فيه. واختلف المذهب فيمن حلف: {والطور} [الطور: 1] {والزيتون} ونحوه من الأقسام المستعملة بالقرآن، وقيل: لا شيء عليه، وقيل: المراد بالطور ... فعليه كفارة اليمين بالله. وقد شذ قوم فجعلوا الحالف بغير لفظ الله عاصيًا، وعكسه قوم فقالوا: اليمين بكل معظم شرعًا جائز، والدليل عليه قوله تعالى: {والنجم إذا هوى} [النجم: 1] وقوله: {والسماء والطارق} [الطارق: 1] وتأوله الآخرون وقالوا: من باب حذف المضاف، والمعنى ورب كذا، والصحيح الذي يجب التعويل عليه عندنا جواز الأيمان بلفظ الله، وأسمائه، وصفاته، مطلقًا لأنها كلها راجعة إلى ذاته، وإن اختلف وجه النسبة فالأولى في التقسيم أن يقال: الأيمان على ثلاثة أقسام: محظورة، ومكروهة، ومباحة. فالمحظور اليمين باللات والعزى ونحوه من الطواغيت مما تقع به المضاهاة. والمكروه على قسمين: قسم لا كفارة فيه إلا الاستغفار كقوله: هو يهودي، أو نصراني. وهذا هو القسم الأول، والآخر: أن يحلف بالطلاق والمشي والصدقة فيلزمه ما حلف به إن حنث، ومن

المكروه الذي لا كفارة فيه أيضًا: اليمين بالآباء والأشراف. والمباح: اليمين بالله، وصفاته مطلقًا. قال في المدونة: إذا قال: علي عهد الله، وميثاقه، أو قال: علي عهد الله فهو يمين، ولو قال لك: علي عهد الله أو أعطيك عهد الله، فأوجب ابن حبيب فيه الكفارة، وقال ابن شعبان: لا كفارة فيه. قال القاضي -رحمه الله-: "ورفع اليمين بوجهين" إلى قوله: "فلا يرفع شيئًا من ذلك استثناء". شرح: وارتفاع اليمين بوجهين كما ذكره، وقد اختلف متأخرو المذهب في الاستثناء هل (هو) حل لليمين المنعقدة، أو مانع لها من الانعقاد، أو بدل عن الكفارة، وقد روى عن ابن القاسم: (أنه بدل من الكفارة). وروى ابن الماجشون: (أنه حل اليمين). قال القاضي أبو بكر: وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح. وثمرة ذلك الاختلاف: هل يشترط فيه الاتصال أم لا بناء على كل واحد من هذه الأقوال. والذي اختاره القاضي أبو محمد: أنه حل الكفارة. قوله: "فأما الاستثناء فهو كذا": يعني الاستثناء الشرعي، وفي لفظه مجاز، لأنه قيد في موضع الإطلاق فقال بقوله: إن شاء الله، وقد يكون

الاستثناء بحرف الاستثناء وبغير حرفه، والحرف على وجهين: (الأول: "إلا")، والثاني: الاستثناء بـ "أن"، و"إلا أن"، فقد يكون بغير حرفه. قال الشيخ أبو الوليد بن رشد كقوله: ما رأيت اليوم قرشيًا عاقلاً هو في قوة قوله: ما رأيت اليوم قرشيًا إلا أحمق، والصحيح أنه داخل في قسم التقييد، وهو أعم من أن تقيد الاستثناء إذ الاستثناء قد يكون بالصفة، وبالغاية، وبالشرط، وبالاستثناء بغير ذلك، وقد يكون الاسثتناء بمشيئة الله تعالى على وجه الإثبات، أو النفي، وقد يتعلق بمشيئة غيره من الآدميين (ما تعلم) مشيئته، وقد يتعلق بمن لا تعلم مشيئته، وبمن لا مشيئة له، ثم قد يكون بما ذكرنا من أنواع المشيئة، وقد تكون بإخراج بعض من كل، وقد رآها القاضي من هذه الأقسام كلها، وكل داخل في قسم الاسثتناء، وإن اختلف الحكم في هذه الأقسام. وقد أجمع العلماء على أن للاستثناء تأثيرًا في حل الأيمان. وقال ابن المنذر. ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث). واتفقوا على أنه مؤثر إذا كان نقطًا، متصلاً، منويًا من أول اليمين أو قبله. واختلف إذا اختل بعض هذه الشروط. وقولنا: "نطقًا" احترازًا من الاستثناء المنوي الملفوظ (به) (وقد اختلف العلماء في الاستثناء المنوي غير الملفوظ) فالجمهور أنه لا ينفع

وهو قول مالك، وقال أشهب، وابن حبيب: تجزئ فيه النية، وإن لم يحرك لسانه، وقد روى أن اليمين ينعقد بالنية: وأن الاستثناء يصح بالنية. قال الشيخ أبو الطاهر: هو اليمين بالقلب دون اللسان فيه قولان في المذهب اللزوم لقوله -عليه السلام-: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلم أو يعمل). وتحصيل المذهب في الاستثناء بالنية فقط من غير تحريك لسان: أن ذلك إما أن يكون في إخراج بعض ما تناوله اللفظ، الأول: أو في إخراج صفة من صفات الفعل، أو في التقييد بمشيئة الله سبحانه، أو من مشيئته. فإن كان في إخراج بعض ما تناوله اللفظ الأول مثل أن يقول: والله لأضربن بني تميم إلا العلماء منهم، فهذا ينظر فيه، فإن استوته النية اشترطنا بالاستثناء وإن لم يقيد النية فهل ينفعه فيه القصد وحده من غير لفظ أم لا؟ فيه خلاف في المذهب، فمن رآه من باب الاستثناء اشترط النطق، ورآى أن القصد غير نافع، ومن رآه تخصيص العموم أجازه قصدًا، وإن لم يكن نطقًا، ومن ذلك: أن يحلف ألا يفعل شيئًا، ويقصد بعضها، أو يحلف بالأيمان اللازمة أو بالتحريم، وينوي محاشاة الزوجة، فهل ينفعه ذلك بالقصد دون اللفظ أم لا؟ فيه قولان في المذهب. وأما إن خرج بالاستثناء المنوي صفة من صفات الفعل مثل أن يقول: والله لأفعلن، أو يريد إلا أن يبدو لي،

واللفظ فيه بالاستثناء مشترط، وأما التقييد بمشيئة من له مشيئة لابد فيه من اشتراط النطق بالاستثناء. قال الشيخ أبو القاسم بن محرز: أما ما كان بابه إيقاف حكم اليمين كلها، أو رفع حكمها فلا يصح فيه إلا الاستثناء المقصود إذ عزله في أصل عقد يمينه وهذا راجع إلى ما ذكرناه. وقولنا: «ناويًا به الاستثناء» احترازًا من أن يقول امتثالًا لقوله تعالى: {ولا تقولن لشايءٍ إني فاعل ذلك غدًا * إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 - 24] وكذلك لو قصد التعريض بقوله سبحانه فإن ذلك لا ينفعه. وإنما ينفعه من الاستثناء ما قصد به حل اليمين. وإذا قلنا: إن النطق شرط في صحة الاستثناء، فهل يشترط الجهر، أم يكفي تحريك الشفتين، فيه تفصيل، ضابطه: أن ما استحلفه عليه غيره في وثيقة حق، أو طلاق، أو نكاح، أو بيع، أو غير ذلك من حقوق المستحلف فلابد فيه من جهر. وأما ما حلف عليه بنفسه فيكفيه النطق مع تحريك الشفتين من غير جهر. وقولنا: «متصلًا» احترازًا من المنفصل، والجمهور على اشتراط الاتصال، وقال الشافعي: يفرق بينهما بالسكتة الخفيفة للتذكر، أو للتنفس، أو انقطاع الصوت. وقال بعض التابعين: له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه، وقال ابن عباس: له الاستثناء أبدًا. واحتج الشافعي على صحة

مذهبه بما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والله لأغزون قريشًا، قالها ثلاث مرات، ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله) وهذا يدل على أنه نافع بالقرب، والدليل على خلاف ما قاله ابن عباس، أن الاستثناء ولو كان حالًا بالعقد لأغنى عن الكفارة. واختلف المذهب إذا قلنا بقول الجمهور من شرط الاتصال في الاستثناء، هل يشترط أن يكون منويًا في أثناء اليمين أم لا؟ وفي المذهب فيه قولان: فاشترط ابن المواز، وغيره أن يكون قصد الاستثناء ولو بآخر حرف قال مثل أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، فإذا نواه قبل أن يلفظ بالهاء من الشهادة أجزأه، وهو قول القاضي إسماعيل ورآى إسحاق: فلو عزم عليه بعد فراغه ثم وصله من غير صمات لم ينفعه. والقول الثاني: أن ذلك غير مشترط بل إنما حدث بعد اليمين متصلًا باليمين فهو نافع، وقد قيل في المذهب، أنه لابد من اشتراط قصد الاستثناء في أول اليمين، وأنكره أبو محمد. ومبني هذا الخلاف على اختلافهم هل الاستثناء مانع من انعقاد اليمين، فيشترط اقترانه بأولها، أو بآخر حرف منها، أو حل اليمين المنعقدة، فلا يشترط ذلك فيه وهو الصحيح. واختلف المذهب إذا استثنى بمشيئة من لا يعلم كالملائكة والجن، أو من لا مشيئة له كالجامد على قولين: اللزوم، ونفيه.

قوله: «إلا أن يكون قطعها بغير اختيار من سعال، أو عطاس، أو ما أشبه»: وهذا كما ذكره لا خلاف فيه لأن القطع بدل. قوله: «وأما النوع الآخر، وهو لا يصح رفعه فضربان: أحدهما: لا يتعلق به حكم كقوله: والنبي، والكعبة، وكقوله: هو يهودي، أو نصراني»: وهذا كما ذكره، وقد ذكرنا أن الحالف بهذا من قسم المكروه، ولقوله -عليه السلام-: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت). وأما قوله: هو يهودي، أو نصراني، فالجمهور على أن هذه ليست بإيمان. قال مالك: من قال ذلك لا يكون كافرًا حتى يكون قلبه مصرًا على الكفر، وليس ما قال في المدونة: هو زان، أو سارق، أو يأكل لحم الخنزير، أو يترك الصلاة، أو عليه لعنة الله ونحوه لم يكن شيء من هذا حالفًا. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: إذا قال: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، ونحوه من الملل المختلفة فهو حالف، وعليه كفارة اليمين إن حنث اعتمادًا على حديث ضعيف ورد فيه، عوّل عليه أحمد، وأما أبو حنيفة فعول فيه على المعنى، وذلك أن الحالف بالتعظيم منعقد، فقال: ليس عليه ترك التعظيم، لأنه كما يجب التعظيم يجب ألا يترك التعظيم، فقال: الترك على الفعل، وفيه بعد. قوله: «والآخر أن يكون يمينًا بإيقاع شيء معين، أو بنذر معين، فيلزم فيه تنفيذ ما حلف به كالطلاق، والعتاق والمشي، وغيره من نذر الطاعات»: وهذا كما ذكره، وقد تقرر من المذهب أن الاستثناء إنما يؤثر في الأيمان التي تكفر، وهي اليمين بالله، والنذر المطلق، وأما الطلاق، والعتاق، والمشي، والنذر المعين، فالجمهور على أن الاستثناء فيه غير نافع، لأن اليمين بغير الله

غير مباح فلم يكن له حكم، فلم يكن له حله بخلاف اليمين بالله، لأنه مباح، فله حله بالاستثناء، وأجاز أبو حنيفة والشافعي الاستثناء فيه كاليمين بالله وهو قول ابن الماجشون وغيره من أصحابنا إذا رد الاستثناء إلى الفعل، لا إلى الطلاق نحو قوله: أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله، فإذا رد المشيئة إلى الدخول نفعه عنده، والمشهور من المذهب خلافه. قال القاضي أبو بكر بن الطيب الجاري على مذهب أهل السنة، وهو قول مالك أن الاستثناء لا ينفع في الطلاق. وقال الشيخ أبو الطاهر: لأنه إذا قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله، فإن رد المشيئة إلى صدور اللفظ فقد شاء الله صدوره، وإن ردها إلى وجود الطلاق فصدور اللفظ يقتضي وجود وقوعه، وإن ردها لمشيئته، فمشيئته إليه فرعية لا تتحدد، وكذلك لا تنفع الكفارة في هذه الأيمان، وقد روى عن ابن القاسم أن هذه الأيمان إذا خرجت على معنى اللجاج والغضب ففيها كفارة يمين، وكان بعض الشيوخ يختاره. قال القاضي -رحمه الله-: «والألفاظ التي يحلف بها في القسم الأول» إلى آخر الفصل. هذه الأقسام التي يقسم بها معلومة، إلا أن أفعاله مضمرة، واستغنى عن إظهار تلك الأفعال الدالة عليها، فإذا قال بالله، فالمعنى: أقسم بالله. ولا خلاف في أنه حالف إذا ذكر الفعل والمقسم به، أو ذكر المقسم به وحده، لأن الفعل منوي، ولو ذكر الفعل وحده دون المقسم به. قال الشافعي: إذا قال «أقسم» ولم يقل: بالله لا شيء عليه، وقيل: هو يمين، ولو قال:

أعزمت الله فهو يمين، وقيل: إن كان على فعل غيره، فليس بيمين، وإن كان على فعل نفسه فهو يمين، ولو قال لغيره: سألتك بالله، أو نحوه لكان يمينًا. قال ابن القاسم: وقد قيل: إنه ليس بيمين لأن المفهوم منه السؤال وقلت، وكذلك يقوم لاحتمال في قوله: بالله ألا فعلت، لأن الباء قد تستعمل في الاستعطاف منفردة بذلك عن سائر حروف القسم، والدليل على ذلك قول الشاعر: بالله ربك إن دخلت فقل له ... هذا ابن هرمة واقف بالباب قال سحنون في السليمانية: اختلف فيمن قال: أشهد بالله، أو أحلف بالله هل هي يمين أم لا؟ ولو قال: أشهد واعتقد به اليمين، كان يمين لغو اليمين، ولم يلفظ بلفظها، وقيل: هو كالملفظ، لأن هذا من ألفاظ القسم. لا يخلو الحالف إما أن يفرد فعل القسم به، أو يجمعهما، فإن أفرد فعل القسم فقال: أحلف أو أقسم فقولان المشهور أنه ليس بيمين إلا أن يريد المحلوف به، والشاذ أنه يمين تحكمًا للعادة، وهو أقوى من الأول. قوله: «وليس من الأيمان ولا من ألفاظها ولا من معانيها تحريم محلل»: وهذا كما ذكره إلا في الزوجة، والعبد على صفة ما قاله، وسيجيء الخلاف في تحريم الزوجة، وأما الأيمان الحادثة التي هي قوله: الأيمان تلزمني، أو كل الأيمان تلزمني، أو جميع الأيمان تلزمني. فقد اختلف المتأخرون من الفقهاء في حكمها، وليس لمالك ولا لأصحابه فيها قول،

ولعلها لم تكن يمينًا عندهم. قال أبو عبد الله الزموري من أصحاب ابن الخطيب: هي يمين لاغية لا يلزم فيها شيء البتة، وقاله أبو عمر بن عبد البر، وقيل: يلزم فيه كفارة اليمين بالله سبحانه، فعليه كفارة ثلاثة أيمان، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة، أو كفارة اليمين بناء على أن أقله اثنان، وهو قول الطرطوشي وغيره، وأفتى به أبو عمر بن عبد البر، وأبو عمران الفاسي أيضًا وغيره من شيوخنا الذين أخذنا عنهم حيث لا قصد للحالف، ولا عادة تضبط على أن هذا اللفظ لا يدخل تحته إلا اليمين بالله -عز وجل، وغيره لاسيما يمينًا حقيقة، وهو قول ابن حازم وغيره، وأجمع المتأخرون من أهل المذهب على أنه يجب فيها بالطلاق في جميع نسائه، والعتق في جميع عبيده، فإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة. والمشي إلى مكة، والصدقة بالله، وصيام شهرين متتابعين. واختلف القائلون بلزوم الطلاق في ذلك هل هو ثلاثة، وهو رأي الفقيه أبي

بكر بن عبد الرحمن وأكثر الأندلسيين بناء على أن أيمان التحريم هل هو ثلاثة، أو واحدة وهو رأي أبي عمران، وسائر القرويين، أو ثلاثة إن قصد التعميم، وواحد إن لم يقصده. حكاه الشيخ أبو الطاهر وقد روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه أفتى بنقض قضاء قاض قضى فيها بطلقة واحدة. والصحيح عندنا الحمل على القصد والعادة، فإذا ارتفعنا فالقول ما قاله الطرطوشي، وأبو عمران، وأبو عمر، وغيرهم ممن أدركناه من شيوخنا وبه كان يفتى. واختلفوا أيضًا فيمن حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد، ففي العتبية عن ابن وهب فيه كفارة اليمين بالله. قال ابن القاسم: إن لم تكن له نية لزمه جميع الأيمان من الطلاق والمشي والصدقة. قال القاضي -رحمه الله-: «والأيمان على ثلاثة» إلى قوله: «وتجب بالمخالفة سهوًا وعمدًا وخطأً». شرح: وهذا كما ذكره، وبدأ بحكم اللغوي، وقد قال تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة: 225] وقد اختلف العلماء في يمين اللغو ما هو؟ على خمسة أقوال: أحدها: ما ذكره القاضي أنها اليمين على الشيء يظنه كذلك، ثم تبين له خلافه. الثاني: أنها يمين الغضبان، وبه قال القاضي إسماعيل من أصحابنا. القول الثالث: أنها اليمين الجارية على اللسان لفظًا من غير قصد. قاله بعض أصحاب مالك وهو قول الشافعي واختاره أبو بكر الأبهري وهو آخر قول عائشة وهو المشهور وبه قال الحسن، وقتادة، ومجاهد،

والنخعي، وبه قال مالك في الموطأ عن عائشة وهذه الأقوال واقعة في المذهب. وقال ابن عباس: لغو اليمين الحالف على معصية، وقال بعض السلف: لغو اليمين أن يحلف الرجل على أن لا يأكل شيئًا مباحًا شرعًا، والذي يقتضيه ظاهر القرآن أنها يمين الجارية على اللسان من غير عقد، ولا عزم، وقال: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} فمن اقتضاه أن اللغو الذي لا يقطع الواحد به هو ما لم يكسبه القلب فإما أن تيقن على الأول الذي حكاه القاضي عن المذهب، لأنه غير مكتسب بالقلب، وإما على ما صح عن عائشة أنه يمين اللفظ دون العزم، والعقد وإذا تحصل ما ذكرناه، فاليمين إما أن يقع على ماض أو مستقبل، فاليمين على المستقبل منعقدة كانت على وجود الفعل أو نفيه. والماضي على ثلاثة أقسام: معلوم، ومظنون، ومشكوك فيه، فالمعلوم يجوز فيه اليمين على ما هو معلوم عليه، فإن حلف على خلاف ذلك فهو من باب الغموس، وكان كذبًا، وسيجيء الخلاف فيه هل يكفر أم لا؟ وإن كان مظنونًا كان لغوًا، لا كفارة فيه كالحالف على طير أنه غراب، فإذا هو حمام، وإن كان المشكوك فيه امتنع اليمين عليه، لأنه كالغموس. واختلف الشيوخ هل الإثم فيه مثبتًا، والإثم الحاصل عن اليمين الحادث قطعًا، أو خطأ درجة، اعتبارًا بالشك، وهو الصحيح. قوله: «والغموس هو الكذب»: وهذا كما ذكره، وهي مخصوصة بالماضي المقطوع، فإنه كذب، وسميت غموسًا لأنها تغمس صاحبها في الإثم. وقد اختلف الفقهاء هل فيها الكفارة أم لا؟ فقال مالك: لا كفارة

فيها، لأن ذنبها أشد من أن يكفر وهو قول أبي حنيفة وابن حنبل وقال الشافعي: الكفارة فيها، ورآى أنها مسقطة للإثم كغير الغموس. واحتج مالك على أن الغموس غير مكفرة لقوله -عليه السلام-: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» فهذا يدل على أن الغموس لا تكفر ولا دليل فيه، لأن للشافعي أن يقول هذا مخصوص بما اقتطع به حق الغير، فلا تحرم الكفارة فيه حكم الجنة، لأن فيها الظلم مع الحكم، فإذا أراد المظلمة، وكفر وتاب وسقط عنه جميع الإثم، وإن كفر ولم يرد المظلمة، وإن كفر ولم يرد المظلمة لم يسقط، إذ التوبة من الذنب الواحد لا تتبعض. واحتج أصحاب الشافعي بعموم قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} وهذا عام في الغموس وغيرها، وظاهر قوله تعالى: {بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89] أن ذلك مخصوص بالمستقبلة الذي يعقد به الحالف على نفسه عقدًا، والله أعلم. قوله: «والكفارة تجب بالحنث دون البر»: وهذا كما ذكره لا خلاف فيه إلا رواية شاذة منكرة رويت عن مالك أن الكفارة تجب بنفس الحلف لقوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة: 89] والمراد فحنثتم. وهو عندنا فحوى الخطاب، والدليل على صحة ذلك قوله -عليه السلام-: (إني والله لا أحلف على شيء فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت

عن يمين وأتيت الذي هو خير لي) الحديث. قال القاضي -رحمه الله-: «وتجب بالمخالفة سهوًا وعمدًا وخطأً» إلى آخر الفصل. شرح: الظاهر من لسان العرب أن العمد والخطأ سواء، كما أن السهو والخطأ كذلك، فكلام القاضي فيه نظر. وذكر التحنيث بالسهو والخطأ وهو أصل مذهبه -رحمه الله-. وقال الشافعي: ليس على الناسي والمكره شيء، وهو قول أهل الحديث، وأكثر أهل العلم، ومال إليه بعض المتأخرين من المالكية، واحتج مالك بعموم قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} ولم يفرق بين عامد أو ناسي. واحتج الشافعي بقوله -عليه السلام-: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وهو الصحيح في النظر، لأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز، هذا إن صح العموم في الآية، في ذلك احتمال. قوله: «كالحالف لا ألبس ثوبًا هو لابسه»: والأمر كما ذكره لا خلاف أنه حانث إن استدام اللبس إلا أن يقصد عند اليمين استئنافًا، فإن نزعه فقولان المشهور أنه غير حانث لأنه فعل جهد مقدوره. الثاني: أنه حانث، أخذًا بالاحتياط ومن هذه الأسئلة، قوله: إن وطئتك فأنت طالق. وسيجيء الخلاف هل يباح له الوطء أم لا؟ فيه قولان في المذهب.

قوله: «وأعداد الكفارة معتبرة بالأيمان دون متناولها»: إلى آخر قلت: وهذا كما ذكره. وتحصيل القول في هذه المسألة: أنه إما أن يتعدد المحلوف عليه، أو لا يتعدد المحلوف به دون المحلوف عليه أو بالعكس فإن تعدد لفظ المحلوف به، والمحلوف عليه، مثل: أن يقو: «والله لا دخلت الدار»، «والله لا كلمت زيدًا»، «والله لا شربت ماء»، فهذه أيمان مختلفة، والحنث يقع عليه بكل واحد من هذه الأفعال فيلزمه لكل واحد كفارة، إذ هي أيمان متعددة، فإن اتحد المحلوف به والمحلوف عليه، فهي يمين واحدة مثل أن يقول: والله لا أكلت رغيفًا، فإن أكل بعضه فهل يحنث بالبعض أم لا فيه قولان في المذهب فإن تعدد المحلوف به دون المحلوف عليه، فلا يخلو الأيمان أن تكون من جنس واحد، أو أنواع مختلفة، فإن كانت من جنس واحد مثل أن يقول: والله والله والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار والرحمن لا دخلت الدار، والرحيم لا دخلت الدار، فهل يتكرر عليه في هذه الصور، أو يكون يمينها واحدًا، فللمذهب فيه تفصيل. فإذا قصد التأكيد حمل عليه، فإن قصد التكرير في الأيمان لتكرير الكفارات، وإن عرى عن قصد أحد الأمرين فالأصل التكرير، وفيه خلاف خارج المذهب، فقيل: هو توكيل، وعليه كفارة واحدة، وقيل: تتعدد عليه الكفارات إذا أتى بلفظ العطف حكاه أبو الطاهر مثل أن يقول: والله والله لا دخلت الدار، ولو حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يؤمر بالخروج منها، وله الجلوس منها، إذ لا يسمى المقيم فيها داخلًا بخلاف المستديم للباس والركوب. قال الشيخ أبو محمد: ولو قال: عزة الله وقدرته وجلاله فمقتضى الروايات أن ذلك على قولين في تكرير الكفارة عليه. فاختار الشيخ أبو عمران: تعدد الكفارات عليه، قال الشيخ أبو عمران: ولو قال: السميع العليم اللطيف لكانت يمينًا واحدة.

واختلف المذهب إذا قال: وعهد الله وميثاقه وكفالته هل تكرر عليه الأيمان أم لا؟ حكى الشيخ أبو الطاهر فيه روايتين، وإن تعدد المحلوف عليه، واتحد المحلوف به مثل أن يقول: والله لا كلمت زيدًا، ولا دخلت الدار، ولا شربت عسلًا، فاليمين متعلقة بكل واحدة منها، فإن فعل جميعها حنث إجماعًا. فإن فعل بعضها هل يقع عليه الحنث أم لا؟ المشهور أنه يحنث بالمخالفة في واحد، وحكى ابن الجلاب وغيره أنه لا يحنث حتى يفعل الجميع وهذا شاذ في مذهب مالك محمول على ما إذا لم يقصد فيجري فيه الخلاف على الأصل المعلوم، هل يقع التحنيث بالأقل أو بالأكثر. فأما لو قصد أحد الوجهين بقصد رجع إليه، وبناء على الأصل الذي ذكرناه هل يقع الحنث بالأقل أو بالأكثر، أو يقول لأربع زوجات له: إن فعلتن كذا فأنتن طوالق، أو لإيماء إن فعلتن كذا فأنتن أحرار، فإن فعلن الجميع وقع الحنث بلا خلاف، وإن فعل ذلك بعضهن فيه ثلاثة أقوال في المذهب، فقيل: يقع الحنث عليه بالجميع بناء على أن الحنث بالأقل. الثاني: لا يقع عليه الحنث في واحدة منهن إلا بفعل الجميع بناء على أن الحنث لا يقع إلا بالأكثر. الثالث: أنه يقع الحنث عليه فيمن فعل دون من لم يفعل ملاحظة للمعنى، وهو أن كل شخص منه كالمحلوف عليه. ولو حلف لا يأكل خبزًا وزيتًا فأكلهما جميعًا فهو حانث، فإن أكل واحدًا منهما فهل يحنث أم لا؟ فيه قولان جاريان على ما قلناه من الحنث بالأقل، أو بالأكثر، والأصح أنه غير حانث، لأن ظاهر لفظه الجمع بينهما.

قال القاضي -رحمه الله-: «ويعتبر في اليمين ثلاثة أشياء» إلى آخر الفصل. شرح: وهذا كما ذكره، وإنما كانت النية أول ما يرجع إليه، ويعود اللفظ عليه لقوله -عليه السلام-: (الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). والبساط الذي هو السبب المثير لليمين دليل على النية ومعرف لها، فلذلك كان بعد النية، ولو فقدت النية والبساط، فهل يحمل اللفظ على مقتضاه لغة، لأنه الأصل، أو على مقتضاه عرفًا، لأنه الغالب، أو على مقتضاه شرعًا، لأنه الحاكم. حكى الشيخ أبو الطاهر وغيره هذه الأقوال الثلاثة عن المذهب وينبني على ذلك مسائل كثيرة مذكورة في المطولات. قوله: «كانت مطابقة له، أو زائدة فيه أو ناقصة عنه»: يعني أنها مرجوع إليها في الأحوال الثلاثة. أما المطابقة فأمرها ظاهر، وكذلك الزائدة عليه، وأما الناقصة، فقد مثل القاضي ذلك كله بقوله: «بتقييد مطلقه، أو تخصيص عامه» فالأول مثل أن يقول: «والله لأضربن رجلًا يريد كافرًا». والثاني أن يقول: «والله لأغزون المشركين يريد من لحق منهم».

قوله: «دون عادة الفعل»: يريد صورة وقوعه في الوجوه مثل: والله لآكلن اللحم فعادة الفعل أنه يقتضي الإبراء إلا بأكله مطبوخًا وهي عادة التخاطب، ومقتضى اللغة يبرأ بأكله نيًا ومطبوخًا. قال القاضي -رحمه الله-: «والكفارة أربعة أنواع» إلى قوله: «وأما الإعتاق». شرح: اتفق جمهور العلماء على أن هذه الكفارة على التخيير، لأنه المفهوم من نص القرآن. قال تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} [المائدة: 89] ومقتضاها التخيير. وأما الصيام فترتب بعد العجز عن جميعها إجماعًا، وقد روى عن ابن عمر وغيره أنه إن غلظ اليمين أعتق أو أكسى، وإذا لم يغلظها أطعم، واختلفوا في معنى التغليظ المشار إليه فقيل: أن يكررها باسم الله فيقول: والله، والله، والله، وقيل: إن ذلك أن يتبع الاسم لبعض صفات فيقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، ونحو ذلك. وقد شذ بعض أهل العلم فقال: إن قاعدة هذه الكفارة وغيرها من أنواع الكفارات تختلف بحسب اختلاف الأشخاص. وحكى الغزالي، وغيره في الصحيح: أن قواعد الشرعي لا تختلف بحسب الأشخاص. والنظر في الإطعام مسائل: المسألة الأولى: في مقداره، وقد اختلف الناس في ذلك فقال أبو حنيفة: يطعمهم نصف صاع من حنطة، أو صاعًا من تمر، أو شعير، قال: فإن غذاهم أو عشاهم أجزأه. قال الشافعي: الإطعام لكل مسكين مدًا

بمده -عليه السلام- في جل البلاد. واتفق مالك وأصحابه على أن المد الواحد من أمدائه -عليه السلام- يجزئ بالمدينة، لأن قوت أهلها لا يزيد عليه، وأما في غيرها من الأمصار والقرى فهل يجزئ المد فيها أم لا؟ قولان في المذهب: الإجزاء، ونفيه. قال ابن القاسم: يجزئه المد بكل مكان، وقال غيره: يجزئ الوسط من الشعير، وقال بعض المالكية: رطلان بالبغدادي من الخبز وشيء من الإدام. قال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمد ونصف، وأشهب مد وثلث، وذلك كله خلاف في حال، وبناء على عوائد غالبة. المسألة الثانية: هل يكتفي بالخبز، أم لابد من الإدام معه فيه قولان في المذهب. قال ابن حبيب: لا يجزئ الخبز وحده، ولابد معه من الإدام الوسط وهو الزيت، وقيل: اللبن والسمن والتمر. المسألة الثالثة: اتفق جمهور العلماء على أن اشتراط العدد في المساكين واجب، وقال أبو حنيفة: الإطعام مسكينًا واحدًا عشرة أيام أجزأه. ومبنى الخلاف على اختلافهم هل الكفارة حق للعدد المذكور، أو حق واجب على المكفر. والعدد يراد لتعديده لا لاستحقاقه، والأول أصح ابتاعًا لمقتضى الآية، وإذا قلنا باشتراط العدد فقد اختلف المذهب في الرضيع الذي يأكل الطعام هل يجزئه إن أعطى أم لا؟ وفيه قولان في المذهب. المسألة الرابعة: هل المعتبر قوت المكفر، أو قوت البلد الذي فيه قولان في المذهب.

قوله: «والكسوة أقل ما يجزئ فيه الصلاة»: تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن الشافعي وأبا حنيفة قالا: يجزئ من ذلك أقل ما ينطبق عليه اسم الكسوة: إزارًا، أو قميصًا أو عمامة. وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: لا تجزئ العمامة ولا السراويل. وسبب الخلاف: هل يطلق المطلق على المقيد أم لا؟ وذلك أن الله سبحانه لم يشترط الوسط في الكسوة. واشترطه في الإطعام، فهل يرد المسكوت عنه إلى المنطوق به أم لا؟ فيه نظر، ولا خلاف في مذهب مالك أنه لا يجزئ في حق المرأة أقل من الدرع، والخمار، والثوب الساتر كاف للرجال. واختلف المذهب إذا كسا الصغير على قولين، فقيل: يكسى الصغار ما يكسى الكبار قياسًا على الطعام، وقيل: يكسى الصغار ما يسترهم، وإن لم يبلغ كسوتهم إلى كسوة الكفارات. قوله: «ولا يجوز صرفها إلا في الأحرار المسلمين الفقراء»: وهذا تنبيه أيضًا على مذهب المخالف أما اشتراط الفقير فمتفق عليه، فإن دفعها لغني عالمًا بغناه لم تجزه، وإن ظنه فقيرًا فاجتهد وأعطاه، فهل يجزئه أم لا؟ فيه قولان مبنيان على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ ولا خلاف أنها ترد من يده إن كانت قائمة، فإن فاتت فهل يتبع بها أم لا فيه خلاف، والصحيح عندي أنه يتبع بها نظرًا إلى أنه في حال الأخذ غير مستحق لذلك. وأما الإسلام والحرية فاشترطه مالك والشافعي ولم يشترطه أبو

حنيفة بناء على أن استحقاق ذلك عنده بالفقر لا بالإسلام، فرآى الجمهور أنه يستحق بالفقر والإسلام. قال القاضي -رحمه الله-: «وأما الإعتاق فتحرير رقبة مؤمنة سليمة من العيوب». شرح: وهذه الشروط التي ذكرها في الرقبة تنبيهًا على مذهب المخالف، واشترط مالك والشافعي أن تكون مؤمنة من باب المطلق إلى المقيد ولم يشترطها أبو حنيفة. قوله: «سليمة»: احترازًا من المعيبة. وقال أهل الظاهر: يجزئ عتق المعيبة، لأنها رقبة. والجمهور على خلافه. قوله: «وأما الصوم فثلاثة أيام»: وهذا ما ذكره، ولا يجوز الانتقال إليه إلا مع العجز واختلفوا في اشتراط التتابع فيها على قولين: اللزوم، ونفيه، ومبناه على القراءة الشاذة هل توجب عملًا أم لا؟ واختلفوا إذا وجد من يسلفه هل يكلف السلف أم لا؟ وفيه قولان، واختلفوا هل يجزئ تلفيق الكفارة فيه قولان في المذهب. قوله: «وفي تقديم الكفارة على الحنث روايتان»: والخلاف فيه مبني على اختلاف الروايات في قوله -عليه السلام-: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه فليأت الذي هو خير منه). وفي لفظ آخر: (فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه).

وحكى الشيخ أبو الطاهر في الكفارة قبل الحنث روايتان: أحدهما: أن ذلك جائز، والثانية: أنه ممنوع، والثالثة: أنه إن كان على بر فليس له الكفارة قبل الحنث، ولو كان على حنث فله ذلك، والرابعة: أنه إن كان يمينه بالله فله ذلك، وإن كانت بغيره من الأيمان فليس له ذلك. قال القاضي -رحمه الله-: «النذر على وجهين: مطلق، ومقيد» إلى قوله: «ويلزم نذر المشي إلى بيت الله». شرح: الأصل في الوفاء بالنذر، الكتاب، والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} وقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج: 29]، وقال: {يوفون بالنذر ويخافون يومًا} الآية [الإنسان: 7}. وأما السنة فقوله -عليه السلام- لعمر بن الخطاب: (أوف بنذرك)، وقوله -عليه السلام-: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). وأجمع العلماء على وجوب الوفاء بنذر الطاعة. وقسمه القاضي على وجهين: مطلق، ومقيد وكلاهما لازم كما ذكره القاضي، وذكر أن في النذر المطلق كفارة يمين، وهذا كما ذكره مذهب مالك -رحمه الله-. وقال بعض أهل العلم: يلزمه أقل ما ينطلق عليه الاسم فيصوم يومًا، أو يصلي ركعتين بناء على تعمير الذمة بالأقل، لأنه مقطوع به. وقال بعض أصحاب الشافعي: النذر المطلق لا يجوز ولا يلزم. وقال قوم من أهل العلم: فيه كفارة الظهار. والصحيح أن فيه كفارة يمين وهو قول مالك، والدليل على صحته ما رواه عقبة بن عامر

قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كفارة النذر كفارة اليمين). خرجه مسلم. قوله: «ولا يلزم منها الطاعة»: تنبيهًا على مذهب المخالف كما ذكره قبل في النذر المطلق والجمهور على أن نذر المعصية غير لازم، قال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: إذا نذر معصية فعليه كفارة يمين اعتمادًا على ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا نذر في معصية) وكفارته كفارة اليمين. واعتمد الجمهور على قوله -عليه السلام-: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه) وظاهره أنه لا يلزم شيء البتة. قوله: «ولا اعتبار باختلاف الوجوه التي يقع النذر عليها من لجاج، أو تبرم، أو غضب أو غير ذلك»: وهو تنبيه على مذهب المخالف، لأن من أهل العلم من يقول: إن هذه الأيمان والنذور إذا خرجت على وجه الغضب، واللجاج لا تلزم، وهو قول إسماعيل القاضي، وغيره من المالكية. وقال به جمع من أهل العلم. وروى عن ابن القاسم إن كان من هذه الأيمان على وجه الغضب، فيه كفارة اليمين. قوله: «ومن حلف بصدقة ماله كله، أو نذره لزمه ثلثه يوم حلف، لا يوم حنث»: وهذه المسألة اختلف الفقهاء على خمسة أقوال: فقال النخعي: يلزمه إخراج جميع ماله، وقال أبو حنيفة: يخرج جميع الأموال

التي تجب فيها الزكاة، وقيل: يكفيه الثلث، وقيل: إن خرج مثل زكاة ماله أجزأه، وقال قتادة: إن كان ماله كثيرًا أخرج ثلثه، وإن كان وسطًا أخرج سبعه، وإن كان يسيرًا أخرج عشره، والقليل خمس مائة، والوسط ألف، والكثير ألفان. وأصل مذهب مالك أنه إذا نذر الصدقة بجميع ماله، والقول الثاني أنه يلزمه من ذلك ما لا يجحف به ولا يؤدي إلى ضرورة. قال ابن حبيب: إذا حلف بصدقة ماله كله، فإنما يلزمه إخراج ثلثه إذا كان مليًا. فأما القليل المال الذي يجحف به الثلث فيخرج قدر زكاة ماله وأما الفقير فعليه في ذلك كفارة يمين. وقال سحنون: يخرج ما لا يضر به عين أو لم يعين فإن أخرج جميعه فهل يمضي فعله أم يرد من ذلك ما زاد على الثلث فيه قولان في المذهب مبنيان على الخلاف في الصدقة بجميع المال ابتداء اعتمادًا على قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، أو يمنع اعتمادًا على قوله -عليه السلام-: (لسعد الثلث والثلث كثير) أو يكره حملًا على الولد على الكراهية لا على الحضر والتحريم، فإن عين النادر من ماله فكان الثلث فما دونه لزمه، فإن زاد على الثلث فيه قولان: اللزوم، وملاحظة رد الزائد بناء على أن الثلث حد لا يجوز تجاوزه.

وقد اختلف المذهب إذا احتاج إلى نقله والنفقة عليه هل يكون ذلك من الثلث أو من رأس المال إذا زاد المال فيما بين الحلف والحنث بتجارة، فإن زاد بولادة قال في الواضحة: أخذ ثلثها مع ثلث الأصل، فإن نقص المال يوم الحكم عن مقداره يوم الحلف، وكان على حنث نحو قوله: مالي صدقة لأفعلن كذا. وإن لم يفعل هل المراعى فيه يوم الحنث في هذه الصورة قولان مبناهما على الخلاف في الحنث هل هو سبب للوجوب، أو شرط. قاله الشيخ أبو الطاهر. وههنا مسائل اختلف المذهب فيها فيما ذكرناه. الأولى: إذا حلف بصدقة ماله فحنث فلم يخرج شيئًا حتى أنفقه. قال أشهب: لا شيء عليه ولا يتبع به دينًا. وقال ابن القاسم: إذا أنفقه أو ذهب منه ضمنه كزكاة فرط فيها حتى أذهب ماله. قال سحنون: إذا فرط في إخراج الثلث حتى هلك المال ضمن. قال في الواضحة: إن ذهب بغير سببه فلا يضمن، ولا يضره ذلك، وإن أذهبه بالاستنفاق فهو دين. الثانية: إذا تكررت اليمين بالصدقة بجميع المال فيه تفصيل، فإن أخرج الثلث عن اليمين الأول ثم حلف بعد الإخراج تكررت اليمين عليه، وأخرج كفارة اليمين الثانية بلا خلاف، وإن لم يخرج عن اليمين الأول حتى دخلت أيمان كثيرة فهل يجزئه إخراج ثلث واحد، أو يتكرر ذلك عليه على حسب تكرار الأيمان، فيه قولان في المذهب، ففي كتاب ابن حبيب، وكتاب ابن المواز ليس عليه إلا ثلث واحد، وفي كتاب ابن المواز أيضًا يتكرر عليه الإخراج وهو قول ابن كنانة. الثالثة: إذا حلفت ذات زوج بصدقة جميع مالها، قصدقت بجميعه فللزوج الزائد على الثلث بلا خلاف، وهل له أن يرد الثلث أم لا؟ فيه قولان:

أحدهما: أنه ماض، وليس للزوج رده لأنه مرتب على حسب موجب لم يقصد به الإضرار. الثاني: الرد كما له أن يرد لو لم يكن يمينًا. قال القاضي -رحمه الله-: «ويلزم نذر المشي إلى بيت الله في حج أو عمرة» إلى آخر الباب. شرح: أجمع العلماء على أن من نذر المشي إلى بيت الله فإنه يلزمه، لأنه من أجل الطاعات، وقد قال -عليه السلام-: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) الحديث. قوله: «في حج أو عمرة»: وعلى حسب ما التزمه فإن أطلق فهو بالخيار في الحج أو العمرة. واختلف الأشياخ لم ألزمناه الحج أو العمرة في حال الإطلاق، وقال بعضهم: إنما لزمه ذلك لأنه بالتزامه المشي إلى ذلك، قد التزم دخولها ولا يجوز دخولها، إلا الحج أو العمرة، وينبني على ذلك مسائل: المسألة الأولى: هل الأقطار البعيدة كأهل المغرب والأندلس وإفريقية إذا التزم أحدهم المشي إلى مكة في يمين حلف بها هل يخير بين أن يجعل ذلك في حج، أو عمرة كغيرهم من أهل مكة ونحوها أو يتعين عليهم المشي في حج، إذ هو غالب أيمانهم عادة فكأنهم لم يعينوا سوى الحج فيه خلاف بين المتأخرين مبني على ما ذكرناه من التعليل. المسألة الثانية: إذا التزم المشي إلى موضع خارج عن الحرم هل يلزم أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على ما ذكرناه، فقيل: لا يلزم إلا من

ذكر مكة، وقيل: يلزم من ذكر ما اشتمل عليه الحرم وفيه قول ثالث أنه إذا ذكر مشعرًا من شعار الحج كعرفة ونحوه يلزم. المسألة الثالثة: إذا قصد مشيًا مطلقًا لم يلزمه عند ابن القاسم، وكذلك إذا قصد مشيًا إلى غير مكة مما لا يؤمر بإتيانه لم يلزمه أيضًا، لأن المقصود إنما هو إتيان مكة. قوله: «ويلزم المشي في الحج إلى آخر طواف الإفاضة وفي العمرة إلى انقضاء السعي»: قلت: الكلام في منتهى المشي يستدعي الكلام في ابتدائه، وقد ذكرنا أنه يكون بالأمرين، إما النذر، وإما اليمين، ويلزمه في كلا الحالتين المشي من حيث نوى، فإن ذلك موكل إلى ديانة، ومرجوع فيه إلى النية، فإن لم تكن له نية نظر إلى العرف، فإن اختلف رجع إلى مقتضى اللفظ، ولاشك أنه إذا اتحد موضع يمينه، وحنث أنه يمشي منه. فإن كان موضع حلفه غير موضع حنثه، ولا نية له وهو على حنث مشى من موضع يمينه، وإن كان على بر فهل يمشي من موضع حلفه أو من موضع حنثه، فيه قولان بين المتأخرين. وأما منتهى المشي فالفراغ من أفعال ما مشى فيه من حج، أو عمرة، ويبتدئ أفعال العمرة بالفراغ من السعي. واختلفوا في الحج، فقيل: منتهاه طواف الإفاضة، وقيل: منتهاه رمي الجمار يمشي إلى أن يرمي الجمار، وهو قول عبد الملك. وسبب الخلاف في ذلك: هل الجمار ركن أم لا؟ قوله: «وإن ركب في بعضه لعذر عاد قابلًا فلفق المشي وأهدى»: هذا مذهب مالك كما ذكره فقال الجمهور: ليس عليه إلا الهدي فقط، ولا يلزمه

إعادة المشي، وتلفيقه. وقال المدنيون: عليه تلفيق المشي دون الهدي، وقالت طائفة من أهل العلم: عليه الأمران أن يلفق المشي والهدي. وتحصيل مذهب مالك في ذلك: أن مشيه إما أن يكون متواليًا أو غير متوالي. فهل يجزئه أم لا؟ فيه خلاف في المذهب، فقيل: لا يجزئه مطلقًا. قاله ابن حبيب: وقيل: إن كان مضطرًا إلى تفريقه أجزأه، وإن فرقه مختارًا لم يجزه، وقيل: إن فرقه حتى خرج ذلك العام الذي فيه الحج، أو العمرة لم يجزه مشيه، وإن فرقه لم يفته الحج في ذلك العام أجزأه، فإن عجز عن المشي وكان ركوبًا يسيرًا جدًا أجزأه، وإن كان ركوبه كثيرًا فلا يخلو أن يكون قادرًا على إعادة المشي، أو غير قادر، فإن كان غير قادر على إعادة المشي أجزأه الهدي كالمريض والشيخ الفاني، وإن كان قادرًا على إعادة المشي لفق المشي وأهدى. واختلف المذهب أيضًا إذا ركب في أفعال الحج، فقيل: عليه الدم كما لو ركب في الطريق، وقيل: لا دم عليه مراعاة للخلاف. فرع: واختلف المذهب إذا عين المشي في عمرة فأراد الانتقال فيه إلى الحج هل يجوز له الانتقال، لأنه يأتي بالأول وزيادة، ولا يجوز، وهو المشهور. قوله: «ومن نذر المشي إلى مسجد الرسول -عليه السلام- والمسجد الأقصى لصلاة فيهما لزمه»: وهذا مذهب مالك كما ذكره، وقد اختلف في ذلك فقال مالك والشافعي المساجد الثلاثة في لزوم الإتيان إليها سواء. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الإتيان غير المسجد الحرام لمكان الحج والعمرة، وقد قال

بعض أهل العلم: المساجد التي يرجى فيها فضل زائد في حكم كالمساجد الثلاثة يلزم إتيانها، والدليل قوله -عليه السلام-: (لا تشد المطايا إلا لثلاث مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس). قوله: «ومن نذر ذبح ابنه في يمينه، أو على وجه القرب فدى عنه هديًا، وإن نذره مجردًا لم يلزمه»: وهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها: فمنهم من قال: عليه أن ينحر جزرًا فدى عن ذلك. وقال أبو حنيفة: ينحر شاة، وهو قول ابن عباس، وقال بعض العلماء ينحر مائة من الإبل، وقال بعضهم: يهدي بدنة، وقال به علي بن أبي طالب، وقال بعضهم: بل يحج، وهو قول الليث، وقال أبو يوسف والشافعي: لا شيء عليه، لأنه نذر معصية. وتحصيل مذهب مالك فيمن نذر هديًا ينحر إلى مكة أنه لا يخلو أن يقصد النذر المطلق، وهذا عندنا من باب نذر المعصية ولا يلزم، أو يقصد القربة فيلزمه (التعويض) عنه بالهدي، فإن لم يكن له قصد فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه من باب نذر المعصية، وهذا إذا نذر هدي أجنبي فإن نذر هدى قريب كالولد وغيره فلا يخلو أن (يكون سمى) موضعًا من مواضع مكة ومنى، أو لم يذكر، فإن سمى لذلك لزمه الهدي، وإن لم يسم ذلك فقولان أحدهما: أن عليه كفارة يمين، وهو أصل المذهب.

والثاني: أنه لا شيء عليه، وحكى بعض متأخري المذهب عن المذهب قولين فيمن نذر نحر ولده فقيل: لا يلزمه شيء، وقيل: عليه هدي، وقيل: كفارة يمين، (وسواء) سمى موضعًا أو لم يسم، والأصل في هذه المسألة قصة إبراهيم -عليه السلام-، وذلك أنه قرب (إلى) الله تعالى بذبح ولده، ثم أمره سبحانه بالفدى، وفيه رد على من أنكر النسخ قبل الفعل، والاحتجاج بهذه القضية فيه نظر من وجهين: الأول: أنها شريعة من قبلنا. والثاني: إن فيها اختلافًا بين الناس مذكور في كتب الكلام، فمن أوجب الدية رأى أنها بدل عن النفس، ومن أوجب مائة من الإبل عول على قضية عبد المطلب وهي قضية جاهلية لا تقوم بها حجة، ومن رأى أنه من نذر المعصية أسقطه، كما لو تجرد القصد. واختلف المذهب إذا نوى أو حلف بنحر عدة من الأولاد هل يكتفي في ذلك بهدي واحد، أو لابد من الهدي لكل واحد، فيه قولان عندنا. قوله: «ومن نذر هديًا من مال غيره»: وهذا كما ذكره لقوله -عليه السلام-: (لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم) إلا أن يريد النادر التزام ذلك إذا ملكه فيكون من باب الطلاق والعتق قبل الملك، والخلاف فيها منصوص، والمشهور أنه مع المخصوص لازم. قوله: «(ويلزم) نذر ماله إن كان يهدي مثله»: وهذا كما ذكره، ويجب عليه إخراجه بعينه، وبعثه إلى مكة، فإن لم يكن (معه) بعينه باعه، واشترى ثمنه من جنسه، وهل له أن يخالف إلى ما هو أفضل منه أم لا؟ فيه قولان في المذهب، المشهور: الجواز، والشاذ: المنع، وهو خلاف في الحال، وكذلك اختلفوا أيضًا إذا كان مما لا يصل إلى بيع فباعه هل

له أن يشتري لنفسه بقيمته، أو يكره، لأنه يشبه شراء صدقته، فيه قولان عندنا. ووجه الجواز إنه إذا كان مما لا يهدى عنه فكأنه إنما يلزمه العوض. قوله: «ويبيعه إن كان مما لا يهدى مثله وينصرف ثمنه في هدي» وهذا كما ذكره. واختلف المذهب إن كان مما لا يهدى مثله فباعه، وقصر ثمنه عن الهدي، هل يتصدق به حيث كان لخروجه عن حكم الهدي، أو على مساكين الحرم، إجراء له في مجرى الهدي فيه قولان، واختار الشيخ أبو الحسن أن يشارك بثمنه في هدي، وفيه نظر للاختلاف في جواز الشريك في الهدي، وكذلك اختلف المذهب عندنا إذا كان معيبًا مما يصل إلى مكة، فهل يجوز له أن يعوض عنه سليمًا أم لا؟ فيه قولان، والأصح هو الهدي الذي عينه، والتعويض عنه لا يجوز إلا لضرورة مانعة لمن أهدى عينه. والله أعلم.

كتاب الضحايا والعقيقة

كتاب الضحايا والعقيقة قال القاضي -رحمه الله-: «والأضحية سنة مؤكدة يخاطب بها كل قادر عليها» إلى قوله: «المعلومات». شرح: وهذا كما ذكره أصل مذهب مالك، وقد اختلف في حكمها، هل (هي واجبة)، أو سنة، فقال الجمهور: أنها سنة (واجبة) وشذ بعضهم فقال: إنها واجبة، واستقرئ ذلك من مذهب مالك، (و) في كتاب ابن

المواز سنة واجبة، فقال ابن عبد الحكم: قلت: أرأيت الضحية أسنة هي؟ قال: نعم، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أمرت بالنحر وهو لكم سنة) والدليل للجمهور قوله -عليه السلام-: (إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره). وفي قوله: «فإن أراد أن يضحي» دليل على أن الأضحية غير واجبة، وقال -عليه السلام-: (أمرت بالنحر وهو لكم سنة) وهذا لا يقتضي الوجوب، وهو المعتمد عليه من مذهب مالك نصًأ واستقراءً، وقد أثم ابن القاسم وابن حبيب تاركها مع القدرة، واعتمد من قال بالوجب على قوله -عليه السلام- لأبي بردة: (ولن تجزي أحدًا بعدك) هذا ما استدل به

العراقيون، وفي كلا الدليلين ضعف. أما قوله: «وأراد أن يضحي» فلا ينفي الإيجاب، لأن القائل يقول: من أراد الصلاة فليتوضأ، ولا يدل ذلك على سقوط (فرضيته) وكذلك قوله: (وهو لكم سنة) يحتمل أن يكون المراد طريقة تقفونها وتتبعون أثرها، وإتباعه -عليه السلام- مأمور به في الفرائض والنوافل. وأما قوله -عليه السلام-: (اذبحها ولن تجزئ أحد بعدك) فالمراد إجزاء السنن فلا قطع فيه بالفريضة أيضًا، والصحيح أنها سنة فعلها خليل الرحمن ونبينا -صلى الله عليه وسلم-، وعليها عمل المسلمون، واستمر فعلها بينهم وذلك لا يحلقها بالفرائض المذكور [ة] والله أعلم. قوله: «يخاطب بها كل قادر عليها»: وهذا محمول على عمومه في المسافر والحاضر، وأوجبها أبو حنيفة في الحاضر دون المسافر. قال علماؤنا: يخاطب بها كل مستطيع حر مسلم، إذا لم يكن حاجًا حاضرًا كان عندنا، أو مسافرًا. قوله: «إلا الحاج بمنى»: وهذا ما ذكره هو مذهب مالك، لأن مذهبه أنه رخص للحاج بمنى في تركها اكتفاء بالهدي عنها، وسوى الشافعي بين الحاج وغيره، ولا شك أنه -عليه السلام- ضحى عن نسائه بالبقر وهو حاج وهو متعلق الشافعي، إلا أنه حمله أصحابنا على الأفضل. قوله: «وهي إراقة دم كامل»: تنبيهًا على مذهب المخالف، ثبت عن ابن عباس أنه بعث عكرمة وقال له: اشتر لنا لحمًا، وقل لمن لقيته: هذه أضحية

ابن عباس. قوله: «منفرد به غير مشارك في ثمنه»: تنبيهًا (أيضًا) على مذهب المخالف. وقد اختلف الفقهاء في جواز الشريك في الضحايا. ومذهب مالك أنه ممنوع، لأن التقرب هو الذبح، وإراقة الدم، وذلك لا يتبعض، ويجوز أن يذبح الرجل عن نفسهن وعن أهل بيته الكبش الواحد، والأفضل أن يضحي عن كل شخص بأضحيته. وأجاز جماعة من أهل العلم الشريك في الضحايا وفي الهدي، وبه قال الشافعي وأحد، وأبو حنيفة، وجماعة اعتمادًا على ما رواه جابر: (قال نحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة فقاس الشافعي الضحايا على الهدايا، واعتمد مالك على ما رواه ابن شهاب قال: (ما نحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أهل بيته إلا بدنة واحدة، أو بقرة واحدة). قوله: «ولا تكون إلا من بهيمة الأنعام»: وهذا مذهب الجمهور، وروي عن بلال أنه ضحى بديك. وأجاز الحسن بن صالح التضحية ببقر الوحش

والظباء، ولم ينقل عن أحد من الصدر الأول، والأصل فيما قاله الجمهور العمل المتصل. واختلف العلماء إذا طرق فحل من غير بهيمة الأنعام أنثى من بهيمة الأنعام هل يجزئ في الضحايا أم لا؟ حكى الشيخ أبو إسحاق وغيره في قولين، ولو كانت أنثى من غير بهيمة الأنعام والذكر من بهيمة الأنعام لامتنع الإجزاء بلا خلاف، لأن الولد تابع للأم. قوله: «وأفضل الأجناس (منها): الغنم»: وهذا هو المشهور من مذهب مالك -رحمه الله- في الضحايا وقد روى عنه أفضلها الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، وهو صريح مذهب الشافعي في الضحايا، وانفرد بهذه الرواية عن مالك، أشهب، وابن شعبان والدليل للمشهور عن مالك ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-: (أنه ضحى بكبش أقرن) وهو الذي افتدى (به) إبراهيم -عليه السلام- ولده. واعتمد الشافعي على قوله -عليه السلام-: (من راح في الساعة الأولى فكأنها قرب (بدنة) الحديث.

وإذا قلنا: إن الغنم أفضل من الإبل والبقر، فهل الإبل أفضل، أم البقر أفضل، أو بالعكس؟ فيه قولان في المذهب نظر إلى طيب اللحم أو كثرة الثمن، والمشهور أن (الإبل أفضل). وقال أشهب: البقر أفضل من جميع الأنعام لأهل منى أداء، وإن كانت (لأوجب) عليهم (الضحية). واتفقوا على أن الضأن أفضل من المعز، واختلفوا في ذكور كل صنف هل هو كأنثاه سواء في التفضيل، أو الذكور أفضل، وفيه قولان (في المذهب)، والمشهور أن الذكور أفضل، لأنه -عليه السلام- أنما ضحى بكبش، ولم يرو عنه أنه ضحى بنعجة، وكذلك اختلفوا هل الفحل أفضل من الخصي، وفيه قولان عندنا مبنيان على الخلاف هل المقصود طيب اللحم، أو كمال الخلقة. قوله: «وسنها من الضأن الجذع ومما سواه الثني»: وهذا كما ذكره، وقد روى هذا الحديث عنه، وشذ قوم من أهل العلم فقالوا: لا يجزئ من

الضأن إلا الثني. واختلف أهل اللغة في سن الجذع من الضأن على أربعة أقوال: قيل هو ابن ستة أشهر، وقيل: ابن ثمانية أشهر، وقيل: ابن عشرة أشهر، وقيل: ابن ستة، وكل ذلك مشهور في المذهب مبني عن أقوال أهل اللغة. قوله: «ويتقى فيها من كل عيب ينقص اللحم أو مرض الحيوان»: والأصل في ذلك ما رواه البراء بن عازب أنه -عليه السلام- سئل عن ما يتقى من الضحايا، فأشار بيده فقال: أربعة، وكان البراء يشير بيده، ويقول: يدي أقصر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (العرجاء البين عرجها والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجماء التي لا تنقي) معنى لا شحم فيها. وقد أجمع العلماء على أن هذه العيوب المذكورة في هذا الحديث ينبغي أن تجتنب. واختلفوا هل الحكم مقصور عليها لقوله لأبي بريدة:

ولا يجزئ جذع لأحد بعدك. وظاهره الإطلاق، وعول الجمهور على قوله -عليه السلام- في حديث جابر: (لا تذبحوا إلا سمينة إلا أن يعسر عليكم، وتذبحوا جذعة من الضأن) أخرجه مسلم، أو متعلق بمعانيها. وتحصيل المذهب في ذلك: أن صفة الأضحية على قسمين: صفة كمال وصفة إجزاء، فصفات وصف الكمال أن تكون من أعلى الجنس سالمة من جميع العيون كلها قليلها وكثيرها. قال أبو الطاهر: لأنه قربان إلى الله تعالى، وقد سميت هديًا، ولا ينبغي أن يهدى إلى ملك الملوك إلا أفضل الأشياء وأكملها، وقد قال سبحانه: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا} الآية [آل عمران: 92]. ولذلك قال الضحاك: إن أحب أموالي بيرحى الحديث. وكان ابن عمر يتصدق السكر لأنه كان يحبه، وأعتق جارية

كان أحب الناس فيها عملًا على هذه الآية، والآثار في هذا المعنى كثيرة وقد قال سبحانه تنبيهًا على هذا المعنى {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]. وفي الصحيح: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن أفضل الرقاب؟ فقال: أعلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها. وأما الصفات التي تتقى وتمتنع: وجود هذه الأربعة المذكورة في الحديث. وفي المذهب قولان: هل ذكرت تنبيهًا على غيرها أم الحكم مقصور عليها، والقصر جار على أصول أهل الظاهر. وقسم الإمام أبو عبد الله العيوب على ثلاثة أقسام، منها: ما ينقص الجسم دون المنفعة كقطع الأذن، والذنب، وهذا فيه قولان: المشهور أنه يمنع الإجزاء إن كان كثيرًا، وإن كان يسيرًا لم يمنع الإجزاء. وقسم ينقص الجسم والمنفعة، ولا يعود مصلحة كقطع اليد والرجل، هل يمنع الإجزاء وقسم ينقص الكمال دون اللحم والمنفعة كالمجنونة. قال الشيخ أبو الوليد الباجي: لم أر فيه نصًا في المذهب. واختلف المتأخرون هل يمنع الإجزاء أم لا؟ واختار الباجي عدم الإجزاء. قال القاضي -رحمه الله-: «ومحلها الأيام المعلومات وهي ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده».

وأجمع العلماء على أن مبدأها يوم النحر وآخرها اليوم الثالث عند الجمهور، وقال الشافعي والأوزاعي: آخر أيام الأضحى اليوم الرابع، وقيل: إلى آخر يوم من ذي الحجة. وقال: بعض السلف ليس للأضحية إلا يوم واحد وهو يوم النحر. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك: «نهيه -عليه السلام- عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث» فلو كان ما بعد ذلك محلًا للذبح لما منع الأكل. وقوله: «وتعجيلها يوم النحر أفضل» وهذا كما ذكره، ولا خلاف أن اليوم الأول أفضل من اليوم الثاني. واختلف المذهب على قولين: أيهما أفضل فيما بعد الزوال من اليوم الأول أو أول النهار من اليوم الثاني، ولاشك أنه -عليه السلام- ذبح في اليوم الأول قبل الزوال، واختلفوا هل يجزئ الذبح ليلًا أم لا؟ فيه قولان في المذهب. ومبنى المسألة على الاختلاف في مفهوم

اللقب هل هو حجة أم لا؟ وقال به مالك والدقاق والجمهور على خلافه، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن ذبح الليل فقال: (لا يجزئ) وهل يراعى في اليوم الأول الصلاة، وذبح الإمام، أو الصلاة دون ذبح الإمام، أو لا يراعى واحد منها. واختلف العلماء في ذلك، مالك اشترط ذبح الإمام والصلاة، وهل يشترط ذلك في اليومين اللذين بعد يوم النحر أم لا؟ فيه قولان في المذهب: الأول: أن ذلك مشروط قياسًا على اليوم الأول. الثاني: أنه لا يشترط. قوله: «ويستحب أن يلي المضحي ذبحها إن كان ممن يحسن الذبح»: وهذا كما ذكره وكان -عليه السلام- يتولى ذبح أضحيته بنفسه ذكر ذلك أهل الآثار. والاستنابة جائزة إذا كان من أهل القربة، وذبح المستناب عن المستنيب. وقولنا: «إذا كان من أهل القرية» احترازًا من الكافر، وقد تقرر أن

الكافر على قسمين: كتابي، وغير كتابي، فإن استناب كافرًا غير كتابي لم تجزه الأضحية بلا خلاف، فإن كان المستناب كتابيًا، فهل تجزئ الضحية وتجوز استنابته أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على تغليب القصد، أو تغليب الملك. وقولنا: «وذبح المستناب على المستنيب» احترازًا من أن يقصد الذبح عن نفسه، وقد اختلف في هذه الصورة على قولين: أحدهما: أنه لا يلتفت إلا إلى قصد الملك، فلو قصد الذبح عن نفسه، لا عن مستنيبه فقصده كلا قصد، وهي مجزئة عن المالك. والقول الثاني: أنه غير مجزئة تغليبًا لقصده على قصد المالك، وكذلك اختلفوا إذا ذبحها غيره بغير إذنه هل يجزئه أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: الإجزاء ونفيه، والتفرقة بين القريب، أو الصديق الذي تقتضي العادة جواز تصرفه، فيجزئ ذبحه بغير إذن ربها، ولا يجزئ ذلك في الأجنبي، وكذلك اختلفوا إذا استناب تارك الصلاة فقيل في المذهب: أن ذلك باطلة، وهي ميتة يلزم ذبحها، وقيل: يجزئه ذلك، والقولان في المذهب. ولو غلط غالط فذبح أضحية غيره عن نفسه لم تجزئ عن واحد منهما على المشهور في المذهب. قوله: «ووقتها بعد الصلاة والخطبة، وبعد ذبح الإمام»: وهذا كما ذكره، ومذهب مالك -رحمه الله-، والدليل على صحة حديث أبي بردة. وقد اختلف

المذهب في طرقه، ففي بعضها أنه ذبح قبل ذبح النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمره -عليه السلام- بالإعادة، وهذا إذا أبرز الإمام ذبيحته إلى المصلى، فإن لم يبرزها وتأنى بعد رجوعه، فهل يجزئ الذبح قبله أم لا؟ فيه قولان في المذهب. وحكم من لا إمام لهم أن يتحروا ذبح أقرب الأئمة إليهم عند مالك. وقال الشافعي: يجرون قدر صلاة الخطبة دون الذبح جريًا على أصله. قوله: «ثم إن تبين لهم الغلط في تحريمهم فلا شيء عليه»: وهذا فيه قولان المشهور الإجزاء كما ذكره، والشاذ أنهم إذا أخطأوا في الاجتهاد فهي غير مجزئة، ومبنى المسألة على الاجتهاد: هل يرفع الخطأ أم لا؟ وفيه قولان. قوله: «ويسمي عند ذبحها»: وفي ترك التسمية سهوًا روايتان، المشهور أنه مباح ولفظه: أن يقول: «بسم الله والله أكبر» واستحب بعضهم أن لا يقول في هذا الموطن: «بسم الله الرحمن الرحيم» لأن هذا ليس من موضع الرحمة في حق البهيمة. قوله: «ولا يباح شيء منها ولا يعارض لجازر ولا يصرف في ماعون ولا غيره»: وهذا كما ذكره لأنها قربة إلى الله سبحانه، وبه قال

الجمهور من أهل العلم، فإن وقع التصرف في ذلك بمعاوضة، أو نحوها رد ما كان قائمًا، فإن فات ذلك ففي ثمنه ثلاثة أقوال، فقيل: يتصدق به، وقيل: ينتفع به مطلقًا في ماعون، وقيل: يتصرف في ماعون وغيره، ولو غصب فله أخذ قيمتها، وليس ببيع، ورآه ابن القاسم بيعًا، واستحب ألا يغرم أحد قيمتها، وإذا قلنا بجواز أخذ القيمة صنع بها ما شاء، وقيل: يتصدق بها، وحكم ولدها ولبنها وصوفها وسائر أبعاضها حكمها، وتباع عليه في الدين كالهدي، ولو قلده وأشعره، وقيل: لا تباع، واختلف هل لورثته قسمة لحمها، ففي كتاب محمد المنع منه، وأجاز مالك وابن القاسم، وهل يجوز للمتصدق عليه بشيء منها بيعها أم لا؟ فيه قولان في المذهب وأجاز سحنون أن يؤاجر ربها جلدها. قوله: «ويجوز أن يطعم منها الغني والفقير»: أما الفقير فلا خلاف في جواز إطعامه منها، وفي جواز إطعام الغني منها قولان في المذهب ولا حد لما يطمع منه، وقيل: يستحب منه الثلث، وقد قال -عليه السلام-: (كلوا وادخروا وتصدقوا) وكل ذلك محمول عندنا على الندب، والاستحباب على الخلاف بما يتعلق. قال القاضي -رحمه الله-: «والعقيقة مستحبة» إلى آخر الفصل. شرح: العقيقة اسم لشعر المولود. وقال أحمد بن حنبل: العقيقة

الذبح نفسه وهو قطع الودجين والحلقوم، وقيل: العقيقة: الذبيحة نفسها، وقيل: إنها مشتقة من العق وهو القطع، وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لا أحب العقوق). وقد اختلف العلماء في تأويله، فقال بعضهم: هذا إشارة إلى كراهية الاسم فقط، فكأنه كره تسميتها عقيقة وأحسن منه أن تسمى نسيكة وهي عند أهل الظاهر واجبة، وجمهور العلماء على أن العقيقة غير واجبة، بل سنة، وقد حكى عن أبي حنيفة أنها بدعة، وقيل: تطوع. والدليل على أنها ليست بواجبة قوله -عليه السلام-: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل) وظاهره يعطي الندب، أو الإباحة. واحتج من رأى أنها واجبة بقوله -عليه السلام-: (كل غلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم سابعه). وقد أثبت أنه -عليه السلام- ذبحها عن ولديه الحسن

والحسين وأفعاله تدل على الندب والإباحة. وأحكامها وأسنانها وصفاتها كالضحايا سواء. قوله: «وهي شاة كاملة عن كل مولود ذكرًا كان أو أنثى»: وهذا تنبيه على مذهب المخالف. ومذهب الجمهور أن الذكر والأنثى سواء، ويعق بشاة عن الذكر والأنثى. قال الشافعي، وأبو ثور، وداود، وأحمد: يعق عن الجارية بشاة وعن الغلام بشاتين اعتمادًا على ما رواه أبو داود عنه -صلى الله عليه وسلم- قال في العقيقة: (شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة). قوله: «ووقتها سابع يوم الولادة»: وهذا هو المشهور إذا ولد قبل الفجر، فإن ولد بعد الفجر فهل يحسب ذلك اليوم أم لا. فيه قولان في المذهب، وقد قيل: إذا مضى أكثر النهار لم يحسب، وكذلك اختلفوا إذا ماتت في السابع الأول هل يعق في السابع الثاني والثالث أم لا؟ وفيه قولان. قوله: «وسنتها في الجنس والسن واتقاء العيب ووقت الذبح من اليوم وجواز الأكل سنة الأضحية»: وهذا كما ذكره، والجمهور على أن العقيقة تكون بالإبل والبقر. قال الشيخ أبو الحسن: لا يعق بشيء من الإبل

والبقر، إنما العقيقة بالضأن والمعز، ووقع مثله في العتبية. قوله: «ووقت الذبح»: يعني الأسبوع الأول وأول يوم منه قبل الزوال، وقد ذكرنا الخلاف هل يقع في الأسبوع الثاني، روى ابن وهب الأسابيع الثلاثة في العقيقة كالأيام الثلاثة في الأضاحي. وفي مختصر الوقار عن مالك: يعق في الأسبوع الأول، فإن فات ففي الثاني، فإن فات فلا عقيقة، وروى محمد: أن العقيقة تذبح ضحى كيوم الأضحية، ولا تذبح إلا من الضحى إلى الزوال. واختلف المذهب هل يعق ليلًا أم لا؟ كالخلاف في الأضحية، وكذلك اختلفوا هل يجوز ذبحها بعد الفجر أم لا؟ وفيه قولان في المذهب. واختلف المذهب هل يدعى لها كما يدعى للولائم أم لا؟ وفيه قولان في المذهب الجواز والكراهية، لأنه من باب المباهاة. واختلف المذهب هل يخص الفقراء، أو يعطى الأغنياء والفقراء، وفيه قولان كالضحايا. وهل يبعث لحمهما غير مطبوخ، أو مطبوخًا، وفي المذهب في ذلك قولان والأول هو المشهور، وإذا اجتمعت الأضحية، والعقيقة وليس له إلا شاة جعلها أضحية. قال ابن حبيب: لأن الأضحية أوجب. واختلف المذهب في حلاق شعر المولود، والتصدق بوزنه ذهبًا، فقيل: هو جائز، وقيل: هو مكروه والقولان عن مالك. وروي عن فاطمة -رضي الله عنها-

أنها حلقت رأس الحسن، والحسين، وزينب، وأم كلثوم، وتصدقت بوزنه فضة. وقال -عليه السلام-: (وأميطوا عنه الأذى) إشارة إلى حلق الشعر ومنع لطخه بالدم كما كانت عادة الجاهلية. وشذ الحسن، وقتادة فقالا: يمس رأس الصبي بقطنة غمست في دمها. وأباه الجمهور. قال ابن حبيب: ويستحسن أن يوسع بغير شاة العقيقة لإكثار الطعام ويدعو الناس إليه. وقال مالك في المبسوط: عققت عن ولدي فذبحت من الليل ما أريد أن أدعو إليه إخواني وغيرهم، وهيأت طعامهم، ثم ذبحت شاة للعقيقة، فأهديت منها للجيران، فأكلوا وأكلنا. قال مالك: فيمن وجد سعة فأوجب له هذا، ومن لم يجد سعة فليذبح عقيقته، ثم ليأكل منها، وليطعم منها. قوله: «والختان واجب» إلى آخره. أجمع العلماء على أنه مشروع، وأنه من الفطرة. وفي الصحيح: (كان إبراهيم -عليه السلام- أول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رآى الشيب قال: ما هذا يارب قال: وقار، قال: يارب زدني وقارًا). وفي حديث أبي هريرة: (أن إبراهيم -عليه السلام- اختتن بالقدوم، وهو ابن ثمانين سنة)، وأول من

خفض من النساء هاجر، خفضتها سارة حين غضبت عليها فحلفت بقطع ثلاثة أعضاء من أعضائها فأفتاها إبراهيم -عليه السلام- بالخفاض وثقب الأذنين). وقد اختلف العلماء في حكم الختان، فقال الجمهور: إنه سنة، وليس بواجب، وقال سحنون وغيره: واجب وجوب الفرائض، إذ لولا وجوبه لما أبيح الاطلاع على العورة الواجب سترها. وقال ابن حبيب عن مالك: من تركه مختارًا لم تجز شهادته، ولا إمامته، وقال -عليه السلام-: (لا يحج الأغلف البيت حتى يختتن) وذلك لتحقيق معنى الاقتداء بإبراهيم -عليه السلام-. واختلفوا هل للكبير رخصة في ترك الاختتان أم لا؟ فرخص الحسن، وغيره في ترك الاختتان، له وبه قال محمد بن عبد الحكم في الشيخ الكبير إذا خاف على نفسه، ولم يرخص له سحنون وإن خاف على نفسه. واختلفوا أيضًا فيمن ولد مختونًا فقيل: يكون عليه الختان إن أمكن، وقيل: قد كفاه الله مؤنته، وهل يجوز أن يختتن المولود في سابعه، أو يكره، لأنه تشبيه باليهود فيه قولان.

كتاب الذكاة

كتاب الذكاة قال القاضي -رحمه الله-: «يتعلق بالذكاة خمسة أشياء» إلى قوله: «وقيل: كراهية». شرح: الأصل في التذكية قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة: 3] وذلك في المقدور عليه، كما ذكره، ثم بين أن العقر في المتوحش طبعًا وسيجيء ذلك في كتاب الصيد. وأما المقدور عليه فتذكيته بالذبح أو النحر. واختلف المذهب فيما استوحش من بهية الأنعام وغيرها، أو المستأنس من الوحش هل يعتبر حكم أصله، أو حكم مآله، كما سنذكره في كتاب الصيد. قوله: «ولا تبيح الضرورة فيما ذكاته النحر والذبح أن يذكي بالعقر»: وهذا هو المشهور. وقال ابن حبيب: إذا تردت في هواة، ولم يمكن ذبحها ولا نحرها طعنت في جنبها، أو ما أمكن من جسدها، ورآه ضرورة فصار بمنزلة المقدور عليه.

قوله: «وأما شروط الذكاة فشرط الذبح هو استيفاء قطع الحلقوم والودجين في قطع واحد»: وهذا كما ذكره وهو المشهور من المذهب، ولم يذكر المرى، ولا خلاف في المذهب أن الذابح إذا قطع الودجين، والحلقوم والمريء فإنها تؤكل، فإن لم يقطع الودجين والحلقوم فقولان. المشهور أنها تؤكل وهو قول الجمهور من أهل العلم. وقد اختلف الناس في ذلك. أما مالك فالمشهور عنه ما ذكره، وقال أبو حنيفة: الواجب قطع ثلاثة غير معينة من الأربعة التي هي الودجين والحلقوم والمريء. وقال الشافعي: الواجب قطع الحلقوم والمريء فقط. وقال محمد بن الحسن: الواجب قطع أكثر واحد من الأربعة، وقال بعض أهل العلم: الواجب قطع ما وقع الإجماع على جواز الأكل بعد قطعه، وهي الأعضاء الأربع. وقال ابن أبي زمنين: المريء عرق أحمر تحت الحلقوم عليه مدخل الطعام والشراب، ومشهور قول مالك: أن قطع المريء ليس بشرط لما رواه أبو أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما أفرى الأوداج

فكلوا) الحديث، وإذا قلنا باشتراط الودجين والحلقوم فقط فلا يخلو من ثلاث صور إما أن يقطعها الذابح كلها، أو أكثرها، أو لا يقطع منها شيئًا، فإن قطع جميعها فلا خلاف في المذهب أنها تؤكل، فإن لم يقطع منها شيئًا، أو قطع أقلها فلا خلاف أنها لا تؤكل، فإن قطع أكثرها أو نصفها فهل يؤكل أم لا؟ فيه قولان في المذهب والمشهور أن قطع الكل غير مشترط، بل يكفي في ذلك قطع النصف فأكثر، وإذا قطع الحلقوم وحصلت الغلصمة إلى الرأس فهي تذكية صحيحة، وإن حصلت إلى البدن، فهل تؤكل أم لا؟ اختلفت الروايات فيه، والمشهور أنها لا تؤكل، وهو الذي رواه الجمهور من الرواة عن مالك. وقال أشهب في أحد قوليه، وابن عبد الحكم، وابن وهب وابن مصعب، وموسى بن معاوية وغيرهم تؤكل، وفي المذهب قول ثالث الكراهية. وسبب الخلاف في ذلك: هل قطع الحلقوم شرط في الذكاة أم لا؟ فمن قال: إنه شرط أوجب قطع الغلصمة، لأنه إذا كان القطع فوقها لم يقطع الحلقوم، ومن لم ير قطع الحلقوم شرطًا في التذكية أجاز القطع فوقها، وهو قول شاذ في المذهب. قوله: «في قطع واحد»: تحرزًا من أن يرفع يده، ثم يعيدها إلى الذبح،

وهكذا نص القاضي أبو الحسن بن القصار وغيره من أئمتنا أن من شرط الذكاة أن تكون في فور واحد، فإن رفع يده قبل الإجهاز، ثم أعادها فإن طال الأمر لم تؤكل بلا خلاف، وإن لم يطل ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال. أحدها: منع الأكل. قال سحنون وإن رجع مكانه. والثاني: جواز الأكل بناء على أن ما قرب الشيء هل له حكمه، وهو قول ابن حبيب قال: فإن رجع في فور الذبح قبل أن يذهب جاز. والثالث: أنه إن رفع مختبرًا أكلت، وإن رفعه ظنًا أنه قد أكمل الذكاة لم تؤكل، وتأوله بعض الشيوخ على سحنون، وفيه قول رابع اختاره الشيخ أبو بكر ابن الشيخ بن عبد الرحمن وهو أنه إن رفع يده مجتهدًا، ثم تبين له أنه أخطأ أكلت إذا عاد في الفور، وإن كان مختبرًا لم تؤكل، وهو عكس ما تأوله بعض الشيوخ على سحنون، وصوب الشيخ أبو الحسن القابسي قول أبي بكر بن عبد الرحمن لأن المختبر غير معذور، والمجتهد معذور بالاجتهاد، وحمل المختبر على المسلم على الشك فصلاته فاسدة، والمجتهد كالمسلم ظانًا أنه قد أكمل صلاته ويسجد. واختلف الفقهاء في مسألتين تتعلقان بما ذكرناه. المسألة الأولى: إذا تمادى بالذبح حتى انقطع النخاع. وتحصيل المذهب فيه أنه إن فعل ذلك ناسيًا، أو متأولًا، أو جاهلًا، فإنها تؤكل، فإن فعل ذلك عمدًا. فقال ابن الماجشون: لا تؤكل، والمشهور أنه أساء، والذبيحة جائزة، وروي عن مالك أنها تؤكل ما لم يتعمد ذلك، وهو قول

مطرف، وابن الماجشون. المسألة الثانية: إذا ذبح من القفا، ولا خلاف في المذهب أنها لا تؤكل لأنها لا تؤكل لأنها منفوذة المقاتل وهو قول ابن المسيب وابن شهاب وغيرهم. وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وبه قال ابن عمر وعلي بن أبي طالب وعمران بن الحصين وهو مستقرأ من المذهب. ومبنى المسألة على المنفوذ المقاتل: هل تعمل فيها الذكاة أم لا؟ قوله: «والنحر سنة ذكاة الإبل ويجوز ذبحها»: وهذا كما ذكره. والغنم مذبوحة، والبقر يجوز فيه الأمران، والذبح أفضل، وكذلك النعام عندنا، وقد قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67] ويجوز مع الضرورة نحر ما يذبح، وذبح ما ينحر. واختلف المذهب في ذلك مع عدم الضرورة على ثلاثة أقوال: منع الأكل وهو المشهور وجوازه وهو الشاذ. والثالث أنه يؤكل الإبل إذا ذبحت، ولا تؤكل الغنم ونحوها إذا نحرت وهو قول ابن بكير، لأن النحر في غير الإبل نفاذ المقاتل قبل خروج النفس، ومخالفة الشرع.

قال القاضي -رحمه الله-: «وأما سننه ومندوباته فأربعة إحداد الآلة» إلى قوله: «فإن تكن غير». شرح: أما إحداد الآلة فلما في ذلك من الإجهاد على الذبيحة وهو مأمور به، وقد قال -عليه السلام-: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) وهذا عموم. وقال -عليه السلام-: (اعف عن الناس قتلة أهل الأيمان) وظاهره العموم. وأما التسمية فمأمور بها، فإن تركها متهاونًا فقولان المشهور أنها لا تؤكل، وكذلك إن تركها عمدًا غير متهاون فيه قولان، وفي الناسي قولان المشهور جواز الأكل، والخلاف فيه بين السلف قائم. فقال ابن عمر، والشافعي، وابن سيرين: التسمية على الذبيحة فرض على الإطلاق لقوله تعالى: {ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121]. وقال أبو حنيفة، والثوري: هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان لقوله -عليه السلام-: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) وقيل: سنة، وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة، والشافعي، وأصحابه لما رواه هشام بن عروة عن أبيه قال: (سئل رسول الله فقيل له: يا رسول الله إن ناسًا من أهل البادية يأتوننا بلحم ولا ندري أسموا الله عليها أم لا؟ فقال -عليه السلام-: سموا الله ثم كلوا)

وتأول هؤلاء قوله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] على أن المقصود ما ذبح للأصنام، وقيل: إن حديث هشام بن عروة هذا كان في أول الإسلام، وقيل: إن الآية ناسخة له. وأما استقبال القبلة بالذبيحة، فقد اختلف الناس فيه، فمنهم من أوجبه، ومنهم من استحبه، ومنهم من أباحه. وتحصيل مذهب مالك فيه أنها مأمور بها، فإن ترك ذلك سهوًا، أو تعذرًا أكلت وإن ترك ذلك عمدًا فقولان المشهور جواز الأكل، والشاذ أنها لا تؤكل، لأن ذلك مخالف للسنة، ومندوب لها أن يضطجعها برفق على الجانب الأيسر، ويأخذ بصوفها، أو شعرها لينظر موضع الذبح. قوله: «فأما صفة الذابح فأن يكون مسلمًا أو كتابيًا عاقلًا عارفًا بالذبح قاصدًا به التذكية»: وهذا كما ذكره، أما الكافر غير الكتابي فلا تصح ذكاته. واختلف المذهب في تذكية تارك الصلاة، هل هي مجزئة، أو غير مجزئة. وبناه على الخلاف هل يكفر تارك الصلاة مطلقًا أم لا؟ وأما الكافر الكتابي فإن العلماء قد اختلفوا في جواز ذبيحته، والجمهور على جوازه. وتحصيل مذهب مالك في ذلك: أن الكتابي إما أن يذبح لنفسه، أو لمسلم على وجه الاستتابة، فإن ذبح لنفسه، فإما أن يكون مما يستحله، أو مما لا يستحله، فإن كان مما لا يستحله إما أن يكون محرمًا عليهم في شريعتنا أو مما أخروا عن تحريمه. فإن كان مما حرم عليهم في شريعتنا كذي

الظفر، ففي صحة ذكاتهم ثلاثة أقوال في المذهب التحريم، وهو المشهور، والكراهية، والإباحة. فالتحريم بناء على أنه إذا كان محرمًا عليهم فكأنهم لم يقصدوا ذكاته، والإباحة بناء على أن شريعتنا ناسخة. والكراهية مراعاة للخلاف وفيما اختاروا عن تحريمه وأحرموه على أنفسهم قولان: الإباحة، والمنع كراهية، أو حظرًا مبنيان على الذكاة هل تتبعض أم لا؟ وإذا ذبح لمسلم باستنابة فهل يستباح أم لا؟ فيه قولان في المذهب الإباحة و «المنع» لصحة ذكاتهم ومنع، لأن المستباح وطعامهم وهذا ليس منهم، واختلف في ذبائح نصارى العرب فقال ابن عباس: والجمهور هم أهل الكتاب في جواز أكل ذبائحهم، وقال علي بن أبي طالب، وغيره: ذبائحهم محرمة، وهو أحد قولي الشافعي. وسبب الخلاف: هل يتناولهم الاسم أم لا؟ وكذلك اختلفوا في جواز ذبيحة المرتد، والجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل، لأنه غير داخل تحت الإطلاق، وقال إسحاق: ذبيحته جائزة، وقال الثوري: مكروهة، وأجاز أهل المذهب ذبائح السامرية وهم صنف من اليهود ينكرون بعث الأجساد، ومنعوا ذبائح الصابئين، لأنهم بين النصرانية والمجوسية. وقد اختلف العلماء في ذبائحهم، وفي ذبائح المجوس، والصحيح أنها ممنوعة، وبه قال الجمهور. واختلف المذهب فيما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم ولعبادهم، وفي المذهب فيه عندنا قولان الكراهية، والمنع، وعن ابن حبيب ما يقتضي الجواز، وقال ابن القاسم: كان مالكًا يكرهه كراهية شديدة من غير أن يحرم. قوله: «عاقلًا»: احترازًا من المجنون، وقد اختلف العلماء في ذبيحة

المجنون والسكران يمنع من تذكيتهما، وأجاز ذلك الشافعي. ومبنى المسألة على اشتراط النية في الذكاة، وقول القاضي: «عارفًا بالذبح» احترازًا من غير العارف إذ لا يؤمن معه أن يذبح في غير موضع الذبح. قوله: «قاصدًا به التذكية»: نص على اشتراط النية في الذكاة إجراء لها على مجرى القربات، والعبادات، ولا خلاف في اشتراط ذلك عندنا. قوله: «وليس من شرطه الذكورية ولا البلوغ»: تنبيهًا على مذهب المخالف، وقد اختلف العلماء في جواز تذكية الصبي، والمرأة إذا أطاق الذبح، والجمهور على جوازها، ومنهم من أجازها في موضع الضرورة، ومنعها في غير الضرورة، وقال أبو مصعب عن مالك: لا أحب ذبحها لا في حال الضرورة، ولا في غيرها، ومذهب مالك أن يؤكل ما ذبحت المرأة من غير ضرورة، وهي أولى من النصراني في الذبح، وذكر ذلك محمد في حال السعة، فإن ذبحها أكلت الذبيحة. وفي الصحيح: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن ذبيحة المرأة فقال: لا بأس). وكذلك اختلف الناس في تذكية السارق والغاصب آلات المذبوح بها، أو الشيء المذبوح، والجمهور على الجواز، وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (عن شاة ذبحت بغير إذن ربها فقال: أطعموها للأسارى) الحديث.

قال القاضي -رحمه الله-: «فأما صفة المذكى فأن يكون حيًا غير مايوس» إلى آخره. شرح: وهذا هو مشهور المذهب كما ذكره أن منفوذ المقاتل والميؤوس منه لا تعمل فيه الذكاة، وقال قوم: إن الذكاة فيها عاملة، وهو قول ابن عباس والزهري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأحد قولي مالك. ومبنى الخلاف على الاستثناء المذكور في قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} هل هو متصل أو منقطع. قوله: «وأما الآلة المذكى بها فأن تكون ممن ينهر الدم» إلى آخره. وهذا كما ذكره أن المقصود في ذلك إمرار إزهاق النفس من غير تعذيب رفقًا بالبهيمة، فبأي شيء حصل ذلك أجزى، وفي السن والظفر أقوال في المذهب: أحدها: جواز أكل ما ذبح بهما، وعمدتهم قوله -عليه السلام-: (ما أنهر الدم فكل). الثاني: المنع لقوله -عليه السلام-: (ليس السن والظفر). والثالث: جواز ذلك في المنفصل دون المتصل، ولذلك نبه عليه القاضي. والقول الرابع: جواز أكل ما ذبح بالظفر، ولا يؤكل ما ذبح السن، وكره مالك غير الحديد -مع وجوده في المبسوط- كل شيء يصنع من فخار أو عظم أو قرن فهو جائز.

باب الصيد

باب الصيد قال القاضي -رحمه الله-: «كل حيوان مأكول اللحم طبعه التوحش» إلى قوله: «من كلب، أو باز». شرح: الصيد مشروع، والأصل في ذلك الكتاب، والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة: 4]. وقال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} الآية. وقال تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]. وأما السنة فما رواه علي بن حازم، وفيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله). وأجمع العلماء على أنه مشروع على تفصيل نذكره في ذلك. قال علماء المالكية: الصيد على قسمين: بري، وبحري، فالبحري يؤكل جملة من غير تفصيل صاده من صاده، وصيد البر على ثلاثة أقسام: صيد مسلم يؤكل بشروط، وصيد مجوسي لا يؤكل جملة من غير تفصيل، وفي صيد الكتابي ثلاثة أقوال: الجواز لعموم قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5].

والمنع لمفهوم قوله تعالى: {تناله أيديكم ورماحكم} [المائدة: 95] ودليل خطابه أنه مقصور على المؤمنين والكراهية توسطًا بين القولين. وقد قسم المتأخرون الصيد إلى أحكام الشريعة فقالوا: إنه على خمسة أقسام: محظور: وهو صيد المجوسي، وصيد ما لا يحل أكله من السباع، وصيد المحرم، ومكروه وهو صيد على وجه اللهو، وواجب ومندوب إذا كان سببًا للتعفيف عن المحظور والمأكل، والمكروه وهو في حق بعض الناس دون بعض، ومباح وهو: ما عرى عن هذه الوجوه، وكان المقصود منه التكسيب والتمول، وقيد القاضي بقوله: «كل حيوان مأكول اللحم» تحرزًا مما لا يجوز أكله، ولا يوقن فيه الاصطياد أباحه بالإجماع. قوله: «طبعه التوحش»: احترازًا من الإنسي المتوحش، لأن الاستحاش ليس بطبع له وإن صار غير مقدور عليه. قوله: «لا يقدر عليه»: تحرزًا من الوحش، لأن طبعه ههنا غير معتبر من حيث صار مقدورًا عليه، وقد اختلف العلماء في حكم الإنسي يستوحش. فقال أبو حنيفة والشافعي: هو كالمتوحش طبعًا، والمعول عليه من قول مالك: أن له أصله فلا يؤكل لا بذكاة المقدور عليه اعتبارًا بحكم الأصل، واعتبار المعنى يصح ما قاله الشافعي وأبو حنيفة والدليل لهما من جهة السمع ما رواه رافع بن خديج أن بعيرًا ند وكان في القوم خيل يسرة فطلبوه فأعياهم، فسبق إليه رجل منهم فقتله. فقال -عليه السلام-: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا) الحديث.

قوله: «من جارح أو محدد سلاح»: الجارح هو الكلب وغيره من الحيوانات التي يجوز الاصطياد به كقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارج مكلبين}. واختلف أهل العلم في المراد في الآية، فقال: إنه على ظاهره، والمراد خروجها للصيد وتشهى فيه، وقيل: الجوارح بمعنى الكواسب من قوله: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} [الأنعام: 60] روى: أي ما كسبتم، وهذا جار على من لم يشترط التسمية. قوله: «إذا تلف عنده»: تحرزًا من أن يكون تلفه بسبب آخر من الصيد من ماء أو فرو يقع فيها، أو أمر يحدث فلا يكون ذلك له. قوله: «إذا تلف في حال امتناعه وانتفاء القدرة عليه على تذكيته بالذبح من غير تفريط»: راجع إلى ما قدمته من اشتراط كونه غير مقدور عليه، وقد بين ذلك أولًا بقوله: «لا يقدر عليه إلا بالاصطياد» وحال امتناعه هو انتفاء القدرة عليه ولازم عمله. قوله: «والآلة المصيد بها نوعان: جوارح، وسلاح» وهذا كما ذكره، واشترط في الجارح شرطين: التعليم، والإرسال، وعم القول في نوع الجوارح، وبه قال الجمهور، والتفصيل في ذلك، أن أنواع الجوارح قسمان: كلاب وغير كلاب، أما الكلاب فهي داخلة تحت الآية عمومًا على رأي الجمهور سودًا كان أو غير سود من غير كراهية في شيء، وكره قتل الكلب الأسود وبه قال الحسن البصري والنخعي وقتادة. وقال أحمد بن

حنبل وإسحاق: ما أعرف أحدًا مرخصًا فيه إذا كان بها، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتله، وهذا يدل عندهم على معنى الاصطياد به. وأما غير الكلاب فهو كالكلاب عندنا من سباع الوحش، والطير إذا قبلت التعليم حتى ابن شعبان أجاز صيد النسور إذا قبل التعليم، وبه قال ابن عباس في جميع الجوارح القابلة للتعليم، وشذ قوم منهم: مجاهد، فقصروا الأمر على الكلاب مطلقًا، وأخرج أحمد منها الأسود كما ذكرناه، وهؤلاء عولوا على أن لفظة: «مكلبين» مشتقة من اسم الكلب المخصوص، ولم يجعلوه عامًا في جميع الجوارح، وألحق قوم البزاة بالكلاب، والصحيح اعتبار المعنى، وأن كل ما وجد فيه معنى الكلب من قبول التعليم فهو كالكلب سيان لأن لفظة الكلب مقول بالاشتراك. قوله: «وتعليمه أن يفقه عن مرسله»: أجمع العلماء على أن التعليم في الجارح كلبًا كان أو غيره لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح} ولقوله -عليه السلام-: (إذا أرسلت كلبك المعلم). واختلف المذهب في التعليم المشترط على أربعة أقوال. فقيل: الانزجار والانشلاء والإجابة، وقيل: ترك الأكل، وقيل: إن ترك الأكل مشترط في الكلب دون غيره من الجوارح. وقال ابن حبيب: ليس الانزجار شرطًا في البزاة، والصقور وغير ذلك من سباع الطير، لأنها لا تقبله، وإنما هو مشروط في الكلاب فقط دون سائر الجوارح، وإلى هذا الخلاف أشار القاضي بقوله: «لا من كلب ولا من غيره». والصحيح أن التعليم مشترط، والمقصود منه أن يصرف عن طبعه الأصيلي بالتعليم المكتسب فيصير لمرسلها كالآلة فيمسك له، لا لها.

وسبب الخلاف في اشتراط نفي الأكل في التعليم اختلاف الأحاديث. ففي حديث عدي بن حاتم: «فإن أكل فلا يأكل». وفي حديث أبي ثعلبة الخشني: قلت: وإن أكل منه يا رسول الله، قال: وإن أكل منه. وحديث عدي بن حاتم أصح من حديث أبي ثعلبة، ولذلك رجح مقتضاه الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق والثوري، وبه قال ابن عباس. قال القاضي -رحمه الله-: «وأما الإرسال فأن يبتدئ صاحبه بعثه» إلى قوله: «إرسال الجارح أو السهم». شرح: اشترط في الإرسال شروط وهي أن يكون فعلًا مبتدئًا من المرسل مقصودًا مقترنًا بالتسمية، فتحرز بقوله: «أن يبتدئ صاحبه بعثه من يده» من أن يخرج الجارح بنفسه من غير إرسال صاحبه، وقد اختلف الناس في هذه الصورة، وهي إذا أفلت الجارح، ثم أعاده صاحبه بعد إفلاته. وتحصيل مذهب مالك في ذلك: أنه إذا انفلت بنفسه فلا يخلو أن يزجره ويغريه بعد انفلاته أم لا؟ فإن كان أغراه، واستدعى إليه فرجع إليه، أو وقف ثم بعثه (فانبعث)، فالمشهور في هذه الصورة التعليم المشترط في الجوارح،

وإن انبعث الجارح بنفسه من غير إرساله من يده ولا أغرى به بعد انبعاثه لم يؤكل الصيد بلا خلاف، لأن صفة التعليم غير حاصلة فإن انبعث بإرسال الصيد، وليس في يده، ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يؤكل، لأن المقصود إرساله بنفسه لا كونه تحت يده. والثاني: أنه لا يؤكل لاحتمال أن يكون انبعاث الجارح بنفسه فلا يتحقق انتفاء ذلك إلا أن يخرجه من تحت يده. والقول الثالث: إن الجارح إن كان قريبًا أكل الصيد، لأنه إن كان قريبًا منه فكأنه تحت يده، بناء على أن ما قرب الشيء له حكمه، وإن كان الجارح بعيدًا لم يؤكل، ومبناه على أن قربه بعمل يده يغلب على الظن ائتماره له لا لنفسه فخالف البعيد. ومن هذه الأسولة أن يبعث الصائد الجارح فيمر في الطلب نحو الصيد ثم يرجع عنه أو يتحير في موضع الطلب، ثم استمر في الطلب أكل الصيد، ولو اشتغل بشيء فأكله في أثناء مروره اشتغالًا كثيرًا، ثم تمادى في طلب الصيد لم يؤكل، وإن كان تركًا للطلب، وإن كان اشتغاله يسيرًا ففيه قولان: جواز الأكل ومنعه. أخرجه أبو الحسن اللخمي. قوله: «ناويًا به إرساله للاصطياد والتذكية»: شيء متفق عليه، فلذلك قلنا: إن من لا تصح له النية كالمجنون والسكران لا يصح صيده، وقد تقدم الكلام في التسمية في كتاب الذبائح. قوله: «ثم قتله الصيد بنوعين بعقر وبغير عقر»: وهذا كما ذكره ولا خلاف أن الجارح إذا قتل الصيد فوجده الصائد ميتًا، أو منفوذ المقاتل فهي تذكية، وإن وجده غير منفوذ المقاتل افتقر إلى التذكية الجارية في المقدور عليه من الذبح أو النحر. وقال الشافعي، والحسن البصري: إذا وجدته حيًا غير

منفوذ المقاتل، ولم يجد حديدة، فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله تعويلًا على قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4] والجمهور على أنه إذا وصل إلى هذه الحال فهو في حكم المقدور عليه، فيفتقر إلى الذكاة المعتادة. ومن هذه الأسولة إذا أرسل الصائد على الصيد جارحًا ثم جارحًا، فإن قتله الأول فلا خلاف أنه يؤكل، وإن أمسكه الجارح الأول، ثم جاء الجارح الثاني فقتله لم يؤكل، لأنه مقدور عليه، فلا يجزئ فيه إلا ذكاة المقدور عليه ولو أرسل الصائد الجارح الثاني على الصيد قبل إمساك الجارح الأول فالمنصوص أنه يؤكل، وهو ظاهر النظر، إذ هو غير مقدور عليه. وخرج اللخمي أنه لا يؤكل، ولعله بناء على الغالب. ثم ذكر القاضي الخلاف في الصدم والنطح وغيره مما لا تنييب فيه ولا جرح، هل هي تذكية أم لا؟ وفيه قولان عندنا، فمن اشترط التنييب حمل لفظ الجارح على ظاهره من الجراح والتأثير، ومن حمله على المعنى اللغوي فإنه كقوله تعالى: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} لم يشترط تنييبها، والخلاف بين ابن القاسم وأشهب، فابن القاسم منع أكل المصدوم بموت من صدمة الجارح، وأشهب أجازه لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} وأما إذا مات الصيد فزعًا من الجارح أو تردى في هواة، أو مات في ماء، ونحو ذلك من مواضع الشك، فلا يؤكل الصيد في جميع هذه المواضع تمسكًا بحكم الأصل. قوله: «وأما السلام فكل ما جرح فالاصطياد به جائز» وهذا كما

ذكره، وقد تقدم فيما يقع التذكية به، وأنه كل محدود يحصل به الإجهاز. واختلف في هذا الباب فيما قتله المعراض أو الحجر، وفيه ثلاثة أقوال، فقيل: يؤكل مطلقًا، وقيل: لا يؤكل مطلقًا، وقيل: يؤكل إذا أصاب بحده دون عرضه وهو قول جمهور الفقهاء تعويلًا على قوله -عليه السلام- لما استفتى عما قتله المعراض، أما ما قتله عرضه فلا يؤكل، وأما ما قتله بحده فكل. وإنما منع الجمهور كل ما قتله بعرضه، لأنه داخل تحت قوله تعالى: {والموقوذة} بعصا وفي معنى العصا كل ما ليس بمحدود. وفي حديث عدي بن حاتم حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المعراض إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه قد أشار إلى التعليل الذي ذكرناه، والمعراض: سهم لا ريش له قاله الداودي. قال القاضي -رحمه الله-: «فإن بات الصيد عنه بعد إرسال الجارح» إلى آخر الباب. شرح: اختلف العلماء في الصيد إذا بات، أو غاب عن الصائد مصرعه هل يؤكل أم لا؟ فقالت طائفة من العلماء: يؤكل مطلقًا، وقالت طائفة: لا يؤكل مطلقًا، وبالكراهية قال الثوري، وفي مذهب مالك في ذلك خلاف، فقال مالك في المدونة: لا يؤكل وإن وجد منفوذ المقاتل سواء كان بجارح أو بسهم. وقال ابن الماجشون: يؤكل منهما جميعًا إذا وجد منفوذ المقاتل، وقال بعضهم: لا يؤكل من الجارح ويؤكل من السهم، وحكى الشيخ أبو الحسن قولًا بالكراهية، وجه المنع ما خرجه مسلم من حديث أبي ثعلبة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أرسلت سهمك فغاب عنك مصرعه

فكل ما لم يبت) ومن طريق المعنى محل الشك فوجب التمسك بحكم الأصل، لأنه أحوط، ووجه قول ابن الماجشون ما خرجه مسلم أيضًا من حديث أبي ثعلبة أيضًا في الذي يدرك صيدة بفلاة. فقال -عليه السلام-: (كل ما لم يبيت) لأنه وجده منفوذ المقاتل غلب على الظن أنه الذي قتله. وأما من أباح ذلك في السهم، فلأن السهم لا يخفى الأمر فيه، فغلبة الظن فيه أقوى، وفي حديث عدي بن حاتم عنه -صلى الله عليه وسلم-: (إذا وجدت سهمك فيه، ولم تجد فيه أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله فكل). قوله: «وشركة الجارح غير المعلم، أو مرسل المجوسي مانعة من أكل ما شركا فيه جارح المسلم أو سهمه»: وهذا كما ذكره لاحتمال الشك في هذا المحل أيضًا، ويتعلق بالشك مسائل منها: إن أبصر الجوارح فيقع في حفرة، والمشهور عندنا أنه لا يؤكل للشك، وقيل: يؤكل، ومنها: أن تجد جماعة صيدًا، ولا يدري عين الذي أرسل عليه (فيها، أو يجد صيدًا ولا يدري هل الذي أرسل عليه أم لا؟ والفرق بين هاتين الصورتين أنه في الأولى متيقن أن الذي أرسل عليه) في جملة الصيد إلا أنه شارك في العين لالتباس الأعيان، وتشابهها. وفي الصورة الثانية غير متيقن أن الذي أرسل عليه في الجملة، فهو سواء في الحكم بناء على وجوب التعيين عند الإرسال، وقد ذكر كثير من أصحاب مالك أنه إذا أرسل على ما في غيضة أو كهف، وقصد

أخذ ما أرسل عليه من غير أن يراه ويعينه فهو جائز، وأكله مباح بناء على عدم وجوب التعيين، وكذلك لو رأى الصائد الجارح يضطرب، ولم يبصر شيئًا بناء على الاضطراب هل يكتفي بذلك أم لا؟ فيه قولان كما ذكرناه. قوله: «وإذا بان من الصيد عضو أو بضعة يعيش مع مفارقتها، لم يؤكل وأكل سائره»: هذه المسألة قد اختلف الفقهاء فيها، فقالت طائفة من الفقهاء يؤكلان جميعًا، وقال قوم: يؤكل الصيد دون ما بان منه، وفرق قوم بين أن يكون ذلك العضو مقتلًا فيؤكلان جميعًا، أو غير مقتل فيؤكل الصيد دون العضو. وتحصيل مذهب مالك في ذلك: أن العضو إما أن يكون مقتلًا، أو غير مقتل، فإن كان غير مقتل فلا يخلو أن يكون موته بمعنى غير القطع كالصيد إذا قطع نصفه فلا يمكنه الأكل فيموت جوعًا، فإنه لا يؤكل واحد منهما (لا الصيد) ولا العضو البائن عنه، وإن كان غير مقتل، وكان موته بالقطع أكل الصيد دون العضو البائن، فإن كان العضو البائن مقتلًا فلا يخلو أن يكون الباقي كالبائن، أو أقل منه، أو أكثر، فإن كان الباقي أكثر من البائن أكل الباقي، وهل يؤكل البائن أم لا فيه قولان. أما من قال: يؤكل الجميع وهو الذي حكيناه أولًا عن طائفة من الفقهاء، فاحتج بظاهر قوله تعالى: {تناله أيديكم ورماحكم} وظاهر قوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم} ومقتضاهما التسوية بين البائن والباقي. وأما من قال: إن البائن لا يؤكل فاحتج بقوله -عليه السلام-: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة). وأما من فرق بين أن يكون العضو مقتلًا، أو غير مقتل، وهو أصل مذهب مالك، فاعتبر الحياة، لأنه إذا كان ذلك

العضو مقتلًا لم يدخل تحت عموم قوله -عليه السلام-: (ما قطع من البهيمة وهي حية) إذ الحياة غير مستقرة حال القطع، ثم ذكر القاضي أن ما قتله الحبالة والسهم المسموم لا يؤكل، وعلل كل واحد من الحكمين. أما الأول فلأنه مقدور عليه، وهي معنى ما أدركه، والجوارح تنهشه، وأما الثاني فلحصول الاشتراك في قتله. قوله: «ولا صيد المجوسي»: يريد صيده البري وقد تقدم أن صيد البحر حلال، وذكرنا الخلاف في صيد الكتابي وفيه كفاية.

باب الأطعمة والأشربة

باب الأطعمة والأشربة قال القاضي -رحمه الله-: «الأطعمة ضربان» إلى قوله: «وأما الأشربة». شرح: الأطعمة على ضربين محللة ومحرمة، والأصل في ذلك قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات} [البقرة: 172] والطيب عندنا الحلال اللذيذ، وقال تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي} الآية [الأنعام: 145]. وثبت من السنة تحريم السباع، وتحريم النجاسات. وقد بينه القاضي بيانًا شافيًا. قوله: «ما لم يكن نجسًا بنفسه أو بمخالطة نجس أن يقول أو مضرًا كالطيب، فقد كره ابن المواز أكل الطيب، وقال ابن الماجشون: أكله حرام. قوله: «وأما البحري فيؤكل جميعه كان مما له شبه في البر، أو مما لا شبه له»: تحرزًا من مذهب الليث بن سعد وغيره من المخالفين ممن رأى تحريم خنزير الماء وإنسانه، والجمهور على تحليل ذلك. ومبنى المسألة على أمرين: هل يتناولها الاسم فيكون لفظًا مشتركًا أم لا؟ الثاني: هل الاسم المشترك محمول على العموم أم لا؟ والصحيح أن اللفظ لا

يتناولهما لغة، وقد قال مالك: أنتم تسمونه خنزيرًا. وقد روي عن مالك كراهية خنزير الماء تحرزًا من الخلاف. قوله: «وما تلف بسببه»: تحرزًا أيضًا من مذهب المخالف، لأن من أهل العلم من ذهب إلى أن ميتة البحر حرام، وهي التي تتلف بنفسها. وللعلماء في ميتة البحر ثلاثة مذاهب. فقال الجمهور: هي حلال اعتمادًا على حديث العنبر، وعلى قوله -عليه السلام-: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). وقال قوم: هي محرمة بناء على تقديم العموم المتواتر على الواحد، ولتواصل الحقيقة، وفرق قوم بين أكل الطافي والدانف، فأباح أكل الدانف، ومنع أكل الطافئ اعتمادًا على ما رواه أبو الزبير عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوا وما طفا فلا تأكلوه) والحديث صحيح، وروي موقوفًا على جابر، فلذلك ضعف الاحتجاج به عند الجمهور. قوله: «ما عدا الخنزير»: وشحمه، وجلده، وجميع أجزائه في التحريم

سواء، على أن الأصح في شعره وجلده، وقد روي عن مالك جواز الانتفاع بشعره، وعن أبي يوسف وغيره طهارة جلده بالدباغ وشذ من خالف في شحمه فهو مسبوق في الإجماع. قوله: «والسباع فإنها مكروهة»: هذا هو المشهور من رواية عن المذهب، قال ابن حبيب: لم يختلف المدنيون في تحريم السباع العادية الأسد والنمر والذئب ونحوه، وأما غير العادية كالضب والثعلب والضبع والأرنب كره أكلها دون تحريم، وروى أشهب أيضًا عن مالك أنها محرمة وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وهو مستقرأ من نص مالك في الموطأ وهو الصحيح، واعتمادًا على قوله -عليه السلام-: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) وإنما قال بالكراهية تعويلًا على قوله تعالى: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) {قل لا أجد في ما أوحي إلي} الآية، واختلفوا في السباع المكروهة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضب واليربوع والنسر والقرد، وقال الشافعي: السباع المنهي عنها هي العادية على الناس كالأسد والنمر والذئب وألحق بها الكلب بنجاسة عينه، واختلفوا في الممسوخ كالفرس والقرد والقنفود على قولين: التحريم والكراهية. قال ابن المواز: لا يحل ثمن القرد ولا كلفه وهو نص

الواضحة، وأجاز بعض أصحابنا ثمنه وجلبه إلى المدينة، وأمر عمر بن الخطاب أن يرد إلى الشام من حيث جلب، وروي عن النبي -عليه السلام- النهي عن ثمنه، وكذلك اختلفوا في ذي ناب من الطير فقيل: مكروهة، وقيل: محرمة، والخيل والبغال والحمير فيها ثلاثة أقوال: التحريم والكراهية والإباحة في الحمير والبغال شاذة في المذهب أنكره الشيوخ، واحتج من قال بتحريم ذلك بظاهر من السنة. أما الخيل فاحتج أبو حنيفة على تحريمها بقوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] فدليل خطابه أنه لم يخلق للأكل لقوله تعالى في بهيمة الأنعام: {ومنها تأكلون} [النحل: 5] وأما الحمير فثبت من حديث جابر أنه -عليه السلام-: (نهى يوم خيبر عن لحوم الأهلية وأمر بإكفاء القدور بما فيها وأذن في لحوم الخيل). وأما البغال فالحكم ثابت عندهم على الحمير، وأما من أباح الجميع فعل على قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي} الآية، وأما الكراهية فتوسط بين القولين والله أعلم. قوله: «ولا يؤكل الجراد عند مالك إلا أن يتلف بسبب» هذا إشارة إلى الخلاف، فقيل: إنها تفتقر إلى الذكاة، وقيل: لا تفتقر، واختلف في صفة ذكاته إذا قلنا: بالافتقار إليها فقيل: صيده، وقيل: سلفه، وقيل: قطع جناحه،

وقيل: قطع عضو من أعضائه مطلقًا، وقد قيل: إنه طعام البحر. قوله: «والطير كله مباح ذو المخلب وغيره»: وهذا أصل مذهب مالك اعتمادًا على ظاهر قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي} الآية. وظاهره حصر المحرمات، وقد قيل: إنها مكروهة اعتمادًا على ما خرجه أبو داودة من حديث ابن عباس قال: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير) ولم يخرجه الشيخان. قوله: «ما عدا ذلك فمكروه»: إشارة إلى الحشرات التي تستقبحها النفوس وتستقذرها الطبائع، والأمر فيها عند الجمهور كما قاله القاضي أنها مكروهة غير مقطوع بتحريمها، حرمها الشافعي. أما الحشرات المستقبحة فعول من حرمها على قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] ورآها داخلة تحت العموم، وعول الآخرون على ظاهر الحصر المستفاد من الآية المقتضية لحصر أنواع المحرمات. قال القاضي -رحمه الله-: «وأما الأشربة فلا يحرم منها إلا ما سكر» إلى آخره. شرح: انعقد إجماع المسلمين على تحريم الخمر وهو الماء المعصر من العنب قليلًا كان أو كثيرًا، والدليل عليه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش} الآية [الأعراف: 33]، والإثم الخمر.

قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ** كذلك الإثم يذهب بالعقول وقال تعالى: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91] فقال عمر: (انتهينا يارب انتهينا يارب) ففهموا التحريم من الآية ولا مخالف، وأما الأنبذة فأجمع المسلمون على تحريم الإسكار منها. واختلف في القليل الذي لما يقع به الإسكار، والجمهور على التحريم، لها في الصحيح من حديث عائشة قالت: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البتع وعن النبيذ فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام) خرجه مسلم قال ابن شعبان: هذا أصح حديث روي عنه -عليه السلام- في تحريم المسكر وهذا حديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كل مسكر كرام) خرجه مسلم وخرج أبو داود حديث جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أسكر كثيره فقليله حرام). وفي حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حرمت الخمر لعينها، والسكر من غيرها) وهل يسمى النبيذ خمرًا أم لا؟ فيه خلاف مشهور بين أهل العلم مسند إلى النص والمعنى، أما النص فما رواه ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن من العنب خمرًا

ومن العسل خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن الحنطة خمرًا، وأنا أنهاكم عن كل مسكر). وهذا يدل على أن هذه تسمى خمرًا في الشرع، وأما المعنى فإن الخمر إنما هي بذلك من المخامرة وتغطية العقل فحيث ما حقق هذا المعنى صدق إطلاق اللفظ عليه، وهذا مبني على جواز القياس والخلاف في ذلك مشهور. قوله: «وشرب الخليطين مكروه» وهذا كما ذكره. وقد اختلف العلماء في ذلك، والصحيح نهيه -عليه السلام- أن يخلط الثمر والزبيب والزهو والرطب والبسر والدباء والمزفت والمعنى ألحقهم آلات ينتبذ فيها، وقد اختلف الناس في الانتباذ فهي على ثلاثة أقوال فكره الثوري ذلك. وأجاز أبو حنيفة الانتباذ في هذه الظروف وغيرها. والمشهور من المذهب كراهية الانتباذ في الدباء والمزفت لسرعة الإسكار فيها دون ما عداهما.

وأما الانتباذ في الظروف من الأدم فجائز إجماعًا لقوله -عليه السلام-: ( .... ) والصحيح العمل على مقتضى نهيه -عليه السلام- عن الانتباذ في الأربع التي ذكرها الثوري. قوله: «وشرب العصير والعقيد جائز»: ويقربه المطبوخ الذي ذهب منه الإسكار بكل حال والإجماع على جوازه، لأنه في حكم الحلو والعسل واللبن وغير ذلك من المائعات والله أعلم. قال ابن المواز: ليس ذهاب الثلثين في كل بلد ولا في عصير يحل. قال غيره: المقصود أن يذهب منه قوة الإسكار. قال مالك: كنت أسمع إذا ذهب ثلثاه لم يكره. قال ابن المواز: لا أجد في طبخ العصير ذهاب ثلثيه، وإنما النظر إلى السكر.

كتاب النكاح

كتاب النكاح قال القاضي -رحمه الله-: «النكاح مندوب إليه» إلى قوله: «والولاية ولايتان». شرح: النكاح لغة: هو الإدخال والإيلاج من قولهم: نكحت الحصاة أخفاف الإبل إذا أدخلت فيها، وأنكحت الأرض البدر إذا ولجته فيها. وهو في الشرع عبارة عن الوطء نفسه حقيقة، وعن العقد مجازًا، وقيل: حقيقة فيهما من باب الاشتراك، وتحقيق معناه اللغوي يقتضي أن يكون حقيقة في الوطء وقد استعمل في كتاب الله سبحانه على الأمرين. قال سبحانه: {ولا تنحكوا ما نكح ءاباؤكم} [النساء: 22] والمراد عندنا الوطء، وحد النكاح في الشريعة: استباحة البضع بعوض شرعي، ولا يخفى. وقد اختلف الناس في حكم النكاح، فقال الجمهور: إنه ليس بواجب. واحتج الجمهور بقوله تعالى: {ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3] خير بين النكاح، أو التسري وهو ليس بواجب. فالنكاح مثله، وحملوا الأوامر الواردة فيه على الندب كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم} [النساء: 3] وكقوله تعالى: {وانكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] وحمله أهل الظاهر على ظاهره وهو الوجوب،

والتفت كثير من متأخري المالكيين إلى المصلحة، والقياس من المرسل فقسموه بحسب أقسام الشريعة فقالوا: قد يكون واجبًا في حق من يخشى العنت، وندبًا في حق من اضطره أمنه، ويرجى منه النسل، ومباحًا في حق المتعفف الذي لا يرجى له النسل، ومكروهًا في حق من اضطره إلى مكروه، ومحرمًا في حق من اضطره إلى محظور كالاضطرار بالزواج إلى اكتساب السحت وغير ذلك. وقد تقرر في أصول الفقه أن أكثر الفقهاء أنكروا القياس من المرسل: وهو الذي ليس له أصل معنى يسند إليه. وقال القاضي: «للقادر عليه» عام في القادر طبعًا وعادة شرعًا. ونبه بقوله: «من غير إيجاب» على مذهب المخالفين. ومما احتجوا به على وجوبه نهيه -عليه السلام- عن التبتل وردة ذلك عن عثمان بن مظعون وغيره، وذلك يدل على وجوب النكاح، إذ النهي دال على فساد المنهي عنه، وقد اشتهر خلاف العلماء أيهما أفضل: التبتل لعبادة الله سبحانه، أو التكاف. قوله: «والمنكوحات ضربان حرائر وإماء» وهذا كما ذكره، إذ لا واسطة بينهما، ولا شرط في نكاح الحرة. واختلف العلماء في نكاح الحر للأمة هل هو جائز مطلقًا، أو موقوفًا على الشرطين، كما ذكره القاضي، وفي المذهب فيه قولان، وسئل ابن القاسم عن نكاح الحر للأمة فقال: هو حلال في

كتاب، وقسم الحرائر إلى أبكار وثيب، وأصاغر، وأكابر، ومردود الاسم مشترط من جهة الوجود من الحرائر، والإماء، لا أنه خص ذلك بالحرائر، لأن ذلك محل للفقه والأحكام. قوله: «ولا نكاح إلا بولي ذكر» وهذا كما ذكره، وتحرز بالذكر من الأنثى، والذي عليه الجمهور من العلماء أن المرأة لا تعقد النكاح على نفسها، ومن لا يعقد على نفسه، فأحرى أن لا يعقد على غيره. وسيأتي القول في اشتراط الولاية في النكاح وصفات الأولياء. واختلف المذهب في المرأة إذا كانت وصيًا هل تلي عقدة النكاح عن ذكور محاجر أم لا؟ وفيه قولان عندنا، المشهور أنها تقدم غيرها بناء على أنه يشترط في الوكيل، والوصي ما يشترط في الولي، وقيل: لا يشترط ذلك، وروي عن ابن القاسم في العتبية أنها تلي العقد على غيرها وعلى ذكور محاجرها دون البنات، لأن للصبي حل العقد إذا كرهه بخلاف الأنثى، وعلى هذا اختلفوا هل يصح توكيل العبد، والصبي، والنصراني على عقد النكاح أم لا؟ وفيه قولان مبنيان على ما ذكرناه، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (فإن الزانية هي التي تنكح نفسها) الحديث وفي إسناده مقال. قوله: «وأما صغار النساء فلا يزوجهن أحد من الأولياء سوى الآباء» والسادات عندنا، لما للآباء من خصوصية الحنان، والرأفة، وللسادات من

خصوصية الملك، والذي عليه الجمهور من أهل العلم أن للأب أن يجبر ابنته البكر الصغيرة على النكاح إذا كرهته، ولم يخالف في ذلك إلا الشواذ كابن شبرمة ومن تبعه، والدليل على ذلك ما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوج عائشة وهي بنت ست، أو سبع، وبنى بها وهي بنت تسع بإنكاح أبيها أبي بكر -رضي الله عنه-، وكذلك يجبر ولده الصغير قياسًا على الأنثى عندنا. واختلفوا في الجد هل ينزل منزلة الأب في الجبر أم لا؟ وقال مال: لا يجبر الجد. وقال الشافعي: الجد أب الأب في الجبر كالأب، وقال أبو حنيفة: يجبر الصغيرة جميع أوليائها، ولها الخيار إذا بلغت، والدليل لنا قوله -عليه السلام-: (والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها) وهذا عام في كل بكر، فخرج موضع الإجماع، وبقي ما عداه على الأصل. قوله: «وأما الأبكار البوالغ فللآباء إنكاحهن بغير إذنهن»: وهذا عام

جار كما ذكرناه في الأبكار البوالغ ما عدا المعنسة فإنه أخرجها بعد من العموم، وروي أن الاستئذان مستحب في الأبكار البوالغ وهو قول مالك والشافعي وابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور بوجوب استئذان البكر البالغ غير المعنسة. وسبب الخلاف تعارض النص والمعنى. أما النص فثبت من حديث ابن عباس أنه -عليه السلام- قال: (والبكر يستأذنها أبوها) وهذا عام في كل بكر فخرجت الصغيرة بدليل الإجماع وبقي ما عداها على العموم، وفي بعض طرق الحديث: (والبكر تستأمر) وهذا عموم في وجوب الاستئمار في كل بكر، وقال -عليه السلام-: (تستأمر اليتيمة في نفسها) خرجه أبو داود، وفي لفظ آخر: (لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها). ودليل هذا الاختلاف أن ذات الأب لا تستأمر. فعارض دليل الخطاب مقتضى العموم، فيقع النظر في ترجيح أحدهما على الآخر. وأما المعنى فاختلافهم هل الجبر معلل بالصغر، أو بالبكارة، أو بهما،

فمن علله بالصغر فقط، أو بالصغر والبكارة. فقال البكر: البالغ لا تجبر، ومن علله بالبكارة رأى الجبر ويلزم على ما اقتضاه جبر المعنسة إلا أن يثبت دليل التخصيص، وإذا بنينا على مذهب مالك أن الاستئذان غير واجب فهل يستحب ذلك للأب أم لا؟ فيه تفصيل. أما في الصغيرة التي لا إذن لها فلا يستحب ذلك له فيها على المشهور، لأن إذنها كلا إذن، وأما البالغ فاستئذان الأب لها مستحب عندنا. ومحمل قوله -عليه السلام-: (البكر تستأمر في نفسها) كالبكر اليتيمة فالاستئذان واجب هنالك اتفاقًا، إلا أن ينص الأب على الوصي بالجبر، ففيه خلاف نذكره بعد. قوله: «وينقطع الإجبار عن المعنسة»: وهذا هو الذي اختاره القاضي أبو محمد في المعنسة، والخلاف في المعنسة هل يجبرها الأب أم لا؟ مشهور عندنا، فقيل: إن الإجبار دائم عليها، وقيل: ينقطع، ومبناه على تعليل الإجبار بالصغر، أو بالبكارة. واختلفت الرواية في مقدار سنها، فروى ابن وهب في المدونة أن سنها الثلاثون، والخمس والثلاثون، فروى عيسى عن ابن القاسم الأربعون والخمس والأربعون، وقيل ذلك محال على العادة. والخلاف في استدامة الجبر على المعنسة، أو انقطاعه جار على اختلافهم في علة الجبر هل هي البكارة وهي موجودة في المعنسة، أو الصغر الذي هو مظنة الجهل بالمصالح وذلك منتف في حق المعنس. قوله: «وأما الثيب من البوالغ فلا إجبار عليها» ومراده بقوله: «من البوالغ» تحرزًا من الثيب الصغيرة، وتحصيل القول فيه: أن الثيب على

قسمين: صغيرة وكبيرة، فالكبيرة البالغة من الثيب لا تجبر على النكاح عند جمهور أهل العلم بقوله -عليه السلام-: (الثيب أحق بنفسها من وليها) وشذ قوم فرأوا أنها تجبر، وهو خلاف للإجماع، والسنة الصحيحة ترد عليهم، وقال -عليه السلام-: (الثيب تعرب عن نفسها) والثيب الصغيرة غير البالغ هل تجبر على النكاح أم لا؟ فيه قولان في المذهب الجبر، ونفيه مبنيان على اختلاف التعليل في علة الجبر، والمعول عليه عند الحنفية البكارة هي علة الجبر وعند الشافعية الصغير، وعند المالكية أن كل واحد منهما يوجب الإجبار إذا انفرد. فقالت الحنفية على مقتضى مذهبهم تجبر البكر البالغ، ولا تجبر الثيب الصغيرة وعكسه الشافعي. ومعتمد المالكية على ما ذكرنا من أن كل واحد منهما موجب على الانفراد. قوله: «والثيوبة المسقطة للإجبار» إلى آخره. قلت: هذا أيضًا فرع اختلف فيه، فقال الشافعي: الثيوبة ترفع الإجبار سواء كان بوطء حلال، أو حرام، والمشهور من المذهب خلافه، وأن الحرام المحض لا يقطع الإجبار كالزنا، والغصب، وقيل: إن تكرر الزنا منها ارتفع الإجبار عنها وإلا

فلا وسبب الخلاف: هل تعلق الحكم بالثيوبة اللغوية أو بالثيوبة الشرعية، وقد قال بعض المتأخرين من شيوخنا: إنما تجبر الزانية على النكاح، لاحتمال أن تسقط بالزنا زوال سبب الجبر عنها فتعامل بنقيض قصدها. وقيل: لأن الزنا خفي، والجبر أمر ظاهر، فلا يسقط الظاهر بالخفي واختلف في فروع: إذا دخلت على زوجها قبل المسيس هل تجبر أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال في المذهب، فقيل: يبقى الجبر عليها لبقاء البكارة، وقيل: بانتفائه مع الطول إذا شهدت مشاهد النساء، وعرفت مصالحها. واختلف في حد الطول المعتبر في ذلك، فقيل: لسنة، وقيل: هي محال على العادة، وقال ابن عبد الحكم: يزوجها بغير رضاها، وإن طالت إقامتها ما لم تمس. قال القاضي -رحمه الله-: «والولاية ولايتان» إلى قوله: «وأما الولاية العامة». شرح: وهذا كما ذكره، والأصل في الولاية العامة قوله سبحانه: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10] وقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم} الآية [التوبة: 71] والآيات في هذا المعنى كثيرة، ومعنى تسميتها «عامة» أن المعتبر فيها وجود الوصف الأعم، وهو الإسلام بخلاف «الخاصة» فإن المعتبر فيها الوصف الأخص، وهو الأعم وزيادة، والدليل على اعتبارها من الكتاب قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال: 75] أي في حكمه، وقال -عليه السلام-: (المسلم أخو المسلم) وظاهره إطلاق الأخوة في سائر النوع، وقال عمر بن الخطاب: معتبرة بأسباب أربعة، وقدم منها ولاية النسب، وبين أنها مستحقة بالتعصيب لا مدخل فيها لذوي الأرحام، وهذا

مذهب مالك -رحمه الله- بناء على أن ذوي الأرحام لا مدخل لهم في الميراث، ورآى الكوفيون وغيرهم من أهل العلم دخولهم في الميراث وغيره من الولاية احتجاجًا بظاهر قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم} ولقوله -عليه السلام-: (الخال وارث من لا وارث له) ولم يذكر القاضي -رحمه الله- جميع الصفات المشترطة في الولي، فالمتفق عليها الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والقرابة. والمختلف فيها العدالة، والرشد، وقد أشار إلى هذه الشروط في أثناء كلامه. قوله: «ثم ما يملك بها نوعان إجبار وإنكاح بإذن» وهذا كما ذكره ولا واسطة بينهما والضمير في قوله: «بها» عائد على ولاية النسب. قوله: «وأما الإجبار فلا يملكه إلا الأب وحده»: يعني الإجبار المستحق بالنسب، وتعرض لإجبار السادات مماليكهم وهو غير مستحق بالنسب، وسقط في بعض النسخ: «والسيد في أمته» وفي إلحاقه نظر، لأنه إنما تعرض في سياق الكلام للإجبار المستحق بولاية النسب، وجبر السيد خارج عن ذلك، وخص الأمة والعبد في معنى لتساويهما حكمًا، ولعله أراد المنكوح لا الناكح، وجبر الآباء ثابت عن صفة ولم يخالف في أصل ذلك إلا الشواذ. والدليل على ذلك تزويج أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ابنته عائشة من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي بنت ست سنين، أو بنت سبع، على ما فيه من الخلاف بين أهل العلم، وقد رأى قوم أن هذه القضية مخصوصة به -عليه السلام-، لأنه قد خص في قاعدة

النكاح بأشياء لم يكن لغيره، وزعم أن هذا من ذلك العمل. قوله: «وأما الإجبار فلا يملكه إلا الأب وحده على صغار بناته» وهذا فيه مناقشة، لأن صغير البنين كصغير البنات ولا معنى لخصوصية الإناث، فلو قال: على صغار ولده لكان أحسن لأنه إنما تكلم على إجبار المستحق وهو عام في الذكور والإناث، ولعله إنما قصد إجبار المنكوح لا الناكح، لأنه إنما صدر الفعل بذكر المنكوحات، على ذلك تأولت كلامه وقت الإقراء. فبدأ -رحمه الله- بالصغار تحرزًا من الكبار، إلا أنه عطف الأبكار البوالغ على الصغار، وأدخل الصنفين تحت حكم الجبر، وفي ذلك تفصيل مذهبي قد قدمنا الإشارة إليه، لبابه أن البكر الصغيرة يجبرها الأب، واختلف النظر في الصغيرة الثيب هل لعلة الصغر، أو لثيوبة فلا تجبر، والبكر البالغ المعنسة تجبر على أحد القولين اعتبارًا بالبكارة، ولا يجبر على القول الآخر، تغليبًا لحكم التعنيس. وأما الثيب البالغ فلا تجبر إلا أن تثيب قبل البلوغ، أو تثيب بزنا ففي القسمين الخلاف الذي قدمنا ذكره، وقد تقرر أن الجبر خارج عن معهود الشريعة، وإنما خص له الآباء على صفة لما ثبت لهم من خصوصية الإشفاق، وحسن النظر. وهل يتنزل وصيه في ذلك، وولده المفوض إليه منزلته، سأذكر ما فيه من الاختلاف بعد. وذكر أن الأب وسائر الأولياء سواء في الإنكاح بالاستئذان، ورتب العصبة فيه على حكم ترتيبهم في التعصب، وقدم البنين على الآباء. وقد اختلف المذهب في ذلك فقيل: ولد البنت مقدم على أبيها، وقيل: أبوها مقدم على ولدها، فالأول: نظر إلى قوة التعصيب، والثاني: أن الأصل الوجود. وقدم الإخوة ما كانوا على الجد، وفيه أيضًا اختلاف في المذهب، المشهور ما ذكر من تقديم الإخوة، والشاذ تقديم الجد، وهو قول المغيرة، والظاهر التساوي بناء على أنه إن اختار في الميراث أن يكون أخًا من الإخوة فله

ذلك، وكذلك اختلفوا أيضًا في ترجيح الأخ الشقيق على غير الشقيق وهي رواية ابن حبيب عن مالك وابن القاسم نظرًا إلى قوة التعصيب، أو عدم ترجيح، نظرًا إلى أنه سبب واحد بالنوع وهي رواية ابن زياد. قوله: «وإن أنكح الأبعد مع وجود الأقرب فيمن تستأذن جاز». شرح: اختلف فيه المذهب بناء على الاختلاف في اشتراط تقديم الأقرب هل هو من باب الأولى، أو من باب الأوجب، وفيه قولان في المذهب، وإذا قلنا بتقديم الأقرب فكان غائبًا فهل يستقل الأبعد بالأقعد من غير مشورة الحاكم، أو لابد من الرفع إلى الحاكم فيه قولان، وإنما قيد القاضي -رحمه الله- بقوله: «فيمن تستأذن» تحرزًا من الأب يفتات على ابنته البكر التي في جحره أحد أوليائها فيزوجها بغير تفويضه فهذا مردود مطلقًا على أحد الأقوال، وموقوف على خيار الأب على القول الآخر، وتزويج الأبعد أقرب من تزويج الأجنبي، وحكى الأشياخ في تزويج الأبعد مع وجود الأقرب أربعة أقوال عن المذهب جواز النكاح مطلقًا وفسخه ما لم يطل، أو يفت بالدخول. وقال سحنون، قال بعض الرواة: ينظر في ذلك السلطان، وقال آخرون: للأقرب الخيار بين الرد والإجازة إلا أن يتطاول الأمر وتلد الأولاد. وقال ابن حبيب: للأقرب أن يفسخه أو يمضيه ما لم يبن بها، ويطلع على عورتها. قال الشيخ أبو الحسن: لم يختلفوا أن النكاح صحيح لا يتعلق به فساد وإنما اختلفوا هل يتعلق به حق آدمي أم لا؟ قال: فإن كانت المرأة لا قدر لها، ومضى نكاح الأبعد قولًا واحدًا. ومبنى الخلاف على ما ذكرنا من تقديم الأب: هل من باب الأولى أو من باب الأوجب. ولو زوجها الأجنبي مع وجود الأقرب جدًا، فيه هذا

خلاف، ويختص هذا بقول خامس، وهو فسخ النكاح أبدًا، وإن طال وولدت أولادًا. ولو زوجها أجنبي وأولياؤها غياب فقال ابن القاسم في المدونة: للولي أو السلطان أن يفسخ ذلك، وكتب مالك إلى ابن غانم إذا زوجها أجنبي وأولياؤها غياب فرفع ذلك إلى السلطان فلا ينظر فيه إلا أن يقدم الولي فيطلب الفسخ، ولا عقوبة في ذلك الدخول إذا كان النكاح مشهورًا، فإن بنى بها عوقبا جميعًا، وعوقب الولي العاقد والشهود. قوله: «وأما خلافة النسب فوصى الأب في البكر خاصة هو أولى من سائر الأولياء»: وهذا هو المشهور من المذهب كما ذكره، قال في الكتاب: لا نكاح للأولياء مع الوصي. ووصى الوصي أولى من الأولياء وهو في الثيب واحد منهم، وفي السليمانية عن سحنون: الولي أولى بالعقد من الوصي وهو قول ابن عبد الحكم في مختصر ما ليس في المختصر، واختاره النخعي لأن الولي أجنبي، وإنما هو وكيل على المال. والصحيح أنه نائب عن الأب، فكان له من التزويج والإجبار ما للأب، وذلك إذا نص له الأب على الجبر، وقد قيل: لا يجبر مع النص عليه، لأن المعنى المسوغ بجبر الآباء موجود في سواهم.

قوله: «وإذن الثيب بالقول» وهذا كما ذكره، والفعل الصريح التنزل على القول في الدلالة كالقول. قوله: «وإذن البكر بالقول أو بالصمات»: وهو حكم مخصوص باليتيمة من الأبكار، وأما ذات الأب فالاستئذان في حقها غير واجب، لأن للأب جبرها غير المعنسة على ما فيها من خلاف، قد قدمنا ذكره، وعلى كل تقدير، فالصمت لا يكون رضى إلا في حق اليتيمة كما ذكرناه، لأن الغالب مع وجود اليتم والبكارة والخوف والحياء إلا ثلاثة مواضع، فإن إذن اليتيمة فيها لا يكون إلا نطقًا لاحتمال: الأول: أن يكون الزوج عبدًا. الثاني: أن يكون الصداق عرضًا. الثالث: أن يسبق العقد الاستئذان، وإذنها في هذه المواضع الثلاثة نطقًا، هذا نص المذهب في ذلك، وهل يشترط عليهما بأن صمتها رضى واجبًا، أو مستحبًا، فيه قولان في المذهب، واستحب ابن شعبان أن يطال المكث عندها، ويقال لها: إن رضيت فاسكتي ثلاثة، وذلك استحبابًا لا إيجابًا. قال القاضي -رحمه الله-: «وأما الولاية العامة فولاية الدين» إلى قوله: «ويجوز خلع الأب على ولده». شرح: قد ذكرنا أن للولاية العامة مدخلًا في النكاح لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} واشترط فيها تعذر الولاية الخاصة، وحكى قولين في جوازها مع وجودها، فقيل: إنها جائزة في الدنية، وقيل: لا تجوز بحال مع القدرة. وتحصيل القول فيه: أن الولاية الخاصة إن كانت ولاية إجبار كالأب في البكر، والسيد في عبده وأمته فسخ النكاح على كل حال. وحكى القاضي في إجازة نكاح الأمة إذا أجازها السيد روايتين، وإن كانت الولاية الخاصة ليست

ولاية إجبار كالأب في ابنته وسائر العصبة في البكر والثيب، فقال ابن القاسم: إنه يوقف في إجازته، وروى أشهب في الدنية تولي أجنبيًا ينكحها مع وجود القريب، قال لنا عن مالك: ولو عمل بها ضاعت الفروج. هكذا وقع في كتاب أبي محمد. قوله: «وإذا تقدم العقد على الإذن فالصحيح ألا يجوز»: وهذا هو النكاح الموقوف. وأصل المذهب أن النكاح لا يجوز فيه وقف ولا خيار، وقد روى عن مالك أن النكاح الموقوف جائز مع القرب إذا أجازه من له فيه الخيار، وهل يشترط في القرب أن يكون معه في البلد أم لا؟ فيه قولان في المذهب. قوله: «وللولي إنكاح صغار الذكور»: وهذا تحرزًا من الكبار، ولا يخلو الكبير أن يكون سفيهًا أو رشيدًا، فالكبير الرشيد لا يجبر على التزويج بلا خلاف، فإن كان بالغًا سفيهًا فهل يجبره الأب، أو الوصي فيه قولان في المذهب، فمن راعى السفه أثبت الجبر، ومن راعى الكبر أسقطه، ثم ذكر أن الصداق ثابت على من سمى عليه إذا أنكح الأب ولده الصغير، فإن سكت عنه، فالأصل أنه واجب على قابض السلعة مطلقًا إلا أنهم جعلوه على الأب المزوج مع عسر الولد تغليبًا للعادة. ولا ينتقل إلى الولد بيسره، لأنه ثبت في ذمته، فانتقاله منها لا يكون إلا بواجب كما تكرر. قال القاضي -رحمه الله-: «ويجوز خلع الأب عن ولده الصغير» إلى قوله: «إلا بإذن السيد». شرح: قد تقرر أن الأب ناظر لولده الصغير بالمصلحة في المال والبدن

والتزويج والخلع في المال والبضع، فكان للأب أن ينوب في ذلك عن ولده نيابة شرعية إذا تيقن وجه المصلحة، أو غلب في الظن وهو مع الاحتمال محمول على الصلاح والسداد، ولذلك جاز إنكاحه ابنته بأقل من صداق مثلها حملًا لفعله على الإصلاح، وبناء على أن النكاح مبني على المكارمة إذ ليس للبضع ثمن محقق، وقد منع كثير من أهل العلم تزويجها بأقل من صداق مثلها بناء على مراعاة المصلحة الظاهرة، وغفلوا عن مراعاة المصلحة الخفية من سداد الحال، واستقامة طريق الزوج. قوله: «في العفو إذا طلقت قبل الدخول» تحرزًا من الطلاق بعد الدخول، لأن الصداق قد ثبت بالدخول وجوبه بالذمة، فلا معنى لانتقاصه ولا لإسقاط شيء منه إلا أن يخاف الطلاق فيترك بعضه رجاء الاستصلاح وقد قال تعالى: {أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237] وهو الأب في ابنته، والسيد في أمته خلافًا للشافعي حيث قال: إنه الزوج والمسألة مشهورة في مسائل الخلاف. قوله: «وللولي أن يلي نكاح نفسه من وليته التي يجوز له إنكاحها» وهذا بناء على أحد القولين. وتحصيل القول فيه: أنه إما أن يقيم قابلًا عنه لعقدة النكاح أم لا؟ فإن أقام قابلًا لعقدة النكاح فقولان، المشهور صحة النكاح، والشاذ فساده. وإن لم يقم قابلًا فقولان، المشهور منعه، والشاذ جوازه. ومبنى المسألة على الخلاف المعروف في المخاطب هل يدخل تحت الخطاب أم لا؟ ولأهل الأصول فيه قولان.

قوله: «وإذا زوج الوليان فالداخل من الزوجين أولًا»: وهذا مما يجب تفصيل القول فيه، فإن الداخل إما أن يكون هو الأول فلا خلاف أنه أولى، وإن كان الداخل هو الآخر، فإن علم بذلك، وقصد التفويت على الأول فقولان، المشهور فسخ نكاحه بناء على أنه في عصمة محققة وهو زان يدرأ عنه الحد للشبهة، والشاذ صحة نكاحه، والشاذ فسخه، وإذا قلنا: إنه أولى بالدخول فلا كلام في فسخ نكاح الثاني إذا لم يدخل، وترجع إلى الأول، فإن جهل الأول منهما فسخ النكاح، وقيل لها: تزوج من شئت منهما، وفسخه بطلاق، وقد قيل: إن الطلاق موقوف. واختلف في نفقتها أيام الاستبراء من فسخ النكاح الفاسد هل هي على الدفع الحقيقي لرهن الزوج حقيقة، أو على الثاني لأنها محبوسة من أجله أو عليها، أو ينبغي أن يكون ذلك محمولًا على إذا ما علمت فمكنته من نفسها. قوله: «ولا ولاية لعبد ولا من فيه بقية رق»: وقد قدمنا أن الحرية والإسلام شرط في استحقاق الولاية، أما الحرية فلأن من لا يملك العقد على نفسه فأحرى ألا يعقد على غيره، وكذلك الإسلام، ولذلك لا يعقد الكافر نكاح وليته لقوله -عليه السلام-: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) ولا يعقد المسلم نكاح وليته الكتابية من مسلم ولا كافر، فإن كان الولي مسلمًا، والزوج مسلمًا والزوجة كتابية فهل يعقد عليه أم لا؟ فيه قولان: المشهور المنع مطلقًا، والشاذ جوازه تغليبًا لحكم الإسلام، وهذا فيما سوى ولاية الرق وأما

ولايته فحكمه حكم مال، فله فيه التصرف بحكم سلطانيته لملك كما ذكره. ويعقد المولى الأعلى على المولى الأسفل ويستخلف المعتقة، ولا ولاية للمولى الأسفل. وحكى الشيخ أبو عمران أن له مدخلًا في الولاية قال: وليس بشيء. وذكر أن السيد يجبر عبيد ولده الصغار، وعبيد محاجره على النكاح، وكل ذلك نظر بالمصلحة. واختلف المذهب هل يجبر من فيه بقية رق على النكاح أم لا؟ وفيه أربعة أقوال: الجبر مطلقًا، ونفيه مطلقًا، ويجبر من يقدر على انتزاع ماله، ولا يجبر من سواه، ويجبر الذكر لقدرتهم على الحل دون الإناث لانتفاء قدرتهم على ذلك. قال القاضي -رحمه الله-: «ولا يجوز لعبد، ولا أمة أن ينحكا إلا بإذن سيدهما» وهذا كما ذكره؛ لأن رقبته وتصرفاته مملوكة للسيد، والسيد بالخيار كما ذكره، لأنه نكاح موقوف، فإن أجازه السيد، فهل يجوز أم لا؟ فيه أربعة أقوال. أحدها: أنه لابد من فسخه مطلقًا بناء على أنه وقع فاسدًا. والثاني: أن له الإجازة مطلقًا في العبد والأمة. والثالث: أن له إجازة نكاح العبد إذا تزوج بغير إذن سيده بخلاف الأمة تتزوج بغير إذنه، فلابد من فسخ نكاحها على كل حال. والرابع: أنه يجوز إذا أجازه السيد بالقرب فإن تباعد لم يجز، وقد قيل في الأمة: إن باشرت العقدة بنفسها وقع الفسخ على كل حال، فإن وكلت غيرها فللسيد الخيار. واختلف المذهب إذا لم يعلم بالنكاح إلا بعد العتق هل له فسخ أم لا؟

فيه قولان: المشهور أنه ليس له الفسخ، لأن سبب الحكم في ذلك هو الملك، وقد بطل بالعتق. قوله: «وللعبد أن ينكح أربعًا كالحر» وهذا فيه قولان. أحدهما: أنه كالطلاق فهو فيه على النصف من الحر. والثاني: جواز نكاحه الأربع تمسكًا بعموم قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] ونكاح العبد الأمة جائز مطلقًا، وفي نكاح الحر الأمة قولان: الجواز مطلقًا، والجواز بشرط، وقد قدمناه. قوله: «والإشهاد من شروط كمال النكاح» وهذا كما ذكره، فإن وقع الإعلان جاز، ويتنزل منزلة الشهادة، فإن عربت العقدة عن الشهادة، واقترنت بالدخول جاز النكاح خلافًا للشافعي حيث جعل الشهادة شرطًا في صحة العقد تعويلًا على ظاهر قوله -عليه السلام-: (لا نكاح إلا بولي، وصداق، وشاهدي عدل). قوله: «والتراضي بكتمان العقود يفسده» وهذا كما ذكره لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن نكاح السر وأمر بالإعلان وقال: (اضربوا عليها بالدف والغربال). واختلف المذهب في فرعين:

الأول: في حقيقته فقيل: هو العاري عن البينة، وقيل: هو الذي أوصى فيه البينة بالكتمان وهذا خلاف في شهادة. الثاني: هل يفسخ أم لا؟ وفيه ثلاثة أقوال في المذهب فقيل: يفسخ مطلقًا، وقيل: لا يفسخ مطلقًا، ويؤمر بالإعلان، وقيل: يفسخ قبل الدخول، فإن وقع الدخول مضى، وأمر بالإعلان. قوله: «ولا يجوز لولي عضل وليته إذا دعت إلى كفء في الدين» وهذا كما ذكره لقوله تعالى: {فلا تعضلوهن} الآية [البقرة: 232] نزلت في معقل بن يسار وكان عضل أخته فنهى الله عن ذلك. قوله: «إذا دعت إلى كفء»: دليل على اشتراط الكفاءة في بعض الأحوال إذا لحق الأولياء بتركها عار. قوله: «فإن اتفق الأولياء والزوج على غير كفء جاز»: يقتضي أن الكفاءة ليست حقًا له سبحانه، وإلا لما جاز التراضي على إسقاطها، وقد اختلف أهل العلم في الكفاءة في محلين: الأول: هل هي شرط في النكاح أم لا؟ الثاني: في تفضيل الكفاءة.

المسألة الأولى: هل هي معتبرة أم لا؟ وقد اختلفوا في ذلك، وذهب مالك وجماعة من أهل العلم إلى أنها معتبرة اعتبارًا بالعادة ورفقًا للضرر اللاحق للأولياء، ونظرًا إلى قوله سبحانه: {ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح} الآية [النساء: 25] أباح من الانتقال من الأفضل إلى المفضول مع العذر وذلك يقتضي وقوفه عليه، وذهب أبو حنيفة وغيره إلى أن الكفاءة غير معتبرة لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ولقوله -عليه السلام-: (كلكم من آدم وآدم من تراب) وقوله -عليه السلام-: (إن الله يرفع عنكم عبية الجاهلية وتفاخرها بالأنساب ليس إلا مؤمن تقي، أو فاجر شقي). والمعتبرون الكفاءة اختلفوا في تفصيلها، فقيل: مجرد الإسلام، وقيل: لا يرفع الإسلام من أمر زائد وهو النسب والمال والحرية وسلامة البدن لقول عمر -رضي الله عنه-: (لا يزوج القبيح ولا الشيخ الكبير) وهو مقتضي مذهب مالك على تفصيل فيه لبابه، أما الإسلام فمشترط إجماعًا، وهل يجوز للولي تزويج وليته من فاسق أم لا؟ فيه تفصيل، لأن الفاسق إما أن يثبت بالاعتقاد، أو بالجوارح، فإن كان عقديًا كالخوارج والقدرية وغيرهم فنص مالك في كتاب محمد أنهم لا يزوجون. وأما الفاسق بالجوارح كشارب

خمر أو نحوه فتزويج الولي منه لا يصح، ويفسخ قبل الدخول وبعده على مقتضى الرواية، وخالف فيه المتأخرون، ولما يؤدي من كثرة الفسق في وقتها. وأما النسب ففي اشتراط المكافأة فيه خلاف، فمن صح أنه غير مشترط، وأما القول بتحصيل القول فيه: أن الزوج إن كان غير قادر على النفقة فليس بكفء البتة، وإن كان قادرًا عليها فلا يخلو أن يضرب بها في مالها أو لا؟ فإن أضر بها فيه، فلها فيه مقال وإن لم يضرب بها فيه قولان ظاهر الكتاب أن لها متكلمًا فيه، وقيل: لا كلام، وجعله بعض الأشياخ خلافًا في صورتين. وأما الحرية ففيها قولان: فقال ابن القاسم: العبد كفء الحرة، وقال المغيرة وسحنون: ليس بكفء. وكذلك اختلف المذهب في المولى: هل هو كفء للعربية، وهو قول ابن القاسم، أو ليس بكفء، وهو قول غيره. قوله: «وليس كمال مهر المثل من الكفاءة» تنبيهًا على قول المخالف، وأصل مذهب مالك ما ذكره ولذلك أجاز أن يزوج الرجل ابنته البكر بأقل من صداق مثلها بناء على أن له النظر في المصالح وهو غير متهم، ولا يكون ذلك في الثيب، ولا لغيره من الأولياء مطلقًا. قوله: «والتوكيل في عقد النكاح جائز» وهذا لا خلاف فيه، لأنه من

عقد المعاوضة فتجوز فيه النيابة كما تجوز في البيع، وسواء كان التوكيل من الزوج، أو من الزوجة، أو من الولي. قال القاضي -رحمه الله-: «والصداق مستحق في عقد النكاح ولا يجوز التراضي على إسقاطه» إلى قوله: «ونكاح الشغار باطل». شرح: الصداق ركن من أركان النكاح، والدليل عليه الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وءاتوا النساء صدقاتهن} [النساء: 4]، وقوله: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين} [النساء: 24]، وقوله: {واءتوهن أجورهن} الآية [النساء: 25]. وأما السنة: فقوله -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي أراد أن يزوج الموهوبة: (التمس ولو خاتمًا من حديد) وذلك يدل على أنه مشترط وقال -عليه السلام-: (لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل) وانعقد الإجماع على ذلك. قوله: «ولا يجوز التراضي على إسقاطه، ولا النكاح المشترط فيه سقوطه» وهذا كما ذكره لأن ذلك سفاحًا لا نكاحًا. ولو انعقد النكاح

على سقوطه فلا خلاف في فسخه قبل الدخول، وفي فسخه بعد الدخول روايتان في المذهب: الأولى: الفسخ لوقوعه فاسدًا، والفاسد لا سبيل إلى تقديره، والثانية: الإمضاء ويصح بصداق المثل فيه، والأول أصح لما ذكرناه. قوله: «ولا حد لأكثره» وهذا كما ذكره، واستحب بعض السلف الرخص فيه فعول على قول عمر بن الخطاب: (أيها الناس لا تغالوا في صدقات النساء، فقامت امرأة فقالت: الله أعطانا وتحرمنا يا عمر، أما سمعت الله يقول في كتابه العزيز: {وءاتيتم إحداهن قنطارًا} [النساء: 20] فقال عمر -رضي الله عنه- أصابت المرأة وأخطأ أمير المؤمنين) .. الحديث. وله طرق باللفظ مختلفة وأصله ثابت في الصحيح والآثار المنهي أرخصهن. قوله: «وأقله محدود وهو ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الورق، أو ما يساوي أحدهما من العروض» وهذا كما ذكره، وهو أصل مذهب مالك، واعتمد في ذلك على القطع في السرقة فقالوا: عضو مستباح، فلا يستباح بأقل من ربع دينار قياسًا على القطع، وفيه بحث من وجوه. الأول: أن الأصل غير متفق على حكمه. الثاني: أن حكمهما البائن مختلفة. الثالث: أنه قياس في مقابلة النص فكان قابلًا، لأن قوله: «ولو خاتم من حديد» يقتضي جواز أقل من ربع دينار، وهي رواية ابن وهب عن

مالك، وبذلك يقول الشافعي وغيره من أهل العلم. قوله: «يجوز أن يكون أعيانًا ومنافع، والأعيان أحب إلينا» تنبيه على خلاف. وتحصيل القول فيه: أن كونه عينًا متفق على جوازه. واختلفوا في جواز كونه منافع، وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال. الجواز وهو قول مالك فيما رواه (أصبغ وسحنون)، وبه قال الشافعي، والمنع وهي رواية ابن القاسم، والكراهية. فالجواز قياسًا على البيع، لأن قبض الأوائل كقبض الأواخر، واعتمد على قضية شعيب مع موسى قال الله تعالى حاكيًا عنهما: {إني أريد أن أنكحك} الآية [القصص: 27] والمنع بناء على أن قبض الأوائل ليس كقبض الأواخر، وقصة شعيب موسى -عليه السلام- مخصوصة بهما بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا والكراهية توسطًا بين القولين. وقوله -عليه السلام-: (انكحها بما معك من القرآن) فيه خلاف في محلين: الأول: هل هو خاص بذلك الرجل لخروجه عن الأصل أم لا؟ والثاني: في مفهوم قوله: (بما معك من القرآن) فقال بعضهم: إنه -عليه السلام- جعل القرآن لنا شفيعًا، وأنكحها منه بغير صداق لحرمة القرآن، وهذا يقتضي الخصوصية، وفي لفظ آخر: فعلمها وهذا يدل على انعقاده على المنفعة: التعليم. قوله: «ولا يجوز إصداق ما لا يجوز بيعه»: ضابط القول الكلي

فيه: إن كل ما جاز بيعه جاز أن يكون صداقًا، وليس كل ما يجوز إصداقه يجوز بيعه بجوازه على وصف مطلقًًا، وعلى جهاز بيت، وكل ذلك لا يجوز، ويقضي في ذلك بالوسط، إذ هو المتعارف. وقال أبو حنيفة: يقضي فيه بالقيمة مطلقًا، ومنع الشافعي قياسًا على البيع مثل: القاضي بالخمر والخنزير في المحرم العين، وبالإبل الشارد، وفي المحرم الأجل. قوله: «تعجيل المهر وتأجيله» وهذا كما ذكره، ويعني به الأجل القريب، وأما الأجل البعيد فمكروه، والأجل المجهول إلى موت أو فراق محرمًا عند جمهور العلماء، وأجازه الأوزاعي إلى موت أو فراق، ومنع قول التأجيل به مطلقًا. ولو وقع النكاح فاسدًا من جهة صداقه بوجه من وجوه فساد الصداق لوجب فسخه قبل الدخول، وهل يفسخ بعده أم لا؟ فيه روايتان، وهل فسخه إيجابًا، أم استحبابًا فيه أيضًا روايتان، وظاهر النظر: أن الفاسد لا يقرر، وتصحيح بعد الدخول تقرير له، إلا أنهم لاحظوا حده بالاطلاع على العورة، فلذلك صححوه بعد الدخول بعوض الصداق الجائز، وإنما استحب مالك وأصحابه تعجيل ربع دينار لتتحقق بالإباحة بعوضها المحقق، فيخرج من مشابهة السفاح، وعلى ذلك عمل كثير من السلف. قوله: «والصداق واجب بالعقد والتسمية، ويستقر وجوبه بالدخول فيؤمن سقوطه» وهذا لباب المذهب، واحترز القاضي بقوله: «والتسمية» من نكاح التفويض، وذلك أنه لو طلق قبل الدخول والفرض لم يكن عليه

شيء، فلو اقتصر على العقد دون التسمية لدخل فيه نكاح التفويض، وانظر هل سقوطه يقتضي تحقيقه قبل السقوط أم لا؟ إذ لولا ثبوته لم يسقط، إذ الساقط لا يسقط، والتحقيق يقتضي أن العقد يوجب تحقيق نصفه، والنصف الثاني واجب بأول الملاقاة لا قبلها، وإيجابه بطول الخلوة بعد إرخاء الستور دون مسيس استحسان لا دليل عليه، وفيه خلاف في المذهب. قوله: «وعلى المرأة أن تتجهز لزوجها من صداقها، أو غيره»: وهذه المسألة قد اختلف الفقهاء فيها، فقال الجمهور: هو ملك لها لا يلزمها التجهز به، ولا بشيء منه تمسكًا بظاهر قوله تعالى: {وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة} ومالك وأصحابه اعتبر العادة في ذلك، وأجازوا أن يقتضي منه -إن كان عينًا- اليسير من دينها، وأجاز الجمهور التصرف فيه، وهو قول القاضي، وغيره بناء على العرف، وذلك إذا كان لها مال ممن تقتضي العادة أن الزوج غالى في الصداق لأجل مالها. واختلف في الصداق إن فعل ذلك فوجدت عديمة، فقيل: يلزمه جميع ما سمى ولا يسقط عنه منه شيء، وقيل: يسقط عنه ما يرى أنه زاد لأجل ما ظنه من مالها. والقول الثالث اعتبار الزيادة على صداق المثل فيسقط، ولا يسقط من صداق المثل شيء. قوله: «وله إن طلقها قبل الدخول نصف ما ابتاعته»: لأنها تصرفت تصرفًا جائزًا، فلا ينقض فعلها الواقع على وجه الجواز، فإن خرجت عن عادة فعلها ردت نصف ما قبضت لا نصف ما اشترت. قال القاضي -رحمه الله-: «ونكاح الشغار باطل» إلى قوله: «وصداق المثل».

شرح: الشغار مصدر شاغر شغارًا، واختلف أهل اللغة في اشتقاقه، فقيل: من قولهم: بلد شاغر إذا كان خاليًا، فسمي به هذا النكاح لخلوه عن الصداق وقيل: هو مشتق من قولهم: شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول، فكأن كل واحد من الوليين يقول: لا ترفع رجل وليتي بذلك الفعل حتى أرفع رجل وليتك بها، والصحيح عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ولا مهرًا بينهما). واختلف العلماء في هذا التفسير هل هو من كلام الراوي، أو من كلامه -عليه السلام-. وأجمع العلماء على النهي عنه، وإنما اختلفوا في حكمه إذا وقع، فقال الجمهور: إنه فاسد يجب فسخه اعتمادًا على أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، سواء كانت من كلام النبي أو من كلام الراوي، لأنه أعلم بما روى، وقال أبو حنيفة: إنه فاسد إلا أنه إذا وقع صح بعوض الصداق الصحيح فيه. وفي المذهب فيه تفصيل أشار القاضي إليه، لبابه أنه إما أن يعرى عن التسمية من الطرفين أو من أحدهما، أو لا يعرى من التسمية بل تقع التسمية. واشتراط العقد بالعقد. فالأول: تقع فيه التسمية مطلقًا قبل الدخول وبعده لما ذكرناه، والثاني: يصح فيه نكاح المسمى لها. وأما نكاح التي لم يسم لها فيفسخ ما لم يقع الدخول، فإن وقع الدخول ففيه قولان: الفسخ، والإمضاء فإن وقع الفسخ قبل الدخول فلا صداق فيه، وللمدخول بها الأكثر

من المسمى لها أو المثل على الأصح. وإن وقعت التسمية من الطرفين، واشتراط أحد العقدين بالآخر بطل الشرط، وصح النكاح قبل الدخول وبعده، وقيل: يفسخ قبل الدخول، ويفوت بالدخول، وقيل: يفسخ مطلقًا، لأنه من وجه الشغار، وكأنها كالصفقة تجمع حلالًا وحرامًا، فتفسخ كلها على الأصح. قوله: «ونكاح المتعة باطل» وهذا كما ذكره، وقد انعقد الإجماع على تحريمه، وهو من أغرب ما وقع في الشريعة فإنه أبيح ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، ولم يعهد نظير ذلك في الشريعة، وفي حرف ابن عباس: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى). واختلفت الأحاديث متى حرم، فقيل: عام خيبر، وقيل: عام تبوك، وقيل: في حجة الوداع، وقيل: في عمرة القضاء، وقيل: في عام أوطاس، وقيل: عام الفتح، وقيل غير ذلك، ولم يخالف فيه أحد، وصح القول عن ابن عباس وأصحابه من أهل مكة واليمن قال: (ما كان المتعة إلا رحمة رحم الله بها أمة محمد لولا نهي عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا الأشقى ثم رجع عنه إلى التحريم). فأما حديث جابر: (كنا نستمتع بالقبضة من التمر، والقبضة من الدقيق على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر ونصفًا من خلافة عمر، ثم نهى عمر عنها الناس) رواه ابن جريج

وعطاء وغيرهما. قوله: «وهو العقد المشترط فيه الأجل»: بنقصه أن يعول أو المهم من الطرفين. واختلف المذهب على قولين إذا قصده الزوج وحده: هل هو متعة فيفسخ أم لا؟ قوله: «والخطبة على خطبة الغير جائزة على وجه وممنوعة على آخر»: قلت في الصحيح: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا بيع أحدكم على بيع أخيه، قال: ولا يسوم أحدكم على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبته) الحدث ثابت، وعليه عمل أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في مفهومه فحمله بعضهم على الإطلاق، ورأى مالك ومن تابعه أن النهي إنما تعلق بحالة التراكن، وأما الخطبة قبل التراكن وتقدير الصداق فجائزة، وهو نص القاضي. ولو خطب غير المسلم فهل يجوز للمسلم الخطبة على خطبته، إذ ليس بأخ حقيقة، أو لا يجوز، لأن ما خرج عن العادة لا مفهوم له فيه قولان في المذهب مبنيان على ما ذكرناه، وهل يفسخ نكاح الخاطب على الخطبة فيه قولان: الأصح الفسخ إذا وقع التراكن بناء على أن مقتضى النهي

محمول على الكراهية، وفيه قول ثالث: أنه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده وهو الجاري على المشهور من المذهب. وأما اشتراط الحباء من الولي فيحرم، ولا يحل للولي أكله، لأن ذلك من أكل المال الباطل إلا أن يهبه ذلك بعد العقدة، فهو له، وكان من عادة الجاهلية أن يشترط لنفسه توليته، فنهى الشارع عن ذلك، وقد جاء فيه أثر ضعيف الإسناد خرجه النسائي وأبو داود وعبد الرزاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أيما امرأة نكحت على حباء قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته وأخته). وتكلم المحدثون في صحيفة عمرو بن شعيب. قال الإمام أبو عمر بن عبد البر: إذا روته الثقات عمل بها، لأنها صحيفة ثابتة، وهي نص أقواله -رحمه الله-.

قوله: «ونكاح التفويض جائز»: الأصل في جواز نكاح التفويض الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم} الآية. انعقاد النكاح قبل قبض الصداق، ولا يرد إلا على النكاح المنعقد. وأما السنة: فما خرجه أبو داود والنسائي والترمذي من حديث بروع بنت واشق وصححه الترمذي، وبه احتج ابن مسعود حين سئل عن ذلك إذا مات الزوج قبل التسمية والدخول فقال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني: أرى لها صداق امرأة من نسائها ولا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقال معقل بن سنان: أشهد لقضيت فيها بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بروع بنت واشق. وانعقد الإجماع على جوازه. واختلف في النكاح على التحكيم هل يجري مجراه أم لا؟ وفيه ثلاثة أقوال جوازه مطلقًا، ومنعه مطلقًا، وجوازه إذا كان الحكم للزوج دون غيره، وكل هذه الأقوال معروفة في المذهب. ومبنى المسألة في اختلافهم في جواز القياس على النص.

قال القاضي -رحمه الله-: «ولا يسميا صداقًا، أو على أن يفرضاه بعد العقد» فيها صورتان بالشخص متحدتان في الحكم. والثانية منها أخص، لأنه إذا كان الفرض بعد العقد، فمقتضاه أن الدخول لا يكون إلا بعد الفرض، ولو عقد على أن لا يسميا صداقًا لكان الدخول جائزًا قبل الفرض، ويقع الفرض بعد الدخول، ويقضي على الزوج فيه بمهر المثل. قوله: «وإن طلق استحب له أن يمتع» وهذا كما ذكره، وإنما ذلك لتكون المتعة عوضًا من الصداق وتسلية وحشية الطلاق. وقد اختلف الفقهاء في حكم المتعة، والجمهور على أنها مستحبة تمسكًا بمقتضى قوله تعالى: {حقًا على المحسنين} [البقرة: 236] وفي آية أخرى: {حقًا على المتقين} [البقرة: 241] والتقييد يقتضي الاختصاص وينفي الإيجاب، لأن للزوج أن يقول: لست بمحسن، وذكر أنها بحسب الأحوال، والأمر كذلك. قال علماؤنا: أربعة لا متعة لهن: المختلعة، والمخيرة، والملاعنة والمطلقة قبل الدخول وقد فرض لها فحسبها نصف صداقها، وروى عن مالك أن للمخيرة المتعة. قوله: «ومن مات من الزوجين قبل الفرض فبينهما الميراث ولا صداق» وهذه المسألة مشهور بالخلاف، وأصل المذهب الذي لا خلاف فيه أن لها المتعة والميراث ولا صداق لها وهو قول الأوزاعي، وأحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة وأحمد وداود لها الصداق والميراث وهو قول الشافعي، واعتمادًا على حديث بروع بنت واشق، وقال الشافعي: إن ثبت فلا يعول على سواه حكاه المزني عنه، وعول مالك على أن الصداق

عوض وإذا لم يقبض المعوض عنه لم يجب العوض. قوله: «والموت في استقرار الصداق به كالدخول»: هو استئناف حكم لا يرجع إلى المسألة التي قبلها، ولا يتناقض كلام، لأن الموت قبل الفرض لا يوجب نصف الصداق ولا جميعه، فليس كالدخول البتة إلا أن يريد الموت بعد الفرض وقبل الدخول، فهو صحيح. قال القاضي -رحمه الله-: «وصداق المثل معتبر بحالها» إلى آخره. شرح: والأمر في صداق المثل على ما ذكره، ولا خلاف فيه في المذهب فيما أعلمه. ثم تكلم على منع جواز العتق صداقًا، والأصل في هذه المسألة أنه -عليه السلام- أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، فقال مالك: ذلك خاص به -صلى الله عليه وسلم- لكثرة اختصاصه في قاعدة النكاح، وأجازه الشافعي وأحمد وداود وغيرهم، واعتمد مالك على أنها إذا عتقت فقد ملكت نفسها، فلا يلزمها النكاح، قال الشافعي: إن كرهت زواجه غرمت له قيمتها وهو إنما رضي بعتقها بشرط الاستمتاع بها.

قوله: «وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها» قلت: وهذا كما ذكره، وكذلك حكم البائع له منع السلعة إلا بعض قبض ثمنها، ولو اختلفا في تقديم قبض الثمن، أو تقديم السلعة يجري فيه الخلاف المشهور فقيل: يفترقان، وقيل: يقضي على البائع بإقباض المبيع، ثم على المشتري بدفع الثمن، وقيل بالعكس، ولو طاعه بالتسليم قبل قبض الصداق ولم يكن لها رجوع في ذلك. قوله: «وإذا اختلفا في مقدار الصداق» قلت: الاختلاف في الصداق إما أن يقع في مقداره، أو في جنسه، أو في قبضه، أو في أجله. فإن اختلفا في المقدار فلا يخلو أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول ففيه قولان، المشهور التحالف والتفاسح من غير اعتبار بدعوى الأشبه. والقول الثاني: اعتبارًا بالأشبه. فإذا فرعنا على المشهور فمن يبدأ باليمين هل الزوج وهو وراء المشتري، أو الزوجة وهي وراء البائع، فيه قولان: المشهور تبدئة المرأة كالبائع، وإذا حلفا فهل يقع الانفساخ بنفس التحالف، أو لابد في ذلك من حكم الحاكم فيه قولان في المذهب، ولو نكلا معًا، ففسخ النكاح، ثم أرادت المرأة الرجوع إلى قول الزوج وأبي الزوج ذلك، فهل يجبر عليه، لأنه مقتضى إقراره أولًا، لأن العقد الأول لم يتقارا عليه، فلا يؤخذ بمقتضاه فيه قولان في المذهب، وشبهه بعضهم باللعان. فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، فالقول قول الحالف. وإن كان اختلافهما في ذلك بعد الدخول ففيه قولان المشهور: إن القول قول الزوج كالفوت في البيع، والقول الثاني: التحالف والتفاسخ، ويجري صداق المثل في ذلك كالقيمة في المبيعات ويقضي للمرأة به كما يقضي على المشتري برد القيمة مع فوت السلعة. فرع: أبو البكر في اليمين المتوجهة عليه كابنته، لأنه وكيل مفوض إليه متوجه عليه اليمين دون البكر لاسيما إن كانت صغيرة. فرع: إذا ادعت المرأة أنها تزوجها بالعين في عقدتين، وأقامت البينة

على ذلك، لزم العقدان لإمكان أن يتحللها قبل الدخول أو بعده فيه احتمال، وخلاف بين الأشياخ قيل يقدر قبله إلا أن تبين المرأة أنه وقع بعد الدخول، فيستقر لها الصداق، وقيل: يقدر بعد الدخول إلا أن يثبت الزوج خلاف ذلك، فيسقط عنه نصف المهر الأول بوقوع الطلاق قبل الدخول، وأما لو اختلفا في جنسه فقال: تزوجتك على عبد، وقالت: على خادم، فلا يخلو أيضًا أن يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول تحالفا وتفاسخا، وجرى فيه ما ذكرناه من الاختلاف في القدر، وإن كان بعد البناء ففيه خلاف في المذهب، فقيل: القول قول الزوج، وهو اختيار القاضي وأبي الحسن بن القصار وقيل: يرجع في ذلك إلى صداق المثل ما لم يكن أقل مما اعترف به، وأكثر مما ادعت وهو المشهور من المذهب، وقيل: ينظر في ذلك إلى الأشبه ولو اختلفا في التسمية، فادعى أحدهما التسمية، والآخر التفويض، فالأصل التسمية إلا أن ترده العادة، وكذلك لو اختلف في التوقيت، فادعت حلولها وادعى الأجل، فالأصل الحلول إلا أن ترده العادة وأما إذا اختلفا في القبض، فالصحيح القول في المعجل قول الزوج، وفي الكالئ قول المرأة، إذ هو الآن مقتضى العادة، واختلاف الرواية في ذلك مبني على اختلاف العادات، وروي أن ذلك إن كان في عقد صداقها، والقول قولها قبل الدخول، وبعده، لأن الوثيقة شاهدة بالحق. قال القاضي -رحمه الله-: «ويثبت الخيار للزوجين بعيوب» إلى قوله: «وأما العيوب». شرح: الأصل في الرد بهذه العيوب الأصل والمعنى، فأما الأصل فما ثبت أنه -عليه السلام- تزوج امرأة من بني جهينة فوجد بها وضحًا فردها وقال

لأهلها: دلستم علي. وصح عن عمر بن الخطاب أنه قال: (أيما رجل تزوج امرأة وبها جذام أو برص أو قرن فلها صداقها كاملًا، وذلك غرم لزوجها على وليها). وفي طريق آخر عنه أنه قال: (ترد المرأة من أربع الجنون والجذام والبرص، وداء الفرج) قاله بمحضر الصحابة، ولا مخالف له فكان حجة، ومضى عليه العمل، وبه قال الفقهاء السبعة، وفقهاء الأمصار. وأما المعنى فقياس النكاح على البيع، ولما كان العيب في البيوع يوجب خيار الرد أو الإمساك فكذلك النكاح. واختلف الفقهاء بعد ذلك في تفصيل العيوب التي توجب الرد فقال أبو حنيفة والثوري: لا ترد المرأة إلا بعيبين فقط القرن والرتق. والجمهور على أنها ترد من الأربعة المذكورة في الحديث. وقسم العيوب على قسمين مشترك ومختص، فالمختص بالزوج أربعة عيوب: الجب والخصا والعن والاعتراض. أما المجبوب فهو المقطوع ذكره وأنثياه، والخصى هو المقطوع أحدهما. قال الجوهري في الصحاح:

خصيت للفحل خصًا ممدودًا إذا سللت خصييه، والرجل خصى، وموضع القطع مخصي، واختلف في العنين فقيل: هو الذي له ذكر صغير لا يقدر به على الوطء وقيل: هو الذي ذكره لا يتحرك كالأصبع. قال صاحب الصحاح: عن الرجل عن امرأته إذا حكم القاضي عليه بذلك، والاسم من العنة، ورجل عنين لا يريد النساء، وامرأة عنينة لا تريد الرجال ولا تشتهيهم، وكذلك اختلفوا في الحصور، فقيل: هو الممنوع من الوطء فهو فاعل بمعنى مفعول كأنه محصور من الوطء فيرجع معناه إلى معنى الاعتراض، وقيل: هو الذي خلق بغير ذكر، وقد فسر القاضي -رحمه الله- الأربعة عيوب تفسيرًا حسنًا على مقتضى اللغة. وتحصيل القول في هذه العيوب: أنها توجب للمرأة خيار الرد أو البقاء، لأن الوطء مراد لها مطلوب منهما معًا، وهذا إذا حدثت قبل العقد وأما إذا حدثت بعد العقد فهو مصيبة بها لا قيام لها بها. ولو تزوجته عالمة بالعيب، فوطئ مرة، ثم حدث اعتراض أوجب فهل لها القيام لها، لأن المرة الواحدة قد قطعت الخيار. الثاني: أن لها الخيار رفقًا لأصحاب الضرر. وبنى القاضي على المشهور من المذهب في الخصى القائم الذكر الذي يمكنه الوطء دون الإنزال، فجعل لها الخيار في ذلك، لأن الخصى أكمل وطئًا، وفي المذهب قول آخر: أنه ليس بعيب يوجب الخيار، لأن الذكر إذا كان قائمًا يمكن به الوطء دون وجوده. هل هو عيب يوجب الخيار أم لا؟

وفيه قولان في المذهب. واختلف المذهب أيضًا على قولين في هذه العيوب إذ يوم العقد هل توجب الخيار أم لا؟ وفيه قولان في المذهب. قوله: «وأما المعترض فيضرب له أجل سنة» وهو كما ذكره إنما وقع التحديد لتمر عليه الفصول الأربعة مبناهما على ترجيح أحد القولين المتساويين على الآخر للتقابل إلى موجب فيها. واختلف المذهب في أجل العبد في ذلك فقيل: هو كالحر ملاحظة للفصول الأربعة، وذلك متساوي بالنسبة إلى الحر والعبد، والرواية المشهورة أن أجل العبد في ذلك ستة أشهر على الشطر من أجل الحر وهي رواية ابن القاسم في الكتاب. قوله: «والقول قوله: إن ادعى الوطء في السنة» وهذا هو المشهور في البكر والثيب. وقد روى عن مالك أن النساء ينظرن إليها إن كانت بكرًا، لأن هذا الحال ضرورة، فيجوز فيه الاطلاع على العورات، وإذا قلنا: إن القول قوله في دعوى الوطء، فهل لها أن تستحلفه على ذلك أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور أن لها أن تستحلفه رفعًا للدعوى، وقيل القول قوله بغير يمين. فرع: إذا قلنا: إن القول قوله في دعوى الإصابة بيمين، فنكل عن اليمين

فلها الخيار عند انقضاء الأجل، فإن اختارت البقاء معه، ثم أرادت الفراق بعد ذلك، فروى أبو زيد في العتبية عن ابن القاسم أن ذلك لها وهو قول ابن المواز لأن لها أن تقول: رجوت البرء بخلاف الجب والخصى والعنة وغير ذلك مما لا يمكن تغيره كما ذكره القاضي. واختلفوا في فرعين: الأول: هل يتكرر لها ضرب الأجل أم لا؟ وفيه قولان أحدهما: أن الأجل الأول كاف، لأن الرد قد تحقق، ورأى أنه قد تقرر. الثاني: أن يضرب له أجل آخر، وكأنه ابتداء حكم، وهو أظهر. الفرع الثاني: هل لها أن تفارق دون أمر السلطان، أم ليس لها ذلك إلا بأمر السلطان فيه قولان المشهور أنها لا تفارق إلا بأمر السلطان، لأنه أمر مختلف فيه، والحاكم يرجح أحد الطرفين بحكمه، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن لها أن تطلق نفسها مكانها متى شاءت بغير أمر السلطان، لأن الحاكم لما حكم بضرب الأجل أولًا فقد حكم بما يؤول إليه من الطلاق. قوله: «وذلك إذا لم يكن منه وطء قبل الاعتراض» وهذا تقييد لازم كما ذكره لأنه إذا وطئ، ثم اعترض فهو مصيبة نزلت بها لا قيام لها بذلك كما ذكرناه. وذكر في تكميل الصداق روايتين إحداهما: التكميل مطلقًا.

الرواية الثانية: التكميل بشرط طول إقامتها وتلذذه بها قياسًا على مسائل الخلوة وهو اجتهاد محض، ومقتضى النص أن الطلاق قبل المسيس لا يوجب إلا نصف الصداق، وعلل التكميل في الكتاب بأنه قد بلى جهازها وخلق ستورها، وفيه نظر، قال بعض المتأخرين: إن طال مقامه ففي تكميل الصداق بها روايتان: المشهور: التكميل نظرًا إلى ما ذكرناه، والشاذ عدم التكميل نظرًا إلى الأصل، ولو لم يطل ففيه أيضًا قولان المشهور عدم التكميل تمسكًا بالأصل بنص قوله سبحانه: {وإن طلقتموهن من قبل} الآية [البقرة: 237]. قال القاضي -رحمه الله-: «وأما العيوب المختصة بالمرأة» إلى قوله: «وتستحب المتعة». شرح: عيوب الفرج كثيرة، والمعتبر منها في هذا الباب أربعة: الرتق، قال القاضي وما في معناها. قال ابن الجلاب: قرن من صفة القرن والرتق والبخر والإفضاء وهو أن يكون المسلكان واحد، زاد غيره العفن والرتق والقرن، وجمع ابن حبيب هذه العيوب تحت ضابط واحد داء الفرج كل ما كان في الفرج مما يقطع لذة الوطء. وتحصيل القول في عيوب المرأة أن الزوج إما أن يشترط السلامة من عيوبها كلها شرطًا مقصودًا منصوصًا عليه أم لا يشترط ذلك، أو يشكل الأمر، فحينئذ ترد بالعمى والعور والعرج وداء الفرج والزمانة، والسواد، والقرع، والبخر والجرب ونحو ذلك من العيوب المخالفة لمقتضى شرطه، فإن لم يشترط ذلك فله الرد بالعيوب الأربعة المانعة من الوطء والاستمتاع. وإن أشكل الأمر فهل يجعل كالاشتراط فترد بكل عيب، بناء على أن قاعدة النكاح خارجة عن قاعدة المعاوضة قولان بين الأشياخ، قالوا: ولو قالوا صحيحة، العقل والبدن لم يكن شرطًا، لأنه من تلفيق الموثقين، فلو قال سالمة العقل والبدن لكان كالشرط.

وههنا فرع: إذا ادعى الزوج بأن للمرأة عيبًا في الفرج، أو ادعت المرأة على الزوج عيبًا فأنكر. وتحصيل القول في ذلك: إن الأصل السلامة والتمسك بدعواهما هو مقتضى الحكم، إلا أن الروايات في ذلك من المذهب مختلفة فقال ابن حبيب وسحنون وابنه ينظر إليها النساء إذا ادعى الزوج بأن بها عيبًا في الفرج، وقال ابن القاسم القول قولها، ولا ينظر إليها النساء تمسكًا بما ذكرناه من حكم الأصل، ولو ادعت هي عليه فأنكر فهو مصدق. وقال ابن حبيب: أما الحصور والممسوح الذكر والأنثيين، أو الذكر خاصة فيعتبر بالجس على الثوب، ولو ادعت أنه عنين، أو معترض فأنكر فهو مصدق، ونزلت بالمدينة، فأفتى مالك وعبد العزيز بن الماجشون بذلك. فرع: إذا اطلع الزوج على عيب بعد العقد، فادعى أنه كان سابقًا على العقد فعليه البينة، لأنه يريد الفسخ للعقد الثابت المقرر المستصحب حكمًا. وقال ابن حبيب: إن كان الولي أبًا أو أخًا فعليهما يمين، لأنهما ممن يظن به أن يعلم على ذلك غالبًا. وإن كان بعيدًا ممن لا يظن به العلم فاليمين على المرأة، وهذا اليمين لا فائدة لها إلا التداعي في الصداق وهو مال. قوله: «وإن طلق فلا شيء عليه»: لأنه فسخ اقتضته الأحكام، وحكم بالتخيير فيه للإمام. قوله: «وأما المشتركة فالجنون والجذام والبرص» والأمر كما ذكره،

وهذه العيوب مانعة من كمال لذة الوطء، لأن من أصله، فالجنون هو ذهاب العقل بصرع، أو وسواس، فإن كان مطبقًا في جميع أحواله، أو هو نادر في أوقات قليلة، فانظر هل يعتبر أم لا؟ وعموم الروايات أنه عيب من غير تفصيل واعتبار الأغلب منه دون إيقاع النادر، وكذلك نص الروايات في الجذام أنه عيب قليلًا كان أو كثيرًا، لأنه أقرب إلى العود. واختلف المذهب في البرص وتحصيل القول فيه أنها ترد من البرص الكثير لتحقق الضرر به، وتأدية الزوج هذا مشهور الروايات، واختلفت الروايات في القليل، فروى عن مالك ما سمعت إلا في الحديث ولم يفرق بين قليل ولا كثير، وروى عن ابن القاسم أن البرص بالفرج لا يثبت الخيار، وإن كان شديدًا. وروى عنه عيسى أنه لا يرد بالبرص الخفيف بخلاف ما فيه ضرر مما لا يصبر على المقام عليه، وروى عن ابن القاسم رواية ثالثة في الزوجة أنها ترد من قليله إلا أن يعلم أنه لا يزيد، وسوى ابن عبد الحكم بين الرجل والمرأة بالبرص وهو الأصح من روايات ابن القاسم، وروى أشهب أن برص الرجل لا يثبت به الخيار للزوجة وإن غرها. وأصل القاضي على ظاهر الروايات حيث أطلق من غير تقييد، وهو مقتضى نص الخبر الثابت في القاعدة، ولا مهر لها إن اختارت أو اختار الفسخ قبل الدخول لأن بضعها بيدها وسلعتها معها، فإن وقع الدخول وجب لها الصداق، لأن سلعتها قبل فاتت عليها، والنظر بعد هذا في الرجوع به. وتحصيل القول فيه: أنها إما أن يكون منها الغرر أو من وليها، فإن كان الغرر منها رجع عليها بعد دفعه إليها ولم يترك لها منه سوى ربع دينار عوضًا عن الاستباحة الشرعية. واختلف المذهب إذا غرته بعيب فلم يعلم به إلا بعد موتها، أو طلاقها، أو اختلاعها منه أو غيرها، فلم تعلم إلا بعد ذلك، فهل يقع الرجوع أم لا؟ فيه قولان المشهور ألا رجوع على المعيب

منهما بما أخذ، ولو مات أحدهما توارثا، وكان لها الصداق، قاله مالك في الواضحة وكتاب محمد. وقال سحنون: يتراجعان فيما بينهما، وللزوج أيضًا أن يرجع على من غره ولو بعد الموت والطلاق والخلع والأول أشهر، وكأنه جعله من باب التفويض. وقال سحنون: أصح في القياس لأنه حق أوجبته الأحكام فلا يتغير، وأما إن كان الغرر من قبل الولي فلا يخلو أن يكون قريبًا ممن يظن به علم ذلك كالأب والأخ ونحوهما، أو بعيدًا كابن العم والمولى والرجل من العشيرة، فإن كان قريبًا يظن به علم ذلك فلا يخلو أن يكون غرره بالقول أو بالفعل فإن كان بالفعل فقولان المشهور اللزوم والرجوع عليه، وقيل: لا يرجع عليه، وإن غر بقوله لا بفعله فقولان: أحدهما: لا يرجع عليه، والثاني: يرجع عليه وهو ظاهر الروايات، واختلف في فروع: الأول: إذا كان قريبًا ممن يظن به علم بحيث يعلم أنه يخفى خبرها، فالمشهور عن مالك أنه لا غرم عليه وهو رواية ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم عنه، وروى أشهب أن عليه الغرم، وإن كان غائبًا لا يعلم وهو بعيد في النظر، وهل يستحلفه الزوج على نفي العلم فيه قولان، فروى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه يحلف بالله أنه ما علم به، وقيل: لا يحلف ومبناه على الخلاف في أيمان التهم. الفرع الثاني: إذا حلف الولي القريب الغيبة على نفي العلم على مقتضى رواية ابن حبيب عن ابن القاسم، ففي رجوع الزوج على الزوجة بعد أن استحلف الولي روايتان أحدهما: أنه يرجع عليها لأن يمينه لا يقتضي إسقاط حقه عنها بل عن الولي روايتان أحدهما: أنه يرجع عليها لأن يمينه لا يقتضي إسقاط حقه عنها بل عن الولي فقط، وقيل: لا يرجع، لأنه حق قد استحلف على أصله. الفرع الثالث: إذا كان له الرجوع على الولي فكان فقيرًا، هل يرجع على الزوجة إن كانت موسرة بناء على أنهما غريمان أم لا؟ بناء على أن الولي هو الغار فهو الغريم، حقيقة فيه قولان، وكذلك اختلف هل يتبع أولهما أو

أيسر، أو يطلب يسر الولي الغار فقط، فيه قولان عندنا مبنيان على ما ذكرناه هل هما غريمان أم لا؟ وأما إن كان الولي بعيدًا كابن العم، والرجل من العشيرة والمولى، فلا يرجع الزوج عليه، ويرجع على الزوجة، ويترك لها ربع دينار، وإذا وجب له الرجوع على الولي حيث يوجبوه، فهل يترك الزوج له ربع دينار أم لا؟ فيه قولان، فقيل: يترك كما يترك للزوجة ملاحظة لعوض الاستباحة، وقيل: لا يترك، لأن عوض الاستباحة حاصل للزوج وجوب الغرم على الولي أمر اقتضته الأحكام من جهة الغرور وهل للزوج أن يستحلف الولي الأبعد الذي لا رجوع له عليه على نفي العلم أم لا؟ قال ابن المواز: لا يمين له عليه، وقال ابن حبيب إن اتهم، وإلا فلا شيء عليه، فإذا غرم الولي بسبب غروره، فانظر هل يرجع الولي على الزوجة أم لا؟ ومقتضى القياس أنه يرجع ويترك لها ربع دينار فقط، لأن معوضها لا يستحق عوضًا. قوله: «ولا خيار له فيما سوى ذلك من العيوب» هذا كما ذكره إذا لم يشترط السلامة من العيوب كلها شرطًا مقصودًا صريحًا، فإن اشترط ذلك وجب الوفاء بشرطه كما قدمناه. قال القاضي -رحمه الله-: «وتستحب المتعة لكل مطلقة إلى قوله: ونكاح المريض». شرح: قد تقدم الكلام في هذا الفصل بما يغني عن إعادته فأشبه الرجعة إن لم يرتجع فإن ارتجع قبل انقضاء العدة فلا متعة لها، ولو كان الطلاق بائنًا فهي إذا كان لها المتعة، فهذا نص الروايات. قوله: «وتجب النفقة للزوجة بالعقد والتمكين» إلى آخره. النفقة على

الزوجات بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب {لينفق ذو سعة من سعته} الآية [الطلاق: 7]. وقال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن} الآية [البقرة: 233]، وأما السنة فقوله -عليه السلام- لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) والأحاديث في ذلك كثيرة، والإجماع منعقد عليه، لأنه من الحقوق المقتضاة، وبإمكان الاستمتاع بمثلها، أما التمكين فاحترازًا من الناشز، وقد اختلف العلماء في وجوب النفقة على الناشز، وفي المذهب في ذلك قولان أحدهما: وجوب النفقة لها، والثاني: سقوطه، وتحصيل القول في ذلك: أن المرأة إما أن يظهر منها التمكن أو الاستمتاع، أو أشكل الأمر ولا يظهر منها تمكن ولا امتناع، استحقت النفقة لشرطها على خلاف، وإن أظهرت الامتناع وعدم التمكن فلا نفقة لها، وإن لم يظهر منها تمكين ولا امتناع فهل يتنزل منزلة المتمكنة أو الممتنعة فيه قولان في المذهب المشهور: الامتناع بعد التمكن، والمشهور من المذهب سقوط النفقة بالنشوز بعد التمكن إجراء لها مجرى المعاوضة، لأنها إنما وجبت عوضًا عن الاستمتاع فقط فيسقط بالمنع منه، ومن رأى أنها مستحقة بالزوجية وهي ثابتة أوجبها كوجوبها للمريضة والمجنونة، والنشوز منع الوطء والاستمتاع، والخروج بغير إذنه نشوز. قال في كتاب محمد: إذا أسخطت المرأة فخرجت بغير إذنه وأبت أن ترجع وأبى أن ينفق عليها حتى ترجع فأنفقت من عندها. قال مالك: فلها إتباعه بالنفقة وهذا يدل على وجوب النفقة للناشز، وكذلك إذا حلف بطلاقها إن أرسل إليها حتى تأتي بنفسها فعليه النفقة ما أقامت، وهذا يدل على وجوب النفقة للناشز، لأن له أن ينقلها كرهًا، واختار اللخمي إذا عجز عن ردها فلا نفقة.

وأما البلوغ فاحترازًا من الصغير، وتحصيل القول فيه: أنهما إن كانا بالغين وجبت النفقة، وإن كانا غير بالغين ولا مطيقين للوطء البتة لصغرهما فلا نفقة، وإن بلغ ولم تبلغ، فإما أن تطيق الوطء، أو لا، وإن لم تطق الوطء فلا نفقة لها البتة، وإن طاقت على الوطء فلها النفقة. وإن بلغت الحلم ولا القدرة على الوطء فلا نفقة عليه وإن كان قادرًا على الوطء، وجبت عليه النفقة وإن لم يحتلم. قوله: «وإمكان الاستمتاع» تحرزًا من المريضة التي بلغت السياق ونحوها مما لا يمكن الاستمتاع، ففي وجوب النفقة لها خلاف، المشهور وجوبها، واستحسان سقوطها بناء على تحقيق معنى المعاوض. قوله: «والاعتبار بحالهما» فهذا مذهب مالك في النوع والقدر والزمان ستة أشهر والجمعة للجمعة وهو ما ينوي. وروى أنه قدر بالمد، وقدر غيره من أصحابه بالمد والثلث. وروى عن ابن القاسم أنه قال: يفرض لها في الشهر وبيتان ونصف إلى ثلاثة وبيات، قال ابن حبيبة: والويبة اثنان وعشرون مدًا بمد النبي -عليه السلام-، والمد المعتبر عند الجمهور الوسط من الشبع من البر أو الشعير أو الذرة أو التمر على حسب الأحوال، والأشخاص، وبحسب اختلاف البلدان، وكذلك يفرض لها من القوت والإدام ما لا يستغنى عنه، وكذلك آلات الطبخ مما لا يستغنى عنه. قال علماء المالكية: الواجب على الزوج للزوجة حقوق الطعام والإدام ونفقة الخادم لمن

يستحق منصبها الخدمة والكسوة والآلات النظيفة كالحناء والمشط والكحل والسكنى، ويزاد على المهر بقدر ما يحتمل حاله، وعلى الجملة فالمقصود من ذلك ما يقيم الاو .... في حق المعسر، وهل يقضى على الموسر بالزائد على مقار القوت أم لا؟ فيه قولان المشهور اختبار ذلك. قوله: «ويخدمها كفايتها» وهذا هو المشهور إذا كانت ممن لا يخدم مثلها، وإذا كان معسرًا فليس عليه إخدامها، وإن كانت ذات قدر وشرف، وعليه الخدمة الباطنة كالعجين والطبخ والكنس والفرش وعمل البيت كله، واستقاء الماء إذا كان معها، وهل يقضى عليها بلباسها الحرير، إن كانت مما يليق بها أم لا المنصوص أنه لا يلزم. وقال ابن القصار: يلزم إذا اقتضاه الحال، وهل يقضى عليه بخادمين فأكثر إذا كان حالهما يقتضي ذلك أم لا؟ فيه قولان، فقيل: يقضى عليه بذلك، وهي رواية أصبغ، وروى سحنون عنه أنه لا يفرض لها إلا نفقة خادم واحد. قال أصبغ: ولو ارتفع قدرها جدًا مثل بنت السلطان الأعظم لرأيت أن يزاد في عدد الخادم إلى الأربع والخمس ويلزم الزوج الإنفاق عليهن، وإخراج زكاة الفطر عنهن، وهل تطلق عليها بالإعسار الخادم قياسًا على النفقة أم لا؟ قولان فيه، المشهور أنها لا تطلق لذلك، والشاذ أنها تطلق لأنهما من باب واحد في اللزوم. قوله: «إلا أن تتزوجه عالمة بفقره، وأنه متكفف لا مال له» وهذا كما ذكره، وفي هذه الصورة قولان: المشهور أن لها القيام وإن دخلت على فقره لما ترجوه من انتقال حاله، والثاني: أنه ليس لها ذلك، إذ قد رضيت به أولًا.

فرع: هل يجوز له أخذ الثمن من الطعام أم لا؟ فيه قولان، أحدهما: المنع، لأنه من بيع الطعام قبل قبضه، والثاني: الجواز، لأنه معروف فجاز فيه ذلك كالطعام الثابت من قرض. فرع: إذا خاصمت المرأة زوجها فأبى إلا مقاصتها بذلك من دين له عليها لزمها ذلك إن كانت موسرة، وإن كانت معسرة لم يلزمها ذلك. قوله: «ولها في غير ذلك أن تفارقه مع الإعسار» قلت: الأصل في ذلك قوله النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والزوجة تقول له أنفق علي أو طلقني) الحديث. واختلفوا في ضبط العجز عن النفقة الذي به يكون الطلاق لها. وتحصيل القول فيه: أن العجز عن القوت مطلقًا، أو ما يسد مسدها، ويبقى رمقًا يوجب للمرأة، واختلفوا في قدر ما يسد الرمق، هل يقع لها الخيار مع وجود القدرة عليه على قولين حكاهما الإمام وغيره. قال ابن حبيب: إذا لم يعجز عن الخبز وحده، وما يواري عورتها من غليظ الكتان لم يفرق بينهما غنية كانت أو فقيرة شريفة، أو وضيعة. قوله: «بعد ضرب الأجل» اختلفوا في مقدار التلوم. فقال أصبغ: إن لم يطمع له بمال فالشهر، وإن طمع له بمال فأكثر من ذلك. وقال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب الشهر والشهرين. وقال محمد بن المواز: الذي عليه أصحاب مالك في ذلك الشهر ونحوه. وفي المبسوط يؤخر اليوم ونحوه مما لا يضر بها في الجوع، وقيل: يضرب لها الإمام من غير تحديد،

وهذا هو الأصح، وهو بحسب اجتهاد الحاكم في حال الزوج، ولا تطلق عليه عن النفقة لما مضى من الزمان، لأن ذلك من الديون المستقرة في ذمته، وكذلك لا تطلق من الصداق بعد الدخول ولو أعسر به قبل الدخول لكان لها أن تطلق نفسها بعد تلوم السنة والسنتين بحسب حاله إذا أجرى النفقة، وإن لم يقدر على إجراء الإنفاق فالشهر ونحوه. قوله: «وطلاقه رجعي» قلت: إنما وقع بسبب فينتفي بانتفائه، والرجعة موقوفة على اليسر وله الرجعة بوجود ما لو وجده أولًا لم تطلق عليه، فمن كان حاله يقتضي أن يفرض عليه الشهر بالشهرين رجع إذا أيسر بوجود نفقة الشهر، وكذلك من وجد نفقة الجمعة إذا كان حاله يقتضي ذلك، وكذلك إذا لم يجد إلا عيش يوم أو يومين، فله الرجعة إلا أن يكون ممن لا يفرض عليه ذلك. واختلفوا هل تطلق الزوجة على زوجها الغائب الذي لا يوجد له مال ينفق عليها منه أم لا؟ على قولين للمتأخرين: المشهور أنها تطلق رفعًا للضرر وهو أصل المذهب. قال الشيخ أبو الحسن: لا يفرق على الغائب لأنه لم يستوف حجته. قال القاضي -رحمه الله-: «ونكاح المريض المخوف عليه» إلى قوله: «وأما الصهر». شرح: اختلف المذهب في نكاح المريض والمريضة على ثلاثة أقوال: المشهور أنه غير جائز، وروى مطرف عن مالك إجازة ذلك جملة من غير تفصيل، والقول الثالث التفصيل، فإن دعته إلى ذلك ضرورة، واقتضته الحاجة وإلا فلا. وسبب الخلاف أصلان، الأول: اختلافهم هل النكاح من باب الترفهات منعه، لأن في ذلك إدخال وارث، ولذلك منعنا نكاح المريض، وقلنا: إن

طلاقه له يقطع الميراث جملة من غير تفصيل، والأصل الثاني: أن الصداق لا يعلم هل يستحق من الثلث أو من رأس المال. وإذا فرعنا على ما قلناه، فهل يكون الصداق من رأس المال، أو من الثلث، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من رأس المال كضروراته التي يحتاج إليها من النفقة على نفسه في مرضه. الثاني: أنه من الثلث كالوصايا. الثالث: أن الصداق المثل منه من أصل المال، والزائد على ذلك وصية فجعلت الثلث، ولهذا اختلفوا إذا تزوج هل يبدأ الزوج بصداقها إذا طلق من الثلث أم لا؟ وفيه قولان، فقيل: يبدأ لأنه عوض عن استهلاك البضع وقيل: لا يبدأ إجراء له مجرى الوصايا المتساوية. وحكى الشيخ أبو عمران إجماع أصحابنا على أن الصداق من الثلث. وحكى الشيخ أبو الحسن عن المقبري أنه من رأس المال. ووقع في كتاب المقبري أنه من الثلث، فنقل الشيخ أبو الحسن عنه في ذلك مضطرب. وحكى بعض الأشياخ أن يكون ربع دينار منه رأس المال، وما زاد فيزاد عليه من الثلث فاختاره أبو محمد عبد الحق. وإذا قلنا بإبطاله فلا صداق لها ما لم تدخل، فإن دخل بها فلها المسمى إن كان صداق مثلها، والمشهور أن لها المسمى كاملًا مطلقًا، وهو قول مالك وأكثر أصحابه من الثلث لا من رأس المال كما ذكرنا احتياطًا على الورثة، ولهذا اختلفوا إذا تزوج في مرضه من لا يرث كالأمة، النصرانية، واليهودية، فقال: لا يصح ذلك لوجهين. الأول: طرد القاعدة فلا تنقض بالصور النادرة. الثاني: اعتبار

الطوارئ لجواز تغيير حالهما بالإسلام والعتق، وقيل: يصح نكاحه لهاتين نظرًا إلى العلة، وتغليبًا لحق الورثة لأنه ليس العقدة، وقد خرج الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو محمد وغيرهما الخلاف فيه هل هو فاسد لعقده، أو لحق الورثة على روايتين، وثمرة ذلك إذا صح قبل الفسخ، فقال ابن القاسم: هو صحيح لا يفسخ، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: يفسخ وهو قول ابن عبد الحكم، وفي رواية أخرى عن ابن القاسم مبنية على ما ذكرناه، وحكى القاضي في التلقين روايتين. قوله: «ولا نكاح المولى عليه إلا بإذن وليه» يعني: المحجور، لأن ذلك نظر في مال وبضع، والمحجور معزول عن النظر في ذلك، وقد ذكرنا الخلاف في البالغ السفيه هل يجيره أبوه، أو وصيه، على النكاح أم لا؟ والمشهور أنه يجبر وقال عبد الملك: لا يزوجه من ولي عليه إلا برضاه. فرع: لو تزوج اليتيم بغير إذن وليه، فالولي بالخيار بين الإجازة والفسخ، فإن لم يعلم وليه حتى مات أحدهما، فهل يقع التوريث بينهما أم لا؟ فيه خلاف، فروى أصبغ عن ابن القاسم أنهما يتوارثان ويمضي الصداق، لأن النظر قد فات بالميراث، وقيل: لا يتوارثان وترد ما أخذت من الصداق، واختلفوا هل يترك لها ربع دينار لاستحلال البضع أم لا، حفظًا لمال المحجور عليه، وروى عن ابن القاسم أنه إن مات المحجور عليه فلا ميراث لها منه، وإن ماتت الزوجة فالخيار للولي أن يجيز النكاح، فيستحق الميراث، ويغرم عنه الصداق، أو يرد النكاح، ولا ميراث ولا صداق حينئذ، وهو قول

مطرف، وابن الماجشون. وروى عن أصبغ أنه إن مات الزوج وردت كل ما أعطاها إلا ربع دينار أصابها، ولم ترثه، وقيل: يزاد الشريفة على ربع دينار أصابها بحسب الاجتهاد، وروى ذلك عن ابن القاسم. قوله: «ولا يجوز استباحة الفرج في الشرع» إلى قوله: «وأما الصهر» وهذا كما ذكره والانحصار في الوجهين إجماع، وكلام القاضي في هذا التقسيم جامع. قوله: «إلى غير المرأة» فيه تجوز، لأن الحكم لا يعلق بالأعيان بل لمعان فيها، فقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] إشارة إلى تحريم فعل فيها هو الوطء أو نحوه من أنواع المحرمات، فإذا أضيف الحكم إلى العين فهو في المعنى متعلق بمعنى في العين، وكذلك قول الشارع حرمت الخمر، فالمراد شربها، والانتفاع بها، وقد قيل في هذا النوع من الخطاب أنه مجمل، والصحيح خلاف ذلك، ثم تكلم على الأعيان السبع. قوله: «فتدخل في ذلك الأم دينة وأمهاتها» هو إشارة إلى إطلاق اللفظ لغة أو شرعًا، ولهذا انعقد الإجماع على أنها إذا ولدت من الزنا لم يحل لها نكاح ولدها لغة وشرعًا. وقوله: «والبنت اسم لكل أنثى لها عليها ولادة» وهذا كما ذكره ثابت بالإجماع في ابنة الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن، وإنما اختلف العلماء في نكاح الزاني للمخلوقة من مائة فالمشهور من مذهب مالك أن نكاحه لها حرام. وأجازه عبد الملك بن الماجشون وحكاه القاضي أبو الحسن بن القصار، وقال سحنون: قول ابن الماجشون خطأ صراح، وما علمت من قاله من أصحابنا اعتمادًا على ما ذكرنا من أن الأم في الزنا أو ولدها أخوها، وسيجيء الكلام في الزاني بأم المرأة هل يقتضي فراق المرأة أم لا؟

قوله: «وأما الرضاع فإنه يكسب من وجوبه من الاسم ما يكسبه النسب» وهذا كما ذكره لقوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23] وقوله -عليه السلام-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). قال القاضي -رحمه الله-: «وأما الصهر فأربعة» إلى قوله: «وأما التحريم». شرح: التحريم بالصهر ثابت في هذه الأربعة بإجماع المسلمين، أم المرأة والأصل في ذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم} [النساء: 22] وحليلة الابن والأصل فيه قوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء: 23] وإنما قيد سبحانه بالوصف تحرزًا من ادعائه بالتبني، وقد فصل القاضي الكلام في ذلك فنتبعه. قوله: «فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح»: أجمع المسلمون على تحريم الاثنين من هؤلاء الأربع بنفس العقد وهما: زوجات الآباء والأبناء تمسكًا بمقتضى اللفظ لقوله تعالى: {ولا تنحكوا ما نكح} والمراد به العقد كقوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب: 49] وقوله: {وحلائل أبنائكم} وهي بالعقد تسمى حليلة، وأجمعوا على أن البنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم اعتبارًا باشتراطه في نص الآية، واختلفوا في الأم، فذهب فقهاء الأمصار على أن العقد على البنت يرحم الأم. وروي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس أن الأم لا تحرم إلا بالدخول بالبنت كالبنت التي لا تحرم إلا بالدخول بالأم، وسبب الخلاف اختلافهم في التقييد بالوصف هل يعود إلى المتقدم أو إلى المتأخر وهو أقرب مذكور. قال

تعالى: {من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] هل يعود هذا التقييد بالوصف إلى البنات فقط، أو على البنات والأمهات هذا مورد الخلاف والجمهور على أنه يعود إلى الأخير لأنه أقرب، ويؤيده ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أيما رجل نكح امرأة ودخل أو لم يدخل فلا تحل له أمها). قوله: «بمجرد العقد الصحيح» تحرزًا من العقد الفاسد. وتحصيل القول في العقد الفاسد لا يخلو أن يكون مجمعًا على فساده أو مختلفًا فيه، فإن كان مجمعًا على فساده كنحاح الخامسة، والنكاح في العدة، ونكاح التحليل، ونكاح السر ونحو ذلك. ففي المذهب قولان: المشهور أن التحريم لا يقع به، وهو مذهب مالك ورواية ابن القاسم. والقول الثاني: وقوع التحريم به مراعاة للعقد، وإذا وقع التحريم بالزنا على أحد القولين فالعقد ( ... ) لعقود الشريعة أو بالتحريم، وإن كان مختلفًا في فساده، وقد وقع التحريم. قال ابن القاسم: كل نكاح لم يكن حرامًا في كتاب الله -عز وجل- ولا حرمه رسول الله، وقد اختلف الناس فيه، فهو عنده يحرم كما يحرم النكاح الصحيح الذي لا اختلاف فيه وهو الذي سمعت عمن ارتضي، قلت: وهذا الكلام يقتضي وقوع الخلاف فيه حينئذ، وأجرى أبو الحسن اللخمي الخلاف فيه

فمنهم من أوقع التحريم، ومنهم من لم يوقعه، والمذهب ما ذكرناه. قوله: «في الدخول وما دونه» قتل: لا خلاف أن الوطء ينشر الحرمة، وأما مقدمات الوطء إن كان للذة من بالغ فلا خلاف عندنا أنها كالوطء اعتبارًا بالمعنى لأن التلذذ بما دون الوطء في معنى الوطء إذ لا مقصود من الوطء للذة، وهي حاصلة في المقدمات فإن كانت لغير لذة فإنها لا تنشر الحرمة. واختلف المذهب في فروع، من ذلك اللمس إذا كان للذة من الرجل البالغ هل تنشر الحرمة أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور وقوع الحرمة. وقال داود والشافعي والمزني وجماعة من أهل العلم: لا يحرمها إلا الوطء وقوفًا مع النص. قوله: «استمتاعًا مباحًا أو بشبهة» أما الاستمتاع المباح فظاهر وهو المستحق بالعقد الصحيح، قوله: «أو بشبهة» يحتمل أمرين: الأول: إشارة إلى الاستمتاع في العقد المكروه المختلف في فساده الذي بقيت بالدخول، وقد قدمنا حكمه. الثاني: أن يكون إشارة إلى الوطء بالأشباه، فإنه يحرم. قال الشيخ أبو عمران: نعلم خلافًا بين أصحابنا في وطء الشبهة أنه يحرم إلا ما روى عن سحنون فيمن مد يده إلى زوجته في الليل فوقعت على ابنته منها غالطًا أن ذلك لا يحرم زوجته. قوله: «وفي محض الزنا روايتان»: فمذهب الموطأ لا يحرم وهو قول الشافعي، ومذهب المدونة أنه يحرم وهو قول أبي حنيفة والثوري

والأوزاعي. قال سحنون: أصحاب مالك إلا ابن القاسم على ما في الموطأ وليس بينهم فيه خلاف وهو عندهم. قال ابن القاسم: قال لنا مالك فيمن زنى بأم امرأته فارقها ولا يقيم عليها. واختلف الأشياخ هل يحمل الأمر بالفراق على الإيجاب أو على الاستحباب. وسبب الخلاف في هذه المسألة مراعاة الدلالة اللغوية، أو الدلالة الشرعية قال: لا يحرم إذ لا يسمى نكاحها شرعًا. فرع: إذا وطئ امرأة مكرهًا هل تنشر الحرمة بوطئه ذلك أم لا؟ قال الإمام أبو عبد الله: حكم هذه المسألة يتخرج الخلاف في وطء المكره هل يعد زنا فيحد فيه أو لا يعد زنا فيسقط عنه الحد إجراء مجرى الغلط وقد وقعت هذه المسألة بالفقيه أبي بكر بن التبان وذلك أنه أراد وطء زوجته فوقعت يده على ابنتها، فالتذ. وقد اختلف الأشياخ في حكم هذه المسألة حين وقعت، واختلف المتقدمون أيضًا فيها. وذهب الليث بن سعيد، وابن سحنون وأبو القاسم الطائي وأبو سعيد بن أبي هشام، وأبو القاسم بن شبلون إلى أن ذلك لا يحرم عليه زوجته، وذهب غيرهم إلى أن

ذلك يحرم عليه زوجته وهو اختيار أبي إسحاق بن شعبان والشيخ أبي الحسن القابسي والشيخ أبي عمران وأبو بكر عبد الرحمن، وأبي الحسن التونسي وأبي حفص القطاني، وأبي القاسم السيوري وأبي بكر بن التبان والشيخ عبد الحميد وغيرهم من الأشياخ، وعن الشيخ أبي محمد بن زيد روايتان في هذه المسألة التحريم ونفيه، وروى عن الشيخ أبي الحسن القابسي والشيخ أبي عمر أنه يؤمر باجتناب الزوجة ومفارقتها على وجه الاستحباب لا على معنى الإيجاب، وقد ألف الإمام أبو عبد الله المازري في ذلك جزءًا سماه: «كشف الغطا عن لمس الخطأ» واختار فيه أن الزوجة لا تحرم عليه، واحتج عليه بأنه لا رافع للحد المستصحب في الزوجة إلا آية التحريم للمصاهرة وهي لا تناول البنت من نسائه في الحال كالزوجة ولا يصلح كالأجنبية هذا نص الإمام أبي عبد الله. وعول الآخرون القائلون بانتشار الحرمة على التحريم بالزنا، وأنه ينشر من الحرمة على مذهب المدونة ما ينشره الوطء الصحيح، فقاسوا الوطء الأشبه على وطء الزنا، ومنهم من قاس ذلك على انتشار الحرمة بشبهة العقد، ومن الأشياخ من وقف في هذه المسألة، ولم يحكم بتحريم ولا تحليل، من الوطء المختلف فيه هل ينشر

الحرمة أم لا؟ مثل: أن يعبث الإنسان بربيبته أو بابنته، ففي انتشار الحرمة بذلك قولان مبنيان على انتشار الحرمة بوطء الحرام المحض. فقال الإمام أبو بكر بن المنذر: اتفقوا على الوطء بملك اليمين يحرم من ذكر ما يحرم بالنكاح. قوله: «سواء كانت الربيبة في حجر المتزوج أمها أم لا» وهذا مذهب مالك كما ذكره خلافًا لداود احتجاجًا بظاهر التقييد بالوصف في قوله تعالى: {في حجوركم} وقال الجمهور وهو خطاب خرج عن الغالب فلا مفهوم له. قوله: «وأما اللعان فيحرم على التأبيد» وهذا هو المشهور من المذهب. وروى الأبهري أن فراق اللعان كثلاث تطليقات تحل بعد زوج. قوله: «وكذلك وطء المتزوجة في عدة بنكاح أو ملك» وهذا هو أيضًا المشهور في المذهب وفيه عندنا أربعة أقوال في المذهب، الأول: التحريم وإن لم يطأها. الثاني: لا تحريم وإن وطئ. الثالث: التحريم إن وطئ. قال القاضي -رحمه الله-: «وأما التحريم غير التأبيد» إلى آخر الفصل. شرح: ذكر في هذه المسألة ستة عشر قسمًا، الأول: أن تكون المرأة ذات زوج وهذا تبين في التحريم. الثاني: أن تكون في عدة، والتحريم أيضًا في هذه الصورة بين لما يؤدي الحال في ذلك من اختلاف الأنساب المناقض لحكم الشريعة. الثالث: أن تكون مستبرأة من غير الناكح، وقع فيه روايتان: أحدهما: مستبرأة مأخوذ من الاستبراء الذي هو فسخ العدة والعقد على المستبرأة كالعقد على المعتدات سواء في التحريم. والرواية الثانية: مستبرأة

مأخوذ من الريبة، وحكم المستبرأة انتظار زوال الريبة، وسنفصل ذلك بعد. قوله: «من غير الناكح»: تقييد لازم، لأن استبراءها من غير الناكح مظنة لاختلاط الأنساب. وأما الناكح فالماء ماؤه أولًا وآخرًا. قوله: «أو حاملًا حملًا لا يلحق به» يريد لا يلحق بالناكح، لأنه ليس له. قوله: «كان لاحقًا بالواطئ»: يريد إذا كان الوطء مما يلحق فيه النسب بنكاح أو ملك وغير لاحق كالزنا. الرابع: أن يكون أحدهما مرتدًا وهو كما ذكره لأن ارتداد أحد الزوجين سبب فسخ النكاح، ووقوع التحريم. واختلف المذهب هل يفسخ بطلاق ولو ارتد إلى دين زوجته اليهودية أو النصرانية. قال ابن القاسم: تقع الحرمة بينهما كما لو كانت مسلمة. وقال أصبغ: لا يخلي بينه وبينها ولا تحرم عليه إن عاد إلى الإسلام، ولو رفع زوجته المسلمة إلى الحاكم، وادعى أنها ارتدت وأنكرت قضى عليه بالفراق لمقتضى إقراره. قاله سحنون، واختلف إذا رجع المرتد إلى الإسلام وزوجته في عدتها فقال ابن الماجشون، وسحنون، والمخزومي: هو أحق بها كالمشرك. وقال ابن القاسم: لا رجعة له البتة. الخامس: أن تكون المرأة كافرة غير كتابية وهذا لأن نكاح الكافرة غير الكتابية لا يجوز، فإذا كان العقد على ما لم يترتب عليه مقتضاه. السادس: أن يكون الرجل كافرًا بأي أنواع الكفر كان لا يحل له وطء المسلمة مطلقًا لا بنكاح ولا بملك يمين. السابع: أن تكون أمة كافرة وهذا كما ذكره لأن نكاح إماء الكوافر لا يجوز لقوله تعالى: {من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25]. الثامن: أن يكون في حال الإحرام لقوله -عليه السلام-: (لا ينكح المحرم ولا ينكح). وهذا القسم قد اختلف فيه العلماء لاختلاف الآثار فيه، ومن عول على الحديث الذي قدمناه منعه

النكاح، ومن عول على ما روى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تزوج ميمونة وهو محرم) أجازه العقد وهو قول أبي حنيفة، وروى أنه -عليه السلام- تزوجها وهو حلال. التاسع: أن تكون المرأة أمته أو أمة ولده. العاشر: أن يكون الرجل العبد للمرأة أو لولدها، والأمر في هذين القسمين ظاهر، لأن الملك والنكاح لا يجتمعان، فإذا كانت أمة وطئها بالملك وإذا كان عبدًا لها انفسخ النكاح لأنها تطلبه بحكم الزوجية وهو يطلبها بحكم العبودية وأمة الولد الصغير كأمته في ذلك، وانظر هل الكبير كالصغير إذ لا يجد في وطئه، أو ليس كذلك، لأنه ابن مستقل بنفسه. الحادي عشر: إن نكاح الحر الأمة بغير شرط الإباحة على الأشهر من المذهب في أن الإباحة موقوفة على الشرطين وقد تقدم. الثاني عشر: أن يكون جامعًا بين أكثر من أربع. الثالث عشر: أن يكون عنده من ذوات محارمه ممن لا يجوز الجمع بينها وبينها وهذا راجع إلى صفة العقد وسنذكره بعد. الرابع عشر: أن يكون أحدهما مريضًا وقد قدمنا الكلام في نكاح المريض. الخامس عشر: نكاح من ركنت إلى غيره لقوله -عليه السلام-: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) وهذا أيضًا راجع إلى صفة العقد، ويجوز أن يرجع إلى صفة الزوجة. السادس عشر: أن يكون العقد يوم الجمعة والإمام على المنبر وهذا خارج على الضابطين الأولين لأن الفساد فيه من جهة الزمان لورود النهي عن البيع حينئذ، وفي معنى البيع جميع المشغلات وإن رددناه إلى أحد الضابطين ففيه مسامحة.

قال القاضي -رحمه الله-: «ولا يجوز العقد على معتدة» إلى قوله: «وإذا أسلم الكافر». شرح: الأصل في منع العقد على المعتدة ومنع التصريح بخطبتها قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم} [البقرة: 235] إلى قوله: {حتى يبلغ الكتاب أجله} فمنع سبحانه المواعدة والعقد، وأباح التعريض، ويتعلق بذلك مسائل. المسألة الأولى: التعريض جائز كما ذكرنا، وهل يجوز له أن يهدي لها وليها اختلفوا فيه فأجازه بعض المالكية، قال: ولا يجوز أن يهدي لها في أيام عدتها، ومنعه الجمهور فمن أجازه رآه من ناحية التعريض، ومن منعه رآه من ناحية المواعدة. المسألة الثانية: إذا نكحها في العدة ودخل بها وهو عالم بالتحريم، فقد اختلف في ذلك على قولين: أحدهما: أنه زان وعليه الحد، ولا يلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدتها. والثاني: أن الحد عنه ساقط، والمهر لازم، والولد لاحق، ويفرق بينها وبينه ولا يتزوجها أبدًا حكاهما الشيخ ابن الجلاب في تفريعه، وقد قدمنا الروايات الأربع في تأبيد التحريم، وإذا دخل بها في العدة، والمعتمد عليه في ذلك قضاء عمر بن الخطاب، وبانتشار قضائه بين الصحابة -رضي الله عنهم- ووافقه ولا مخالف له، وقياسًا على الملاعن، لعلة إدخال التهمة في النسب، وعلى القاتل حيث منعناه الميراث لعلة الاستعجال. المسألة الثالثة: اختلفوا في القبلة والمباشرة في العدة هل هي كالوطء

أم لا؟ فيه قولان عندنا. ففي المدونة: أنها كالوطء يقع به التحريم المؤبد. روى عيسى عن القاسم أنها لا تحرم بخلاف الوطء. المسألة الرابعة: العدة من الوفاة والطلاق البائن سواء، واختلف إذا كان الطلاق رجعيًا فتزوج في عدتها منه فقيل: هو كالتزويج في العدة، وقيل: هو كمن تزوج ذات زوج، لأن أسباب الزوجية من النفقة والميراث وغير ذلك باقية. المسألة الخامسة: اختلف إذا فرق بينهما بعد الدخول، وقد مضت حيضة من عدتها، فقيل: تعتد بثلاث حيض من يوم فرق بينها وبين الزوج الثاني وعدتها ذلك للموطئين جميعًا، لأن علامة الاستبراء حاصلة، وقيل: تعتد بقية العدة الأولى، ثم تعتد بعد ذلك للزوج الثاني عدة ثانية بناء على أن باب العدة عبادة، والروايتان في المذهب. المسألة السادسة: قد تقدم أن ذكرنا أن الوطء في أيام الاستبراء كالوطء في أيام العدة وقد اختلفت الرواية فقال مالك ومطرف: سبيله سبيل من تزوج في العدة كما ذكرنا. وقال ابن الماجشون: لا تحرم بالوطء في الاستبراء، ولو كانت مستبرأة من وطء المالك من بيع، أو هبة فوطئها في ذلك الاستبراء بملك، فإنها لا تحرم بذلك، ولا يكون حكمه حكم الوطء في العدة، وهذا مما لا يختلف فيه. قوله: «ويجوز لمن زنى بامرأة أن يتزوجها إذا استبرأها» وهذا كما ذكره، ويجب عليه مع ذلك التوبة والاستغفار. وفائدة هذا الاستبراء تحقق صحة النسب، لأن الماء الأول فاسد قد يمكن الحمل منه، أما الزانية المعروفة بالزنا فيكره نكاحها، لأن ذلك أنزه

للدين والمروءة وقد حرم قوم من أهل العلم نكاح العفيف للزانية، والزاني للعفيفة لقوله تعالى: {وحرم ذلك على المؤمنين} [النور: 3] والإشارة عندنا أن الزنا طاهر إلى النكاح، ونص القاضي كراهية نكاح الكتابية وذلك بين لوجهين: الأول: إنها تحمل ولدها إلى الكنيسة وتنشئته على الكفر. الثاني: قذارتها بالكفر من حيث كانت لا تطهر من جنابة، ولا تتنظف تنظيف أهل الإسلام، وقد قال بعض السلف: إن نكاح الإماء المسلمات خير من نكاح الكتابيات. قوله: «ولا يفسخ نكاح المرأة بزناها عند زوجها» وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم واستبراؤها من وطء الزاني واجب خيفة اختلاط الأنساب. قوله: «ونكاح حرائر الكتابيات جائز»: قلت: في ظاهر كلامه تعارض لأنه جعل ذلك في قسم المكروه كتزويج المعروفة بالزنا، وجعله هذا في قسم الجائز، ومعنى كلامه أنه يكره ابتداء، فإن وقع جاز، والكراهية الأولى كراهية تنزيه لا تحريم وبكراهية ذلك قال عبد الله بن عباس وعبد الله بن الخطاب وغيرهما والدليل على جواز نكاح الكتابية قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة: 5] والإحصان ههنا عبارة عن الحرية وأما إماء أهل الكتاب فوطؤهن جائز بالملك دون النكاح اعتبارًا بالتقييد بالوصف من قوله تعالى: {من فتياتكم المؤمنات} وروى عن أشهب فيمن أسلم وتحته أمة كتابية بالتزويج قال: لا يفسخ نكاحها، واستقرأ منه الشيوخ جواز نكاح الإماء الكتابيات، وفيه نظر، لأن ابتداء العقد ليس كالتمادي على

الوطء، بعقد سابق في حال يجوز له فيه ذلك العقد، وفي نكاح المجوسية قولان عندنا، الجواز لعموم قوله -عليه السلام-: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب). والمنع قصرًا للحديث على الجزية لأنه سبب العموم، وأجاز للرجل أن ينكح أمة أبيه وأمه، ومنع الأب أن ينكح أمة ابنه، والأم أن تنكح عبد ابنها، وذلك لأن الشبهة هي محل المنع أقوى. قال القاضي -رحمه الله-: «وإذا أسلم الكافر» إلى آخر الفصل. شرح: اشتهر الخلاف بين العلماء في مناكح المشركين هل هي محمولة على الصحة، أو على البطلان بناء على الخلاف هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ وتحصيل القول في ذلك: أنه إن أسلم وعنده من لو ابتدأ العقد عليها في الإسلام لجاز إقراء على النكاح، واستمر على وطئها بناء على الأشهر في صحة مناكحها. وإن كان تحته من لو ابتدأ العقد عليها في الإسلام لم يجز، فإن النكاح يفسخ في هذه الصورة كما يفسخ لو تزوجها في حال الإسلام كذات المحرم وغيرها من المحرمات، ثم لا يخلو أن يسلما معًا أو يسبق أحدهما الآخر، فإن أسلما معًا استقر النكاح إذا خلا عن المفسدات دخل أو لم يدخل، ويقع النظر حينئذ في المهر، لا يخلو أن يكون مما يحوز التعامل به في الإسلام، ويستباح تملكه أم لا؟ فإن كان يستباح التملك وقعت المطالبة إن لم تقبض، فإن وقع التقابض فيه مضى الأمر بلا خلاف، وإن كان مما لا يجوز المعاوضة به في حال الإسلام لامتناع تملكه، فلا بخلو إما أن يقع التقابض من الطرفين أو لا يقع مطلقًا، أو يقع من أحدهما دون الآخر، فإن وقع التقابض بينهما في حال الكفر من الطرفين مضى ذلك وأقر النكاح من غير استئناف مهر، فإن لم يقع التقابض من الطرفين فالزوج بالخيار بين أمرين:

الفراق ولا شيء عليه، أو الدخول والغرم، واختلفت الروايات في الواجب عليه فقيل: المثل، لأنه أعدل، وهو المشهور، وعليه أكثر أصحاب مالك، والرواية الثانية: أن عليه قيمة المسمى عند أهل الكفر، والرواية الثالثة: أن عليه ربع دينار، وليس له أكثر من ذلك، وهو تخريج عن أشهب نظرًا إلى أن البضع ليس له قيمة محققة، إذ ليس من المبيعات، وإلى أن المسمى لا يجوز تملكه ولا بيعه، فلا يجوز تقويمه، فلم يبق إلا ربع دينار الذي هو عوض عن البضع شرعًا للتغرير، وإن وقع القبض من أحد الطرفين فذلك يتصور على وجهين، أحدهما: أن يكون قد قبض البضع بالدخول ولم تقبض المرأة شيئًا حتى وقع الإسلام فالخلاف جاز فيما تستحقه، فقيل: صداق المثل، وقيل: قيمة المسمى، وقيل: ربع دينار على اعتبار الأوجه المذكورة. الثاني: أن تقبض في حال الكفر ولا يقبض الزوج البضع بالدخول فهل يكفي المرأة ما قبضت في حال الكفر أو لابد من تجديد عوض الإسلام، فيه روايتان عندنا أحدهما: أن على الزوج أن يغرم ثانية بناء على بطلان ما أخذت في حال الكفر. والرواية الثانية: أنه لا شيء لها اعتبارًا بصحة ما قبضت، وإذا قلنا: بالغرم فهو صداق المثل على الأشهر وهو نص المدونة. وقال ابن عبد الحكم صداق المسمى، وقال أشهب: ربع دينار. وإن أسلم أحدهما قبل الآخر فلا يخلو أن يسلم الزوج قبل الزوجة أو بالعكس. فإن أسلم الزوج قبل الزوجة فلا يخلو أن تكون المرأة مجوسية، أو كتابية فإن كانت حرة كتابية وقع الاستمرار على النكاح كما لو أراد ابتداء العقد عليها، وإن كانت أمة كتابية فهل يفسخ النكاح، لأن نكاح الأمة الكتابية لا يجوز، أو لا يفسخ رعيًا للخلاف فيه قولان، وكذلك اختلف المذهب إذا كانت مجوسية، فقيل: يفسخ نكاحها، إذ لا تحل مناكحة المجوس، وقيل: لا يفسخ لعموم قوله -عليه السلام-: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) وقصره الأولون على الجزية فقط، وإن كانت المرأة وثنية أو غير ذلك من أنواع الكفر غير المستباح

نكاحهم، فأسلم الزوج قبل الدخول أو بعده عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت وإلا فرق بينهما. واختلف العلماء في مدة العرض فقيل: ثلاثة أيام كالمرتدة، وقيل: يعرض عليها حال إسلامه، فإن أبت الإسلام وقعت الفرقة ولو غفل عنها، ولم يعرض عليها الإسلام حتى مضى الشهر ونحوه. قال ابن القاسم: ليس الشهر بكثير، ويقر النكاح إن أسلمت في هذه المدة، وقيل: يقر وإن أسلمت بعد شهرين، وقيل: تقع الفرقة بينهما إذا لم تسلم في الحال، وهذه الروايات الثلاثة واقعة في المذهب، والمشهور أن ما قرب الشيء فله حكمه، وإذا وقعت الفرقة في هذه المسائل فهل هي فسخ أو طلاق، مذهب الكتاب أنه فسخ بغير طلاق وهذا اختيار ابن المواز وغيره، وفي العتبية عن ابن القاسم هي طلقة بائنة، وفي الآثار: أن أبا سعيد أسلم بين الظهرين قبل زوجته هند بنت عتبة ثم رجع إلى مكة وهند كافرة فأخذت بلحيته وقالت: يا معشر قريش اقتلوا هذا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده فثبتا على نكاحهما. وأما إن أسلمت المرأة قبل الزوج فلا يخلو أن يكون قبل الدخول، أو بعده، فإن كان قبل الدخول فرق بينهما، وإن كان بعد الدخول فمذهب مالك أنه أحق بها إن اسلم في عدتها اعتمادًا على حديث صفوان بن أمية أن زوجته

ابنة الوليد بن المغيرة أسلمت قبله، ثم أسلم هو فأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نكاحه، وكان بين إسلام صفوان، وإسلام امرأته نحو من الشهر. وقال ابن شهاب: «ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها» وههنا فروع. الأول: المرتد إذا رجع إلى الإسلام في عدة زوجته، فقال سحنون والمخزومي: هو أحق بها كالكافر. وقال ابن القاسم: الارتداد يوجب طلقة بائنة لا يكون للزوج بعدها رجعة بإسلامه في عدتها وهي رواية ابن أبي أويس وابن الماجشون. ولو تنصر يهودي أو تهود نصراني فهل هي ردة توجب الاستتابة، أو القتل؟ المشهور أنه يعرض إليه، لأنه خرج من باطل إلى باطل، ويقتل بخروجه عن العمل الذي انعقد به. قال أصبغ في كتاب ابن حبيب: إذا ارتد الزوج إلى دين زوجته اليهودية أو النصرانية لا يخلى بينه وبينها، ولا تحرم عليه إن عاد إلى الإسلام. وقال ابن القاسم: تقع الفرقة بينهما كما لو كانت مسلمة. وروى سحنون عن أبيه في المسلم يرفع زوجته المسلمة إلى الحاكم يدعي عليها أنها ارتدت عن دينها فتنكر أن الحاكم يفرق بينهما لإقراره بارتدادها، وذلك يقتضي عليه بفسخ نكاحها. وقول القاضي -رحمه الله-: «وإن أبت انفسخ النكاح في الحال كان قبل الدخول أو بعده» تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن مذهب الشافعي أن الإسلام الناجز في العدة يوجب ثبوت النكاح، فإذا أسلمت المرأة

قبل الزوج فهو أحق بها إن أسلم في العدة، وإن أسلم الرجل قبل المرأة، أو المرأة قبل الرجل، فإن النكاح يثبت إذا وقع الإسلام في العدة فلا فرق بين اعتبارين أن يسلم قبل المرأة، أو تسلم المرأة قبله، وذلك كله لا يتصور إلا بعد الدخول، إذ لا عدة على غير المدخول بها والله الموفق. وعدد القاضي -رحمه الله- المجوس والصابئين أنواع الكفر. قال علماؤنا: الكفر ثلاثة أصناف: قسم يجوز نكاح أحرار نسائهم بلا خلاف وهم أهل الكتاب، وقسم لا يجوز نكاح نسائهم بلا خلاف، وهم ما عدا الكتابيين والمجوس، وقسم به خلاف وهم المجوس فهل يجوز نكاح نسائهم. لعموم قوله -عليه السلام-: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، أو لا يحل قصر الحديث على الجزية فقط وقد قدمناه. قال القاضي -رحمه الله-: «ومن أنواع التحريم» إلى قوله: «وأما الراجح إلى العدد». شرح: الأصل في تحريم الجمع بين نساء المحرمات قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها). نبه -صلى الله عليه وسلم- على سائر المحرمات، وجعل القاضي هذا التحريم راجع إلى صفة العقد نظرًا إلى صورة الجمع التي من صفة العقد، إذ الجمع والافتراق هيئتان من هيأة العقد. وقسم هذا التحريم قسمين: أحدهما: راجع إلى الجمع، والآخر: راجع إلى العقد، والضابط في تحريم الجمع أن كل امرأتين بينهما من القرابة والرضاع ما يمنع تناكحهما لو قدرت أحدهما ذكرًا فلا يجوز الجمع بينهما من النكاح، وذلك إذا كان من

الطرفين، احترازًا من المرأة وربيبتها، فإن الجمع بينهما جائز، ولو كانت الربيبة ذكرًا لا يجوز له نكاح المرأة لأنها امرأة أبيه، وقد قال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم} فلولا اعتبار الطرفين لم يحرم الجمع بين المرأة وربيبتها لأنا إن قدرنا أن المرأة ذكر حل لها ابنة الزوج، لأنها أجنبية عنها، فلابد من ذكر هذا القيد في الضابط ففيه استدراك على القاضي حيث أهمله، وقوم يمنعون الجمع مطلقًا كان من طرفين أو من طرف واحد؛ حكاه الإمام أبو عبد الله. وتحصيل القول فيه: إذا زوج أمًا وابنتها أنه لا يخلو أن يكون ذلك في عقد واحد أو في عقدين، فإن كان ذلك في عقد واحد فلا يخلو أن يدخل بهما أو لا يدخل بواحدة منهما، أو يدخل بإحداهما دون الأخرى فإن دخل بهما حرمتا للأبد، وإن لم يدخل بواحدة منهما فلا خلاف أن البنت لا تحرم، لأن تحريمها مشروط بالدخول بالأم، وهو غير واقع، وهل تحرم أمها لشبهة العقد أم لا؟ فيه قولان مبنيان على العقد الفاسد، هل يقع التحريم به أم لا؟ عندنا فيه قولان تقدم تذكرهما، وإن دخل بالأم حرمت البنت بلا خلاف لحصول شرط التحريم وهو الدخول بالأم، وهل تحرم الأم لشبهة العقد أم لا؟ فيه أيضًا قولان المتقدمان. وإذا قلنا: لا تحرم ابتداء عليها نكاح جائز، وإن دخل بالبنت حرمت الأم، وهل تحرم البنت أم لا؟ فيه ما قدمناه من الخلاف، فقيل: تحرم لشبهة العقد، وقيل: لا تحرم وله أن يبتدئ عليها النكاح الجديد، وعقدًا مؤتنفًا. وإن تزوج أمًا وابنتها في عقدين مختلفين فلا يخلو أن تعلم الأولى منهما أو لا تعلم، فإن علمت الأولى منهما وكانت هي البنت فإن دخل بهما جميعًا حرمتا عليه معًا الأم بالعقد فقط، والبنت بالدخول بالأم، وإن لم يدخل بهما لم تحرم البنت لعدم شرط التحريم فيها وهو الدخول بأمها، وتحرم بمجرد العقد على ابنتها، وإن دخل بالبنت حرمت الأم، وإن دخل بهما حرمتا معًا وهذا بين لا إشكال فيه، وإن كانت الأم هي الأولى فلا يخلو أيضًا أن يدخل بهما أو يدخل بإحداهما وهذا لا

خلاف فيه، وإن لم يدخل بهما حرمت بالعقد على ابنتها دون البنت لفقدان الشرط فيها، وإن دخل بالأم حرمتا معًا، وإن دخل بالبنت حرمت الأم فقط وهذا بين لا إشكال فيه. واختلف في فروع: الأول: إذا علمت الأولى منهما ببينة فقد قدمنا حكمه، فإن لم تقم هناك بينة فهل يقبل قول الزوج في ذلك أم لا؟ وروى ابن القاسم وأشهب أنه يقبل قول الزوج في ذلك. قال محمد وهو أصوب إلا أن تخالفه الأخرى، فإن يكف، لأنه يدعي سقوط المهر. فرع: إذا دخل على البنت قد فسخ نكاحها، وكان له أن يبتدئ العقد عليها، وحرمت عليه الأم لعقده على ابنتها، وهل يلزمه للأم شيء أم لا؟ قال القاضي إسماعيل، وأبو بكر الأبهري وغيرهما: يلزمه للأم نصف صداقها، لأن الفراق جاء من قبله وهذا هو المشهور، وقيل: لا شيء لها لأنه فسخ أوجبته الأحكام، وإن لم يعلم فلا صداق. فرع: في معنى نكاح ملك اليمين، فلو اشترى أمة فوطئها حرمت عليه أختها وخالتها وعمتها بلا خلاف، وهو معنى قول القاضي: «ولا يجوز الجمع في الوطء بملك اليمين بين ما يحرم جمعهما بالنكاح». قوله: «وإن كانت أمة فبإخراجها عن ملكه» وهذا كما ذكره، ونص القاضي أن بيعتها وهبتها ممن لا يعتصرها منه وتزويجها وكتابتها وعتقها المنجز أو المؤجل ليحصل له التحريم، واختلف في فروع: الأول: إذا قال: كل أنثى وطئتها فهي حرة هل يحصل بذلك تحريمها وينزل منزلة العتق أم لا؟ المشهور من المذهب أن ذلك الإيلاء يكتفى به، ولا يحصل بها تحريمها، واستقرأ الشيوخ من المذهب وقوع

التحريم بذلك بناء على أنه لا يمكن من الوطء ولا من دواعيه. فرع: وإذا أخدمها فإن قرب أمد الخدمة لم يحصل بذلك التحريم بلا خلاف، وإن طالت سنين الخدمة فهل يحصل بذلك التحريم أم لا؟ المشهور إنه لا يحصل بذلك التحريم، لأن إخدامها لا يمنع عموم وطئها. وقال ابن الماجشون: إذا طالت السنون فهو تحريم. فرع: أجمع العلماء على أن الجمع بين الأختين بملك اليمين للاستخدام جائز، وأما الجمع بينهما للوطء بملك اليمين فجمهور الأمة على تحريمه لعموم قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23]. وقال عثمان: إن أباحتهما الآية إشارة إلى هذه الآية حرمتهما آية إشارة إلى عموم قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولأنه عموم غير مخصوص ليس في موارد الأحكام وتحصيل القول في الجمع بين الأختين أنهما إما أن تكون جمعتا بالنكاح، فالإجماع منعقد على تحريمه، أو بملك اليمين للاستخدام، فالإجماع منعقد على جوازه، أو بملك اليمين للوطء، وهو كالأولى في التحريم، فإن كانت إحداهما بالنكاح، والأخرى بملك اليمين ولم يطأ واحدة منهما خير بين أن يحرم فرج أيتهما شاء ويطأ الأخرى، فإن وطئهما معًا فالتحريم، وكان عاصيًا وحرمتا عليه، وإن وطء الأمة عليه وطء الزوجة إلا بعد تحريم الأمة. الأول: النكاح الصحيح وهو المشهور، لأن له وطء الزوجة بتحريم وطء الأمة عليه بالعقد صحيح لصحة المراد منه الذي هو الوطء، ويمكن العقد من ذلك، إذ التحريم غير مؤبد، بل هو مقدور على رفعه. الثاني: إن عقد النكاح باطل إلحاقًا لهذا العقد على المحرمة، والصحيح أن إباحة العقد راجع إلى اختيار الناكح بتحريم الأولى، فالعقد صحيح.

الفرع الثاني: إذا قلنا: إن عقد النكاح صحيح فهل يكون نكاح الزوجة تحريم الأمة، فكأن العقد المقتضي لإباحة وطء الزوجة وهو بعينه المقتضي تحريم الأمة ترجيحًا لجانب الزوجة، أو يوقف عنهما حتى يرجح ويعين من يختار الوطء فيه قولان: أحدهما: أن بنفس التزويج تحرم الأمة ترجيحًا لجانب الزوجة كما ذكرناه. الثاني: أنه لا يكون تحريمًا، لأن الأولى ترجيح بالتقديم، أشار إلى ذلك الإمام أبو عبد الله وغيره. قال القاضي -رحمه الله-: «وأما الراجع إلى العدد دون الأعيان فهو الجمع» إلى آخر الفصل. شرح: أجمع أهل السنة على أن الزيادة على نكاح أربع زوجات محرم، ولم يخالف في ذلك من أهل العلم إلا من لا يعتد به، وهذا حكم جميع الأمة. وأما النبي -عليه السلام- مخصوص بذلك إجماعًا. وقد قال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] ومعناه: في أحد هذه الأعداد وتقدير اثنان إن شئتم، وثلاث إن شئتم، وأربع إن شئتم، وهو تخيير في الأنواع، وروى بعضهم أن الواو بمعنى «أو» ولا يحتاج إليه، وشذ من لا يعتد به، فأجاز نكاح التسعة، وفهمه من ظاهر الآية، والحق ما قدمناه. قوله: «وليس في ملك اليمين حد» هذا كما ذكره لا أعلم فيه خلافًا بين الأمة والبينونة تبطل الزوجية، فلذلك إذا بانت منه زوجته فله أن يتزوج ما كان يمنع الجمع بينه وبينها ولو كانت رجعية لم يجز ما دامت في عدتها لأنها تجب حكم العصمة. قوله: «وإذا أسلم مشرك وعنده» إلى قوله: «وفارق البواقي» والأصل في ذلك حديث غيلان الثقفي حين أسلم على عشرة نسوة فقال النبي -عليه السلام-: (امسك أربعًا وفارق باقيهن) ولم يسأله عن الأوائل ولا عن

الأواخر ولا هل زوجهن في عقد واحد، أو في عقود مختلفة وأمر -عليه السلام-: (مسروق الديلمي) حين أسلم على أختين أن يختار أيتهما شاء. قوله: «وله اختيار الأوائل والأواخر كان نكاحهن في عقد واحد أو في عقدين، أو في عقود مفترقة»، وقيل: إن تزوجهن في عقد واحد فارق جميعهن، وروى عن ابن الماجشون أنه إذا أسلم على أختين فارقهما جميعًا، ثم استأنف النكاح من أحب منهما. ويتعلق بهذا الفصل فروع: الأول: إذا أمسك أربعًا وفارق البواقي فهل يكون للبواقي شيء من الصداق أم لا؟ فيه قولان في المذهب، فمذهب المدونة أنه لا شيء لهن، واختلفوا فيما يكون لهن، فقيل: لكل واحدة خمس صداقها وهو قول ابن المواز، والقول: أن لكل واحدة نصف صداقها. وجه القول: بأن لا شيء لهن أنه فسخ أوجبته الأحكام فلا يعد مختارًا في الطلاق، ووجه القول باستحقاق الصداق أنه مختار في التعيين وإن كان مقهورًا على أصل الفسخ، إذ هو من واجبات الأحكام، وهو معنى قول أصحابنا: أن من خير بين شيئين يعد متنقلًا، ومن لم يعده متنقلًا رآى أنه اختار فراق من أوجب فكأنه ما اختار قط إلا ما أمسك، ومن أفسخ نكاحه منهن فالحكم أوجب فسخه

لاختياره فيقع النظر حينئذ فيما يستحق، فوجه القول: بأن لكل واحدة خمس صداقها النظر إلى أنه فارق الجميع لا يلزمه إلا صداقان نصف صداقها لكل واحدة من الأربعة المباحة شرعًا، فإذا قسمت الصداقين على العشر كان لكل واحدة خمس صداقها. ووجه القول الثاني: أن لكل واحدة نصف الصداق لأنه كالمطلق بناء على أن من خير بين شيئين يعد متنقلًا، فلكل واحدة نصف صداقها كالمطلقة قبل الدخول وهذا كله إذا وقع قبل الدخول فإن وقع الدخول والتقابض في حال الكفر، فقد مضى القول فيه، فيما إذا قبض أحدهما. الفرع الثاني: إذا أسلم فمات من بعده قبل الاختيار ففيه قولان في المذهب: أحدهما: أن عليه أربع صداقات بين جميعهن، وهو المشهور بناء على تعليل ابن المواز. والثاني: أن عليه سبع صداقات. ووجه ذلك: أن أربع أصدقة مختصة لأربع زوجات غير معينة فلا مقال للورثة في ذلك ويقع التنازع في التعيين بين الزوجات، والستة الزوجات الباقيات قد وقع الفراق عليهن بنفس إسلام الزوج، فلو قدرناه فارقهن لوجب لهن ثلاثة أصدقة بناء على القول بأن لكل واحدة نصف الصداق، فكذلك يجب بالفراق بالإسلام فيتعين إضافة الثلاثة الأصدقة المستحقة بالفراق، والحكم إلى الأربعة فتكمل سبع صدقات، فتقسم على عشر زوجات بالسواء لتساوي تداعيهن في التعيين إنما وقع بعد الفراق حكمًا. الفرع الثالث: إذا حبس أربعًا فكشف أنهن أخوات فأراد رد من فارق من العشرة فله ذلك ما لم يتزوجن فهل يكون ذلك فوت أم لا؟ فيه قولان في

المذهب، أحدهما: أنه له أن يرد، وإن دخل بهن بناء على أن ذلك ليس بفوت، والثاني: أنه فوت. قوله: «العدل بين الزوجات واجب في القسم وغيره من حقوق النكاح» وهذا كما ذكره. والأصل في وجوب ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا} الآية [النساء: 3] حرم المباح خوفًا من ترك الواجب، وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من كان له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل). وكان -عليه السلام- يقيم بين نسائه مع أن ذلك غير واجب، ثم يقول: (اللهم إن هذا قسمي بما أملك فلا تأخذني بما تملك ولا أملك) يعني: ميل القلب، هذا مع انعقاد الإجماع على أن القسم لم يكن واجبًا عليه -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتئوي إليك من تشاء} الآية [الأحزاب: 5] إلا أنه -عليه السلام- تفضلًا منه وإحسانًا إلى نسائه -عليه السلام-، وانعقد الإجماع على وجوب العدل بين الزوجات على كل زوج مكلف، وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه. قوله: «في القسم وغيره من حقوق النكاح»: يتعلق به صفة القسم وهو سواء بين الحرائر، فإن كان الزوجات حرائر وإماء، فهل تقع المساواة بينهن يومًا أو ترجح الحرة فيكون لها يومان، وللأمة يوم، فيه ثلاثة أقوال في المذهب المشهور: التساوي نظرًا إلى الاشتراك في سبب الواجب سواء كان الزوج حرًا، أو عبدًا، والثاني: ترجيح الحرة إذا كان الزوج حرًا لتختص الحرة، والتساوي إذا كان الزوج عبدًا، لأن الحرة لما رضيت بتزويج العبد

دخلت تحت أحكامه، والأمة من نسائه. وحد القسمة يوم يوم وهل له الزيادة على ذلك، المشهور أنه ليس له الزيادة على ذلك إلا أن يتفق الجميع. الثاني: أن له الزيادة على يوم إن أحب ذلك، وهذا استقراء أبي الحسن اللخمي، وإذا قلنا: ليس له الزيادة على يوم فزاد واحدة منهن فهل يحسبها رفعًا للضرر، ورجوعًا إلى أصل العدد أو يبتدئ لأن المحاسبة تتهم بفعل مبني على الجور، فيه قولان في المذهب. ولو حاضت إحداهن فضر به فهل يسقط حقها، ويبيح له المبيت عند غيرها فيه قولان في المذهب حكاهما الإمام أبو عبد الله وغيره. ولا خلاف في سقوط القسم إذا كان مريضًا مرضًا مخوفًا يضر به الطواف ويتعذر فيه الاستمتاع. فإذا كان المريض خفيفًا يمكن معه الطواف ويتأتى معه الاستمتاع بقي حكم العدل على ما كان على الأشهر، واختلف المذهب في السفر، هل هو عذر يسقط القسم ويبيح له أن يسافر بمن شاء أو يجب عليه القسم فيه اختلاف في ذلك على القولين. وفي الصحيح أنه -عليه السلام-: (كان يقرع بين نسائه إذا أراد سفرًا) وفعله حجة، وقيل: يقرع بينهن في الحج والغزو دون غيرهما من الأسفار، ويقسم النفساء والرتقاء والمجذومة والتي آلى منها، زوجها أو ظاهر. قال في كتاب محمد: فله أن يبدأ بالليل أو النهار وهو بالخيار في ذلك. قال القاضي أبو الوليد: الأظهر من أقوال أصحابنا أن يبدأ بالليل،

ولا يقيم في يوم إحداهن عند ضرتها، وله أن يدخل عندها لعذر من اقتضاء دين، أو علاج، أو نحوه، وله أن يقف ببابها، ويسلم من غير أني يدخل لإقامة. قوله: «من حقوق النكاح»: يريد النفقة والسكنى والاستمتاع، وتخرج منه المحبة وسبيل القلب إذ ليس من موجبات القلب مع أنه مقدور عليه. قوله: «ومن تزوج بكرًا فله أن يقيم عندها سبعًا»: والأصل في ذلك قوله -عليه السلام-: (للبكر سبعًا وللثيب ثلاثة أيام) وهذه لام الاستحقاق، وهل هو حق للزوج إن شاء فعله وإن شاء تركه، أو حق للزوجة لحاجتها إلى التأنيس والبسط فيه قولان في المذهب وإذا جعلناه حقًا لها جاز لها هبته، وأخذ العوض عنها، وهو أحد القولين، ففي وجوبه، أو استحبابه روايتان إحداهما: أنه واجب يقضي به على الزوج إن أباه، وقال أصبغ في كتاب محمد ويقضي عليه بذلك، وقال ابن عبد الحكم: ذلك حق على الزوج يقضى له عليه، وهل يخرج العروس إن شاء للجمعة وللجماعة أم لا فيه قولان في المذهب. قال القاضي -رحمه الله-: «ومن غاب عن امرأته فعمي خبره، وانقطع أثره ولم يعلم حياته من موته وأضر ذلك بزوجته، فإنها ترفع أمرها إلى الإمام». شرح: يتعلق بهذا الفصل أحكام المفقود، ولا يخلو الغائب أن يكون معلوم الموضع بحيث يمكن الكتب إليه أم لا؟، فإن كان معلوم الموضع، وأمكن الكتب إليه وطلبته المرأة بحقها في النفقة، والوطء، أو في أحدهما

كتب الإمام إليه، فإما أن يجيء، وإما أن يطلق، فإن أبى طلق عليه بعدما يرام في التلوم، وإن لم يعلم له مستقر فهو المفقود، وهو على أربعة أقسام: الأول: المفقود في بلاد المسلمين. الثاني: المفقود في صفوف المسلمين في فتنهم بينهم. الثالث: المفقود في الغزو. الرابع: الأسير. الأول: المفقود في بلاد الإسلام بحيث لا يوقف له على خبر، ولا تعلم حياته من موته فهذا له حكمان: حكم يتعلق بزوجته، وحكم يتعلق بماله، أما ما يتعلق بزوجته فلا خلاف في مذهب مالك في أنه يضرب له أربع سنين، فإن وقف له على خبر حياة، وعلمت جهته كتب إليه، فإن وصل أو طلق، وإلا طلق عليه الإمام هذا حكم زوجته. وأما ماله فلا خلاف في المذهب أنه لا يقسم بين الورثة إلا بالتعمير. واختلف في تعليل أهل المذهب بالتحديد بالأربعة أعوام، فقيل: لأنها غالب المسير في الأقطار الأربعة فجعل لكل قطر من أقطار الأرض سنة. وقال أبو بكر الأبهري: إنما ضرب هذا الأجل لأنه أقصى الحمل غالبًا، ويلزم على مقتضاه التسوية بين الحر والعبد في ذلك، وقد اختلف في أجل العبد في ذلك فقيل: سنتان على شطر من أجل الحرية لأنه يؤول إلى الطلاق، وقيل: هو كالحر اعتبارًا بما ذكرناه من الجهات، أو أقصى الحمل، وذلك لا يختلف. ومبدأ هذا الأجل الذي هو أربع سنين من يوم يعجز معرفة خبره بعد البحث، وهل تحد امرأة المفقود أم لا؟ المشهور أن عليها الإحداد بعد انقضاء الأربعة أعوام، لأنه موت حكمي. وقال ابن

الماجشون: لا تحد امرأة المفقود لأنه طلاق وليس بموت (واستنصر به بعض). قوله: «فإن جاء في الأجل، أو في العدة، أو بعدها قبل أن تتزوج فهي امرأته» قلت: اختلف المذهب في هذه المسالة إذا جاء المفقود بعد انقضاء الأجل عليه، على أربعة أقوال: الأول: أنها بانت بنفس انقضاء العدة. الثاني: تفوت بعقد الثاني عليها، وهو قول المغيرة وغيره، وروى عن مالك. الثالث: أن الثاني أحق بها إن دخل وهو رواية ابن القاسم وأشهب، وإليه رجع مالك. الرابع: أن الأول أحق بها، وإن دخل بها الثاني. وجه القول الأول: أن الطلاق الواقع شرعي وانقضاء العدة بأصح من تعلقات العصمة في ذلك لحصول البينونة بانقضائها، ووجه القول الثاني: أن العقد الثاني واقع في محله فاصل بين العصمتين حقيقة، والعدة من توابع العصمة باقية في المعنى من حيث كانت من سبب الأول فلا مقابل لحقه إلا مع وجود العقد، ومن يرجح بالدخول لاحظ الاطلاع والمكاشفة التي يصيب معهما اعتبار المتقطعة مع أن الطلاق وقع على المفقود بالدخول، ومن رآه أحق بها مطلقًا، رأى أن حكم الحاكم في الظاهر فقط وهو في الحقيقة غير مطابق. قوله: «وإن كان الأول لم يدخل بها ففي رجوعه عليها بنصف الصداق روايتان» قلت: اختلف المذهب إذا وقعت الفرقة في هذا الباب قبل الدخول

هل يقضى لها بالصداق كله في ماله إجراء له مجرى الموت بدليل الإحداد في العدة، أو بالنصف كالطلاق، ففيه قولان حكاهما الشيخ أبو القاسم. وإذا قلنا لها ثم قدم فهل يرجع عليها بنصف الصداق، لأنه إن كان موتًا وجب لها جميع الصداق تحقيقًا، وإن قدر طلاقًا قبل الدخول وجب لها عليه نصف الصداق تحقيقًا، والنصف حكمًا رعيًا للخلاف فلا معنى لرجوعه سيما أنه سبب في إيقاع المفارقة فليس من الفسوخات الحكمية. وههنا ثلاث مسائل: المسألة الأولى: نفقة ولد المفقود مستمرة لهم حتى يعمر، أو يثبت موته. ونفقة نسائه مستمرة إلى انقضاء الأجل الذي هو أربعة أعوام، فإن أنفق عليها في الأجل، ثم موته قبل ذلك ردت ما أخذت من النفقة، وكذلك يرد أولاده ما أنفقوا بعد وفاته، ولا نفقة لزوجته في أيام العدة كالمتوفى عنها، لأن المال منتقل إلى الورثة حقيقة أو حكمًا. المسألة الثانية: إذا كان له نساء فرفعت إحداهن أمرها إلى الحاكم فضرب لها أجلًا، فقال ابن القاسم: ضرب الأجل لواحدة منهن كضربه لجميعهن، فإذا انقضى الأجل تزوجن إن أحببن. المسألة الثالثة: إذا طلقها الثاني بعد دخوله بها، وقد كان الأول طلقها

طلقتين قبل أن يتزوجها الثاني: هل تحل للأول بدخول الثاني وهو قول مالك في المبسوط وأشهب في السليمانية بناء على ان المطلقة على الأول إنما وقعت بدخول الثاني. القسم الثاني: من أقسام المفقودين: المفقود في فتن الإسلام الواقعة بينهم، واختلف المذهب فيه على ست روايات. الرواية الأولى: أنها تعتد من يوم التقاء الصفين من غير أجل البتة. الرواية الثانية: أنها تتربص سنة ثم تعتد. الرواية الثالثة: أن العدة داخلة في السنة. السنة الرابعة: الفرق بين قرب الدار وبعدها، فإن قربت تلوم لها الإمام بمقدار اجتهاده بعد انصراف الصفوف، ثم اعتدت وتزوجت، وإن بعدت الدار انتظرت سنة. الرواية الخامسة: إن بعدت الدار تربصت أربع سنين كامرأة المفقود، وإن قربت فبدون ذلك على قدر الاجتهاد. الرواية السادسة: قال أصبغ: يضرب لامرأته بقدر ما يستقضي أمره، وينتهي خبره من غير حد معلوم. القسم الثالث من أقسام المفقودين: المفقود في الجهاد واختلف المذهب في حكمه أيضًا على روايات، ففي كتاب محمد أنه كمفقود في أرض الإسلام فتتربص امرأته أربع سنين. الرواية الثانية: أنه كالأسير لا يضرب لامرأته أجل بل تبقى إلى انكشاف خبره. الرواية الثالثة: أن زوجته تتربص سنة من يوم ينظر السلطان في أمره ثم تعتد. الرواية الرابعة: أنه يلوم بقدر قدوم العسكر من الجهاد، فإذا وصل العسكر ولم يصل، ولم يقف الإمام له على خبر اعتدت منه، وتزوجت.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق قال القاضي (رحمه الله): ((الطلاق ضربان)): إلى قوله: ((إلا بثلاثة شروط)). شرح: الطلاق في نفسه مباح إذا اعتبر من حيث هو، وقد ينقسم بحسب متعلقاته إلى أقسام الشريعة كما انقسم النكاح، ولا يخفى وجوه ذلك، وقد قال تعالى: {الطلاق مرتان} الآية [البقرة: 229]، وقال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم} الآية [الطلاق: 1]، وصحَّ أن النبي -عليه السلام-: (آلى وطلق ولم يظاهر)، ولو كان ممنوعًا لما صدر منه -عليه السلام-، ونحن نتتبع (سياق) القاضي -رحمه الله-. قال: ((الطلاق ضربان: كامل، وناقص)): إلى قوله: ((وهو معتبر بالرجال دون النساء)). ولا خلاف في مذهب مالك في هذه الجملة اعتمادًا على قوله -عليه السلام-: (الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء).

قوله: ((فإن أعتق العبد قبل إيقاع شيء منه كمل له)): ولا أعلم خلافًا في المذهب في هذه المسألة. قوله: ((فالرجعي ما دون الثلاث للحر، والواحدة للعبد)): وهذا غير محقق، لأن ذلك (يتصور في) البائن، فقد تقع البينونة بالطلاق الوحدة للحر والعبد بسبب من أسباب البينونة، فالرجعي هو (ما) استقل المطلق فيه بالرجعة، والبائن عكسه، وإنما قصد (القاضي ما يتصور فيه المراجعة مطلقًا وهو مما دون البتات كما ذكره. قوله: ((والبائن ضربان بائن مطلقًا، وبائن في مقابلة الرجعي)): أراد بالبائن المطلق الذي لا يتصور فيه الرجعة، فالطلاق فيه من حيث إنها بينونة لا تقابلها الرجعة، ومثل البائن المطلق بطلاق غير المدخول بها، إذ الواحدة والثلاث تحرمها، وكطلاق العنِّين، إذ الرجعة فيه لا تنفي (الضرر) (و) الذي وقع الطلاق لأجله، فلا يتصور فيه بحال، وبطلاق الخلع، لأن البينونة فيه هي مقتضى العوض وثبوته. قوله: «والفسوخ كلها بائنة»: مثل ذلك بفسخ الردة، وذلك إذا ارتد أحد الزوجين فقيل هو فسخ بطلاق، وقيل بغير طلاق وهو المشهور، لأن الكفر قطع العصمة بينهما شرعًا، وفسخ (الملك) إشارة إلى ما إذا اشترى أحد الزوجين صاحبه، فالنكاح يفسخ، إذ الملك والنكاح لا يجتمعان لتنافر أحدهما. وصورة فسخ الرضاع أن يزوجها فإذ هي أخت من الرضاع، فيجب الفسخ، وتقع البينونة لأنها مقتضى التحريم. قوله: ((وغير ذلك)): إشارة بالانتهاء إلى العدد وهي ثلاث، واثنان للعبد بالبينونة.

قوله: ((والبائن في مقابلة الرجعي)): وهو طلاق المدخول بها من غير عوض، وهي (ثلاثة) للحر، واثنان للعبد، فالبينونة بها إلى انتهائه العدد فهو مقابلة الرجعي الناقص عن انتهائه. وجعل طلاق الخلع البائن المطلق، ويمكن دخوله في هذا القسم، إذ لولا العوض لتصورت الرجعة. وقع في بعض الروايات: هو طلاق غير المدخول بها بإثبات ((غير)) (وسقطت غير) (عند) (الوراق) من (جلة) رواة الكتاب عن القاضي -رحمه الله-، وعلى إسقاطها التعويل، وإثباتها لا معنى له لأنه قد مثل المطلق البائن بذلك. قوله: ((وهي ثلاث للحر، واثنتان للعبد)): الضمير عائد على الأعداد، والمعنى والأعداد ثلاث للحر، (واثنتان) للعبد. قوله: ((مجتمعًا كان أو مفترقًا)): يعني أنها سواء في اللزوم ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم الذين تدور عليهم الفتيا. قال القاضي: ((والرجعة ثابتة في الرجعي)): إلى قوله: ((وينقسم الطلاق)). شرح: ذكر في هذا الفصل شروط التحليل: الأول: أن تنكح زوجًا (غيره) نكاحًا جائزًا، فقوله: ((زوجًا)) احترازًا من غير الزوج، فإنها إن وطئت بالملك لم تحل لمطلقها ثلاثًا. قوله: ((نكاحًا جائزًا)) احترازًا من العقد الفاسد. الثاني: أن يطأها وطئًا مباحًا في غير حيض، ولا إحرام، ولا صوم. ومذهب جمهور العلماء أنها لا تحل بنفس العقد، وروى سعيد بن المسيب

وغيره أنها لا تحل بنفس العقد، والحجة للجمهور قوله -عليه السلام- لزوجه: (حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته) وهو الذي ذكر القاضي في الوطء الحرام، والمشهور فيه قولان فيما إذا كان الوطء حرامًا كالمحرمة والصائمة والحائض فالمشهور ما ذكره القاضي أن ذلك لا يقع به إحلال ولا إحصان، والشاذ وقوع ذلك به وسواء كان الصوم واجبًا، أو تطوعًا على الأشهر، والخلاف الثاني واقع. قوله: ((ونكاح المحلل باطل)): وهذا كما ذكره، والدليل على ذلك ما خرجه أهل الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله المحلل والمحلل له) فإن عقداه على التحليل وجب فسخه بلا خلاف عندنا. وقوله: ((ولا اعتبار بقصدها)) يعني في حصول الإباحة، وانظر إذا قصد الزوج النكاح الصحيح، وقصدت هي التحليل هل يتعلق عليها الإثم بقصدها المحرم أم لا، إذ الطلاق مملوك لغيرها فلا فائدة لقصدها. ومن شواذ الفقه أن محللها مأجور إذا كان مطلقها مشغوفًا بها، ومن شواذه أيضًا (أنه) إذا وطئها على حجاب رقيق حلت. والشرط الثالث ظاهر، لأن البينونة تقطع حل العصمة للأول. قال القاضي: ((وينقسم الطلاق من وجه آخر)): إلى قوله: ((وطلاق الحائض)).

شرح: لما ذكر قبل انقسام الطلاق من الوجوه المذكورة التي لاحظها، قسمه ههنا باعتبار السنة والبدعة وذكر أنه إن (عرى) عن (وصف كل) واحد منهما فلا يقال إنه طلاق سنة ولا بدعة. وهذا القسم فيه نظر (لأن) ظاهر كلامه (يعني) أنه يعرى عن وصفه بكل واحد منهما مطلقًا (ثم) لما فسره في آخر كلامه، ومثله بطلاق الصغيرة واليائسة والحامل البين حملها، رأى أن طلاق هؤلاء لا يوصف بطلاق السنة ولا البدعة من حيث الوقت، لأن مدة هؤلاء محققة غير (متعرضة) للانتقال، ويوصف من حيث العدد، وهو أن يطلقها اثنتين أو ثلاثاً. والبدعة (ترجع) إلى أمرين إلى الوقت والعدد، فالراجع إلى الوقت طلاق الحائض والنفساء، وطلاقها في (طهرها). والراجع إلى العدد هو ما ذكر من طلاقها اثنتين، أو واحدة ثم يتبعها ثلاثًا. قوله: ((ولطلاق السنة ستة شروط: أحدها: أن تكون المطلقة ممن تحيض مثلها)): احترازًا من الصغيرة واليائسة، ومقتضى كلامه أن طلاق هاتين ليس بطلاق سنة. قوله: ((والثاني أن تكون طاهرًا غير حائض، ولا نفساء)): تحرزًا من (طلاقها). قوله: ((والثالث أن تكون في طهر لم تمس فيه)): فإن مس فيه كره الطلاق فيه، وهل يكره أن يخالعها في طهر مسها فيه أم لا؟ فيه قولان الجواز

والكراهية. اختلف أصحابنا في علة الكراهة في إيقاع الطلاق في طهر المسيس، فعلله بعضهم لخوف الندم، لأنها إن كانت حاملًا ندم على الطلاق فيكره، لأن المسيس مظنة الحمل، وعلله آخرون بأنها لا تدري أتعتد بالأقراء، أو بوضع الحمل، وعلى كلا التعليلين فالخلع كالطلاق في المعنى. قوله: ((والرابع أن يكون تاليًا لحيض لم تطلق فيه ((واحدة)))): وهذا كما ذكره، لأن الواحدة تفيد من انحلال العصمة ما يفيده الزائد عليها، فلا فائدة للزيادة، وكذلك قال مالك وأصحابه على جميع الطلاق في كلمة واحدة محرم، والدليل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر، حين قال له: (أرأيت إن طلقتها ثلاثًا فقال له إذا بانت منك، وعصيت ربك). فإن طلق في كل طهر مرة فإنها تكون كإيقاع الطلاق جملة، إذ لا مخرج له من لزوم الثلاثة فكان كالطلاق ثلاثًا في كلمة واحدة، ويجوز نظرًا إلى الإفراد، وهذا هو الشرط السادس. قوله: ((ثم قد يكون البدعة وهو أن يكون في حيض، أو ظهر مس فيه، أو اثنين، أو ثلاثًا، أو واحدة مبتدأة، ثم يتبعها ثلاثًا)): وهذا كما ذكره، ولا شك أن طلاقها بدعة، وكذلك إذا أوقعها في طهر مسها فيه، وكذلك إيقاع الاثنين، إذ لا فائدة لها، وقد ذكر أن إيقاع الثلاثة في كلمة كلمة واحدة محرم، والإفراد كالجمع في أحد القولين. قوله: ((وأما من تتساوى أوقاتها في جواز طلاقها فثلاث)): وهذا كما ذكره، لأن هؤلاء لا انتقال في عددهن، ولا إشكال في أن الشروط التي ذكرها في طلاق السنة غير متصورة بهن.

قوله: ((ويوصف بذلك من حيث العدد)): لأن الأعداد متصورة في ذلك، فإن اقتصر على الواحدة فهو مطلق للسنة. قال القاضي: ((وطلاق الحائض والنفساء محرم)): إلى قوله: ((ولا يلزم طلاق غير مكلف)). شرح: أجمع العلماء على أن طلاق الحائض محرم، والدليل على ذلك ما خرجه مالك في موطئه من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأل عمر بن الخطاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال -عليه السلام-: (مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها بعد، وإن شاء طلقا قبل أن يمسكها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق بها الناس). قال أبو عمر بن عبد البر انتهى كلام النبي -عليه السلام- إلى قوله: (قبل أن يمسك) وفي بعض طرق هذا الحديث قال أبو عمر فقرأ النبي -عليه السلام-: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} الآية. وعن ابن عمر قال: فراجعها (وحسب لها) بتطليقة التي طلقها. وذكر أبو محمد عن ابن عمر أنه قال: تعتد بذلك. وذكر الدارقطني من حديث ابن عمر قلت يا رسول الله لو أني أطلقها ثلاثًا أكان تحل لي إن لم ألحقها قال: لا، كانت تبين منك، وتكون معصية. واختلف العلماء في (تعليل) النهي، فقال الجمهور إنه غير معلل، وقال بعضهم هو معلل بتطوير العدة. وينشأ عن هذا مسائل. المسألة الأولى: هل يجوز طلاق الحامل في حال حيضتها أم لا؟ وفيه

قولان فمن عقل معنى التحريم أجاز طلاق الحامل (أيضًا)، إذ لا تطويل في حقها لما كان العدة وضع الحمل لا محالة، ومن جعل النهي عبادة مجردة منع. المسألة الثانية: طلاق غير المدخول بها في حال حيضتها فيه قولان أحدهما: المنع اعتبارًا بصورة الحيض المنع من إيقاع الطلاق. والثاني: الجواز إذ لا عدة عليها. المسألة الثالثة: اختلفوا في جواز طلاق المستحاضة للاختلاف فيها هل حكمها حكم الحائض، أو حكم الطاهر، أو حكم بين حكمين. المسألة الرابعة: الخلع في الحيض هل هو كالطلاق نظرًا إلى أثره، أو ليس مثله لانتفاء النكاح، فيه قولان حكاهما الأصحاب. المسألة الخامسة: الطلاق برضاها في الحيض إن لم يكن العوض فيه نظر إلى (الجواز والمنع) فمن رآه تطويلًا برضاها أجازه، ومن لم يعلل منع منه. المسألة السادسة: اختلاع الأجنبي عنها في زمن الحيض في قولان: الجواز، والمنع بناء على ما ذكرناه. قوله: ((ويلزم إن وقع)): هذا مذهب جميع أهل العلم أنه لازم إن وقع لقوله -عليه السلام-: (فليراجعها) ولا مراجعة إلا بعد طلاق واقع. وشذت طائفة من أهل البدعة فقالوا: إنه لا يلزم إن وقع، لأنه فاسد الوضع، وهذا خلاف الإجماع.

قوله: ((ويجبر على الرجعة فيما كان منه رجعيًا)): وهذا كما ذكره، فإن طلقها بانت منه والنفساء والحائض في ذلك سواء. قال أشهب في كتاب محمد إذا طلق في حيض، أو نفاس أجبر على الرجعة سواء أبره، أو حنث فيه، فإن أبى هدد بالسجن، فإن استمر على الامتناع حبس، فإن أبى ضرب بالسوط، لأنه فعل معصية، فلا يقر على التمادي، فإن أبى بعد الضرب ارتجع الحاكم عليه. وههنا فروع: الأول: إذا أجبر على الرجعة ولم ينوها فقال الشيخ أبو عمران أن له الوطء بعد ذلك وهو كالزوج هازلًا. واستقرأ بعض البغداديين من المذهب أنه لا يجوز له الوطء، إذ لا نية له فيه. الفرع الثاني: إذا كان النكاح فاسدًا فهل تقع الفرقة فيه في زمان الحيض أم لا؟ التحصيل فيه أن الجمع على فساد الذي لا خيار لأحد الزوجين بفسخ مطلقًا في حال الحيض والطهر، وأما المختلف فيه فما لأحد الزوجين فيه خيار، فلا يفرق فيه في زمان الحيض على الأشهر من المذهب. الفرع الثالث: إذا اختلف الزوجان فقالت طلقني في حال الحيض، وقال في حال الطهر، وروى ابن سحنون عن أبيه أنها مصدقة لأنها مأمونة على رحمها، ولا تكشف، ولا أرى أن ينظر (لها) النساء، ويجبر على الرجعة. وروى عيسى عن ابن القاسم أن القول قول الزوج، وهو الصحيح، لأنه المدعى عليه إيجاب الرجعة. قوله: ((ثم ليس له أن يطلق إلا بعد الطهر من الحيضة الثانية التالية

للحيضة التي طلق فيها)): وهذا هو الصحيح لقوله -عليه السلام- في حديث ابن عمر: (فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض، ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك). واختلف العلماء في تعليل ذلك على وجهين، فقال بعضهم ألا يطول على الزوج معاملة (له) بنقيض قصده، لأنه لما أراد بالطلاق في حال الحيض التطويل على الزوجة أعاد ذلك عليه. الثاني: قال بعض الأشياخ إنما ذلك ليلًا يكون الرجعة والارتجاع الشرعي إنما يراد للوطء، فإذا (راجعها) ثم طهرت فوطئها لم يكن له الطلاق في ذلك الطهر، لأنه طهر الوطء فيمكن فيه الحمل فيقع الندم، فإذا حاضت، ثم طهرت فله الطلاق إذ هو طهر خال عن الوطء فيه فكان هو المقصود في حصول السنة في الطلاق، فإن طلق في الطهر المتصل بالحيض الذي أوقع فيه الطلاق فقد أساء، والطلاق لازم. قوله: ((وإن غفل عنه أجبر ما بقي من العدة شيء)): وهذا الفرع فيه قولان حكاهما القاضي، فمذهب ابن القاسم أن الجبر مستمر ما بقي من العدة شيء (قال) أشهب يجبر ما لم تطهر من الحيضة الثانية بحيضة الطلاق، إذ لو طلق حينئذ لجاز. وههنا مسائل: المسألة الأولى: إذا قال للحائض أنت طالق للبدعة، طلقت في الحال وأجبر [على] الرجعة، وكذلك إذا قال لها إذا طهرت من حيضتك فأنت طالق، فينجز عليه الطلاق، لأنه يقول أجل واجب، ولو قال للطاهر: ((أنت طالق للسنة)) وقع عليه الطلاق في الحال، وكذلك لو قال لها: ((أنت طالق للبدعة)) لعجل عليه الطلاق، فكأنه يقول لها إذا حضت فأنت طالق (فجعل) عليه الطلاق إذ الغالب كالواجب.

ولو قال لها: ((أنت طالق ثلاثًا للسنة)) لزم الآن ثلاث تطليقات وكأنه قال: أنت طالق طالق في كل طهر طلقة، فيجعل عليه بناء على ما ذكرناه من (أن) الغالب كالواجب. فرع: إذا قال للطاهر المدخول بها وهي ممن تحيض أنت طالق ثلاثًا وبعضها للسنة وبعضها للبدعة لزمه ثلاث تطليقات، لأن طلاق البدعة في المدخول بها يكون بالثلاث، وكذلك في غير المدخول بها ولو قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثًا للسنة، فقال سحنون: لا يلزمه إلا طلقة واحدة، إذ لا عدة على غير المدخول بها فكأن الطلقتين إنما أوقعهما على غير زوجة. ولو قال: أنت طالق ثلاثًا في كل قول طلقة فإن كانت مدخولًا بها طلقت الآن ثلاث، لأنه من باب (تعليق) الطلاق بالأجل الواجب. وإن كان غير مدخول بها طلقت طلقة واحدة فقط، لأنها تبين بذلك فلا محل للثانية. قال القاضي -رحمه الله-: ((ولا يلزم طلاق غير مكلف)): إلى قوله: ((وعقد الطلاق)). شرح: يتعلق بهذا الفصل الكلام في صفة المطلق الذي يلزم طلاقه وهو المسلم المكلف فقولنا: ((المسلم)) احترازًا من الكافر. وقد اختلف المذهب في طلاق الكتابي، والمشهور أنه لا يلزم بناء على أنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة، والشاذ أنه يلزم بناء على أنهم مخاطبون، فإذا تحاكما إلينا حكمنا لهم بحكم الإسلام لا محالة. وفي المدونة أن الكافرة إذا أسلمت فطلقها زوجها النصراني، وهي في عدتها لم يقع عليها الطلاق. قال اللخمي: وذلك لازم إذا لم تقم الزوجة بالطلاق، فإن قامت وقع عليها الطلاق. وقولنا: ((المكلف)) احترازًا من غير المكلف كالصبي والمجنون. أما الصبي

غير المراهق فلا خلاف في أن الطلاق غير لازم، وأما المراهق ففي لزوم طلاقه قولان مبنيان على أن الطلاق غير لازم، وأما المراهق ففي لزوم طلاقه قولان مبنيان على الخلاف في أحكامه هل هي أحكام البالغ، أو غير البالغ، ولا خلاف في لزوم طلاق البالغ العاقل سفيهًا كان أو رشيدًا. وألحق القاضي -رحمه الله- النائم والمبرسم والهاذي في غمرات المرض بالمجنون المطبق، فإن كان مجنونًا غير مطبق فطلق في حال إفاقته فلا خلاف في لزوم الطلاق. قوله: ((ومكره يخاف من شدة الضرب)): ويتعلق بهذا أمران حكم طلاق المكره، وصفة الإكراه، وأصل المذهب أن طلاق المكره غير لازم، والدليل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رفع عن أمتي (ثلاث): الخطأ والنسيان، والمستكره عليه) والخلاف في ذلك بين الصحابة ومن بعدهم، مشهوره ما ذكرناه في مطولات العامة. وتفصيل اللخمي في ذلك حسن قال: ((إن أكره فلفظ به غير معتقد معناه لم يلزمه، وإن اعتقد معناه فهو لازم، لأن الاعتقاد الاختيار [ي] لا يتعلق به، والإكراه ثابت إذا أكره على باطل، فإن أكره على واجب شرعًا فهل يلزمه يمينه أم لا؟ فيه قولان: المشهور أن طلاقه لازم، والإكراه في هذا القسم غير

معتبر لوجوب الفعل المكره عليه والشاذ أنه إكراه لا يلزمه به شيء اعتبارًا بضرورة الإكراه. قوله: ((يخاف من شدة الضرب)): يتعلق به صفة الإكراه، ولا خلاف في المذهب أن كل ما يرجع إلى النفس كالضرب وخوف القتل والسجن إكراه. واختلف إذا (خاف) على نفس غيره، والمشهور أنه إكراه، كخوفه على نفسه لوجوب حفظه عليه، والشاذ أنه لا يكون إكراهًا والقولان في المذهب أيضًا فيما يرجع إلى الخوف على المال هل هو إكراه أم لا؟ والصحيح أنه إكراه إلا في المال اليسير الذي لا قدر له. قوله: ((وسواء أكره على إيقاعه، أو على الإقرار به)): صورة المسألة الأولى أن يطلق في الحال مكرهًا، وصورة الإقرار أن يكره على الإقرار فيقول: كنت طلقتها. وكلاهما مع تحقيق الإكراه سواء في تحقيق اللزوم. قوله: ((والسكران خارج عن هؤلاء فيلزمه)): واختلف العلماء في طلاق السكران، أو غيره، فالمشهور نفوذ طلاقه. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. قال الإمام أبو عبد الله: وقد رويت عندنا رواية شاذة لا يلزم. وفصل القاضي أبو الوليد: فقال السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة كالمجنون في أفعاله وأحواله (إذ) لا يلزمه طلاق ولا غيره. وأما السكران الذي معه بقية من عقله فلا خلاف في (لزوم طلاقه) وعتقه إذ هو في حال (يجبر) فيها، والمعتمد

عليه من مذهب مالك -رحمه الله- أن الحدود والقصاص تلزمه، كالطلاق، واستقرأه اللخمي من المذهب. واختلف فيمن سكر بسكران أو غيره عالمًا أنه يسكر متعديًا في شربه من غير مداواة هل يلزمه الطلاق، لأنه كالتعدي في الخمر، أو لا يلزمه، وفيه نظر. قال القاضي: ((وعقد الطلاق والعتق بشرط التزويج)): إلى آخره. شرح: يتعلق بهذا الفصل حكم العتق والطلاق قبل الملك، وقد اختلف أهل العلم هل يلزم أم لا؟ وفي المذهب في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: إنه لازم مطلقًا عم أو خص، وبه قال أبو حنيفة. الثاني: إنه لازم عم، أو خص. الثالث: (إنه) لازم إن خص، وغير لازم إن عم، وهو المشهور من المذهب، فإن فصلت فقلت إن عم فقولان: أشهرهما أنه لا يلزم، والشاذ اللزوم، وإن خص فقولان: المشهور: اللزوم، والشاذ نفيه. أما اللزوم مع العموم وهو الشاذ من المذهب، فاعتماد على أنه من باب الشرط والمشروط وهما متلازمان في طرق فقط عقلًا وشرعًا. وإذا لزم العموم فهو مع الخصوص لازم. وأما نفي اللزوم مع الخصوص فهو رواية ابن وهب، والمخزومي، وابن عبد الحكم وغيرهم عن مالك. فروى أبو زيد عن ابن القاسم أن صاحب الشرط كتب في رجل تزوج امرأة حلف بطلاقها إن تزوجها هل يفسخ نكاحه فكتب إليه ابن القاسم لا نفسخه. وسمعت أشياخنا يحكون أن المخزومي حلف أبوه على أمه بمثل هذا ولم يلزمه

شيء، وسئل مالك بن أنس عن ذلك فقال: لا شيء عليك وهو قول سعيد بن المسيب وغيره، واعتمد هؤلاء على النص والمعنى. أما النص فما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا طلاق قبل النكاح) وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: (لامرأة إن تزوجتك فأنت طالق فأراد أن يتزوجها فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك وقال: (لا طلاق قبل النكاح) وعلى هذا الحديث اعتمد مالك، وبه أفتى المخزومي وفي إسناده مقال، وأما المعنى فينظر إلى أن الطلاق يستدعي محلًا قابلًا، ولا يتعين الحمل إلا بالعقد فحيث لا عقد لا يصح الطلاق، إذ لا معنى للطلاق لأجل العصمة المنعقدة. وأشار الأولون إلى أن المحلية حاصلة بالشرط إلى اللزوم ومرتب على الالتزام، والالتزام إنما كان بشرط التزويج فإذا كان الطلاق معلقًا بالتزويج صدقت المحلية المشترطة في اللزوم، ولهذا اتفق المذهب على أن من قال لأجنبية: أنت طالق ولا يريد إن تزوجتك فلا شيء عليه، ولعله المراد بقوله -عليه السلام-: (لا طلاق قبل النكاح) يريد نفي اللزوم، ومع نفي التعلق الذي يقتضي النظر. وأما اعتبار تحقيق المحلية وهي حاصلة فلا يلزم مطلقًا، أما اعتبار الشرط فيجري مطلقًا، وأما من فرق بين العموم والخصوص فنظر إلى أن اللزوم مع العموم من باب التضييق والحرج الذي رفعه الشرع بخلاف الخصوص (وهو) استحسان، ومقتضى الدليل اعتبار أحد أمرين كما قدمناه، وعلى نحو هذا الاختلاف اختلفوا في اليمين على الملك مثل أن يحلف ألا يشتري مملوكة (فقيل) لا يلزمه اليمين مطلقًا، عم أو خص ملاحظة لما أشرنا إليه، ولأن ذلك حرج مرفوع شرعًا، وقيل يلزم مطلقًا، لأن الحرج مرفوع ببقاء نوع من المنكوحات.

والقول الثالث: اللزوم في الخصوص ونفيه مع العموم بناء على ما قدمناه. نكتة: مبنى الخلاف في لزوم الطلاق قبل الملك على الولاية على المحل تعليقًا هل هي كولاية عليه تحقيقًا أم لا؟ وفيه قولان أصحهما أنهما مختلفان. المشهور من المذهب التسوية بين التحقيق والتعليق مع الخصوص. نكتة: الذين قالوا باللزوم جعلوا التحقيق شرطًا في النفوذ والوقوع لا في اللزوم، وجعلوا اللوم حاصلًا مع التحقيق والتعليق معًا. قوله: ((وذلك بثلاثة (أوجه) أحدها أن يعين صفة من الجنس من نسب أو خلقة)) صورة الأولى قرشية أو تميمية أو نحوه، وهذا راجع إلى باب الخصوص لأنه أبقى لنفسه قبائل كثيرة. واختلف المذهب إذا أبقى لنفسه قبيلة صغيرة، أو بلد صغير على قولين: اللزوم، ونفيه لأنه من باب الحرج. وصورة الثانية أن يقول كل بكر، أو كل ثيب ونحو ذلك فهو خصوص كله واختلف الرواية إذا قال: كل بكر أتزوجها وكل ثيب طالق، فحكى أبو الطاهر في هذه الصورة ثلاث روايات: إحداها: إنه يلزمه في الجميع بناء على عموم اللزوم ففي المحلين تحكمًا للشرط. الثانية: إنه لا يلزمه في الجميع بناء على أن الطلاق قبل الملك لا يلزم لتفقد المحلية الشرعية. الثالثة: اللزوم في النوع الأول دون الثاني، إذ بالثاني وقع الحرج. فرع: إذا قلنا إنه لا يلزم مع الخصوص فتزوج أحدًا بأحد القولين، فهل يفسخ النكاح أم لا؟ فيه قولان مبنيان على مراعاة الخلاف. قوله: ((والثاني أن يعين بلدًا بعينه)): وهو كما قدمنها أنه إن استثنى بلدًا كبيرًا لنفسه فهو لازم، وإن أبقى بلدة صغيرة فيه قولان كما تقدم. ومن

هذا النمط أن يبقى لنفسه امرأة واحدة فيقول كل امرأة أتزوجها طالق إلا فلانة بعينها. وتحصيل القول أن هذه المبقاة إن كانت زوجه قولان: أحدهما: أن ذلك لا يلزمه، لأن ذلك حرج وعموم، فلا يلزم بناء على الأصل في عدم اللزوم مع العموم، والثاني اللزوم لأنه قد أبقى لنفسه ما يرفع الحرج بوجوده. وإن كانت أجنبية فثلاثة أقوال: اللوم بناء على أن اللزوم مع العموم، ونفيه بناء على أنه حرج مرفوع شرعًا. والثالث أنها إن كانت متزوجة لم يلزم لأنه (إذ) لا سبيل (إلى وطئها في الحال)، وإن كانت غير متزوجة لزم، لأنه من باب الخصوص، وإذا أبقى لنفسه الإماء فقال: كل امرأة أتزوجها من الحرائر طالق، وهذا راجع إلى التقييد بالصفة، والمشهور اللزوم، لأنه خصوص، وقيل لا يلزم لأنه عموم (نوعًا) ونكاح الأمة رذالة، والإلزام خارج من ( ... ). فرع: ومن ذلك أن يقول أول امرأة أتزوجها طالق المشهور اللزوم لأنه خصوص. ولو قال آخر امرأة أتزوجها طالق فهل يلزمه أم لا؟ فيه قولان. أحدهما: أنه لا يلزم وهو بمنزلة من عم، كلما تزوج امرأة طلقت عليه لاحتمال أن تكون الآخرة. والثاني: أنه لا يلزم ويوقف عمن تزوج لاحتمال أن تكون الآخرة، فإذا تزوج غيرها حلت له الأولى (وأوقف) عما بعدها وهكذا أبدًا حكاه أبو الطاهر بهذا اللفظ. ولو قال أول امرأة

وآخرها طلقت الأولى، ويختلف في اللزوم ليمينه في الثانية وما بعدها. قوله: ((والثالث أن يضرب أجلًا يبلغه عمره)): وهذا كما ذكره. وتحصيل القول فيه أنه إن كان يبلغه عمره فلا يخلو أن يبلغه في حال الهرم أم لا فإن بلغه في حال يقدر فيه على الجماع لزمه اليمين، وإن كان لا يبلغه إلا في حال الهرم ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزم، لأن ذلك كالعموم. الذي يوجب الحرج غالبًا، والثاني: اللزوم بناء على مراعاة الاستثناء الرافعة للعموم المقترن بالحرج والمشقة. ولو علقه بحياة غيره من أجنبي، أو زوجة فهل يلزمه أم لا؟ فيه تفصيل. أما إذا علقه بحياة أجنبي فقال: كل امرأة أتزوجها ما دام فلان حي (فهي) طالق فالمشهور اللزوم، لأنه من باب الخصوص، والشاذ نفي اللزوم لاحتمال موت فلان في حياة الحالف فيلحقه بذلك الحرج المرفوع شرعًا. وأما إذا قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها عليك طالق ما دامت لي زوجة، فهو لازم لأنه خصوص الخصوص، وقيل في المذهب لا يلزم بناء على ما ذكرناه من احتمال موته قبل موتها. وإن جعله حياتها وبعدها فلا يلزم بعد الموت لما فيه من الحرج البين، وهل يلزمه في الحياة أم لا؟ فيه قولان مبنيان على ما قدمناه إذا جعله حياة غيره. قال القاضي: ((الطلاق على ضربين معجل)): إلى قوله: ((فأما تعليق)). شرح: الطلاق المعجل كما ذكره، وذكر أن المؤجل على خمسة أقسام. الأول: الموقف على شرط ممكن، ولا خلاف في وقوع الطلاق على وجوده كما مثل به القاضي. الثاني: المعين بالأجل لابد أن يأتيه كمجيء الشهر ونحوه. واختلف العلماء في تعجيل الطلاق في هذا القسم، فقال مالك وجميع أصحابه يعجل، وإن بقى إلى آخر الأجل صار مضارعًا لنكاح المتعة. وقال الشافعي: لا يعجل

بل يبقى إلى أجله واستقرأه الإمام أبو عبد الله من المذهب. فإن علقه بأجل لا يبلغه عمره فقال أنت طالق إذا انقضت خمس مائة عام، فحكى القاضي فيه روايتين. إحداهما: أنه لا يلزمه توفية لمقتضى الشرط. والثانية: أنه يلزمه في الحال كالهازل. وفي هذا النمط أن يقول أنت طالق إن مت، والمشهور لا يلزم، وقيل يلزم، لأنه هازل، وهذا الطلاق جد. والثالث: أن يعلقه بغالب مجيئه كالحيض، والطهر، ووضع الحمل، وحكى القاضي وغيره فيه روايتين. أحدهما التنجز في الحال، والأخرى الوقوف (على) مجيء الصفة وهما مبنيان على مراعاة الصورة النادرة. والرابع: أن يقول لها أنت طالق إن لم تكوني حاملًا، أو إن لم تمطر السماء، وإن لم يكن في هذه اللوزة توأم، فإن لم يوجد ما حلف عليه ففي وجوب الحنث عليه في هذه الصورة قولان في المذهب، أحدهما: اللزوم مطلقًا، لأنه حلف على غيب، والثاني: أنه لا يلزمه لمطابقة المحلوف عليه. والخامس: صفات الهزل، ومثله القاضي بقوله: إن لم يكن هذا الإنسان إنسانًا، وإن لم تكن الساعة نهارًا وهذا لازم لأنه من الهزل المخلف في هذه القول وعد بالحق. قال القاضي: ((فأما تعليق الطلاق بالمشيئة)): إلى قوله: ((وألفاظ الطلاق)). شرح: قد تقرر من قواعد المذهب أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى لا تنفع إلا في اليمين بالله، أو ما فيه كفارة، والدليل على أنه يرفع حكم اليمين بالله ما خرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا ثم قال إن شاء الله) وفي رواية: (ثم سكت ساعة ثم قال إن شاء الله) والاتصال أصح والله أعلم.

قال أصحابنا والفرق بين اليمين بالله، وبين الطلاق حيث ينفع الاستثناء بمشيئة الله في اليمين بالله ولم ينفعه في الطلاق من جهة أن لفظ اليمين بالله لا يتعلق به وحده حكم بخلاف لفظ الطلاق فإنه قد تعلق بلفظ حكم الطلاق فإذا وقع على حمله لم يصح رفعه، إذ الماضي لا يرفع، وكان كاليمين على الماضي الذي لا يرفع بحكم المشيئة. قوله: ((وسواء أطلق، أو كان في يمين)): (وهذا كما ذكره) أما إذا أطلق فمثل أن يقول: أنت طالق إن شاء الله، وإن كان في يمين فمثل أن يقول إن فعلت كذا فأنت طالق إن شاء الله. قوله: ((وهذا إذا أعاد الاستثناء إلى الطلاق)): فإن عاد إلى الفعل المحلوف عليه ففيه خلاف مثل أن يقول: أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله. فالمشهور أن هذا الاستثناء لا ينفع، والشاذ أنه إن صرفه إلى الفعل نفعه، وهو قول عبد الملك، وهو الصحيح في النظر. قوله: ((وما مشيئة من لا تصح مشيئته كالشاة)): إلى آخره هذا فيه قولان: أحدهما: أن الطلاق لا يلزم اعتبارًا بالشرط، وهو قول ابن القاسم، وقول سحنون وغيره يلزمه الطلاق لأنه كالهازل، وكذلك إذا علقه على مشيئة من لا يعلم بمشيئته أن يقول: أنت طالق إن شاءت الملائكة أو شاء الجن، ففيه قولان: اللزوم لأنه كالهازل، والثاني: نفي اللزوم تحقيقًا لمعنى الشرطية. ولو قال أنت: طالق إلا أن يشاء زيد، فالمشهور وقوع الطلاق ولا ينفعه الاستثناء، لأنه ورد بعد وقوعه. والثاني: إيقاف الطلاق على المشيئة اعتبارًا بصورة لفظه. قوله: ((ويجوز استثناء العدد من الطلاق)): من غير اعتبار بكون

المستثنى أكثر من المبقى، أو أقل فلا خلاف في صحته شرعًا ولغة. فإن استثنى الأكثر من الأقل مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين فهل ينفعه هذا الاستثناء أم لا؟ فيه قولان مبنيان على خلاف الأصوليين في صحة هذا الاستثناء. قوله: ((وإن لم يبق شيء)): يعني أن يصدر منه لفظ الاستثناء من غير أن يقصد معناه. قوله: ((وفي وقوع الطلاق بمجرد عقد القلب خلاف)): وتحصيل القول في ذلك أن الطلاق إن كان بلفظ ونية لزم بلا خلاف، وإن انفرد أحدهما مثل أن يطلق باللفظ دون النية، أو بالنية دون اللفظ ففيه قولان: المشهور أن اللفظ كاف في لزوم الطلاق قرنته النية أو لم تقارنه، وأما إذا طلق بنية من غير لفظ فالمشهور أنه لا يقضى عليه بالطلاق، وقد قيل يلزمه، لأن النية هي المنظور إليها. قال القاضي: ((وألفاظ الطلاق أربعة)): إلى قوله: ((وتبعيض الطلاق)). شرح: أجمع المالكية على أن للطلاق ألفاظًا صريحة وكناية، أما الصريح فاختلف (المذهب) فيه على قولين: أحدهما أن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح. واختار ابن القصار أن الحرام والبتل صريح كالطلاق. وفائدة الفرق بين الصريح والكناية أن الصريح لا يقبل التأويل بخلاف الكناية على ما فيها من تفصيل. ثم قسم (القاضي) الكناية إلى قسمين: ظاهرة، ومحتملة، فالظاهرة ما جرى العرف أن يقع الطلاق به شرعًا، والمحتملة عكسه.

قوله: ((كقوله أنت طالق، أو أنت الطلاق)): يريد ما اشتق من هذا المصدر الذي هو الطلاق، ولا يقبل في ذلك دعواه أنه لم يرد الطلاق إلا أن تبينه قرينة الحال مثل أن تكون في وثاق فيقول: (أنت) طالق يريد من وثاق، فيقبل قوله فهو صريح في لفظ الطلاق، وجعله بعض شيوخنا صريحًا في عدد الطلاق، ولعله أراد إذا سمى عددًا، فإذا قال لها: أنت طالق فهي واحدة فهل يستظهر عليه باليمين، فيه قولان جاريان على أيمان التهم حكاهما أبو الطاهر. وإذا أراد أكثر من واحدة فهو كذلك لصراحة اللفظ واحتماله، فإن كرر هذا اللفظ، فقال: أنت طالق، أنت طالق إذا كرر عليه الطلاق، إلا أن يدعي التوكيد فيقبل قوله، وهل يستظهر عليه باليمين أم لا؟ فيه قولان جاريان على أيمان التهم. ولو قال قبل الدخول بها: أنت طالق فكرر ذلك، فإن فصله ولم ينسقه لم يلزمه إلا واحد، لأنها بانت منه، فصارت في عدم القبول كالأجنبية، وإن كرر ذلك نسقًا فهل يلزمه ثلاث فيه قولان: المشهور انه يلزمه لقول (ابن عمر) الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها، فكأنما وقعت جملة واحدة، والشاذ أنه لا يلزمه إلا واحدة لحصول البينونة بالواحدة قبل الدخول. قوله: ((أنت خلية، (أو بريئة، أو بتة أو بتلة، أو بائن أو حرام أو حبلك) على غاربك)): قلت هذه الألفاظ من الكنايات الظاهرة إلا أن بعضها أجل من بعض، فأدل على البينونة المطلقة فلو فصل القول فيها لكان أفضل. أما إذا قال لها خلية أو برية، أو بائن، أو حبلك على غاربك فهي ألفاظ سواء، وقد اختلف في مقتضاها على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه ينوي في جميعها في المدخول بها، وغير المدخول بها، فإن نوى شيئًا كان ما نوى، وإن لم ينو شيئًا فهو ثلاثة على المشهور احتياطًا، أو واحدة. والقول الثاني: أنه ثلاثة في المدخول بها. والثالث: أنه واحدة في المدخول بها وغير المدخول بها، إذ لا دلالة للفظ على الثلاث وإذا قلنا إنه واحدة فهل يكون بائنة لحصول البراءة التي هي مقتضى اللفظ أو رجعة، إذ البينونة المدخول بها متوقفة على العوض فيه قولان عندنا، وأما لفظ البتة والبثلة فلا خلاف في مذهب مالك أنه في المدخول بها ثلاث فلا ينوي إذ هو مقتضى لفظ البتة الذي هو القطع، وأما غير المدخول بها فهو ينوي فيها إذا قال أردت واحدة أم لا فيه قولان: المشهور أنه لا يقبل. وأما لفظ الحرام مثل أن يقول: أنت علي حرام، فقد اختلف العلماء فيه اختلافًا مشهورًا ذكرناه في المطولات. وفي المذهب خمسة أقوال: الأول: أنها ثلاث، إذ لا يحصل التحريم بدونها عندنا. الثاني: إنها واحدة بائنة، لأن معنى التحريم حاصل بالبينونة. الثالث: إنه واحدة رجعية، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. الرابع: أنه ينوي في غير المدخول، وهو في المدخول بها ثلاث. قوله: ((وهو في المدخول بها ثلاث)): إشارة إلى جميع ما مثل به من ظاهر إلا في لفظة الحرام وقد ذكرنا الخلاف في البتة. وأما خليتك، وسرحتك، وفارقتك فينوي في جميعها في غير المدخول بها، وفي المدخول بها ثلاث أقوال: فقيل ثلاث: (إلا أن ينوي واحدة، وقيل ثلاثة) ولا ينوي، وقيل واحدة رجعية، أو بائنة على قوله.

والثالث: هي الكنايات المحتملة، وهذا القسم لا خلاف فيه، في أن تفسيره فيه مرجوع إليه إلا أن تكذبه قرينة الحال. قوله: ((والرابع الطلاق بغير ألفاظه)): كقوله: اسقني ماء ونحوه، فإن لم ينو بهذا اللفظ طلاقًا لم يلزمه شيء، وإن نوى به الطلاق لزمه الطلاق إلا أن الأشياخ اختلفوا هل هو طلاق بالنية، أو باللفظ والنية معًا. ولو قال: إن فعلت كذا فلا عصمة بيني وبينك للزم بذلك الطلاق لظاهره ودلالته على ذلك. وقول القاضي: ففي وقوع الطلاق به خلاف فيه نظر، أما إذا أراد به الطلاق فلا خلاف في وقوع الطلاق، وإنما الخلاف كما ذكرنا هل هو طلاق بالنية واللفظ، أو بالنية فقط إلا أن يشير القاضي إلى الخلاف في وقوع الطلاق بالنية لعدم دلالة اللفظ على الطلاق، فهو صحيح. قال القاضي: ((وتبعيض الطلاق كتكميله)): إلى قوله: ((والرجعة بوجهين)). شرح: وتبعيض الطلاق أن يقول: أنت طالق نصف طلقة، أو ربع طلقة ونحوه، فتكمل عليه الطلقة بلا خلاف. ولو قال أنت طالق نصفي طلقة، أو نصف طلقتين لوقعت الواحدة ولو قال لها: أنت طالق طلقة وربع طلقة وسدس طلقة فهي إذا ثلاث تطليقات. والطلاق بالحساب معتبر بالضرب. مثل أن يقول: أنت طالق واحدة في واحدة فهي واحدة، إذ الواحدة لا مضاعف لها في مثله. ولو قال لها أنت طالق اثنين في اثنين فهي ثلاث لبطلان الرابعة. قوله: ((وإذا كتب الطلاق بيده)): يتعلق به حكم الطلاق بالكتاب، ولا يقع الطلاق بالكتابة إلا أن يكتبه عازمًا على الطلاق لا مترويًا، ويريد فإن كتبه مترويًا مترددًا، ثم أخرجه من يده عازمًا لزمه به الطلاق. وإن شك على أي حالة هل على الشك، أو على الجزم، فهل يقع عليه الطلاق احتياطًا أم لا؟ المذهب فيه على قولين. واختلف الأشياخ في صفة كتاب الطلاق في الكتاب فقال بعضهم يكتب

لها بتنجيز الطلاق، واختار بعضهم ما روى عن أشهب أن يكتب لها: إذا وصلك كتابي وأنت طاهر فأنت طالق، وإن وصلك الكتاب وأنت حائض، فأنت طالق إن طهرت. وههنا فروع: إذا أخرج الكتاب من يده غير عازم على الطلاق فله استرجاعه ما لم يبلغ المرأة فيلزمه، وفي المذهب أنه إذا أخرجه من يده لزمه، وإن كان غير عازم صار الكتاب به كالنطق، والإشهاد، وقع ذلك في كتاب محمد. ولو باع امرأته فقال ابن القاسم: هو طلقة بائنة قال: وبلغني ذلك عن مالك وروى ابن وهب أنه لا يكون ذلك طلاقًا، وقال ابن عبد الحكم وأصبغ تحرم عليه بطلاق وتعد به. وروى عن أصبغ أنه إن باعها هازلًا فليس بطلاق، وإن كان غير هازل فهو البتات. ثم ذكر القاضي أن لفظ الطلاق المطلق محمول على ما أراد، فإن لم يرد شيئًا فهو واحدة وقد تقدم ذلك. وقد اختلف الناس في انهدام العصمة الأولى بالتزويج. لا خلاف في مذهب مالك أنها لا تهدم إلا بالثلاث. ثم ذكر مسائل الشك للطلاق. وتحصيل القول في ذلك إما أن يتيقن اليمين، والحنث، أو يشك فيهما. أو تيقن اليمين ويشك في الحنث، فإن (تيقن) اليمين، والحنث معًا فلا إشكال، والشك فيهما لم يجب عليه شيء، وهل يؤمر بالفراق احتياطًا أم لا؟ فيه قولان: الصحيح أنه لا يؤمر لقوله -عليه السلام-: (لا حتى تجد ريحًا، أو

تسمع صوتًا) وإذا قلنا إنه يؤمر بالفراق فهل يجبر عليه أم لا؟ قولان: أحدهما وجوب الفراق، إذ لا يجوز الإقدام على وطء مشكوك فيه. الثاني: أنه لا يجبر على الفراق اعتمادًا على أن الشك لا يرفع اليمين السابق، فإن تحقق انعقاد اليمين عليه وشك في تعينها دليلًا مثل أن يتيقن أنه حلف ولم يعلم ما حلف به، قال أصبغ وغيره يجبر على التزام الأيمان كلها إلا ما لا تجر عادة اليمين به فيجبر على الصدقة والمشي إلى مكة والعتق المشهور من المذهب أنه يؤمر بالتزامها ولا يجبر على ذلك. وحكى بعض المتأخرين من الأشياخ أنه لا يؤمر بذلك. وقال ابن المواز من حلف بيمين ثم شك في بره، أو حنثه فهو حانث ما لم [يكن] يمينه بالله تعالى. فرع: إذا قال: إذا كان هذا الطير غرابًا فامرأتي طالق وقال آخر: إذا لم يكن غرابًا فامرأتي طالق، وأشكل، فقد حنث جميعًا إلى (أن) يدعيا أن ذلك (سهو) ويحلفا عليه. قوله: ((وإذا شك في مراده بلفظ الطلاق من أعداده كان ثلاث)): هذا هو المشهور كما ذكره (أنه) يجب عليه (البتات)، إذ لا تصح الإباحة مع الشك احتياطًا. قال ابن القاسم: وأرى إن ذكر وهي في العدة أنه لم يطلق إلا واحدة، أو اثنتين أنه يكون أملك بها، فإن انقضت العدة قبل أن يذكر فلا سبيل إليها. وإن تذكر بعد انقضاء العدة إنما طلق طلقة أو طلقتين فهو خاطب من الخطاب، وهو مصدق في ذلك ولا أحفظه عن مالك. فرع: إذا وقع الثلاثة في مسألة الشك فثبت طلاقه في النكاح الثاني حلت بعد زوج وسقط عنه حكم الأول بكل حال، وإن لم يثبت طلاقها فطلقها

طلقة واحدة حرمت عليه إلا بعد زوج كانت واحدة كالثلاث في هذه الصورة، وهل يتكرر عليه ذلك أبدًا ولو بعد مائة زوج (أو يزول حكم الشك بعد ثلاثة أزواج، فيه قولان، مذهب المدونة أنه باق ولو بعد مائة زوج) ما لم يثبت طلاقها لدوران الشك الأول ما بعدت الأزواج، واختار المتأخرون دورانه مع ثلاثة أزواج، ثم يزول فيما بعد ذلك، وهو قول .... وأشهب وابن وهب. وهذه المسألة يعرفها الفقهاء بمسألة الدور. قال ابن وهب إذا طلقها ثلاث تطليقات منفردات كان كما لو طلقها ثلاثًا مجتمعة. قوله: ((وإذا حلف بالطلاق على شيء فطلقها، ثم تزوجها عادت اليمين عليه ما بقي من الطلاق الحلوف به شيء)): لأنه عصمة واحدة وهذا أصل المذهب ولا خلاف فيه. قال القاضي: ((والرجعة بوجهين)): إلى آخر الفصل. شرح: الرجعة ثابتة في كل طلاق بعد الدخول قصر عن العدد الكامل، ولم يقارنه فداء. ولا خلاف أنها تثبت بالقول والفعل والنية والإشهاد، فإن اجتمعت هذه الأربعة، فلا خلاف في صحة الرجعة، وإن نقص منها الإشهاد فالمشهور أن الرجعة صحيحة بناء على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب. وحكى القاضي أبو بكر عن شيخه القاضي إسماعيل أن الإشهاد على الرجعة واجب لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} فإن انفردت النية فالمذهب أن الرجعة لا تصح، واستقرأ اللخمي أنها لا تصح بناء

على لزوم اليمين بالنية. وإن انفرد القول من غير نية، ولا فعل فهل تحصل به الرجعة أم لا؟، فيه قولان. فمذهب الكتاب أن الرجعة صحيحة. قال في الكتاب: إن قال لها قد ارتجعتك، ثم قال لم أنو الرجعة، وإنما كنت لاعبًا لزمه الرجعة إن كانت في عدتها. وإن انفرد الفعل ولم يصحبه قول، ولا نية، فالمشهور أنه ليس برجعة والشاذ أنه رجعة. ومبناه على الرجعة هل هي محرمة حتى يرجع أم لا؟. فإن قلنا إن الطلاق الرجعي يقتضي التحريم كان الوطء ارتجاعًا، وإن قلنا إنه لا يقتضيه فلا يكون ارتجاعًا، وإن قلنا أن النية شرط في صحة الرجعة، وكانت النية قارنة للقول والفعل فهي رجعية صحيحة، وإن تقدمت النية بالزمان اليسير فأجراه اللخمي على قولين كتقدم النية على الطهارة بالزمان اليسير. ثم ذكر القاضي -رحمه الله- أن فسخ النكاح ضربان بطلاق وبغير طلاق. وذكر ضابط ذلك، وفائدته، والأمر فيه بين كما ذكره. قوله: ((ولا يقبل في الشهادة على الطلاق إلا الرجال)): وهذا كما ذكره، لأن الله سبحانه إنما ذكر شهادة النساء في الأموال فتقر حيث أقرها الله. وأما مواضع الضرورة فالحكم (فيه) للمقتضى لا للأصل، إذ الشريعة رفعت الحرج في قواعد الأحكام، فلذلك جاز شهادتهن في عيوب النساء وغيره من الاستهلال والولادة، لأنها موضع ضرورة. قوله: ((وإذا اختلفا في الزمان والمكان)): يتعلق بهذا الفصل (حكم) تلفيق الشهادة المختلفة، وقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الشهادة تلفق على كل حال كانت على الأقوال، أو على الأفعال، أو بعضها على الأقوال، وبعضها على الأفعال.

والثاني: أنها لا تلفق مطلقًا. والثالث: أنها تلفق على الأقوال دون الأفعال. فإن فصلت قلت إن كانت الشهادة على قول فقولان: المشهور التلفيق لاتفاق (مضمونها) والشاذ نفي التلفيق لاختلاف الأسباب والمواطن. وإن كانت على (فعلين) فقولان: المشهور نفي التلفيق، لأن الأفعال متباينة، والشاذ التلفيق نظرًا إلى اتفاق مقتضى الشهادات، وإن كانت على قول وفعل فقولان أيضًا مبنيان على ما تقدم. قوله: ((ولا يجب كمال المهر بالخلوة دون المسيس)): والقول قولها عند التداعي (على) ظاهر المذهب. يتعلق بهذا الفصل إرخاء الستور، وأصل مذهب مالك أنه لا يكمل الصداق بنفس إرخاء الستور إلا على صفة دون صفة. وتحصيل القول في ذلك أنه لا يخلو أن تتحقق الإصابة، أو يتحقق عدمها، أو يختلف الزوجان في ذلك، فإن تحققت الإصابة فإما أن يكون في المحل المعتاد بالآلة المعتادة أم لا، فإن تحققت في المحل المعتاد بالآلة المعتادة، وجب تكميل الصداق بلا خلاف، فإن أصابها بإصبع أو غيره فلا يخلو أن تكون بكرًا أو ثيبًا؟، فإن كانت ثيبًا لم يكمل الصداق بلا خلاف، وإن كانت بكرًا فهل يكمل لها الصداق أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: التكميل لإتلاف البكارة، لأنها قد شانها. والثاني: نفي التكميل، لأنه عيب (لا) يتحصل به مقصود الواطئ، وإن أصاب بالآلة المعتادة في غير المحل المعتاد كمن يهينها في الدبر، فهل يكمل الصداق أم لا؟ فيه قولان: التكميل ونفيه، بناء على أن المقصود من الواطئ هل هو حاصل أم لا؟ وبنى الشيخ أبو الطاهر على جواز الوطء في الدبر. وهذا بناء مذموم.

وإن تحقق عدم الإصابة فلا يخلو أن يطول مقامها عنده أم لا؟ فإن لم يطل فقولان: نفي التكميل لعدم المسيس، وإثباته لحصول التمكين، وإن طال فقولان المشهور التكميل بما أبلى من جهازها وأتلف من (صغارها). والثاني نفي التكميل، وهو مقتضى ظاهر القرآن، قال الله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} إلى قوله: {فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237]. وإن أشكل الأمر، ووقع التداعي في الوطء ولا خلوة، فالقول قول الزوج، وإن كانت الخلوة فإما أن تكون خلوة (اهتداء) أو خلوة زيارة، فإن كانت خلوة اهتداء وهي ثيب، فالقول قولها بلا خلاف (تحكيمًا) للعادة كما ذكرناه. والثاني: أنه ينظر إليها النساء تغليبًا لحق الزوج، وإن كانت خلوة زيارة ففيه أربعة أقوال. الأول: إن سافر إلى أحدهما فالقول قوله نظرًا إلى الأصل. الثاني: أن القول قولها نظرًا إلى الغالب. الثالث: أن الدخول إن كان في بيته فالقول قولها تحكيمًا للعادة، وإن كانت في بيتها فالقول قوله، لأن الغالب عدم الوطء في بيتها. الرابع: أن القول قولها إن كانت ثيبًا، وإن بكرًا نظر إليها النساء. وإذا جعلنا القول قولها فهل بيمين، ففيه قولان مبنيان على الاختلاف في العادة. هل هي كشاهد، أو شاهدين، فإن تصادقا على الوطء وجبت العدة بلا خلاف، وإن تصادقا على نفس المسيس في خلوة الاهتداء وجبت العدة لا تهمهما على أن يكونا نقضًا للعدة التي فيها حق الله تعالى.

واختلف المذهب أيضًا إذا تقاررا على نفي المسيس في خلوة الزيارة. فقال ابن القاسم: العدة واجبة. وقال ابن الماجشون: لا عدة عليها لاتفاقهما على نفي وجوبها. واختلف المذهب أيضًا إذا وافقته على نفي المسيس وهي سفيهة لا يجوز إقرارها على نفسها، فالمشهور قبول قولها إذ لا سبيل إلى العلم بذلك إلا من قبلها، والشاذ أنه (لا يقبل) قولها لأنها (تصرفه) في مال، وذلك محجور على السفيه. قال القاضي: ((وإذا أعتقت الأمة تحت العبد فلها الخيار)). شرح: الأصل في تخيير الأمة إذا أعتقت، حديث بريرة: (قالت عائشة كانت في بريرة ثلاث سنن إحداها أنها أعتقت تحت زوجها فخيرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تقيم أو تفارق). واختلفت الأحاديث هل كان زوجها حرًا، أو عبدًا، والصحيح أنه عبد، وهي رواية واقعة في مذهب مالك ومبناه على الخلاف في علة التخيير هل هي نقص الزوج بالعبودية، أو خيرها على التزويج حين العقد، فمن غلب النقص نفي الخيار، فهل فسخ أو طلاق، المشهور أنه طلاق لأنه أمر اختياري، والشاذ أنه فسخ حكمي، وهل لها أن تكمل، أو ليس لها إلا الواحدة ففيه قولان المشهور أنها واحدة، وليس لها أن تقضي بأكثر من ذلك، وهل يكون بائنة أو رجعية ففيه قولان في المذهب، المشهور أنها بائنة إذ

بها يحصل المقصود، والشاذ أنها رجعية، إذ لا موجب للبينونة، ولا خلاف أنها إن أمكنته من نفسها عالمة بالحكم الشرعي طائعة فخيارها ساقط، فإن علمت العتق وجهلت الحكم ومكنته من نفسها فهل تعذر بذلك؟ نصوص المتقدمين أنها لا تعذر، لأن عندهم أمر مشهور بالمدينة لا يكاد يخفى، والمتأخرون رأوا أن لها الخيار، إذ لا تقوم الحجة إلا مع العلم، وفي العتبية إذا كانت حائضًا (فتوقف) حتى تطهر فتطلق، فأعتق الزوج فهي على الخيار، لأن امتناع الإيقاع إنما كان لعلة، وكأنه واقع حكمًا، وهذا فيه نظر. قال علماؤنا: كل امة أعتقت تحت عبد فلها الخيار إلا في مسألة واحدة وهي رجل له مائة دينار، وله امة قيمتها مائة دينار فزوجها من عبد بمائة دينار، ثم أعتقها في (مرض موته) قبل الدخول، فلا سبيل لها إلى الخيار لأنها إن اختارت (أن تسقط) نصف المهر فرق بعضها فسقط خيارها فلها إذًا إثبات الخيار إلى إسقاطه سقط في نفسه، وهي من مسائل الرق. قال القاضي: ((والخلع جائز)): إلى قوله: ((وإذا قبح ما بين الزوجين)). شرح: الخلع هو حل العصمة بعوض، وأجمع جمهور العلماء على جوازه لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله} الآية [البقرة: 229]. وأما قوله: {وإن أردتم استبدال زوج} الآية [النساء: 20] فمحمول على ما إذا كان الإضرار من الزوج، وقيل إنها منسوخة بآية الإباحة والأولى أولى. وصح أن ثابت بن قيس بن شماس قد خالع زوجته على حديقة بأمر

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقد قال تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا} الآية إلى قوله: {مبينةٍ} [النساء: 19]. واختلف أهل التأويل في الفاحشة المشار إليها فقيل النشوز، وقيل كل كبيرة. قوله: ((والخلع جائز)): تنبيهًا على مذهب من منعه تمسكًا بالآية التي ذكرنا أنها منسوخة أو مخصوصة. قوله: ((وهو طلاق)): تنبيهًا على مذهب القائل أنه فسخ لا طلاق. قوله: ((وصفته أن يوقع الطلاق بعوض)): هذا العوض له حكم الأعواض في بعض أحكامه دون بعض للاختلاف في جوازه على الغرر. والإجماع منعقد على تحريم بيع الغرر. ووقع في كتاب ابن المواز إذا كان دين فأحال صاحبه على المرأة المخالعة، فلم يقبض صاحب الدين حتى ماتت، وليس لها شيء، فإنه يرجع على الزوج، وهذا خارج عن أحكام الأعواض المحققة. قوله: ((يأخذه من الزوجة أو ممن يبذله عنها)): وهذا كما ذكره، لأنه مال، فإما أن يدفعها المشتري أو يدفعه عنه من يبذله بالتزامه الأداء، ويرجع به عليه إن اقتضاه شرط أو عادة. قوله: ((ثم له ثلاثة أحوال)): والأمر في هذه الأحوال الثلاثة ظاهر، وذكر أن حالة التحريم ترجع إلى أمرين، أحدهما: إليه، وذلك عند إضراره

بها وإساءته إليها. والثاني: إلى العوض، وذلك إذا كان عوضًا لا يجوز تمليكها شرعًا كالخمر والخنزير ونحوه أما إذا كان مضرًا بها مسببًا إليها فلا خلاف أنه لا يجوز له أخذ العوض منها على الطلاق، لأنه أكل المال بالباطل، وأما إذا كان الضرر منها فلا خلاف في جواز ما اخذ منها. وإن كان الضرر منهما معًا فهل يباح له الأخذ تغليبًا لسبب الإباحة، أو لا يباح تغليبًا لسبب المنع، فيه قولان عندنا. وإن استقام الحال ولم يكن هناك مضرة من (أحد) منهما، إلا أنها طلبت الفراق بمعنى ما، فله الأخذ بلا خلاف فإن خالعها في صورة المنع بعد الطلاق ورد العوض إليها، لأنه من أكل المال بالباطل، وهو نص القاضي. قوله: ((والثاني أن يكون العوض خمرًا، أو خنزيرًا، أو ما لا يصح تملكه)): وهذا كما ذكره إذا خالعها على خمر، أو خنزير بعد الطلاق، ولا شيء للزوج، وهذا أشهر الروايات، وعليه عول جميع المتأخرين. واستقرأ اللخمي أنه خلع المثل وهو خلع المريضة، فللزوج فيه خلع المثل من رأس المال. قول: ((وما لا يجوز تملكه جنس الخمر والخنزير والأنصاب والصلبان والآلات المحرمات ونحو ذلك)): وهذا كما ذكره ثابت بالنص، والإجماع. قوله: ((وأما الحالة التي يكره)): فأن يقطع عنها ما يعلم أنها تستضر به إلا أنه لا يلزمه ولا يمكنه المقام معه، هذا القسم داخل في باب الإضرار (فمان أخف رتبة من فعل الإضرار) للاختلاف في الترك هل هو فعل أم لا؟ ومقتضى إلحاقه بالفعل التحريم، إلا أنه لما كان لا يلزمه ولا يبقى عليه به نقصت مرتبته عن مرتبة الأولى. قوله: ((وطلاق الخلع بائن لا رجعة فيها)): وهذا كما ذكره لأنه

مقتضى العوض الذي تبذله الزوجة، إذ لولا البينونة لم يكن للعوض معنى. ولو خالعها على شرط أن تكون المطلقة رجعية فهل يقضى بهذا الشرط، ويمضي توفية الشرط، أو يرجع إلى الأصل، فيه قولان. وههنا فروع: الأول: إذا قال لها: أنت طالقٌ طلاق الخلع، فيه ثلاثة أقوال إنها واحدة رجعية، إذ لا عوض. والثاني: أنها بائنة تغليبًا (للمقصد). والثالث: أنها ثلاث تطليقات، لأنه أراد بينونة والبينونة لا تحصل في المحصول بها إلا بالعوض، أو بالحكم، أو بالثلاث، ولا عوض ولا حكم فليس إلا طلاق الثلاث. ومن هذا النمط أن يطلق ويعطي قاصدًا لطلاق الخلع، ففيه الثلاثة الأقوال المذكورة. قوله: ((ولا يلحقه إرداف إلا أن يكون متصلًا)): وهذا كما ذكره، ومذهب مالك -رحمه الله- أن البائن يرتدف عليها الطلاق، إذا كان نسقًا، وله أن ينكحها في العدة، لأن الماء ماؤه والنفقة والتوارث من أسباب الزوجية ومقتضياتها، والبينونة قد قطعت ذلك. قال القاضي: ((وإذا قبح ما بين الزوجين وظهر الشقاق)): إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في بعث الحكمين قوله سبحانه: {وإن خفتم شقاق} الآية إلى قوله: {وحكمًا من أهلها} [النساء: 35]. قال علماؤنا لا يخلو أن يكون حال الزوجين مستقيمًا، أو أشكل حينئذ أو متخاصمان، فلا يخلو حينئذ من ثلاثة أحوال: أن يكون النشوز منها، والضرر من قبلها، أو من قبل الزوج، أو يشكل الحال، فإن كان من قبلها ندب الزوج إلى أن يعظها، فإن لم تتعظ هجرها، فإن لم تنزجر ضربها ضربًا غير مبرح، فإن تمادت على حالها رفع أمره إلى الحاكم، فإن كان الظلم من

الزوج جبر على العدل، وإن كان منها فكذلك، فإن أشكل الحال بعث الحكمان فيقضيان بما رأياه وينفذ قضائهما. ويشترط في الحكمين شروط إجزاء، وشروط إكمال، فشرط الإجزاء أن يكونا مسلمين فقيهين، في ذلك، عدلين. وشروط الكمال: أن يكونا من أهلهما لأنهما أعرف بحال الزوجين فإن حكما بالفراق على مال، أو على غير مال، أو بالاتفاق نفذ حكمهما، وإن رأيا الأخذ من قبل أحد الزوجين مضى ذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة. وههنا فروع: إذا حكما بأكثر من طلقة واحدة فهل يمضي حكمهما بذلك أو يكون واحدة فيه قولان. أحدهما: أنهما يقضيان بالواحدة ليس إلا، إذ ليس لهما ما يرفعان به الضرر ويحصلان فيه البينونة. الثاني: أن لهما القضاء بالثلاث، لأنهما ملكا الطلاق الذي بيد الزوج بالتحكيم. ولو حكم أحدهما بالفراق، والآخر بالبقاء لم يمض حكمهما ولم يقع الفراق إلا باتفاقهما. ولو حكم أحدهما بالواحدة، وحكم الآخر بالثلاثة، ففي المذهب فيه قولان: أحدهما: أنه لا يقع من ذلك شيء لاختلافهما. الثاني: أنه (يقع) من ذلك الواحدة لأنه متفق عليها، وإنما الخلاف في الزيادة. الثالث: إذا كان الحكمان مسخوطين فعلم الحاكم بذلك وبعثهما بطل الجميع لأنهم فسقة فإن جهل حالهما فبعثهما ظانًا أنهما عدلان فإذا أنهما مسخوطان فحكما بما يوافق الحق، أو بعث إليهما عبدًا، أو من لا يجوز حكمه هل يمضي فعلهما أم لا؟ فيه قولان بناء على الاجتهاد، هل يرفع الخطأ أم لا؟

قوله: ((من غير اعتبار برضا الزوجين)): وهذا كما ذكره، لأنهما حكمان لا وكيلان، وقيل بل هما وكيلان. قوله: ((ولا بموافقة حاكم البلد أو مخالفته)): تنبيه على مذهب المخالف. قال القاضي -رحمه الله-: ((وللرجل أن يجعل)): إلى قوله: ((لم يكن له المناكرة)). شرح: الأصل في التخيير قوله سبحانه: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن} الآية [الأحزاب: 28] ولما استدعى -عليه السلام- عائشة فقال لها: (أقول لك قولًا فلا تعجلي فيه حتى تستأذن أبويك فتلا عليها فقالت قد اخترت الله ورسوله) فلم يكن ذلك طلاقًا، وفعل مع نسائه مثل ذلك، ولم يكن مجرد تخييره طلاقًا، وهذا (يرد) على ربيعة وغيره ممن رأى التخيير كله طلاقًا، يقع الطلاق على الزوج بنفس التخيير منه سواء اختارت الزوجة الفراق أم لا؟ وفقهاء الأمصار على خلافه. وقد تقرر أن إيقاع الطلاق الثلاث في لفظة واحدة محرمة ومكروهة، وهل له أن يملك ذلك لزوجته لما جاء أنه -عليه السلام- خير نساءه، وظاهر الإطلاق عدم التقييد إلا أن يقال إنه مقيد بالمعنى أولًا، كما ليس له أن يوقع ثلاثة جملة. ثم تمليك الزوجة الطلاق على وجهين: أحدهما: على جهة التوكيل. والثاني: على جهة التمليك، فإن كان على جهة التوكيل فله أن يعين لها ما لم تطلق نفسها، وليس له (القول) في التمليك، ولا في التخيير، وقد يجعل بيد أجنبي على معنى التوكيل، والرسالة والتخيير والتمليك والتوكيل، له فيه

العزل ما لم يقض، ولا حد للرسول في الرسالة وإنما ذلك حق للمرسل إليه، والتخيير والتمليك بيده كالزوجة، فليس له عزله كما ليس (ذلك) في زوجته. قوله: ((والتمليك على وجهين: تمليك تفويض، وتمليك تخيير)): وهذا كما ذكره، فتمليك التفويض: هو التمليك المطلق مثل أن يقول لها: قد ملكتك أمرك. وتمليك التخيير هو التحجير، والتحجير فيه هو من حيث إنها لا تملك إلا إيقاع الثلاثة الأحوال، فإذا (أوقعت) الواحدة فقد مضت من تخييره، وهذا هو أصل المذهب. وإذا قلنا إن مقتضاها الثلاث فطلقت نفسها واحدة، لم يقع على الأشهر. وهل لها أن تبتدئ الخيار أم يكون إيقاعها ما ليس لها قطعًا لخيارها لأنها قد خالفت مقتضى التخيير الأول فبطل، فالاستئناف يفتقر إلى استئناف تخيير. وقد اختلف مذهب مالك في التخيير والتمليك فقيل هما سواء، والمشهور من المذهب أنهما مختلفان، فله المناكرة في التمليك إذا قضت بالثلاث، وليس ذلك في التخيير بعد الدخول. واختلف الأشياخ في تأويل الفرق بينهما، والصحيح أن الفرق بينهما راجع إلى مقتضى العادة، لا إلى مقتضى اللفظ وهذا إذا لم ينص الزوج على عدد، فإن نص على عدد معين فليس لها خلافه فيهما، فلو قال لها: اختاري طلقة واحدة لم يكن لها سوها. فإن قال لها اختاري طلقتين فهل لها أن توقع إحداهما، فيه قولان: المشهور أنه ليس لها ذلك. ولو قال لها اختاري [من] طلقتين، فليس لها واحدة، لأنها مقتضى حرف التبعيض ولو قال لها اختاري طلقتين فقيل ليس لها إلا إحداهما إلحاقًا له بلفظ التبعيض، وقيل لها أن تقضي بهما، فإن قضت بواحدة لم يلزمه شيء، وهو مذهب الكتاب.

قوله: ((ثم لا يخلو حالها من خمسة أقسام)): وهذه الأقسام التي ذكرها ظاهرة الحكم، فإن أجابت بصريح في أحد أمرين من رد أو طلاق مضى ذلك وله المناكرة في التمليك، إذا أرادت الواحدة وذلك بأربعة شروط كما ذكره. حكي الخلاف إذا قضت في التمليك بثلاثة، ثم قال لم أرد تمليك طلاق، ثم قال أرادت الواحدة، فالمشهور القول قوله مع يمينه، والصحيح أنه لا يقبل للاضطراب في دعوته وتبين كذبه. قوله: ((والثالث أن يدعي أنه نوى الواحدة في حال تمليكها إياها)): وهذا كما ذكره، لأنه إذا لم يقيد (نبته) كان اللفظ صالحًا، والنية مطلقة، فإن ادعى أنه نوى بالتمليك الواحدة هي واحدة، ثم اختلفوا إذا أوقعت في التمليك واحدة هل تكون بائنة، لأنها تملك (بذلك) نفسها، أو رجعية، فيه قولان. قوله: ((فإن كان بشرط شرطت عليه لم يكن له المناكرة)): يعني إذا كان التمليك في عقدة التزويج فليس له المناكرة إذا قضت بالثلاث لأنه مقتضى العادة إذا كان في أصل التزويج فترجع في المعنى مخيرًا، وفي المذهب رواية أن له المناكرة كالتمليك كان في أصل العقد أو بعده. قال القاضي -رحمه الله-: ((وأما القسم الثاني فهو أن تجيب)): إلى قوله: ((وأما تمليك التخيير)). شرح: الضابط (الكلي) في هذا الباب أن اللفظ الصادر من الزوج إما أن يكون نصًا في الطلاق، والعدد، والوقت أو محتملًا في الجميع، أو نصًا في البعض محتملًا في البعض، وكذلك الجواب الصادر من الزوجة، فلها إشكال في النص، ومع الرجوع في المحتمل إلى تفسير الألفاظ، فإن فسر بالأظهر من معانيه قبل قوله مطلقًا من غير يمين، وإن فسر بالأخفى من معانيه، فلا يخلو أن تفسيره البينة أم لا فإن فسرت البينة لم يقبل قوله، وإن لم

تفسره البينة قبل قوله، واستظهر عليه باليمين، وإن فسره بما لا يحتمله اللفظ لم يقبل وأخذ بمقتضى (اللفظ) والخلاف بعد هذا في ألفاظ من المحتمل. (فإذا) قالت: قبلت أمري، أو قبلت ما ملكتني، أو قبلت فلا خلاف أنها تسأل عن مرادها كما ذكره القاضي. ولو قالت: اخترت نفسي فهو طلاق باللفظ الأول، وقيل يرجع فيه إلى تفسيرها حكاه أبو الحسن. وقال أشهب: إذا قالت: اخترت نفسي، وقالت: لم أرد به الطلاق قبل قولها، والأصح ظاهر في الطلاق فلا يقبل دعواها في ذلك، وكذلك إذا قال لها اختاري فقالت: قد فعلت. قال بعض أصحابنا هو محتمل يرجع فيه إلى تفسيرها وهو الأظهر، وقيل مقتضاه الطلاق فلا يقبل دعوى غيره، وكذلك اختلف المذهب إذا قالت اخترت أمري، فقيل هو ظاهر في الطلاق أيضًل، وقيل هو محتمل، فتسأل عنه. قوله: ((وأخذت الآن بالتنجيز)): قلت لما له في ذلك من حق فله المرافعة إلى الحاكم، فإما الإمضاء وإما الرد، والجواب بالفعل الظاهر، قال علماء المالكية إذا نقلت متاعها فهو كنصها على الطلاق، إنما هو إذا أرادت به الفراق. قوله: ((وأما الخامس فهو أن تمسك عن جواب، أو فعل يقوم مقامه)): وهذا كما ذكره، وقد ذكرنا أنه إذا نص على وقت التخيير، أو عداه لم يعد عن نصه، فإن لم ينص ولم تجاوبه في المجلس حتى افترقا، فهل لها أن تقضى بعد انقضاء المجلس أم لا؟ فيه قولان حكاهما القاضي. وكذلك إذا خرجا في المجلس من حديث التخيير إلى غيره حتى طال الأمر ثم أرادت الرجوع إلى القضاء بالتخيير فهل لها ذلك أم لا؟ فيه قولان مبنيان على ما ذكره القاضي، هل حكم التخيير حكم العقود التي تبطل بتراخي الجواب أم

الإيلاء

لا؟ ولو قال: أنت مخيرة ما شئت، أو إذا شئت، أو كلما شئت، فلها الخيار في المجلس وبعده. قوله: ((فعلى الأولى)): هو توجيه للخلاف الذي حكاه، ومعناه على الرواية الأولى، وإذا قلنا إنه كالتمليكات كخيار المعتقة لم تبطل تخييرها إلا بتمكينها من نفسها طائعة غير مكرهة. وإذا جعل خيارها بيد أجنبي، فله القضاء في المجلس، وإن ذهب الأجنبي من المجلس فهل له أن يقضي أم لا، فيه قولان كما في خيار المجلس إذا كان التخيير للزوجة نفسها، فإن وطئ بإذنه بطلت. قال القاضي: ((وأما التخيير)): إلى آخر الفصل. شرح: قد ذكرنا الكلام في التخيير، وقسم التخيير إلى مطلق، ومقيد وبينه في المثال بيانًا حسنًا، والفصل ظاهر وقد قدمنا الكلام فيه. قال القاضي: ((والمولي مخاطب بأحد أمرين)): إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في الإيلاء قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} الآية [البقرة: 226]. وصح جوازه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قد آلى من نسائه) ولو كان محرمًا لما صدر من الشارع صلوات الله عليه. والمولي: هو كل مسلم مكلف يتصور منه الوطء حرًا كان أو عبدًا، مريضًا، أو صحيحًا. وقولنا يتصور منه الوطء تحرزًا من الخصي والمجبوب إذ لا يصح منهما الوطء، ولو آلى وهو صحيح ثم جب بطل الإيلاء. قوله: ((والمولى مخاطب بأحد أمرين)): قلت: مقتضى الآية وفائدة

الأصل قوله: ((والإيلاء الشرعي)) تحرز من مطلق الإيلاء، لأن اللغوي من قسمه لا يقيد بأجل ولا ينحصر بمدة. والوقف المشار إليه هو إيقاف الحاكم له. وحد الإيلاء فقال: ((هو أن يحلف بيمين يلزم بالحنث فيه حكم على ترك وطء (الزوجة) أو ما يتضمن (ترك) الوطء زيادة على أربعة أشهر بمدة مؤثرة)) فأما ترك الوطء ظاهر، وما يتضمن ترك الوطء كقوله: لا دنت منك، ولا اغتسلت منك ونحو ذلك مما يتضمن ترك الجماع. قوله: ((بعدة مؤثرة)): يعني كالشهور ونحوه. قوله: ((حرة كانت أو أمة)): لأنه من باب الأيمان اللازمة للحر والعبد. واختلف المذهب في أجل العبد هل هو كأجل الحر لعموم الآية، وتساوي المعنى، أو على النصف، لأنه يؤول إلى الطلاق فكان مشترطًا. قوله: ((ولا يلزمه طلاق بنفس مضى الأجل)): وهذا تنبيه على مذهب أبي حنيفة. قوله: ((فإن فاؤوا فيها)): على أن الفيئة في الأربعة الأشهر، والمعنى عنده، فإن فاؤوا فيها، وقال الجمهور: المعنى: فإن فاؤوا في غيرها، لأن الأربعة الشهر جعلت حقًا له، فلا يكون له عليه فيها حق.

الظهار

قوله: ((فأما إن حلف على غيره مما يمنع الوطء إلا بعد بره، أو فعل موجبه)): وهذا من المواضع التي يجب تأملها. وأشار القاضي بذلك إلى صورتين: صورة الحالف بالطلاق، وصورة المظاهر. ومثال الأولى: أن يحلف بطلاق زوجته كذا، أو إن لم يفعل كذا. وأصل مذهب مالك أنه على حنث ما لم يفعل فيمنع من الزوجة لإمكان الإبراء، فإذا منع من الوطء لأجل يمينه دخل عليه الإيلاء، واختلف الروايات متى يدخل عليه الإيلاء فقيل من يوم الحلف، وقيل من يوم الحكم. وأشار القاضي بقوله: ((مما يمنع الوطء إلا بعد بره)): إلى ((بعد الطلاق)). ومثال الصورة الثانية أن يظاهر من امرأته فيمنع من وطئها إلا بعد التكفير الذي هو موجب ظهاره، فإن كفر لم يمنع من الوطء، وإن لم يكفر منع من الوطء، ويدخل عليه الإيلاء. واختلفت (الروايات) أيضًا في هذه الصورة متى يدخل عليه الإيلاء، فقيل من يوم الظهار، وقيل من يوم الحكم. وهذا من المواضع الحسنة التي أتقنها القاضي. قوله: ((ومن ترك الوطء مضارًا)): اختلف المذهب في المضار على ثلاثة أقوال، فقيل لا ينعقد عليه الإيلاء، ولا يفرق بينهما، ويجبر على الوطء، وقيل هو مولي ويضرب له الأجل من يوم الحكم، وقيل من يوم اليمين كغير المضار، وقيل يفرق بينهما من غير أجل. فرع: إن أطال المسافر الغيبة عامدًا للضرر أمر بالقدوم، فإن أبى فرق بينهما، لأن الشريعة رفعت الضرر. قال القاضي: ((والظهار محرم)): إلى آخر الفصل.

شرح: الأصل في الظهار قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم} الآية [المجادلة: 2] نزلت في خولة بنت حكيم مع زوجها أويس بن الصامت. وأجمع العلماء على أنه محرم، ولذلك امتنع وقوعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن قال إنه ظاهر فقد أخطأ وكفر إن كان معتقدًا. والدليل على تحريمه من الآية من موجود: الأول: أن الله سبحانه كذبه ورد فقال: {ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم} [المجادلة: 5] الثاني أن الله سماه منكرًا وزورًا. الثالث أنه أوجب فيه الكفارة، الرابع أنه قرنه بالمغفرة ولا يكون ذلك إلا عن ذنب والمظاهر هو كل مسلم عاقل بالغ من أي امرأة حل وطؤها حرة كانت أو أمة، مسلمة، أو كتابية فقولنا: ((كل مسلم)) احترازًا من ظهار الذمي، ولا يصح ظهاره عندنا كما لا يلزم طلاقه. وقولنا: ((عاقل)) إحرازًا من المجنون، وقولنا: ((بالغ)) احترازًا من الصبي. واختلف في ظهار المراهق هل يلزم أم لا؟ على الخلاف في أحكامه. وههنا فروع: الأول: إذا ظاهر الشيخ الكبير الذي لا حراك له، والمقطوع الذكر هل يلزم ظهارهم أم لا؟ فيه قولان: المشهور، اللزوم إذ يتمكن منهم أوائل الوطء. ومقدمات الجماع، كالقبلة والملامسة والاستمتاع بالتلذذ، والشاذ أنه لا يلزم خاصة وهو قول أصبغ وسحنون ومبنى المسألة على الخلاف في الظهار هل هو تحريم للزوجة بالكلية، أو هو تحريم الركوب للوطء خاصة، فيه قولان في المذهب.

فرع: يلزم الظهار في الأمة المدبرة، وأم الولد، ولا يلزم في المعتقة بعضها. والمعتقة إلى أجل، إذ لا يجوز وطئها، ويلزم في المكاتبة إذا عجزت فعادت إلى الرق ولرجوعها إلى الملك كالأمة المحضة، ووقع في المذهب أنه لا يلزم فيها ظهار إذا عجزت نظرًا إلى حكم التحريم حين اللفظ بالظهار. وحده القاضي فقال: تشبيه محلله [له] بنكاح، أو ملك بمحرمة عليه تحريمًا مؤبدًا بنسب، أو رضاع، أو صهر)). قوله: ((بنكاح، أو ملك)) تقسيم في نوع المنكوحات. قوله: ((محرمة عليه)): انظر هل يتناول الذكر أم لا؟ وظاهر اللفظ أنه مخصوص بالنساء. واختلف المذهب إذا قال لها أنت علي كظهر أبي، أو ابني، أو غلامي، أو نحو ذلك من التشبيه بالذكران، فقال ابن القاسم، وأصبغ هو مظاهر، وقال ابن القاسم مرة أخرى هو تحريم. وقال ابن حبيب: هو منكر من القول، ولا يلزمه فيه ظهار ولا تحريم. قوله: ((بنسب أو رضاع أو صهر)): تنويع لأسباب التأبيد، وهي ظاهرة. وألفاظ الظهار قسمان: صريح، وكناية، فالصريح: ذكر الظهار في ذات محرم من النساء. والكناية قسمان: ظاهرة، وخفية. فالظاهرة: ذكر الظهار في غير ذات محرم، والتشبيه بالمحرمة من غير ذكر الظهار، والخفية ما عرى عن الأمرين. فإما صريح الظهار فهو ظاهر، فإن أراد به الطلاق لم يكن طلاقًا، فروى عن ابن القاسم أنه يكون طلاقًا ثلاثًا، ولا ينوي في أقل من ذلك وقال سحنون: ينوي فيما دون الثلاث إن دعاه. وأما الكنايات الظاهرة فهي ظهار، فإن أراد به التحريم فهو حرام، فإن قال لم أرد طلاقًا، ولا ظهارًا لم

يقبل قوله. وأما الكنايات الخفية فلا تقتضي طلاقًا، ولا ظهارًا بوضع بعضها، بل بالقصد ينصرف إلى ما قصد. قوله: ((والتشبيه على أربعة أضرب)): وهذه الأقسام (الأربعة) ظاهرة، والحكم فيها واحد. قوله: ((وفي التشبيه بالمحرمة على غير التأبيد خلاف)): وصورة هذه المسألة (أن يقول لها) أنت علي كفلانة لأجنبية، فلا يخلو أن يريد الظهار أم لا؟ فإن (أراد الظهار) فهل يكون ظهارًا، أم طلاقًا: فيه قولان مشهوران، وإن لم يذكر الظهار ففيه خمسة أقوال: قال أشهب: هو ظهار إلا أن يريد بها الطلاق. وقال عبد الملك: هو طلاق إلا أن يريد به الظهار (وقيل هو ظهار وإن أراد به الطلاق، وقيل هو طلاق وإن أراد به الظهار). وحكى أبو الحسن في هذه الصورة أنه لا يلزمه ظهار ولا طلاق. قوله: ((ويحرم بالظهار الوطء وجميع أنواع الاستمتاع)): ولا تجب الكفارة إلا بعد العودة وهي العزم على الوطء، الأصل في ذلك قوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة: 3] وهذا يقتضي عموم التحريم إلى حين ارتجاعه بالكفارة، وقد اختلف الفقهاء في العودة، فقال أهل الظاهر: هي تكرار اللفظ الأول سواء، وخالف في ذلك الجمهور.

وفي المذهب في العودة أربعة أقوال: فقيل العزم على الإمساك، وقيل العزم على الوطء (وقيل الوطء) نفسه، وقيل العزم على الوطء والإمساك (معًا) وهو مذهب الموطأ. واختاره القاضي أبو بكر. قوله: ((والكفارة فيها ثلاثة أنواع)): وهي ثابتة بنص القرآن المقتضي الترتيب. فالإعتاق: تحريم رقبة مؤمنة احترازًا من الكافرة، إذ لا يتقرب إلى الله بعتق الكافر، لا في فرض، ولا في تطوع، ومبنى ذلك على رد المطلق إلى المقيد. قوله: ((سليمة من العيوب)): احترازًا من المعيبة، والعيوب على قسمين عيوب تمنع التكسب، وتشين، ولا خلاف أنها مانعة من الإجزاء كقطع اليد والرجل والعمى، والزمانة ونحو ذلك، وعيوب لا تمنع التكسيب، ولا تشين، وهذه غير معتبرة كالمرض الخفيف والعرج الخفيف، وقطع الأنملة ونحو ذلك، فإن كانت تشين، ولا تمنع التكسيب كجرح الأنف واصطلام الأذنين، والصمم والبرص الخفيف فهذا فيه قولان: أحدهما: أنه يمنع الإجزاء نظرًا إلى أنها تشين. الثاني: لا يمنع الإجزاء لإمكان التكسب مع وجودها. واختلف المذهب في الصغير الذي لا يعقل دينه هل يجزئ لأنه على أصل الفطرة أم لا؟ لقوله -عليه السلام-: (كل مولود يولد على الفطرة) وأما الغلام الذي فيه

الحضر فطبع حتى طبع كافرًا. ويجري الخلاف في إجزائه أيضًا على اختلافهم في جواز عتق من يقدر على التكسب، إلا أن يقال إنه منها المكسب، وفي كتاب الداودي عن مالك الأعمى والمقعد يجزيان، وإنما هي أوجاع. فرع: إذا ظاهر من أمته فهل يجزئه عتقها من ذلك أم لا؟، فيه قولان: الإجزاء، ونفيه، ومبناهما على الخلاف في العودة، فمن جعل العودة الوطء لم يجزه، ومن جعلها العزم أجازه. فرع: لا يجزئه عتق من فيه عقد حرية كالمعتق إلى أجل، وأم الولد، والمدبر، والمكاتب، والمعتق بعضه، فإن أعتق مكاتبًا أو مدبرًا عن ظهاره فهل يجزيان أم لا؟ فيه قولان: المشهور، نفي الجواز لما فيهما من عقد الحرية، والشاذ: الإجزاء نظرًا إلى أن أحكامهما أحكام عبيد، وكذلك إذا كانت الرقبة شركة بينه وبين غيره، فأعتق جميعها عن ظاهره، فيه قولان: الإجزاء، ونفيه، والتفرقة بين أن يكون بإذنه فيجزئه، أو بغير إذنه فلا يجزئه. والصيام شهران متتابعان، فإن أفطر عامدًا بطل التتابع، وإن أفطر خطأ، أو سهوًا فثلاثة أقوال: الإجزاء ونفيه، والقول الثالث: أنه إن فرق ناسيًا أجزأه، وإن فرق مخطئًا لم يجزه. قوله: ((والإطعام أن يطعم ستين مسكينًا مدًا لكل مسكين)): بمد هشام بن إسماعيل المخزومي والي المدينة في خلافة (هشام بن

عبد الملك) روى عنه مالك بن أنس في الموطأ. واختلف أهل العلم في قدر مد هشام فقيل مدان بمد النبي -عليه السلام- وقيل مدان غير ثلث، وقيل مد ونصف، وقد ذكرنا الخلاف هل المعروف قوت المكفر، أم قوت أهل البلد، وهل يلزم الإدام في الطعام، أو يستحب، فيه قولان، ويستحقه الفقير المسلم الحر فإن أعطاها غنيًا أو كافرًا، أو عبدًا، أو عالمًا بذلك لم تجزه، وإن كان خطأ فقولان مبنيان على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ قوله: ((ولا يجوز أن يطأ قبل الكفارة)): وهذا كما ذكره لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا}. قوله: ((ويكفر العبد بما سوى الإعتاق)): وهذا كما ذكره، وإنما لا يلزمه العتق لأنه غير مالك حقيقة، والولاء لغيره. وكان الواجب أن لا يلزمه الإطعام، إذ المال لغيره، فإن أذن له سيده في العتق والإطعام فهل يجزئه أم لا؟ فيه قولان. قال مالك إذا أذن له سيده في العتق والإطعام، فالصيام أحب إلي، قال ابن القاسم بل الصيام الذي أوجب الله عنه، وليس يطعم أحد يستطيع الصيام.

اللعان

[اللعان] قوله: ((واللعان بين كل زوجين)): إلى قوله: ((وصفة اللعان)). شرح: الأصل في اللعان الكتاب والسنة، أما الكتاب قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} الآية [النور: 6]، وأما السنة فقوله -عليه السلام- في حديث عويمر العجلاني حيث جاء إلى عاصم بن عدي النصاري فقال له: يا عاصم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأل عاصم رسول الله عن ذلك فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رجع عاصم إلى أهله جاء عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فقال عاصم لعويمر ... تأتي بخير)). الحديث فتلاعنا، وأنا مع الناس عند رسول الله (-صلى الله عليه وسلم-) خرجه الأئمة مالك وغيره. وقد انعقد الإجماع على أنه مشروع لضرورة دفع النسب، ونفي العقوبة المتوجهة عليه بالقذف. وحكى بعض علمائنا الخلاف فيه، هل هو شرح عقوبة، أو خلاص من الزناة، وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال مالك وأصحابه، فكان الأصل أن

الزوج كالأجنبي في حق القذف ( ..... ) إلى الوطء حرام في العمل والولد إلا أنه (ائتم) له اللعان لضرورة المناسبة، وقد تبين عليه اللعان إذا تحقق انتفاء النسب. قوله: ((وهو بين كل زوجين حرين، أو عبدين، عدلين، أو فاسقين، أو أحدهما)): لعموم الآية. ونبه القاضي -رحمه الله- على مذهب أبي حنيفة وغيره من المخالفين حيث تمسكوا بلفظ الشهادة، فمنعوا منه من لا تجوز شهادته كالفاسق. والمقصود عندنا أن تكون فيه أهلية اليمين، ويتلاعن الكافران من أهل الذمة، وتلاعن الكتابية تحت المسلم لترفع اللعن عنها، وإن لم تحد إذا زنت، وينفسخ النكاح بلعانها. فإن نكلت فهما على الزوجية، وترد إلى أهل دينها للجناية على زوجها فيعاقبها أساقفتهم لإدخالها اللبس في فراش زوجها. ويقع اللعان في النكاح الصحيح والفاسد وإن فسخ، إذا لحق الولد. ولو قذفها في حال الزوجية بزني قبل تزويجه إياها، فعليه الحد كالأجنبي، ولا مدخل للعان في قذف على الزوجية، ولو طلقها طلاقًا رجعيًا ولم ترجع، ثم أراد اللعان فله ذلك إذ الطلاق رجعي لا يقطع العصمة، ولو قذفها، ثم أبانها فله اللعان لدفع النسب فإن لم يكن له ولد (آخر) فليس له اللعان كالأجنبي، والأجنبي القاذف لا يلاعن. واختلف المذهب في فروع: الأول: إذا قذفها في عدتها من الطلاق البائن، وادعى الرؤية فإن كان حملًا لاعن (لنسبه)، فإن لم يكن فهل له أن يلاعن أم لا؟ المشهور أنه

يلاعن، وقال ابن المواز وسحنون يحد ويلاعن، لأن البينونة قد بطلت حكم الزوجية. قوله: ((وهو موضوع لشيئين)): ذكر في هذا الكلام مضمون الكلام، ولا شك (أن له) أربعة آثار: سقوط الحد، وانتفاء النسب، وقطع النكاح، وتأبيد التحريم. قوله: ((بثلاثة أوجه)): تضمن هذا الكلام موجبات اللعان. قال القاضي أبو الوليد ويجب اللعان بستة أوجه ثلاثة متفق عليها، وثلاثة مختلف فيها، فالثلاثة المتفق عليها أن ينفي حملًا، ويدعي قبلة الإستبراء. والثاني: أن يدعي الرؤية ولا يستبرئ بعدها الثالث: أن ينكر الوطء جملة ففي هذه المواضع الثلاثة اللعان بلا خلاف. والمختلف فيه أن يقذف زوجته من غير دعوى الرؤية. واختلف المذهب في هذه الصورة على قولين، فأكثر الروايات على أنه يحد للقذف. ويلاعن اعتبارًا بالأجنبي، والشهود إذا لم يصفوا وهذا هو المشهور، والشاذ أنه يلاعن، وذلك لأن الزوج يضار إلى نفي نسب ليس له منه، فكان مخالفًا للأجنبي. القسم الثاني: من المختلف فيه أن يدعي الرؤية، ولا يصف وصف الشهود. القسم الثالث: أن ينفي الحمل، ولا يدعي قبلة الإستبراء، فاختلف في الاستبراء في هذا الباب، المشهور من المذهب أنها حيضة لحصول المقصود بها، وقال عبد الملك ثلاث حيض اعتبارًا بما عدا اللعان. فرع: إذا نسبها إلى زنى أكرهت عليه، فله اللعان لنفي الولد ولا حد عليها، ولا لعان إذا أثبت الغضب. قوله: {فأما سقوط الحد عن الزوج فمتعلق بالتعانه}: إلى قوله: {وصفة اللعان}.

شرح: سقوط الحد وانتفاء النسب متعلق بلعان الزوج وحده، لأن ذلك هو مقتضى لعانه. وسقوط الحد عن المرأة المتعلق بلعانها. واختلف المذهب في الفرقة وتأبيد التحريم، والمشهور أن ذلك لا يقع إلا (بإتمامهما) والشاذ أن ذلك واقع (بالتعان) الزوج. واختلف الأشياخ إذا نكلت المرأة عن اللعان، ثم أرادت اللعان فهل لها ذلك أم لا؟ واختار الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن وابن خلدون وغيرهما (أن الحد قد تعين عليها بنفس النكول، فليس لها رجوع، واختار الشيخان أبو عمران وأبو القاسم بن الكاتب أن لها الرجوع إلى اللعان، ولا يكون نكولها عن اللعان أشد من إقرارها بالزنا، ثم رجوعها عنه). وما ذكره القاضي من تأبيد التحريم هو الصحيح في المذهب. وحكى

الشيخ أبو بكر الأبهري من المذهب أن يقارن اللعان طلاق الثلاث وتحل بعد زوج. وقال بعض أهل العلم هي طلقة بائنة، وقيل رجعية. وقوله: ((من غير حاجة إلى حكم حاكم)): تنبيه على مذهب المخالف أبي حنيفة وغيره. وقد تقدم أن اللعان يقع في النكاح الفاسد الذي يلحق به الولد. وقوله: ((ولا يرتفع التحريم بإكذابه نفسه)): وهذا كما ذكره، ويتعين عليه حد القذف، ويلحق به النسب ويثبت الميراث. ومن مات من المتلاعنين قبل لعانه ورثه الآخر، وقيل لا يتوارثان بعد تمام لعان الزوج، وروى مطرف، وابن حبيب أن إن مات بعد التعانه وقبل التعانها ورثته إذ لا تلتعن. قال القاضي: ((وصفة اللعان)): إلى آخره. شرح: تبدئة الزوج باليمين هو نص الكتاب والسنة، لأنه القاذف ويحلف ليرفع عن نفسه حكم القذف والنظر في لفظ اليمين وفي التغليظ (فيه) والتغليظ فيه يكون بالزمان والمكان وبهما. أما الزمان فيتلاعنا دبر الصلوات. قال (عبد الحق) لا يكون إلا في معظم الحق بإثر الصلاة. روى ابن وهب عن مالك قال: كان اللعان عندنا بعد العصر ولم يكن سنة وأي ساعة شاء الإمام لاعن، وبعد العصر أحب إلي قال: في كتاب محمد وأي ساعة شاء الإمام لاعن، وعلى إثر المكتوبة أحب إلي، قال الشيخ أبو محمد أما كونه بعد العصر فغير واجب، فظاهر قول عبد الملك بن الماجشون

الوجوب، وأما التغليظ بالمكان ففي أشرف المواضع في البلد الجامع الأعظم. فإن كان في أحد الحرمين فهل يغلظ عليه اليمين عند المنبر أم لا؟ فيه اختلاف بين العلماء، ويحلف أهل الذمة حيث يعظمون بحضور عدول من المسلمين لقوله تعالى: {وليشهد عذابهما طايفةٌ} الآية [النور: 2]. وأقل ذلك من العدول. وأما لفظ اليمين بحسب ما يصدر من القاذف، فإن ادعى الرؤية حلف على ذلك فقال: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو لرأيته، وإن نفى الحمل فقال أشهد بالله الذي لا إله إلا هو ما هذا الحمل مني، ويرجح الإستبراء بيمينه حيث يتوجه عليه. واختلف المذهب هل يكفيه الاقتصار على ((بالله))، فالمشهور جواز الاقتصار وقال محمد: لابد أن يزيد الذي لا إله إلا هو. واختلف المذهب في فروع: الأول: إذا لم يصف وصف الشهود، وقد تقدم الخلاف فيه. الثاني: إذا أبدل اللعنة بالغضب، أو الغضب باللعنة فهل يجزئه أو لابد من الإعادة، فيه قولان الاجتزاء لاتفاق المعنى، والإعادة وقوفًا على المعنى. الثالث: إذا ابتدأت المرأة باللعان قال ابن القاسم لا يعاد عليها اللعان، وقال أشهب يعاد، واختاره ابن الكاتب. الرابع: إذا حلفت المغتصبة تقول أشهد بالله الذي لا إله إلا هو ما أطعت. الخامس: إذا أبدل لفظ الشهادة بالحلف فقال: أحلف، أو أقسم، فالمشهور الإجزاء لاتفاق المعنى. قوله: ((فإن استلحق النسب بعد الالتعان حد ولحق به الولد)): لأنه أكذب نفسه في دعواه فتعين عليه حد القذف، وثبت النسب، فإن نفاه فلما مات استلحاقه لم يثبت لأنه متهم على الميراث، فإن كان للمستلحق ولد ثبت الاستلحاق لبعد التهمة.

ولعان الأخرس بما يفهم عنه واقع طلاقه وغيره، وقال الشافعي: لا يلاعن الأخرس والصحيح أن اللعان معنى يأتم باليقين، فإذا أكمل عليه قيل ( ..... ) سهمًا قصد بقلبه، ويلاعن الأعمى لنفي النسب، فإن قذف بالزنا فهل يلاعن لنفي الحد لإمكان عمله، بذلك بواسطة (عقله) أو يحد إذ لا يتصور منه الرؤية، فيه قولان في المذهب. قوله: (((وإن) تصادقا على نفي النسب، أو الزنا ففي الاكتفاء بذلك من اللعان خلاف)): وهذا كما ذكره، وإنما ذلك لحق الحمل فيمكن اتفاقهما على نفيه، فلا ينتفي إلا بلعان، إذ هي الصورة الشرعية في هذا الباب، وهذا هو المشهور، والقول الثاني: أنه ينتفي بالتصادق، وفي هذا الباب فروع. الأول: أن يخوفهما الإمام عقابهما قبل الالتعان رجاء أن يتوبا ويرجعا إلى الحق، ويقال له عند الخامسة إن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب والفراق. الفرع: إذا نفى الحمل، ثم وطئ بعد علمه به ونفيه بطل النفي، ولحق الولد، ولو علك بوضع الحمل ولم ينفه سقط قوله: ولم ينتف عنه. الفرع: إذا أتت بتوأمين فنفاهما لاعن لعانًا واحدًا، وإن نفى أحدهما ثبتا، وإن استلحق أحدهما استلحقا معًا حكمًا، لأن التبعيض في ذلك لا يتصور العلم به البتة. الفرع: اللعان عن الحمل جائز عندنا اعتمادًا على حديث عويمر العجلاني لأنه لاعن زوجته وهي حامل، وقال أبو حنيفة وغيره لا يلاعن في الحمل إلا بعد الوضع لاحتمال أن يكون ريحًا (فينفش).

باب في العدة والاستبراء وما يتعلق بذلك

باب في العدة والاستبراء وما يتعلق بذلك ((ويوجب العدة شيئان)): إلى قوله: ((وأما وضع الحمل)). شرح: العدة والإستبراء مشروعان فالأصل العلم ببراءة الأرحام، وقد يكون حيث تحقق البراءة لمكان العبادة والمعنى. والإستبراء كالعدة في كثير من الأحكام، وإن خالفها في التحريم المتأبد في العدة بخلاف الإستبراء على أحد القولين، وذكر أن موجبات العدة ثلاثة: طلاق، وفسخ، وموت وهو كذلك إذ لا موجب للعدة إلا انفصال العصمة، ولا يتوجه الانفصال إلا بأحد هذه، والطلاق (البائن والرجعي) وهما في وجوب العدة سواء. قوله: ((والعدة في غير الموت لا يكون إلا في المدخول بها)): (لأن المدخول بها) لا عدة طلاق عليها، وأما عدة الوفاة عليها بعموم الآية وهي من حكم الشريعة حماية للميت ودبا عنه. وحصر أنواع العدة في ثلاث: إقراء، ووضع حمل، وشهور. قوله: ((ثم هي على ضربين: منها ما يشترك فيه الطلاق، والموت وهو وضع الحمل)): وهذا كما ذكره لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] وهذا عموم في كل حامل، وأما المطلقة فلا خلاف أنها تحل بوضع الحمل، وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملًا فالجمهور أنها تحد بوضع الحمل اعتمادًا على قوله -عليه السلام- لسبيعة الأسلمية حين وضعت بعد وفاة

زوجها بليل، وفي رواية: (بعد أربعين ليلة، وقد حللت فانكحي من شئت) فتغاير الدليلان على مقصود واحد، وذهب ابن عباس إلى أنها (تنتظر) أقصى الأجلين وهي رواية في المذهب. قوله: ((ومنها ما يشتركان في جنسه دون عينه)): وهو الأقراء والمشهور على ما سنبين تفصيله وهذا كما ذكره، لأن المطلقة تعتد بالأقراء إن كانت من ذوات الأقراء، أو بالمشهور إن لم تكن من ذوات الأقراء، أو كانت من أهل ذلك فعرض لها عارض من رضاع، أو مرض، أو استرابة، وكذلك المتوفى تعتد بالأشهر حرة كانت، أو أمة، وتدخل الحيضة في عدتها، فقد شاركت المطلقة في اعتبار. قوله: ((والأقراء ثلاثة: وهي الأطهار)): قلت: اختلف العلماء في الأقراء المعتدة به فمذهب مالك والشافعي أن الأقراء هي الأطهار وقال أبو حنيفة هي الحيض، واستقرئ نحوه من المذهب. والحجة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمرأة سألت في الحيض فقال لها: دعي الصلاة أيام أقرائك. واحتج أصحابنا بإثبات التاء في العدد وذلك دليل على تذكير المعدود، فدل على أن الأقراء هي الأطهار لا الحيض، وفيه نظر.

قوله: (فإذا طلقت في آخر الطهر فحاضت عقب الطلاق بجزء من (الطهر) كان ذلك قرءاً كاملًا وتحل المطلقة بالدخول في دم الحيضة الثالثة)): وهذا هو المشهور كما ذكره أن المطلقة تحل بنفس دخولها عملًا على الأغلب وهو مذهب الكتاب، والقول الثاني: أنها لا تحل حتى تستتم الحيضة الثالثة، واستحسنه أشهب طلبًا لليقين. قوله: ((وعدة الأمة قرءان)): يعني ذات الحيض، وذلك على الشطر من عدة الحرة، إذ هو الممكن في الشطر، والخلاف قائم هل تحل بنفس دخولها في الحيضة الثالثة، أو حتى تستتم كما قدمناه في الأولى، فإن عتقت قبل الطلاق فهي كالحرة، وإن عتقت في أثناء العدة فهي على حكم الامة. قال القاضي: ((وأما وضع الحمل فيستوي فيه جميع المعتدات)): إلى قوله: ((وأما عدة الوفاة)). شرح: وهذا كما ذكره، والمعنى أن كل حامل تحد بوضع حملها، وقد قدمنا الخلاف في المتوفى عنها. قوله: ((في الأسباب الموجبة له)) ففي هذا الضمير الإشكال، والصحيح أنه يفسره المعنى، لأن قوله يستوي في الاعتدادية جميع المعتدات، فالضمير في ((له)) عائد على اعتدادية الذي يدل عليه الضمير الأول الذي فيه، والمعنى أن الوضع يستوي في الاعتدادية، وفي الأسباب الموجبة للاعتدادية جميع المعتدات فهو ضمير (يفسره) سياق الكلام، وله في كلام العرب نظائره. وقد كان الطلبة يسائلون عن هذا الموضع فكنت أقول لهم ما ذكرته ههنا والله أعلم بصحته. قوله: ((من الطلاق، والفسخ، والشبهة، والموت)): أما الطلاق والفسخ والموت فالأمر فيها ظاهر، وأما الشبهة فلعله إشارة إلى مسألة الكتاب فيما

إذا تزوج أخوان أختين فأدخلت على كل واحد منهما غير امرأته، فهذا قسم زائد على الطلاق والفسخ والموت. قوله: ((ولا تنقضي العدة إلا بوضع جميعه)): وهذا إشارة إلا انفصال بعض الولد، أو إلى ما إذا كان في البطن توأمان فأكثر، فوضعت إحداهما، فلا تحل حتى تضع الجميع اتفاقًا فلا يبرأ الرحم بعد وضع الأول. قوله: ((من غير مراعاة لتمام الخلق)): وهذا كما ذكره أن العدة تنقضي بإسقاط العلقة والمضغة، وكل ما يقول النساء أنه ولد، قولهن في ذلك مرجوع إليه معول عليه. قوله: ((وأما العدة بالشهور ففي الطلاق والفسخ ثلاثة أشهر)): وهذا حكم اليائسة والصغيرة لقوله تعالى: {واللائي يئسن} الآية فقوله: {إن ارتبتم} [الطلاق: 4] معناه إن ارتبتم في حكمهن، فقد تضمنت هذه الآية بيان عدة من لا تحيض لصغر، أو كبر وحذف من الطلاق لدلالة الأولى عليه، والمعنى: واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر أيضًا، فحذفت الجملة بأسرها، وفي ذلك ما يبين بحذف أحدهما وهذه معتبرة بالأهلة، فإن ابتدأت عددًا كمل شهر العدد عددًا والباقي بالأهلة كما بينه القاضي. وإذا طلقت في بعض يوم هل تحسبه أو تلغيه فيه قولان حكاهما القاضي وغيره. قوله: ((وهذا النوع من الاعتداد في المدخول بها المطيقة للوطء)): وهذا كما ذكره، لأنها إن كانت في سن من لا تطيق الوطء لصغر فلا عدة عليها، وإن وقع الدخول بها قال لأنه جرح وفساد وهذه الثلاثة أقل ما يتحرك فيه الحمل غالبًا، وذلك سواء في حق الحرة والأمة، والثاني أن عدتها شهر ونصف نظرًا إلى أن الأصل التشطير، وقيل عدتها شهران جعل لكل شهر بدلًا من قرء.

قوله: ((ويستوي فيها)): هذا الضمير عائد على الثلاثة أشهر، ويحتمل أن يعود على العدة وهذا الذي ذكر القاضي من التسوية هو المشهور وقد ذكرنا الخلاف فيه. قال القاضي: ((وأما عدة الوفاة)): إلى قوله: ((وإذا مات)). شرح: الأصل في عدة الوفاة: {والذين يتوفون منكم} الآية [البقرة: 234] وهذه الآية ناسخة للآية المتضمنة لتربص الحول، ومبطلة للأحكام الجاهلية في ذلك، وهذا ما لم تكن حاملًا وهو معنى قول القاضي: لغير الحامل فإن كانت حاملًا حلت بوضع الحمل على المشهور كما قدمناه اعتمادًا على حديث سبيعة الأسلمية القصر لعموم الآية المجمل وهل يشترط أن تحيض في هذه الأربعة الأشهر أم لا؟، فيه قولان، المشهور اشتراط الحيض نظرًا إلى [أن] الغالب في هذه المدة ظهور الحمل أن لو كان، فهي براءة في المعنى، وهذا في المدخول بها. وغير المدخول بها لا تحتاج إلى حيضة كما ذكر، فإن كانت هذه المتوفاة عنها مستحاضة، أو مرتابة بتأخير الحيض فهل يكفي بالأربعة الأشهر والعشرة الأيام أو تنتظر تسعة أشهر، إذ هي أمد الوضع، فيه قولان مبنيان على ما قدمناه. وإن كانت مريضة أو مرضعة فسيأتي حكمها إن شاء الله. قوله: ((وعدة الأمة شهران وخمس ليال)): وهذا هو المشهور أنها في هذه العدة على الشطر من عدة الحرة. والقول الثاني أن عدة الأمة ثلاثة أشهر لأنه أقل (في) الحمل، والقول الثالث أنها إن كانت ممن يخشى الحل فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت ممن لا يخشى الحمل فشهران وخمس ليال على النصف من عدة الحرة، وهل تطلب الحيضة في عدة الأمة أيضًا فيه الخلاف المتقدم في الحرة.

واختلف المذهب في عدة الكتابية فقيل إنها كالمسلمة، وقيل استبراء رحمها بثلاث حيض، وقيل حيضة واحدة، فمن تمسك بعموم اللفظ جعلها كالمسلمة، ومن رأى الخطاب خاص بالمسلمين أوجب عليها ما يحصل عليها براءة الرحم. قوله: ((والمرتابة هي التي ترتفع حيضتها لعارض، أو لغير عارض)): فإن ارتفع لغير عارض فعدتها سنة كاملة لا حيضة فيها البتة، والأقراء إن رأتها، فإن حاضت في أثناء السنة عملت على الحيض وكذلك إن حاضت قبل انقضاء السنة سباعة واحدة فإنها تعمل على الحيض، وإن مرت سنة كاملة ولم تحض فيها البتة برئت، (وبذلك) قضى عمر بن الخطاب فجعل لها تسعة أشهر استبراء، لأنه أمد الحمل المحتمل، وثلاثة أشهر عدة، لأنها بعد التسعة الأشهر سنة، فاعتدت بثلاثة لدخولها تحت قوله سبحانه: {واللائي يئسن} الآية. وإن ارتفع لعارض فهو كما ذكره القاضي ثلاثة أسباب: رضاع، أو مرض، أو استحاضة فكل واحد منها سبب يوقف الدم، وقد علم أن كل واحد منها جار على حكمه إذا استمرت العادة، أما المرضع فحكمها انتظار الأقراء إذا علم أن (الرضاع) هو الذي رفع حيضها فهي عي حكم ذوات الأقراء في (طلب) ذلك، فإن انقضى أمد الرضاع انتظرت بعد السنتين بثلاث حيض فلا يبرئها إلا الحيض فأما أن تحيض في أثناء مدة الرضاع ثلاث حيض فهي على كل حال من ذوات الأقراء لا يبرئها غير ذلك، فإن قضى أمد الرضاع ولم تحض وهي مرتابة تنتظر سنة من يوم انقطاع الرضاع، وهذا لا أعلم فيه خلافًا قال محمد بن المواز لم يختلف قول مالك وأصحابه أن المرضع تنتظر الحيض أبدًا حتى ينقطع الرضاع. وههنا فرع حكاه أشياخنا وهو إن أراد الزوج انتزاع ولده الرضيع إلا أن

يكون فيه إضرار بالولد إذا لم يقبل غيرها. وأما المرضعة ففيها قولان: أحدهما: أنها كالمرضع عدتها الأقراء، وهي رواية أشهب عن مالك، فروى ابن القاسم تعتد سنة كاملة تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة اليائسة، وهي رواية ابن عبد الحكم، وأصبغ، وأما المستحاضة فقسمان: مميزة، وغير مميزة، فأما غير المميزة فعدتها سنة، وبذلك قضى الصحابة، وعليه الاعتماد، وأما المميزة، ففيها قولان: أحدهما: أنها كغير المميزة فتعتد بالسنة. والثاني: أنها تعمل بالتمييز، والمرتابة بحبس البطن، فحكمها أن تصبر إلى أقصى أمد الحمل. واختلف المذهب في أقصاه فقيل أربعة أعوام، وقيل خمسة أعوام، وقيل سبعة أعوام، واستقرئ من المدونة، وقال أشهب: لا تحل أبدًا حتى تيأس. قوله: ((وفي الوفاة روايتان)): يعني في عدة المستحاضة من وفاة زوجها. وجه القول بأنها كمغير المستحاضة عموم الآية، ووجه القول بأنها تنتظر تسعة أشهر لاحتمال أن تكون استحاضة مع اشتغال الرحم فتنتظر أمد الحمل غالبًا. قوله: ((وعدة أم الولد من وفاة سيدها)): يعني إن كانت من ذوات الحيض، وإلا فثلاثة أشهر إن كانت ممن لا تحيض سميت الحيضة عدة مجازًا، وإنما هي استبراء.

قال القاضي أبو الوليد للعدة أربعة عشر: حيضة للأمة في الملك، وحيضتان للأمة في النكاح، إذ لا يمكن التشطير بأقل من ذلك. القسم الثالث: ثلاث حيض للحرة. للرابع: شهران وخمس ليال للأمة في الوفاة. الخامس: ثلاثة أشهر لليائسة والصغيرة. السادس: أربعة أشهر وعشرة للحرة من الوفاة. السابع: أربعة أشهر وعشر مع حيضة لأم ولد سافر زوجها وسيدها وماتا ولم يعلم أولهما موتًا. الثامن: وضع الحمل للحامل، التاسع: المستحاضة وعدتها سنة. العاشر: المسترابة وعدتها سنة. الحادي عشر: المرضع. الثاني عشر: ذات حس البطن أقصى أمد الحمل على ما فيه من الخلاف. الثالث عشر: المريض. وقعت في الكتاب مسألة أم الولد إذا سافر زوجها وسيدها فماتا ولم يعلم أولهما موتًا، اضطرب المتأخرون فيها. وتحصيل القول في ذلك على مذهب ابن القاسم أنه يحتمل أن يكون مات الزوج أو لا فيجب عليها لوفاته شهران، وخمس ليال، وإذا كان بين الموتين أكثر من شهرين وخمس ليال، قد حلت للسيد بمضي عدتها من زوجها بناء على أن الإباحة تقوم مقام الفعل ثم يموت السيد عنها وجبت عليها حيضة. ويحتمل أن يكون السيد مات أو لا فتكون حرة، ثم مات زوجها فوجب عليها أربعة أشهر وعشرًا عدة الحرائر، فلما أشكل الأمر وجب عليه العدتان، فإن كان بين الموتين أقل من شهرين وخمس ليال (أو شهران وخمس ليال) فالزوج إن كان هو الميت أولًا فهي لم تحل للسيد، لأنها لم تخرج بعد من العدة فلم يجب عليها حيضة فيجب عليها أربعة أشهر وعشرًا، لاحتمال أن يكون السيد أولهما موتًا فيجب عليها عدة الحرائر، ومبنى هذه المسألة على الإباحة هل تقوم مقام الفعل أم لا فمن رأى أنها لا تقوم مقام الفعل فلا حيضة عليها بوجه، ومن رأى الإباحة تقوم مقام الفعل أوجب والله أعلم. قال القاضي: ((وإذا مات على الرجعية انتقلت)): إلى آخر الفصل. شرح: يتعلق بهذا الفصل انتقال العدد وتداخلها، وقد ثبت أن الطلاق

الرجعي لا يقطع بدليل التوارث وغيره من أحكام الزوجية فلذلك تنتقل الرجعة وتمضي البائن على عدتها، وأما المعتقة في العدة فتمضي على عدة الأمة عند مالك، ولا تنتقل إلى عدة الحرة إلا أن يموت عنها بعد أن تعتد من طلاق رجعي، فتنتقل على ما ذكرناه. وقال الشافعي تنتقل إلى عدة الحرة في البائن والرجعي. ومنشأ الخلاف في ذلك هل العدة من أحكام الزوجية أو من أحكام انفصالها، فمن قال من أحكام الزوجية، قال تنتقل ومن قال هي من أحكام انفصالها قال: لا تنتقل. قوله: ((وكل رجعة تهدم العدة إلا رجعة المولي والمعسر بالنفقة)): وهذ مذهب مالك أنه راجع امرأته في العدة من الطلاق الرجعي، ثم فارقها قبل أن يلمسها، فإنها تستأنف العدة، وهو قول جمهور الفقهاء الأمصار، وقالت فرقة من العلماء تبني على عدتها الأولى بناء على أن الرجعة لا تهدم العدة وإنما استثنى مالك -رحمه الله- المولي، والمعسر بالنفقة، لأن صحة الرجعة في المحلين موقوف على الوطء والإنفاق، فإذا لم يحصلا لم تحصل الرجعة، فإن لم ينفق المعسر ولم يطأ المولي بقيت على عدتها الأولى، إذ الرجعة باطلة، وفي كتاب محمد فيمن خالع زوجته، ثم نكحها في العدة، ثم طلقها قبل أن يمسها أنها تبني على عدتها الأولى، ولو كان الطلاق رجعيًا فإنها تستأنف العدة كما ذكرناه قال ابن القصار إلا أن يريد برجعته التطويل عليها فإنها تبني على عدتها الأولى. ثم ذكر القاضي في تداخل العدد روايتين ويتصور تداخل العدد من شخص واحد، ومن شخصين فالتداخل من

شخص واحد إذا وطئها في العدة فتكفيها ثلاثة قروء، وكذلك حكم الأشهر ويتداخل من شخصين إذا تزوج المرأة في عدتها من غيره وفرقنا بينهما فيكفيها عنها عدة واحدة بالأشهر، أو بالأقراء على أحد القولين، والقول الثاني: أنها تتم عدتها من الأول، ثم تستأنف العدة من الآخر، وهو اختيار الشيخ أبي القاسم. ووجه القول بالتداخل هو أن الغرض المقصود من براءة الرحم حاصل بالأولى. ووجه قول أبي القاسم أن وطء الثاني له حرمة فوجب استيفاء عدته كالأولى، وهذا مع اتفاق العدد إما بالأقراء وإما بالشهور. فإن اختلفت العدد مثل أن يكون عدة أحدهما الحمل فيندرج فيها الآخر وتنقضي العدتان. قوله: ((والإحداد)): يتعلق به حكم الإحداد وهو في الأصل من الحد، وهو المنع، لأنها تمنع من الزينة والطيب وهو واجب في عدة الوفاة على الزوجات الحرائر المسلمات بالإجماع، والدليل على ذلك ما أخرجه أهل الصحيح من حديث أم حبيبة ((حيث) دعت بالطيب فمست به عارضيها ثم قالت: ما لي به من حاجة غير أن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لا يحل لامرأة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرًا). وأجمع جمهور المسلمين على وجوبه، واختلفوا هل هو عبادة، أو معقول المعنى. فقال مالك هو واجب على كل زوجة حرة، كانت أو أمة، صغيرة، أو كبيرة مسلمة، أو كتابية، وهذا يقتضي أنه مشروع لقطع تشويف

الرجال عن النساء عن إرادة التزويج، وقال أبو حنيفة لا إحداد على الصغيرة إلا من العلة فيها ولا الكتابية بناء على أنها عبادة، ولا تصح العبادة من الكافر لقوله -عليه السلام- في حديث أم حبيبة: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) فقيد الإيمان، وذلك يقتضي أن لا إحداد على الكتابية، وهي رواية ابن نافع، وأشهب عن مالك، ونبه القاضي بقوله: ولا إحداد على مطلقة على مذهب أبي حنيفة ومن تابعه. وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب فقال مالك: لا إحداد إلا في عدة الوفاة، وقال أبو حنيفة هو واجب في الوفاة والطلاق البائن، واستحسنه الشافعي للمطلقة ولم يوجبه عليها، (والمعتمد) لمالك دليل الخطاب من قوله: ((أن تحد على ميت إلا على زوج)) ولاحظ أيضًا المعنى أن الميت لا يدب عن نفسه، ولا يدفع عن نسبه بخلاف الحي، ورأى أبو حنيفة أن المقصود منه قطع التشويف في العدة، وذلك مطلوب في حق الحي والميت حفظًا للأنساب.

قوله: ((والإحداد على كل زوجة مات زوجها عنها)): عموم دخلت الأمة بالتزويج، والكتابية وقد ذكرنا الخلاف في الكتابية، وخالف قوم في الزوجة إذا كانت أمة. وأسقطوا الإحداد عنها، والجمهور على خلافه لعموم اللفظ، وقد تقدم الخلاف في امرأة المفقود إذا طلق عليه هل تحد أم لا؟ فيه قولان ذكرهما فيما تقدم. قوله: ((والإحداد هو الامتناع من الزينة)): هو كما ذكره قال (أبو القاسم) بن محرز: الإحداد هو ترك الزينة المعتادة في الخلوات للأزواج وهذا ضابط كلي. واختلف المذهب هل تدخل الحمام من ضرورة أم لا؟، والمنصوص الامتناع من ذلك (وقد نهى -عليه السلام- المرأة التي اشتكت إليه أن ابنتها توفي زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها. قال: لا مرتين أو ثلاثًا) الحديث وهذا نص في الباب. قوله: ((ولا إحداد على ملك اليمين)): هذا مذهب الجمهور لقوله -عليه السلام-: (إلا علة زوج). قوله: ((ولا يجوز للمعتدة من وفاة، أو طلاق أن تنقل عن بيتها التي كانت فيه)): الأصل في منع المعتدة من الانتقال حديث العوفية بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري لما سألت -عليه السلام- فقالت إن زوجي خرج في طلب أعبد له فلما أدركهم قتلوه ولا منزل له يملكه ولا نفقة ينفق علي وأنا امرأة شاسعة الدار فإن رأيت أتحول إلى أهلي وجيراني فعلت قالت: فأذن لي فلما كنت في

الحجرة دعاني فقال لي أسكني حتى يبلغ الكتاب أجله) الحديث وهو مقتضى قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين} الآية [الطلاق: 1] على حسب اختلاف العلماء في تفسير الفاحشة المذكورة في الآية، فقيل الزنا (وتحرم حينئذ) الإقامة عليها، وقيل أذاء الجيران ولو انتقلت من مسكن النكاح، ثم طلقت بعد الانتقال اعتدت في المسكن المنتقل إليه إلا أن يقصد بالانتقال إخراجها من مسكنها حتى لا تعتد فيه، فإنها ترجع إلى المسكن الذي كانت فيه هذه نصوص الروايات، وتخرج المعتدة في حوائجها نهارًا، وفي طرف الليل إذا كان مثلها تقضي حوائجها، وتخرج من مسكنها لخوف سقوطها، أو عورة يخاف منه (لا) يتأتى المقدم (مع) وجوده. وحكم البدوية والقروية في ذلك سواء إلا أن يرحل أهلها ويلحقها الضرر بالمقام معه فترحل معهم وتنثوي حيث انثوى (أهلها) لا حيث أهل الزوج. وههنا فروع: الأول: إذا كان أذن لها في السفر وطلق قبل مفارقة عمران البلد رجعت إلى البلد وهذا نص الروايات. ولو خرج بها إلى الحج فمات رجعت إلى

منزلها من مثل اليومين، أو الثلاثة فإن بعدت وحرمت (بعدت لوجتها)، وترجع في غير سفر الحج بعدت أو قربت إن استطاعت ذلك إلا أن يتبين عرجها، وهذا في سفر الأوبة، وأما سفر الانتقال فحكمها إذا مات عنها، أو طلقها في أثناء سفر الانتقال، أن تعتد في أقرب الموضعين إليها إما المؤذي مع المنتقل إليه وإما المنتقل منه، وسيأتي حكم المتوفى عنها. قال القاضي: ((وللرجعة السكنى حاملًا)): وسيأتي إلى آخر الفصل. شرح: قد قدمنا أن أحكام الزوجية باقية مع الطلاق الرجعي فللمطلقة الرجعية السكنى، والنفقة حائلًا كانت أو حاملًا، والدليل على ذلك قوله سبحانه في الرجعية: {أسكنوهن} الآية [الطلاق: 6]. وأجمعوا على وجوب النفقة للمبتوتة إن كانت حاملًا لأجل الحمل، واختلفوا في المبتوتة غير الحامل على ثلاثة مذاهب، قال الكوفيون لها السكنى والنفقة، وقال أحمد، وداود، وإسحاق، وأبو ثور لا نفقة لها ولا سكنى فقال مالك والشافعي لها السكنى دون النفقة احتج الكوفيون بقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث} الآية. وظاهر العموم. ومحظوره يوجب حفظ النسب، وتحقيق حرمة، ولا يزول ذلك بزوال الزوجية، وأتبعوا النفقة السكنى لملازمتها في الوجوب بعد عقد الزوجية؟ وقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب أنه قال في حديث فاطمة بنت قيس المذكور ونصه: ((قالت طلقني ثلاثًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته -صلى الله عليه وسلم- فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة) خرجه

مسلم، في بعض طرقه: (إنما السكنى والنفقة لمن تزوجها على الرجعة) وبهذا القول قال علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر بن عبد الله، واحتج مالك والشافعي بأن النفقة عوض عن الاستمتاع بدليل سقوطها للناشزة، فتسقط حيث تعذر الاستمتاع وتعذر ذلك في المبتوتة ظاهر. وأما السكنى فوجب لها لحرمة النسب، ووجوب حفظه؟، ولا يزول ذلك بزوال الزوجية، وأسند من طريق النقل ما رواه في موطئه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة بنت قيس ليس عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم (كلثوم) وهذا لا يقتضي إسقاطه السكنى، وإنما أمرها بالاعتداد في بيت أم كلثوم، لأنه كان في أمانتها براء. قال القاضي: ((إلا أن تكون حائلًا من الحر دون العبد)): لأن ولد العبد إن كان رقيقًا فنفقته على مالكه، وإن كان حرًا فهو فقير. قوله: ((ولا نفقة للملاعنة حاملًا كانت أو حائلًا)): قلت لأن فراق الملاعنة بائن فلا نفقة لها، وولدها منتف باللعان فلا نفقة له. قوله: ((ولا لمعتدة من وفاة)): هو كما ذكره، لأن المال بالموت منتقل إلى الورثة. وقوله: ((ولها السكنى)): يريد المتوفى عنها زوجها، وهذه المسألة مختلف فيها بين أهل العلم. وصريح مذهب مالك أنها أولى من الورثة

والغرماء بمنافع مسكنها إذا كان السكنى له، أو بكراء نقده، فإن لم يكن المتوفى أدى كراء المسكن فالمشهور ألا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسرًا، وفي كتاب محمد الكراء لازم للميت فخرج من ماله. وإذا بنينا على المشهور فللورثة إخراجها إلا أن تسكن في حصتها، فإن نقد بعض الكراء وبقي بعضه سكنت فيما نقد. واختلف المذهب فيما لم ينقد هل يلزم في ماله أو لا؟ ونص في الكتاب على أنها إذا كانت في دار بكراء، ولم يكن نقد الكراء، أو رضي أهل الدار بالكراء منها فليس لها أن تخرج من الدار إلا أن يغلو من الكراء ويخرجه من كراء المثل، فلها أن تنتقل واختار القرويون والصقليون التسوية بين ما نقد كراءه، وما لم ينقد إذا كان الكراء (لمدة معينة)، وروى أنها أحق بالسكنى، وإن لم ينقد وهو اختيار أبي محمد عبد الحق، ونصوص الروايات التفريق بين أن ينقد الكراء أم لا؟ وههنا فروع: الأول: إذا أراد الزوج، أو الورثة بيعها، واشترط سكنى زوجته فالمشهور الجواز، لأن عقدتها بالأشهر، أو وضع الحمل، والشاذ أن البيع فاسد، وهو قول محمد بن المواز وابن عبد الحكم قال لأنها قد ترتاب فتطول العدة. وأما الزوج فلا يجوز بيع ذلك، واشترط سكنى مطلقته إلا أن تكون عدتها بالأشهر، لأن القرء والحمل مجهولان (فإن كانت) ذات الأشهر ممن (يترقب)

الحيض، فهل يجوز بيع الدار واشتراط قبضها عند البراءة فيه خلاف والظاهر المنع لأنه غرر. الفرع: إذا وقع البيع في المسكن على اشتراط القبض عند اشتراط الريبة فالمشهور فساد البيع، وقال سحنون ولا حجة للمشتري إن تمادت الريبة، لأنه دخل على ذلك وفي كتاب محمد هي أحق بالمقام حتى تنقضي الريبة، وقيل إن للمشتري الخيار في فسخ البيع وإمضائه. الفرع: نص شيوخنا على أن امرأة الأمير (لا يخرجها الأمير) القادم حتى تنقضي عدتها، وكذلك من حبست عليه ذلك، ثم على آخر (بعده) كإمام المسجد. ولو حبس المنزل على رجل حياته فلزوجته السكن في عدتها، وإن تأخرت |إلى أقصى الحمل، لأن العدة من أسباب الميت لحرمة نسبه، ولو كان الحبس سنين معلومة فانقضت قبل انقضاء العدة فإن رجع إليه الحبس إخراج زوجته بخلاف التحبيس عليه حياته. قوله: ((وعلى المرأة رضاع ولدها ما دامت زوجة أبيه)): وهذا كما ذكره لأن حقوق الزوجة كوجوب الخدمة للعبادة عليها إذا كان ممن يليق بها ذلك، فإن لم يقبل غيرها تعين عليها الرضاع لأنه من باب إجبار النفوس، فإن طلبت العوض على ذلك في هذه الصورة فهل يقضي لها بذلك أم لا؟ فيه قولان، وسواء في ذلك الزوجة والمطلقة، وقد قال سبحانه: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن} [الطلاق: 6] وذلك في المطلقات فإن كان الأب عديمًا تعين عليها إرضاع بغير عوض، فإن لم يكن لها لبن، والأب عديم فهل يلزمها أن تستأجر من يرضعها أم لا؟ فيه قولان فالمشهور أن لا يلزمها ذلك لأنه من فقراء المسلمين واختار معه أنه فرض كفاية لا فرض عين، واختار محمد بن المواز (أن عليها) أن تستأجر له.

والمعتمد عليه في إيجاب الرضاع عليها قوله تعالى: {والولدات يرضعن أولادهن} [البقرة: 233] فهو خبر بمعنى الأمر، وما جرى به العرف في الشريعة كالمشترط، ولو طلبت الأم إرضاعه بأجرة، والأب عديم فوجد من يرضعه بغير أجر، أو بدون أجرة الأم. قال الشيخ أبو القاسم بن الكاتب إلا أن يجد من يرضعه غير أمه باطلًا أو بدون ما طلبته الأم فكذلك له. وإن كان الأب عديمًا، والولد موسرًا فللأم أخذ الأجرة على الرضاع من مال الولد لأنه غني لا يتعين عليها إخدامه. قال القاضي: ((وعلى الرجل نفقة ولده الصغير إلى الحضانة)). شرح: الأصل في وجوب النفقة للولد على الوالد الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 3] وأما السنة قوله -عليه السلام-: (تقول لك زوجتك أنفق علي أو طلقني، ويقول عبدك أنفق علي أو بعني، ويقول لك ولدك إلى من تكلني) فبين -عليه السلام- أن كل واحد من الثلاثة الأصناف يحتج بما ذكره على وجوب النفقة له، وقرن النظير بالنظير، فدل على وجوب الجميع، وهو مقتضى الإجماع. وقال -عليه السلام- (أكبر الكبائر أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، ثم أن تزني بحليلة جارك، ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك). ويتعلق بهذا الفصل ذكر النفقة المستحقة بالقرابة وهي عندنا واجبة (لأول) طبقة من الأصول والفصول فقط دون أولاد الأولاد والجدات

والأجداد. وأوجب أبو حنيفة النفقة لكل ذي رحم، وشذ فأوجب نفقة ابن أخت الفقير على خاله الغني دون ابن عمه المستحق بميراثه حكاه عنه القاضي إسماعيل في أحكام القرآن وذلك كله مع كبير المستحق عليه النفقة وغير مستحقها من الآباء والأبناء، واشترط في الأبناء صغرهم وعجزهم عن التكسب، ولا يشترط وجوب نفقة الولد الكافر على والده المسلم وبالعكس فلا يشترط في وجوب النفقة التساوي في الدين، وأطلق القاضي بقوله: ((وعلى الرجل نفقة ولده الموسر ولا يلزمه التكسب)): لأجل نفقة القريب بخلاف نفقة الزوجات، ولذلك كانت نفقة الزوجات أوجب، ولا يباع على الولد في نفقة والده وعلى الوالد نفقة ولده عبد ولا عقار إذا لم يكن في ذلك فضل عن حاجته، وإنما يقضى على الموسر بما يزيد على مقدار حاجته. قوله: ((إلا أن يكون مجنونًا، أو زمنًا لا مال له فإن وجوب النفقة مستدام على الأب)): وهذا هو المشهور كما ذكره، والقول الشاذ عندنا أن النفقة تسقط عنهم ببلوغهم على أي حالة بلغوا. واختلف المذهب أيضًا إذا بلغوا أصحاء، وسقطت النفقة ثم عجزوا فالمشهور أن النفقة لا تعود لأن الحكم (أسقطها)، وقال عبد الملك تعود مراعاة (العلة) الوجوب رعيًا للقرابة، وتسقط نفقة الثيب بدخولها عند زوجها، فإن طلقها بعد الدخول وعادت إليه لم تعد النفقة إلا أن تعود غير بالغة فتعود النفقة. قوله: ((ولا نفقة على الأم)): هو مذهب مالك خلافًا للشافعي

قوله: ((وعلى الولد الموسر أن ينفق على أبويه المعسرين)): وهو كما ذكره لأنه من البر الواجب وهل يقضي على الولد الموسر أن يزوج أباه، فيه قولان مبنيان على النكاح هل هو من باب الضرورات، فيلحق بالنفقة، أو من باب المكرمات، والمشهور أنه يقضي عليه لأبيه، وينفق على زوجته، فأما إذا كانت أمه فلا خلاف في وجوب النفقة عليه، وإن كانت غير أمه فالمشهور وجوب النفقة لها عليه، وذلك كله من باب الإرفاق، ولذلك وجبت عليه خدمته، فإن (اجتمع) أولاد، وجبت النفقة على الموسر منهم، فإن كانوا كلهم موسرين وجبت النفقة على جميعهم. واختلف المذهب في كيفية التوزيع فقيل على حسب المواريث على الذكر مثلًا ما على الأنثى وهو رواية مطرف وغيره عن مالك وقال أصبغ بالتسوية، وقال محمد: على اليسار والجدة. قوله: ((ولا نفقة للجد ولا للجدة)): خلافًا للشافعي أيضًا وقد تقدم الكسوة والسكنى وجميع المؤن لازمًا جريًا على العوائد، والواجب من ذلك مقدار الحاجة. قال القاضي: ((وإذا طلق امرأته فالحضانة للأم)). شرح: الحضانة هي الكفالة للولد ما دام محتاجًا للكفالة وهي لكل من كانت له الشفقة منها أقرب، وعلى الولد أغلب، ولا يتقدم الأم في ذلك أحد، فلذلك قدمها الشرع في قوله -عليه السلام-: (أنت أحق به ما لم تنكحي) واختلف قول مالك هل الحضانة حق للأم، أو حق للولد على

الأم حكى أبو الفضل بن عمرو البغدادي في تعليقه عن مالك روايتين، وحكى الإمام المازري وأبو الطاهر وغيرهما في ذلك رواية ثالثة أنها حق لهما فالأم أحق الناس بالحضانة على ولدها إذا كانت عاقلة أمينة في حرز ومنعة حرة كانت أو أمة، فإن كانت ذمية فهل لها (من) الحضانة ما للمسلمة أم لا؟. فيه قولان: المشهور أنها كالمسلمة، وتمنع أن تغذيهم بالخمر والخنزير وتنشئتهم على المحارم، فإن خيف ضمت إلى الناس من المسلمين. ويشترط كون (الحاضنة) فارغة من الشواغل، فإن كانت متزوجة فلا حق لها في الحضانة، وهذا يدل على أن الحضانة حق للولد فإن كان الزوج ممن له نسب للطفل فهل يسقط حقها منها أم لا؟ فيه قولان: فالمشهور نظرًا سقوطها وهو اختيار ابن وهب وقيل لا (يسقط) وهو نص القاضي وهو المشهور نقلًا لا نظرًا فإذا بطلت حضانة الأم بالتزويج ثم طلقت فهل تعود الحضانة أم لا؟ المشهور أنها لا ترجع، والشاذ أنها ترجع، وكذلك يسقط حق الحاضن إذا خيف على الولد في دينه، أو بدنه، أو أخلاقه. وأم الأم تلي الأم في استحقاق الحضانة، ويتعلق بذلك (حكم) اجتماع الحواضن فأول الإناث الأم، ثم الجدة؟ ثم الخالة، ثم الجدة للأب، ثم جدة الأب، ثم الأخت ثم العمة، ثم بنت الأخ.

واختلف في خالة الخالة هل هي كالخالة أم لا؟ على قولين. وأول الذكور الأب، ثم الأخ، ثم الجد، ثم ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن العم. واختلف في المولى الأعلى للأسفل هل لهما حق في الحضانة أم لا؟ والصحيح الاستحقاق رعيًا للقرابة، فإن اجتمع الوصي والعصبة الذكور، فالمنصوص أن الوصي أولى وهو مقدم على جميع العصبة كالنكاح. أجرى فيه بعض الشيوخ الخلاف على الخلاف في الولاية في النكاح، فإن اجتمع الذكور والإناث فالأم مع أمها متقدمتان على جميع الرجال، فاختلف الرواية فيمن بعد الجدة والأم من يقوم مهما، فقيل جميع النساء مقدمات عليه، وقيل الثلاث وحدها مقدمات عليه، وقيل هو مقدم على الخالة. وهذه الروايات الأربع واقعة في المذهب، ومبناها على النظر في تحقيق المناط. قوله: ((وحضانة الغلام)): يتعلق به ذكر منتهى الحضانة. أما الأنثى فإلى دخول زوجها بها. وأما الذكر، فيه روايتان: الأولى: أن منتهاها إلى البلوغ، وقيل الأثغار. وقال ابن الماجشون إذا قارب الاحتلام أو نبت واسودت عانته سقطت الحضانة. قوله: ((وليس للأب أن بسافر بولده الصغير إلا أن يكون خروج انتقال)): وهذا كما ذكره، لأن سلطانه قائم على ولده وولايته بيده، فإذا أراد سفر الانتقال فله انتزاعه منها، ويسقط حقها من الحضانة إلا أن توافقه على السفر معه، وليس له (ذلك) في سفر الترجعة أو التجارة وهل يسافر بهم في البحر أم لا؟ فيه قولان في المذهب الصحيح الجواز مع علة الأمن اعتمادًا على قوله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} [يونس: 22] للأب أن (يشسع) بولده وليس ذلك للأم.

قال القاضي: ((ومن ملك أمة حاملًا)) إلى آخر الفصل. شرح: الأصل في الاستبراء قوله -عليه السلام-: ((لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض) ولقوله -عليه السلام-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماؤه زرع غيره) وهذا واجب في كل أمة غلب على الظن حملها أو شك في وجوده، وساقط في كل من أمن منها الحمل لصغر، أو كبر، وقدر الاستبراء قرء واحد إن كانت من ذوات الأقراء، فإن كانت من ذوات الأشهر فثلاثة أشهر، فإن كانت حاملًا فوضع حملها، وإن كانت مسترابة فزوال الريبة فيمن استرابت بجس البطن بانتظار أمد الوضع، إلا أن تذهب لريبة قبل ذلك وقد تقع الريبة بالمرض، والرضاع، والاستحاضة، وقد قدمنا ذلك. وههنا فروع: الأول: إذا بيعت في آخر أيام حيضتها فليس الباقي من حيضتها قروء، وإن بيعت في أول حيضتها فالمشهور أن ذلك استبراء، والشاذ: أنه لا يجزي، وتستأنف قرءًا. فإن كانت ممن تحيض من السنة أشهر إلى مثلها فهل يكفيها ثلاثة أشهر أم لا يكفيها إلا أن ترى الحيضة، ففيه قولان عندنا. وأقل الحيضة في العدة والاستبراء خمسة أيام قاله عبد الملك وسحنون وقال ابن مسلمة أقله ثلاث، وسئل مالك عمن حاضت يومًا أو يومين فقال يسأل النساء. قوله: ((وليس عليه استبراء فيمن لا يوطأ مثلها، ولا عمن يعلم براءة رحمها)): وهذا يقتضي ذكر الاستبراء الموجبة له ولا خلاف في مذهب مالك في سقوط الاستبراء فيمن لا يطيق الوطء جملة. واختلف المذهب في فروع:

الأول: إذا كانت ممن تطيق الوطء، ولا تحمل كبنت تسع سنين، أو عشر سنين، فهل يجب عليها الاستبراء أم لا؟، فيه قولان أوجب ابن القاسم اعتبارًا باحتمال الوطء، وسد الذريعة وأسقطه ابن عبد الحكم لامتناع الحمل في مثلها غالبًا. الفرع الثاني: اليائسة التي قعدت عن المحيض هل يجب فيه الاستبراء فيه قولان: ابن القاسم أوجبه، وابن الحكم أسقطه. الفرع الثالث: إذا انتقل الملك من امرأة أو صبي أو مجبوب ممن لا يمكن منهم الوطء هل يجب فيه الاستبراء أم لا؟، فيه قولان، فمن لاحظ المعنى أسقط، ومن غلب العبادة أوجب. الفرع الرابع: إذا كانت الأمة المشتراة بكرًا هل يجب فيه الاستبراء أم لا، فيه قولان: المشهور وجوبه، لأن البكر قد تحمل. الثاني: استحبابه احتياطًا وهو اختيار بعض أشياخنا تغليب للغالب. الفرع الخامس: إذا باعها بالخيار، ثم ردت عليه بعد أن غاب عليها المشتري الذي كان الخيار له، ففيها روايتان: المشهور: استحباب الاستبراء في هذه الصورة، لأن ملك البائع باق عليها بدليل الضمان، فالملك لم ينتقل حقيقة، والقول الثاني وجوب الاستبراء. قال القاضي أبو الفرج هذا القياس، وصوبه اللخمي إذا غاب عليها، وكان الخيار له. الفرع السادس: الاستبراء بسوء الظن كاستبراء الأمة خوفًا أن تكون زنت فيه قولان، إيجابه لابن القاسم، وإسقاطه لأشهب. الفرع السابع: الأمة إذا باعها ذو محرم هل يجب استبراؤها أم لا؟ وكذلك المكاتبة إذا كانت تتصرف فخرجت وعادت إلى سيدها هل يجب الاستبراء في هذه الصورة أم لا؟

الفرع الثامن: المودعة تحيض عند المودع، ثم يشتريها بعد الحيض وهي لا تخرج ولا يدخل عليها أحد ويشتريها ممن ساكن معه، وقد حاضت الزوجة والولد الصغير قال ابن القاسم إن كانت لا تخرج (أجزأه) حيضتها الأولى، وقال أشهب: إذا كان هو الداب عنها، والناظر لها في أمرها كانت تخرج أم لا؟، وكذلك أحد الشريكين تكون الجارية تحت يده فيشتري (نصيب) شريكه بعد أن حاضت عنده، فالمشهور الاكتفاء بذلك، فأسباب (انتقال) الملك سواء كالبيع، والصدقة، والهبة، والوصية، والميراث، والفسخ، والإقالة. قوله: ((ولا يجوز لمن وطئ أمة أن يبيعها قبل أن يستبرأها)): وهذا كما ذكره لاحتمال أن تكون حاملًا. قوله: ((وإن اتفقا على استبراء واحد جاز)): وهذا كما ذكره لأن المقصود حصول البراءة وذلك يحصل بالاستبراء الواحد. واختلف المذهب في فروع وهو استبراء الأمة على التصديق وأراد تزويجها فهل يجوز للزوج وطأها قبيل الاستبراء أم لا؟ قولان أحدهما الجواز اعتمادًا على تصديقها والثاني المنع احتياطًا.

باب الرضاع وما يتعلق به

باب الرضاع وما يتعلق به قال القاضي: ((والرضاع يوجب التحريم)) إلى آخره. شرح: الأصل في التحريم بالرضاع: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} الآية [النساء: 23]. فأدخل الرضاع تحت حكم التحريم المصدر به في أول الآية، وأما السنة فقوله -عليه السلام-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وقد انعقد الإجماع على مقتضى ذلك، وإنما نشره -عليه السلام-. ويتعلق بالرضاع فصول، بدأ القاضي منها بانتشار الحرمة. وقد أجمع العلماء على أنه ينشر الحرمة ويحرم منه ما يحرم من النسب. قال علمائنا إلا في مسألتين: الأولى: أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب، ويتزوج أخت ابنه من الرضاع لأن المانع في النسب وطء أمها وهو مفقود في الرضاع. والثانية: لا يجوز أن يتزوج أخته من النسب، ويجوز في الرضاع، لأن المانع من النسب وطء الأب لأمها، وهذا المعنى مفقود في الرضاع.

ذكر هاتين الصورتين الإمام أبو القاسم الزمخشري في التفسير في سورة النساء. فإن فصلت هذا الإجماع قلت: يحرم بالرضاع أصول وفروع، فالأصول المرضعة لأنها أم من الرضاعة، وزوجها لأنه أب، والمرتضع لأنه ولد، فهذه ثلاثة أصول تنتشر الحرمة منهم إلا في الأطراف، فيحرم على الرضيع أمهات المرضعة نسبًا، ورضاعًا، لأنهن جدات. وإخوانها نسبًا ورضاعًا لأنهن خالات، وأولادها لأنهم إخوة له. كما تحرم من قبل الزوج زوج المرضعة، لأن أباه جد، وأخاه عم، وولده أخ، والنساء منهن على هذا النسب فهي الراضع لهم وزوجة أب فتنتشر الحرمة بين الراضع وبين أطراف أبويه من النسب والرضاع. حتى إن كل نسب لهما نسب أبويها للراضع ذكرًا كان الراضع أو أنثى. وهذا الذي ذكره من انتشار الحرمة بين الرضيع والمرضعة وأطرافه هو الذي قال به جمهور العلماء وهو معنى قولهم: ((اللبن للفحل)) وهذا مذهب أكثر الصحابة وفقهاء الأمصار. ويذكر أن للقاضي عبد الوهاب أبياتًا في هذا المعنى وهي مقيدة: إذا امرأة قد أرضعت غيرها ... وكان لها في حين إرضاعها فحل فكا ابنة منه ومن غيره لها ... ومنها له أو غيرها بعد أو قبل له إخوة قد حرمن وإن يرد ... إخوة نكاح بعضهن له حل قوله: ((وللتحريم بالرضاع ستة شروط)): قلت الكلام في هذه الشروط الستة يأتي على أكثر مسائل الرضاع:

الأول: وصول اللبن من المرضعة إلى حلق الرضيع، أو جوفه من أي المنافذ كان، وهذا كما ذكره على الجملة، وصول اللبن من المنفذ المعلوم متفق على أنه ينشر الحرمة. واختلفوا فيما سوى ذلك، فقوم من العلماء اعتبروا الوصول مطلقًا، وبه قال مالك والجمهور. واعتبر عطاء وداود وغيرهما ما ينطلق عليه اسم الرضاع. وحكى بعض المتأخرين من أهل المذهب خلافًا مطلقًا في التحريم باللبن، إذا دخل من غير المنفذ المعتاد. وأطلق التحريم به ابن حبيب إذا كان المنفوذ واسعًا كالأنف. قال في الكتاب: إذا علم وصوله إلى الجوف، وكذلك إذا كان من العين، فالحرمة تقع به إذا علم وهو له. قال ابن حبيب: ولو احتقن به وقعت الحرمة. ولو أدخل من الإحليل لم تقع به الحرمة للعلم أنه لا يصل. وعلى الجملة فصريح مذهب مالك أنه إذا علم وصوله وقعت به الحرمة، وسواء وصل من أي المنافذ وصل. الثاني: أن تكون من أنثى، وهذا الشرط أيضًا فيه خلاف في المذهب في فروع: الأول إذا كانت ممن لا توطأ لصغرها، هل يحرم لبنها أم لا؟ فيه قولان عندنا. الثاني إذا كان (اللبن) من وطء حرام. وتحصيل القول في الوطء الحرام أنه إن كان الحد فيه واجبًا والولد غير لاحق فإنه (لا ينشر) الحرمة بلا خلاف. وإن كان الحد فيه ساقطًا والولد لاحقًا فهو كالوطء الحلال إجماعًا. وإن كان الحد ساقطًا والولد غير لاحق فهل ينشر اللبن في هذا الوطء الحرمة أم لا؟ فيه قولان عندنا.

وهذا في الواطئ، وأما المرضعة فهي أمه على كل حال. قوله: ((فأما لو در لرجل لبن فأرضع به لم يحرم تحريم الرضاع)): هذا التقييد لا معنى له فلو أطلق فقال: ((لم يحرم)) لكان صوابًا، لأن مفهوم التقييد لا معنى له، وقد اختلف (المذهب) إذا در لبن الذكر، والمشهور أنه لا حكم له، والشاذ أنه تقع به الحرمة حكاه ابن اللباد صاحب الفرائض، وحكى ابن شعبان رواية ثالثة بالكراهية. وقوله سبحانه: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} يقتضي الحكم على الإناث دون الذكور. قوله: ((والثالث أن يكون مقصورًا على الآدميات)): تحرزًا من البهيمة، ولا حكم للبن البهيمة بلا خلاف. واختلف المذهب في لبن الآدمية الميتة، وفيه قولان المشهور: التحريم، لأن الموت لا ينفي كونه رضاعًا، والشاذ نفي التحريم، إذ لا يتصور إضافة الفعل إلى الميتة. قوله: ((والرابع أن يكون في الحولين)): إنما ذلك مظنة احتياج الرضيع إلى اللبن، وأما فيما زاد على الحولين فقد يستغني الولد عن اللبن بالطعام، ولا خلاف أن ما بعد من الحولين لا تقع به الحرمة، وتقع الحرمة بما قرب من الحولين. واختلف الرواية في حد القرب، وقال في المختصر إلا أن يكون بعد الحولين بأيام يسيرة كالثلاثة ونحوه. قال الشيخ أبو الفرج مثل نقصان الشهر وهو قول سحنون. وقال القاضي: الشهر بين الحولين قريب وقيل الشهر والشهران قريب، وقيل الثلاثة الأشهر وهذه الروايات

الأربع في المذهب، وهذا إذا لم يستغن عن اللبن فأما إن استغنى فأرضع، فهل ينشر الحرم أم لا؟ فيه قولان عندنا وهذا هو الشرط الخامس الذي ذكره القاضي. قوله: ((والسادس أن يكون منفردًا غير مستهلك)): وهذا كما ذكره فإن كان مخلوطًا مستهلكًا ففي انتشار الحرمة إذا كان نجسًا، والمعروف وقوع التحريم لصدوق الاسم عليه، وحكى قولًا ثانيًا جرى [في] المذكرات أنه لا تقع به حرمة، إذ لا تقع الحرمة بغير المباح، وفي هذا الكلام نظر فتأمله. وقد ذكرنا الخلاف في لبن الفحل. وفي هذا الباب فروع نذكر منها ما حضر في الخاطر: الأول: إذا وطئ المنكوحة اثنان بالشبهة فأتت بولد فلحق بأحدهما فأرضعت المنكوحة صغيرًا ثبتت الحرمة بين الرضيع، وبين من ثبت له نسب الولد. قال محمد بن المواز تحرم عليهما وتثبت بين الرضيع وبينهما احتياطًا. الفرع الثاني: إذا أصاب ماء الواطئ الولد في البطن، انتشرت الحرمة بينهما، وعل يعتق الولد بذلك على الواطئ، لأن له فيه شركة أم لا؟ على قولين عندنا. الفرع الثالث: إذا طلقها فدر لبنها بعد الطلاق فأرضعت، فهل تنشر الحرمة بهذا اللبن أم لا؟ المشهور أن رضيعها ابن المطلق ولو بعد عشرين سنة حتى ينقطع لبنه، ويحدث لها لبن آخر، وقيل يقطع لبنه حكمًا بوطء زوج ثان، وقيل لا ينقطع إلا بحملها من زوج ثان. وفي مختصر الوقار: لا ينقطع مطلقًا بانقطاعه.

تم كتاب الرضاع بحمد الله وحسن عونه. كمل السفر الأول من كتاب روضة المستبين لابن بزيزة في شرح كتاب التلقين بحمد الله وتأييده وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، ويتلوه في الثاني إن شاء الله تعالى كتاب البيوع.

كتاب البيوع

كتاب البيوع قال القاضي -رحمه الله-: ((كل بيع فالأصل فيه الجواز إلا ما تعلق به ضرب من ضروب المنع)): إلى آخر الفصل. شرح: البيع في اللغة نقل الملك بعوض، وهو في الشرع كذلك، ويزاد فيه: ((على وجه الشرع)) تحرزًا من البيع الفاسد، واختلف المتأخرون من شيوخنا في (البيع) الفاسد هل ينقل الملك أم لا؟ والصحيح (أنه) لا ينقله شرعًا، لأنه لو نقل الملك لترتبت (عليه آثاره) فحينئذ يخرج عن كونه فاسدًا وهو (إفساد للأغراض) الشرعية. وإطلاق القاضي (القول أن كل بيع) فالأصل فيه الجواز))، مستفاد من قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربو} [البقرة: 275]. وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي عامة، وهو الصحيح، أو مجملة، وفيه نظر، لأن المجمل

(هو) ما لا يفهم معناه من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره، وذلك منتف في هذه الآية، مع أن أصل الملك يبيح عموم التصرف وصحة المعاوضة بحكم الأصل، (فقرر الشرع هذا الأصل) وأجراه على عمومه إلا ما قام فيه مانع. وحصر القاضي -رحمه الله- أسباب الفساد في خمسة أنواع، وفسر ما يرجع إلى صفة العقد بالربا ووجوهه، والغرر وأبوابه، وفسر ما يرجع إلى الحال ببيع الإنسان على بيع أخيه، وبيع النجش، وبيع (تلقي) الركبان وبيع الحاضر للبادي، والبيع وقت النداء، وجميع هذه الأقسام داخلة تحت ما يرجع إلى الصفة وهو (في) جميعها متحقق، مفهوم إلا فيما يرجع الفساد إلى وقته، فلو جعل فساد الوقت عبارة عن القسم الخامس وأفرده به لكان وجهًا، لأن الحال لازم للوقت وجزء منه إلا أن يرى الحال (وقت وزمان)، والزمان والوقت بمعنى واحد، أو هو حال، وماض، ومستقبل، فيصدق على الحال أنه وقت. قوله: ((فأما ما يرجع إلى المبيع (فلكونه) مما لا يصح بيعه وذلك كبيع الحر)): إلى آخر التمثيل قلت: وهذا كما ذكره، ولو تعرض لبيان شروط المعقود عليه (فيصح العقد عند وجوده وينتفي عند انتفائه لكان وجهًا، وقد اشترطوا في المعقود عليه أن يكون متملكًا) طاهرًا منتفعًا (به) معلومًا

مقدورًا على تسليمه. واختلق الفقهاء هل من شرطه أن يكون ملكًا للعاقد أم لا؟ وسنذكره عند بيع الفضولي. فقولنا: ((متملكًا)): احترازًا مما لا يجوز (تملكه) كالحر، وقد انعقد الإجماع على تحريم بيعه، فإن وقع فهو فاسد مفسوخ، ويؤدب فاعله إلا أن يعذر بالتأويل، وكذلك الخمر والخنزير، والأصل في ذلك ما خرجه أهل الصحيح من حديث جابر (بن عبد الله) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلي به السفن وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، قال: لا هو حرام) (ثم) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها). فهذا نص في تحريم بيعها، والانتفاع بثمنها، وقد انعقد الإجماع على أنها نجسة، ولم يخالف في ذلك إلا من شذ منهم محمد بن عمر بن لبابة من المالكية، وانعقد الإجماع (أيضًا) على تحريم بيع

الخنزير لحمه وشحمه وسائر الأجزاء التي (تقبل) الحياة إما (على وجه) التعبد، وإما لأنه نجس العين كما يقوله الشافعي، وابن الماجشون، وسحنون من أصحابنا. وقولنا: ((وسائر الأجزاء التي تقبل لحياة)): (تحرزًا من الشعر، فإن ابن القاسم أجاز الانتقاع بشعر الخنزير لأنه لا تحله الحياة) ومنعه أصبغ لعموم التحريم، ولم يخالف في تحريم شحم الخنزير إلا من لا يعد قوله (خلافًا). وحكى الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وغيره من علمائنا الإجماع على أن الشحم كاللحم في التحريم. واختلف المذهب إذا أتلف المسلم للذمي خنزيرًا، أو خمرًا، أو صليبًا، والمشهور أنه يغرم قيمة ذلك عندنا لأنه يتملك، ولذلك قيد القاضي فقال: ((في حق المسلم)) والشاذ أن كله لا قيمة (له)، ولا يغرم عنه شيئًا وهو الأصح من طريق النظر، لأنه حكم بين مسلم وكافر فيحكم فيه بحكم الإسلام لا يوجب لهذه المحرمات قيمة، ولا ثمن. تكميل: قسم شيوخنا النجاسات (على) قسمين: متفق عليه كأرواث

بني آدم، ومختلف فيه كأرواث الدواب، وقد اختلف المذهب في جواز بيع ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك المنع من بيع العذرة، وقال ابن الماجشون لا بأس ببيعها، لأنها من منافع الناس. وإذا اختلفوا في العذرة فالخلاف في أرواث الدواب أولى، والخلاف في ذلك منصوص، وفيه قولان: الجواز والمنع قال أشهب المشتري في (الزبل) أعذر من البائع، وقال ابن عبد الحكم هما سواء، ولم يعذر الله أحدًا فيما حرم عليه. تنبيه: إذا اجتمع القول في (بيع الأزبال) كان فيه ثلاثة أقوال (أحدها): (الجواز مطلقًا زبل ابن آدم، وزبل الدواب)، و (الثاني) المنع مطلقًا (وهما) مبنيان على اعتبار الضرورة أو نفيها، والثالث جواز ذلك في أزبال الدواب للاختلاف في نجاستها دون أرواث بني آدم للإجماع على نجاستها وصح عن ابن عمر أنه كره أكل البقول التي تتغذى بالزبل، والخلاف في ذلك جار على حكم النجاسة، (هل ينقلب عينها) وفيه قولان في المذهب.

مسألة: اختلفوا في بيع الزيت النجس، فمنعه الشافعي مطلقًا وهي رواية ابن حبيب عن مالك وأصحابه، وقال ابن وهب يجوز بيعه إذا بين البائع ذلك للمشتري، وبه قال (أبو حنيفة) وقيل يجوز بيعه من غير المسلم، وقيل يجوز بيعه إذا طهر بالغسل وقد اختلفت الرواية هل تطهر بالغسل أم لا؟ فروى ابن نافع عن مالك أن يطهر (بالغسل)، وفي الواضحة والمستخرجة عن ابن القاسم (نحوه)، وقد قيل إنه لا يطهر. قال ابن القاسم فيمن فرغ جرار سمن في زقاق ثم وجد منها فارة يابسة، ولا يدري (في) أي الزقاق فرغها، أنه يحرم أكل جميع الزقاق، ويحرم بيعها، فاستقرأ منه (بعض شيوخنا) أنه لا يطهر بالغسل، ويعارضه ما وقع في المستخرجة من رواية موسى عن ابن القاسم في اللحم يطبخ (بالماء النجس)، قال يغسل اللحم ويؤكل، وروى أشهب عن مالك أنه لا يؤكل. وكذلك اختلفوا في جواز الاستصباح بالزيت النجس، (فروى) عن علي، وابن عباس، وابن عمر أنهم أجازوا بيع الزيت النجس (وأن) يستصبح به، وهي رواية أصبغ عن

مالك في غير المساجد، وأجازوا أيضًا أن يعمل (منه الصابون)، (وبه قال) الشافعي، وأجاز غيره الاستصباح به في المساجد وغيرها بشرط التحفظ، والجاري على الأصل منع الانتفاع به مطلقًا، وهي رواية عبد الملك وغيره عن مالك، قال عبد الملك، ولو طرح في الكرياس للانتفاع به لكرهته لنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن بيع (النجس) وذلك أصل في منع (الانتفاع بالنجاسات) مطلقًا، وكذلك اختلفوا أيضًا في لبن الآدمية إذا حلب، فأجاز مالك والشافعي حلبه، قياسًا على إباحة شربه والانتفاع به، وعلى لبن سائر الأنعام، وقال أبو حنيفة: الأصل أنه محرم تابع للحم، وإنما أبيح لضرورة الأطفال إليه، فإذا انتفت هذه الضرورة كان محرمًا كاللحم، وقالوا (في ذلك): حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يجز بيع لبنه، أصل ذلك الخنزير، وقد ذكرنا الخلاف في جلود الميتة هل يطهرها الدباغ طهارة عامة أو خاصة، وعلى ذلك (ينبني) جواز بيعها والصلاة عليها، واستعمالها في المائعات، وقد استوفينا ذلك، والمعول عليه عند ابن القاسم أن طهارتها مخصوصة، فمقتضاها

امتناع بيعها، وكذلك اختفلوا أيضًا في (عظام) الميتة فأجاز مطرف وابن الماجشون بيع أنياب الفيل سلقت (أم لا)، وأجاز أشهب إذا سلقت، ومنع ابن القاسم بيعها، (والتجارة فيها)، والامتشاط بها، والادهان بمداهنها لنجاسة أصلها (بدليل تحريم) الانتفاع ببيع الخمر وشحوم الميتة. وقولنا: ((منتفعًا به)) (احترازًا ممن لا منفعة فيه) فلا يصح بيعه لأنه من أكل المال بالباطل، وكذلك ماله منفعة محرمة كالمزمار، والعود فلا خلاف في امتناع بيعه، لأن المنفعة محرمة شرعًا كالموجودة حسًا فإن كسر جاز بيعه مكسورًا (إن كان) كسرًا بينًا، ولو اختلفت منافع المبيع لاعتبر منها الأرجح الذي يتعلق الغرض به غالبًا، فإن كان فيه منفعتان معتبرتان مقصودتان إحداهما محللة والأخرى محرمة، حرم بيعه تغليبًا للمنفعة المحرمة، وكذلك لو كانت هي المقصودة فهي بالمنع حينئذ أحرى، واختلفوا إذا كانت المنفعة (محرمة) إلا أنه لا يعلم هل هي مقصودة أو مطروحة فمنهم من كرهه نظرًا إلى المنفعة المحرمة) ومنهم من أجاز بيعه تمسكًا بالأصل) والوقف (أولى احتياطًا)، ومن هذا المعنى اختلافهم في (جواز) بيع المريض والحامل المخوف عليهما. واتفق المذهب على أنهما إذا كانا في حد السياق فبيعهما غير جائز، وحكى

فضل في اختصار الواضحة أن الحامل إذا جاوزت ستة أشهر لا تباع حتى تضع، فإن بيعت حينئذ فبيعها فاسد، وحكى غيره أن الحامل إذا أشرفن على الولادة فبيعها باطل. وتحصيل القول فيها على مذهب مالك أنهما إذا بلغا حد السياق، ولم يجز بيعهما، وإن بلغا حد الخوف عليهما ولم يبلغا حد السياق فهل يجوز بيعهما أم لا؟ (فيه) قولان في المذهب حكاهما الشيخ أبو الطاهر. وذكر القاضي -رحمه الله- خشاش الأرض والكلاب وما لا منفعة فيه، وليس ذلك على عمومه، أما خشاش الأرض فمنه ما ينتفع به في الأدوية المحللة وغيرهما، وهذا لا (يختلف) في جواز بيعه، وأما الكلاب فعلى قسمين مأذون في الانتفاع به، وغير مأذون، فغير المأذون في الانتفاع به لا يباع ولا يستأجر. اختلف (المذهب) فيما يجوز اتخاذه هل يجوز بيعه أم لا؟ فيه) قولان في المذهب، وكذلك اختلفوا في جواز بيعه (لمن أراد أكله على القول بإباحة أكله، فمن جاز أكله أجاز بيعه، ومن منعه منعه. وأصل)

مذهب الشافعي المنع من بيعه مطلقًا لأنه نجس العين محرم الأكل (الثبوت نهيه) -صلى الله عليه وسلم- عن بيعه، وأجاز أبو حنيفة بيعه مطلقًا كان مأذونًا، أو غير مأذون فيه، بناء على أنه طاهر العين مباح الأكل تقديمًا للقياس على خبر الواحد، (واعتضادًا بظاهر الحصر) في قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي محرمًا على طاعم يطعمه} الآية [الأنعم: 145]. وكذلك اختلفوا أيضًا في جواز بيع السنور، والجمهور على جواز بيعه، ومنعت من ذلك طائفة من أهل العلم (اعتمادًا) على النهي الثابت عن ثمنه خرجه مسلم وهو إفراده. وقد ذكرنا الخلاف (في لبن الآدمية) هل هو طاهر العين وهو مذهب الجمهور، أو نجس العين، إلا أن الشرع عفا عنه للضرورة إليه، وهو قول أبي حنيفة، وأجاز ابن القاسم تذكية السباع لأخذ جلودها، وبيعها بعد دباغها بناء (على) أن دباغها طهور، وقال ابن حبيب بيع جلود السباع والصلاة عليها حرام. وقولنا: ((معلومًا)): احترازًا من بيع المجهول ويجب أن يتعلق العلم بعين المبيع، وقدره، وصفته. وقولنا: ((مقدور على تسليمه)): احترازًا من بيع السمك في الماء، والطائر في الهواء، أو العبد الآبق والبعير الشارد، والجنين

في بطن أمه، وقد تدخل هذه الأقسام (تحت) الشرط الذي قبله، ويختص هذا القسم بما لا يمكن تسليمه لحق الآدمي كالرهن يباع، فبيعه موقوف على إجازة المرتهن، وكذلك العبد الجاني يبيعه سيده بعد علمه بالجناية فالخيار فيه للمجني عليه في إجازة البيع أو رده، فإن دفع الأرش للمجني عليه لزم البيع، وإن أبى سيده من الأرش توقف إجازة البيع على المجني عليه، وللسيد (إسلامه) في الجناية بعد أن يعقد البيع فيه، ويحلف أنه لم يرد حمل الجناية (عليه)، فإن تمسك المبتاع بالبيع، وقال أنا أدفع أرش الجناية كان له ذلك، وانظر بماذا يرجع على البائع، والمنصوص أنه يرجع عليه بالأقل من الأرش، أو الثمن، ولو باعه سيده ثم أراد المشتري أن يرده بعيب الجناية كان له ذلك، إن كانت الجناية عمدًا إلا أن يبينها عليه، وإن كانت جناية خطأ فظاهر الرواية الرد وهو قول ابن القاسم، وقال غيره: لا يرد بعيب (جناية الخطأ) وهو كعيب ذهب، ومما يدخل تحت إمكان) التسليم العمود يبيعه صاحبه، وعليه بناء (له) فأجاز مالك بيعه، واشترط فيه الشيوخ شرطين أحدهما أن يكون البناء الذي على العمود تافه (القيمة)، فإن كان (له ثمن كثير)، وقيمة غالية، وأدى النقص إلى (إفساد المال) فسد البيع في العمود. (والثاني أن يؤمن على العمود التغيير بالنقص حذرًا من الغرر والمجهلة).

وقوله: ((وأما ما يرجع إلى المتعاقدين فمثل أن يكونا أو (أحدهما) مما لا يصح عقده)): وهذا كما ذكره، ولم يختلف العلماء أن بيع الصغير والمجنون باطل لعدم التمييز، واختلفوا في بيع السكران، فروى ابن نافع عن مالك أنه منعقد، والجمهور على أنه غير منعقد إذا كان سكره متحققًا، بحيث لا يعقل، والجمهور على أنه غير منعقد إذا كان سكره متحققًا، بحيث لا يعقل، واختلفوا هل يحلف (على) أنه لم يعقل (البيع) أم لا؟ نص الشيخ أبو إسحاق (على) أنه يحلف على ذلك وهو عندي إنما (يتجه) فيمن (يشكل) أمره، وأما الطافح الذي ذهب تمييزه بالكلية فلا معنى لتحليفه، وقد ذكرنا الخلاف

هل يشترط (ملك) العاقد لما عقد عليه أم لا؟ وعبر عنه الفقهاء ببيع الفضولي، واختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب، فمنعه الشافعي في البيع والشراء ورأى أنه فاسد لا يجوز بإجازة المالك، وأجازه أبو حنيفة في البيع دون الشراء، وفي مذهب مالك (قولان فيه) المشهور (فيه) جوازه إذا أجازه المالك وحكى الشيخ (أبو إسحاق) أنه لا يجوز وإن أجازه المالك كقول الشافعي، (والعمدة) لنا حديث (عمرو بن الجعد) وذلك (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفع له دينارًا وقال له: استر لنا شاة، فاشترى له شاة بدينار، ثم باعها بدينارين، فاشترى بدينار شاة أخرى ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بدينار وشاة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- بارك الله لك في صفقة يمينك، فكان لو اشترى التراب لربح فيه)

(كتبه المؤلف بخط يده في الحاشية. وهو حديث ثابت) ففيه الحجة على الشافعي وأبي حنيفة، واتفقوا على (أن) إسلام المشتري ليس بمشترط إلا في اشتراء العبد المسلم، والمصحف وكتب السنة، فلا يجوز اشتراء الكافر لها، فإن اشتراها فقال أكثر أصحاب مالك ينقض بيعه شراؤه، وقع في كتاب ابن شعبان وابن حبيبي، (وروى) ابن القاسم عن مالك أنه لا ينقض البيع ويباع عليه العبد والمصحف، وقد قيل يباع عليه (العبد) المسلم، ويفسخ شراؤه المصحف وفي معناه كتب السنة، فإذا أخرج ذلك عن مالكه إخراجًا صحيحًا ناجزًا (جاز)، واختلفوا في مسائل: المسألة الأولى: إذا أسلم عبد لذمية فوهبته لولدها الصغير من زوجها المسلم ردت الهبة، وأجبرت على بيعه، لأن لها الاعتصار هذا هو المشهور، والشاذ أن الهبة لا ترد. وبنى الإمام أبو عبد الله المازري هذا الخلاف على (الخلاف في) المذهب فيمن ملك أن يملك هل يعد مالكًا أم لا؟. والمسألة الثانية: إذا اشترى المسلم عبدًا نصرانيًا من نصراني فأسلم في

يد المشتري ثم اطلع على عيب يوجب الرد، فهل يتعين الرجوع بقيمة العيب أو يكون له الرد بالعيب (فيه) قولان في المذهب وإذا فرعنا على إزالة الرد بالعيب جبر النصراني على إخراجه عن ملكه ببيع أو نحوه من الفوتات، وانظر هل يكفي في ذلك ارتهانه من مسلم، المنصوص أنه لا يكفي، ويباع عليه بعد رهنه لأن في تتميم الرهن استدامة (الملك) لكافر على المسلم، وإذا حكمنا عليه ببيعه، فاختلف المذهب على قولين، فقيل يعجل الحق للمرتهن إلا أن يأتي برهن ثقة قاله ابن القاسم، وقال سحنون يعجل (المرتهن) سواء أتى برهن (أم لا)؟ ولا يقبل (منه) رهن آخر، والأول أعدل. المسألة الثالثة: إذا مات النصرانية قبل إخراج العبد عن ملكه أمر وارثه بما كان يؤمر به الموروث من غير تأخير إلا بحسب الإمكان لمنع استدامة ملك الكافر (للمسلم) (بلا زمان قلت) أو كثرت. والمسألة الرابعة: إذا أوجبنا على الكافر إخراج العبد المسلم أو المصحف عن ملكه فباعه على الخيار، فالمشهور من المذهب أنه لا يجوز، ويجبر على أن يبت البيع فيه، لأن انتقال الملك في أيام الخيار غير محقق (بينهما) إن كان الخيار للبائع، وربما يتخرج (فيه) الخلاف على اختلافهم في بيع الخيار، هل هو على العقد حتى ينحل أو على الحل حتى ينعقد.

والمسألة الخامسة: إذا باع النصراني عبده النصراني من نصراني على الخيار، فأسلم العبد (في أيام الخيار) استعجل الأمر من صاحب الخيار، وبيع (الخيار) على أحدهما لا محالة، فإن كان المشتري مسلمًا والبيع على الخيار فهل يمهل حتى (تمضي) أيام الخيار (أو يستعجل ما عقده، فيه خلاف، ظاهر الكتاب أنه يمهل حتى تمضي أيام) الخيار منعقدًا، إذ لو كان منحلاً، وأمهلنا الأمر إلى انقضاء أيام الخيار لاستدام ملك النصراني على العبد المسلم، والصحيح أنه يستعجل ما عنده من إمضاء أو رد ولا ينتظر (إلى انقضاء) أيام الخيار لما في ذلك من التعرض لاستدامة الملك المحرم، واختلفوا إذا كان البائع مسلمًا، والعبد والمشتري نصرانيين، والخيار للبائع، فأسلم العبد (في أثناء ذلك) هل يكون للبائع إمضاء البيع أم لا؟ وفيه قولان جاريان على الخلاف في المرتقبات متى تعد حاصلة هل من يوم توقعها أو من يوم وجودها، ومن ذكر بيع الخيار إذا أمضى هل يعد كأنه لم يزل ماضيًا من حين العقد، أو بعد، كأنه ابتدأ إمضاءه (الآن)، فمن اعتبر حال العقد أجاز للبائع إمضاء البيع، (ومن اعتبر المآل منع من ذلك). المسألة السادسة: إذا كان المشتري والعبد كافرين، والبائع مسلم جاز البيع بشرطين

الأول: اتفاق دينهما في الكفر. والثاني: أن يسكن المشتري بالعبد بلاد المسلمين، وفيهما تفصيل، أما إن كانا مختلفين في الدين كالنصراني يشتري العبد اليهودي، أو بالعكس فهل يمنع من ذلك أم لا؟ فيه خلاف، والمشهور أنه لا يمنع من ذلك، ومنع منه سحنون وابن وهب لما بينهما من العداوة والبغضاء، فيكون ذلك إضرارًا بالعبد، وقد نهت الشريعة عن الإضرار مطلقًا، وكذلك اختفوا (إذا كان العبد من) المجوس، أو الصقالبة، أو السودان فأراد الكتابي شراءه، ففي المذهب (فيه أربعة أقوال: الأول: الجواز مطلقًا في الصغير والكبير (لأن الكفر كله ملة واحدة). والثاني: المنع مطلقًا في الصغير والكبير خوفًا من الإضرار المطلوب زواله شرعًا وهو قول (ابن عبد الحكم). والثالث: الكراهية قال في الكتاب ما علمته حرامًا وغيره (أحسن) منه. والرابع: جوازه إن كان العبد كبيرًا، لأنه مالك لنفسه مميز لمصالحه فيقدر على رفع الضرر عنه بخلاف الصغير، وقع في العتبية عن مالك (قال) فإن اشترى الصغير فسخ البيع. المسألة السابعة: إذا كان العبد صغيرًا لا دين له فهل يجوز بيعه من الكافر أم لا؟ (فيه) قولان في المذهب أجازه محمد، لأنا لسنا على يقين

من إسلامه (ومنعه في الكتاب لما نرجوا من إسلامه)، ولو قيل إنه معتبر بدين أبيه لكان (جاريًا) (على أصل) المذهب. قوله: «أو غير عالم بالمبيع»: يدخل تحته وجوه منها بيع الغائب المجهول الصفة وبيع الجنين والثمار قبل طيبها. وقوله: «أو محجور عليه»: يعني السفيه والمحجور عليهم قسمان (منهم) من حجر عليه لحق نفسه كالصغير غير البالغ والبالغ المبذر لماله ومنهم من حجز عليه لحق غيره كالمريض والعبد والمرأة. قوله: «والحجر يؤثر في منع البيع تارة وفي وقفه أخرى»: هذا اللفظ قد اختلف فيه شيوخنا في المذكرات في معناه، وجرت العادة بين المذاكرين بالنظر في مفهومه ويمكن فيه وجوه، أحدها أن يتنزل على صورتين بالنسبة إلى نوع واحد من نوع المحجور عليه، فالحجر يؤثر في منع البيع تارة، المعنى أنه يمنع الإقدام على إنشاء عقد البيع والشراء، ويؤثر في الوقف أخرى إذا وقع البيع من المحجور فباع، أو ابتاع فينظر حينئذ من له نظر في فعله هل هو صلاح فيمضيه أو سفه فيرده، وهذا النظر لا يتحقق إلا في عقد موقوف لا في (مبتوت) الرد، وقد نص علماءُ المالكية على أن العبد والسفيه والمرتد في أيام الاستتابة لا يجوز لهم الإقدام على البيع، ولا يجوز للمشتري الإقدام على الشراء منهم، فإن وقع البيع الممنوع إنشاؤه (يعرض) للنظر وهذا كقولنا لا يجوز الإقدام على الصلاة في الدار المغصوبة، فإن وقعت الصلاة (فيها) فما حكمها، نظر آخر هذا الذي ظهر لي، وعليه كتب اعتمدتهم وقت (الإقراء)

لهذا الكتاب، وأشار بعض المذاكرين إلى أن الحجر المؤثر في الوقف هو الحجر على المريض في حالة الخوف عليه، وعلى ذات الزوج فإذا (باعها) وحابيا فيما زاد على الثلث فبيعها موقوف، ولا يحرم عليهما الإقدام على البيع. وفي الواضحة قال ابن القاسم قال مالك: بيع المريض وشراؤه جائز، وإن كان فيه محاباة (ففي) الثلث، قلت فإن زادت المحاباة على الثلث فالبيع موقوف، وانظر هل يجوز أن يقع من المريض عقد الصرف أم لا؟ لأنه منظور فيه هل فيه محاباة أم لا؟، ونص أصبغ على جواز الصرف منه، قال: لأنه لم يرد به التأخير، وأشار بعضهم إلى أن الحجر الذي يؤثر في منع البيع تارة إذا كان بيعه ظاهر الفساد، وواقع على غير السداد، فالبيع في هذا مفسود من غير احتياج إلى نظر، وفي الوقف أخرى إذا احتمل البيع الصلاح والسداد، أو كان غالبه السداد فينظر فيه حينئذ وهذا معلوم كما ذكرناه أنه ينظر في موقوف لا في مردود، أشار بعضهم إلى أنه يتنوع بحسب نوع المحجور فيؤثر الحجر (في المنع) في حق من جر عليه لحق نفسه ويؤثر الوقف فيمن حجر عليه لحق غيره. وبين القاضي الفساد الراجع إلى الصفة بأمثلة ذكرها مفصلة، (وسنتبع) ترتيبه. قال القاضي -رحمه الله-: «المبيعات ثلاثة أنواع»: إلى آخر الفصل. شرح: هذه الأنواع الثلاثة راجعة إلى قسمين، إذ لا واسطة بين الحاضر والغائب، والسلم داخل في (بيع) الغائب إلا أنهم (أفرادوه) لاختلاف

(أحكامه) وتباين (فروعه). ومقصود هذا الفصل الكلام على بيع الغائب، وقد أجمعت الأمة على جواز بيع الحاضر المرئي، واختلفوا في بيع الغائب، فمن العلماء من منعه على الإطلاق وصف أو لم يوصف، وعليه مناظرة الشافعية، ومنهم من أجازه ومنهم من منعه من غير صفة على خيار الرؤية، وعليه مناظرة الحنفية، فإذا رآه المشتري، فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده، وكذلك المبيع على صفة المشتري في خيار الرؤية عندهم وإن وافق الصفة، واضطرب مذهب مالك في ذلك. وتحصيل المشهور منه أن أعيان الغائبة عن موضع العقد على ثلاثة أقسام: بعيدة جدًا غير مأمونة كإفريقية من خراسان. وقريب جدًا يمكن الإطلاع عليها، ومتوسطة. فالقسم الأول لا يجوز بيعه على الصفة، واختلفوا في المتوسطة الذي يمكن الاطلاع عليه من غير مشقة، ففي المذهب فيه قولان: والمشهور المنع فيما عدا البرنامج (والشاذ الجواز مطلقًا في البرنامج) وغيره وهو الذي يسميه الفقهاء بيع الحاضر على الصفة، وقد روي عن مالك الجواز في بيع الغائب في غير صفة على شرط خيار الرؤية، وأنكره القاضيان: أبو الحسن، وأبو محمد وغيرهما عن المذهب، وزعموا أنه لا يوجد في مذهب مالك، وإنما هو قول أبي حنيفة والمعتمد لنا في جواز بيع الغائب على الصفة من وجوه:

الأول: ما رواه ابن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وددنا أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- تبايعا حتى نعلم أيهما أعظم جدًا في التجارة فاشترى عبد الرحمن من عثمان فرسًا بأرض له أخرى بأربعين ألفًا، أو بأربعة آلاف. الثاني: ما روى من قوله -صلى الله عليه وسلم- (لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها) أخبر أن الوصف يقوم مقام الرؤية، والبيع على الرؤية جائز (فكذلك الوصف) واعتمدوا من طريق المعنى على أن الصفات (مبينة) للموصوف ضابطة له، فانتفى به الغرر فكان جائزًا تمسكًا (بمقتضى) عموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع حرم الربا} ورأى الشافعي أن الغرر لا ينتفي إلا بالرؤية، وأن الصفة لا تقوم مقامها، وقد أشار بعض الشافعية إلى الاحتجاج بقولهم: «ليس الخبر كالعيان» وبقضية موسى بن عمران صلوات الله على نبينا وعليه، وذلك أنه لما سمع الكلام طلب العيان، فدل على أن العيان هو المقصود)، وهذا عندي خارج عن المقصود، وإذا

بنينا على المشهور أن بيع الحاضر على الصفة لا يجوز، فلا بد من معرفة الحضور المانع من البيع على الصفة. فأجازوا في الكتاب بيع ما كان على يوم، وبيع البرنامج. وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا يباع سلعة حاضرة ولا غائبة على مسيرة يوم على الصفة، ولا على البرنامج، واختلفوا في السلعة الحاضرة في البيت هل يجوز بيعها في السوق على الصفة، والمشهور المنع لانتفاء المشقة بالرؤية، وكذلك وقع في كتاب محمد، والشاذ جواز بيع ذلك، إذ قد يكون في رؤيتها مشقة، وهذا (الخلاف) في حال. وإذا بنينا على جواز بيع الغائب على الصفة، فالمقصود منه ينحصر في (ثلاثة) فصول: الأول: في ذكر أنواع المبيعات والصفات الحاضرة لها. والثاني: في صفاتها. والثالث: في حكم النقد فيه). الفصل الأول: في ذكر أنواع المبيعات والصفات الحاضرة لها، والمبيع على ضربين: عقار، وحيوان، (فالحيوان) يجوز بيعه على الصفة إن كان قريب الغيبة، فإن كان بعيد الغيبة فهل يجوز معه بيعه على الصفة أم لا؟ قولان في المذهب مبنيان على الخلاف في الالتفات إلى الطوارئ والمترقبات، (وأما العقار) فالأصح جوازه في المأمون الذي تغير كالأرضين فلا يختلق أن طول الغيبة لا تؤثر فيها، بخلاف الدور، والحوانيت، والمبنيات كلها، وأما غير العقار فيجوز بيعه على الصفة إذا كانت غيبته قريبة مما لا يختلف فيه المبيع غالبًا، وذلك يختلف بحسب أحوال المبيعات، واختلفوا في حد القرب فقيل البريد، وقيل البريدين، وقيل نصف اليوم (وقيل اليوم) وقيل اليومان، وهذه

الأقوال كلها واقعة في المذهب. وأما الصفات الحاضرة فهي المقصودة في المبيع التي تختلف الأغراض والأثمان باختلافها، فبذكرها يقل الغرر، أو يعدم. فرع: اشترط في (العتبية، وفي) كتاب محمد أن يكون الواصف غير البائع لتطرق التهمة إليه واشترط المتأخرون أن يكون المشتري عارفًا بما وصف له. فرع: لو اختلف في الصفة التي وقع العقد عليها لكان القول قول المشتري لأنه المدعى عليه الغرم، فإن اتفقنا على الصفة، واختلفا في كون المبيع كذلك، (رجع فيه القول) إلى أهل المعرفة. قوله: «ولا يجوز بيعها بغير صفة إلا أن تكون على رؤية متقدمة»: إلى آخره، وهذا كما ذكره، والرؤية المتقدمة في المأمون من التغير كالرؤية الحاضرة. فرع: اختلف أهل المذهب إذا تبايعا على رؤية متقدمة قريبة ثم تنازعا في بقاء المبيع عليها، أو تغييره هل يكون القول فيه قول البائع، أو قول المشتري (فيه) قولان لابن القاسم وأشهب، (فأصل ابن القاسم القول قول المشتري، لأنه الغارم، وقال أشهب) القول قول البائع لأن المشتري مقر مدع، وهذا حيث تنتفي القرائن المصدقة، وكذلك لو تنازعا في سلامتها حين العقد فهل القول قول البائع أو قول المشتري (فيه) قولان في المذهب.

قوله: «ولا خيار (للمبتاع) إن جاءت على الصفة»: وهذا كما ذكره (وخالف) فيه أبو حنيفة كما حكيناه عنه، (وعمدتنا) أن موافقة الصفة كالعيان، فإذا لزما لبيع بالعيان لزم بالصفة المطابقة. قوله: «وضمناها من البائع إلا أن يشترطه (عل المبتاع) في ظاهر المذهب»: وهذا هو (القول) الثاني. وقد اختلف المذهب في ضمان المبيع (على) الغائب على أربعة أقوال، قيل ضمانه من البائع مطلقًا إلا أن يشترط ذلك (على) المبتاع، وقيل (على) المشتري إذا أدركته الصفقة سالمًا إلا أن يشترطه على البائع، وقيل (على) البائع إلا في الديار والعقار، وفرق ابن حبيب بين (ما يجوز فيه النقد وما لا يجوز ذلك فيه)، فجعل الضمان فيما يجوز فيه النقد من العقار وغيره من قريب الغيبة من المشتري، وفي غير العقار مما لا يجوز النقد فيه من البائع فجعل الضمان تابعًا لجواز النقد، وهذا القول أعم من الذي قبله، لأنه في هذا القول ألحق ما يجوز النقد فيه من غير العقار بالعقار. وسبب الخلاف هل القبض شرط من شروط صحة العقد (أو حكم) من أحكامه، وليس (في هذه) المسألة دليل

لفظي سوى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الخراج بالضمان) وجه الاستدلال (به) أن الخراج قبل القبض للمشتري، فكان الضمان منه. الفصل الثالث: في حكم النقد في بيع الغائب، وقد قدمنا أن (البيع) على قسمين: مأمون، وغير مأمون، أما المأمون فهل يجوز النقد فيه بشرط أم لا؟ (قولان) المشهور جوازه بشرط وبغير شرط، ومنعه أشهب بشرط ومبنى الخلاف على (الخلاف في) اعتبار الطوارئ وأما الرقيق والحيوان (وغيره) من غير المأمون فلا يجوز النقد فيه بشرط، وهل يجوز بغير شرط أم لا؟ (فيه) قولان في المذهب، وظاهر كلام القاضي جوازه بغير شرط مطلقًا في المأمون، وغير المأمون، وإنما امتنع النقد في هذا الباب، لأن المبيع إن سلم كان المنقود ثمنًا، وإن تلف كان سلفًا فيكون المنقود تارة بيعًا، وتارة سلفًا، وهو منهي عنه.

قوله: «ويجوز بيع البرنامج»: قد ذكرنا اختلاف العلماء في جواز بيع البرنامج، والمشهور من مذهب مالك جوازه اعتمادًا على ما شاهده في المدينة من العمل الجاري عليه، وأنه لم يزل حينئذ من بيوع الناس، وسيجيء حكم السلم بعد هذا. فصل: «والبائع جائز منجز أو بشرط الخيار»: إلى قوله: «إذا دخل على بيع الناس المعتاد». شرح: اختلف العلماء في بيع الخيار فأجازه الجمهور، ومنعه الثوري وابن أبي شبرمة وطائفة من أهل الظاهر، وعمدة الجمهور حديث حبان بن منقذ، وفيه: (ولك الخيار ثلاثًا) ولهم فيه مطعن من وجهين: الأول: من (جهة) إسناده، والثاني: إنه مخصوص به لما شك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه يخدع في البيوع، واحتج الجمهور أيضًا بما رواه ابن عمر

عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار) ولهم في الاحتجاج به مطعن قال أصبغ فالخيار لهم في الصحيح معنان فتأوله الثوري على المقصود أن يقول أحدهما لصاحبه بعد العيد، اختر وقد جاء ذلك مفسرًا في الحديث، ومعمول به من السلف، وذكر القاضي أن الخيار على قسمين: (حكمي، وشرطي) فالحكمي أقسام (ثلاثة): الأول: الخيار في المبيع يوجد معيبًا. والثاني: الخيار في المبيع على الصفة يوجد مخالفًا. والثالث: (الخيار) في المبيع تقع في المغابنة (الكثير) الفاحشة غير المعتادة. وحكى القاضي أبو محمد في القيام بالغبن روايتين عن المذهب: إحداهما: أنا لبيع لازم، ولا خيار للمغبون، لأنه مفرد، والثاني: أن للمغبون الخيار إذا دخل على البيع كالعيب، وحكى في غير التلقين روايتين: إحداهما: نفي القيام مطلقًا. والثانية: أن لا خيار له إذا كان من أهل الرشاد والبصر بتلك السلعة، فإن كانا، أو أحدهما بخلاف (ذلك) فللمغبون الخيار.

وتحصيل القول فيه على مذهب مالك أن المغبون إما أن يكون عالمًا بالقيمة، أو جاهلاً بها مستسلمًا لبائع، أو جاهلاً محانكًا في الثمن، فالأول لا مقال له لأنه في المعنى واهب للزيادة، وأما المستسلم الذي لا يعرف القيمة فلا خلاق أن له القيام بالغبن إذا غره البائع وخدعه لقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] ولنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الخلابة، وعن إضاعة المال. وأما الجاهل بالقيمة المحانك في تقدير الثمن غير المستسلم للبائع فهل يتوجه له القيام بالغبن أم لا؟ (فيه) قولان في المذهب، هذا ما أشار إليه أبو عبد الله وغيره من (المحققين) المتأخرين، وظاهر كلام القاضي في التلقين (أن مورد) الخلاف في القيام بالغبن عام لا يختص مستسلم، ولا عالم، ورآى (أئمتنا) أن الخلاف في القيام بالغبن إنما يجري فيما عدا المزايدة والإشهار، وأما ما دخل السوق ووقعت فيه الشهرة والمزايدة فلا قيام فيه بالغبن، أما من لم ير القيام بالغبن فعول على أن المغبون مفرط، لأنه قادر على أن يوكل من يبيع له أو يبتاع، فهو بمنزله من وهب جزءًا من ماله، ومن جعل له الخيار عول على قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وعلى قوله -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي شكا إليه أنه يخدع في البيوع، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا بعت فقل لا خلابة) وعلى نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، ونهيه عن الضرر

والضرار، ولأنه غبن في الأثمان، فتعلق الخيار به، كتلقي الركبان. فرع: اختلف القائلون بإثبات القيام بالغبن في حده، فمنهم من (قيده) بالثلث حكاه القاضي أبو محمد، ومنهم من أحاله على العادة، فما علم أهل العادة أنه غبن رجع به. وقال القاضي في المعونة مثل أن يبيع ما يساوي ألفًا بمائة، أو يشتري ما يساوي مائة بألف. قال القاضي -رحمه الله-: «فأما خيار الشرط فلا يثبت بمقتضى العقد»: إلى آخر الفصل. شرح: وهذا كما ذكره، والخيار يكون في ثلاثة أمور إما في التروي في الثمن وإما في (العزم على الأخذ) أو الترك، وإما في اختيار المبيع، وكل ذلك لا يثبت إلا بشرط وقال ابن حبيب: بإثبات خيار المجلس بمقتضى العقد، وإن لم يكن شرط وهو قول الشافعي اعتمادًا على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا) والجمهور على أن المراد (الافتراق

بالإيجاب) والقبول باللفظ. واحتج عليه القاضي أبو محمد بقوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود} ولأنه عقد معاوضة، فلم يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح، ولأنه لو كان ثابتًا بمقتضى العقد لبقي بعد الافتراق (كخيار) العيب، ولما أجاز أيضًا أن يشتري الأب لابنه الصغير من نفسه، لأن مفارقة الإنسان لنفسه لا تصح، وللحرز من مذهب ابن حبيب والشافعي، نبه القاضي بقوله: «ومجرد القول المطلق كاف في لزومه». قوله: «ويجوز شرط الخيار لمن شرطه من المتعاقدين»: قلت لقوله -صلى الله عليه وسلم-، واشترك الخيار ثلاثًا ولم يفرق بين المتابعين وغيرهما ممن يجعلان ذلك إليه، لأن المقصود من الخيار، التأمل والاختبار، والاسترشاد والاستبصار، وكل واحد من المتابعين محتاج إليه. قوله: «ولا حد في مدته»: قلت الخيار على قسمين مطلق ومقيد، أما المطلق فقد اختلف الناس فيه، فقال الثوري والحسن بن جني وجماعة من أهل العلم بجواز اشتراط الخيار المطلق، ويكون لمشترطه أبدًا، وقال مالك بجوازه، ويضرب السلطان فيه أجل المثل، وقال الشافعي: الخيار المطلق باطل، فإن وقع مطلقًا في حين العقد فهو فاسد. وقال أبو حنيفة: الخيار المطلق باطل إلا أنه إن (وقع) الخيار في الثلاثة الأيام من الخيار المطلق جاز البيع، وإن مضت الثلاثة الأيام فسد البيع، وأما الخيار المقيد بالأجل، فقد

اختلف الفقهاء فيه، فقال الشافعي وأبو حنيفة (أجل الخيار إلى ثلاثة أيام لا يجوز أكثر من ذلك، وقال أحمد وأبو يوسف) ومحمد بن الحسن يجوز الخيار لأي مدة اشترطه، وبه قال داود، وقال مالك -رحمه الله- هو بحسب المبيعات تابع لما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه الضرورة، والأجل في ذلك على ثلاثة أقسام: جائز هو ما تدعو إليه الضرورة، ومكروه: وهو الزيادة اليسيرة على ذلك، وممنوع: وهو الزيادة الكثيرة، واتفق (مذهب مالك) -رحمه الله- على أن المدة في ذلك تختلف باختلاف المبيعات كما ذكرناه، ففي الثوب يوم ويومان وثلاثة أيام، ولا يجوز (استدامة) لبسه فيها، وفي العبد والجارية (خمسة أيام) والجمعة، ويجوز اشتراط استخدامه فيها، والفرق بينهما ظاهر، وفي الدار الشهر ونحوه، وقال ابن المواز: الأجل في العبد الأربعة الأيام والخمسة، ولا أفسخه في العشرة، وأفسحه في الشهر، (وأجاز) ابن القاسم (في العبد عشرة أيام)، وقد روى (عن مالك) انه أجاز فيه الشهر فما دونه رواه عن ابن وهب، وأباه ابن القاسم وأشهب. وأما الدابة ففي المدونة أنها تركب اليوم ونحوه، وأجاز أن يشترط أن يسير عليها البريد والبريدين، وأجاز مالك

في الواضحة (الشهر ونحوه) في الدار، لأنه يحتاج إلى النظر في حيطانها وأساسها ومرافقها واختبار جيرانها، وفرق بعض المتأخرين بين أن يكون مشتري الدار من الجيران أو غيرهم، فإن كان من الجيران لم يمكن من سكناها لعلمه بجيرانها، وإن كان من غير (الجيران) جاز له اشتراط سكناها الشهر والشهرين. فرع: إذا زاد في مدة الخيار على (الأمد المعتاد) فسخ البيع، فإن أسقط الزيادة ففيه قولان: المنصوص أن العقد باطل لا يصح بإسقاط الزيادة، وخرج أبو عبد الله المازري الصحة (من) مسألة السلم فيمن أسلم في تمر سلمًا فاسدًا، فلما فسخ عليه، وقضى له برأس المال فهل له أن يأخذ به تمرًا مثل المسلم، فيه قولان: المشهور المنع لأن فيه تتميمًا للعقد الفاسد فهو كالزيادة التي (يريد) إسقاطها، لأن إسقاط الزيادة تمسكًا بالسلعة، وهو مقتضى الشرط فكأن الإسقاط لم يفد شيئًا، وقيل إن له الإسقاط ويصح البيع. فرع: لو تبايعا على (البت) وتناقدًا فقد أجاز في الكتاب أن يجعل أحدهما (الخيار لصاحبه) قال (الشيوخ) إنما يجوز إذا (لم) يسترجع الثمن ليلاً يأخذ سلعة بالخيار عن الثمن الذي صار دينًا فيكون دينًا بدين، وأصل ابن القاسم منعه. فرع: إذا اشترط المشتري سكنى الدار فسكنها هل عليه كراء أم لا؟

الصحيح أنه بائع لما (دخل) عليه، فإن سكنها من غير اشتراط ولا بيان فلا كراء، لأن سكن اختيارًا، وفصل فيه عض المتأخرين (وقال) إن كان الساكن في مسكن يسكنه بملك أو كراء، ولم يخله أو يكره من غيره، فلا كراء، لأن هذا اختبار محض لا انتفاع، وإن كان في داره فأكراها، أو في دار غيره فسقط عنه الكراء في مدة انتقاله، وأكراها في تلك المدة فعليه الكراء. تنبيه: حكى الشيخ أبو محمد بعد الحق في الدابة اليومين والثلاثة كالثوب قال: وإنما شرط في المدونة اليوم في الركوب، وأما الفاكهة كالبطيخ والقثاء، فقال في الكتاب إن كان الناس (يستشيرون) في مثل هذا ففيه الخيار بقدر الحاجة، ولا يغيب المبتاع على شيء مما لا يعرف بعينه من الفواكه وغيرها، لأنه يصبر تارة بيعًا، وتارة سلفًا إن أراد رده. قوله: «وإذا اختلفا في الرد والإمضاء فالقول قول مختار الرد»: وهذا كما ذكره لأن مختار الإمضاء قد أسقط حقه في لفسخ، وبقى (حق) الآخر فلا يسقط بإسقاط غيره. قوله: «ويقوم الوارث (فيه) مقام الموروث»: يعني أن (خيار)

المبيع يورث وبه قال مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة إذا مات من له الخيار، ثم البيع، ولا خيار للورثة، لأن مشيئة الإنسان واختياره (صفة) قد هلكت بهلاكه، قلت: أنواع الخيار مختلفة، فأما خيار الرد بالعيب وخيار استحقاق (الغنيمة قبل القسم)، خيار القصاص، (فقد) اتفق الفقهاء الثلاثة مالك وأبو حنيفة، والشافعي وأصحابهم على ثبوته للورثة، واتفقوا أيضًا على أن الخيار في اعتصار الهبة، وفي الطلاق واللعان (أنه) غير موروث، ومعنى خيار الطلاق أن يقول الرجل لرجل آخر طلق امرأتي متى شئت فيموت الرجل المجعول له الخيار فلا يتنزل (الورثة) منزلته إجماعًا. واختلفوا في خيار المبيع وخيار الشفعة والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} [النساء: 12] فهم، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من ترك مالاً أو حقًا فلورثته) ولأنه حق مالي فجاز أن يورث

كسائر الحقوق ورأى أبو حنيفة أن الورثة إنما تتعلق بالأموال دونا لحقوق والأحكام، وقاس خيار البيع، وخيار الشفعة على خيار الاعتصار وغيره مما سلمه الخصم، وقاس المالكية والشافعية خيار البيع وخيار الشفعة على خيار الرد بالعيب. وإذا فرعنا على أنه موروث فاختلف الورثة فأراد بعضهم الإمضاء، وبعضهم الفسخ لم يكن لهم التبعيض كما لم يكن لوليهم، فإما رضوا (بالإمضاء، أو بالفسخ أجمع). قوله: «ويحكم بالإمضاء في كل تصرف يفعله المالك في ملكه لا يحتاج في اختبار المبيع عليه»: قلت: الأفعال الواقعة (على) أعيان الممتلكات منها ما يشترط المالك في صحة وقوعها شرعية، وذلك أنواع: منها العقود الواقعة فيها بعوض كالبيع، والإجارة، والكتاب، أو بغير عوض كالهبة والصدقة والتدبير والإعتاق المعجل، ومنها الاستمتاع والتلذذ وغير ذلك من أنواع المباشرة، ومنها ما لا يقع شرعًا بحال، سواء وقعت في مملوك للفاعل، أو في غير مملوك كالجنايات ونحوها، ولما كان الرضى معنى (قلبيًا استدللنا) عليه بالآثار الظاهرة، وحكم هذه الأفعال التي ذكرنا مختل، والضابط الكلي فيما (يقطع) به الخيار (أن يقال): إنه ينقطع بأحد ثلاثة أشياء قول، أو فعل، أو ترك أما القول فظاهر وهو النص على إسقاطه، وأما الترك فإمساكه عن القول، أو الفعل (الدالين) على تعيين أحد الوجهين إلى أن تنقضي مدة (أيام) الخيار، فإذا انقضت ولم يظهر (منه) قول، أو فعل كان ذلك دليلاً على تعيين أحد الوجهين، فإن كان الخيار للبائع والسلعة في يده فذلك دليل على اختياره الفسخ، وإن كانت في يد المشتري كان تركه للرد

على ربها دليلاً على التمسك والرضا بها، وأما الفعل فهو على ثلاثة أقسام إما أن يدل عادة على الرضا والإمضاء، أو على الرد والإباء، أو يكون محتملاً، فمع ظهور الدلالة على أحدهما يمضي حكم ذلك، ومع الاحتمال يرجع إلى الأصل وهو ثبت الخيار بالأصل، فلا يسقط بالاحتمال. تكميل: الأفعال على ثلاثة أقسام منها ما يعد رضا بالإجماع، ومنها ما لا يعد رضا (بالإجماع)، ومنها ما فيه خلاف، فالأول كالعقود المفوتة بعوض أو بغير عوض كالبيع والصدق والهبة والعتق ونحوها، وكالفعل الذي يشترط (فيه) الملك في صحة وقوعه شرعًا كالقبلة واللمس للذة والوطء والاستيلاد والتزويج، فهذا لا خلاف فيه أن يعد رضا، (وقيل إن تزويج الأمة رضا بخلاف العبد، فإن كان ذلك من البائع والخيار له دل على الرد، وإن كان من المشتري دل على الرضا، وأما ما لا يعد رضا بالإجماع) فهو اختبار الأعمال بالاستخدام وجناية الخطأ، وذلك لا يعد رضا إجماعًا، والقسم المختلف فيه الإجارة والرهن، وإسلامه للصناعة، وسوم السلعة، وجناية العمد، وتجريد الجارية وهذه الأقسام كلها مختلف فيها، ومذهب ابن القاسم أن ذلك كله دليل على الرضا قاطع للخيار وقال أشهب لا يكون ذلك اختيارًا، ويحلف في ذلك كله بالله ما كان مني رضى. وقد ألحق بعضهم قسم التزويج في العبد والأمة بهذا القسم المختلف فيه. قال ابن القاسم ولو سلكت الدابة أو ودجها، أو سافر عليها لكان رضى، وجعل بعض الشيوخ الاختلاف بين ابن القاسم وأشهب في هذه المسألة خلاف في شهادة لا في فقه، فمن جعل هذه الأفعال قاطعة غير محتملة جعلها رضى، ومن لم تشهد العادة عنده بأنها دلائل قاطعة استحلفه وهو قول أشهب. قال ابن القاسم

ليس تجريد الجارية اختيارًا إلا أن يقصد التلذذ، أو ينظر إلى الفرج (بعينه). قال سحنون كل ما يعد من المشتري رضى فهو من البائع (ردًا) إذا كان له (خيار فسخ). قال الشيخ أبو (الحسن) هذا غير مطرد، لأن الغلة للبائع، فإذا سلمه للصناعة أو أجره فلا يكون ذلك فسخًا لأن له أن يقول إنما أردت الغلة، قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا يختلف بحسب الأحوال، فتطويل مدة الإجارة وخروجها عن حد أمد الاختيار دليل على قصد الرد. فرع: إذا ابتاع عبدًا بأمة بالخيار ثم اعتقهما معًا في مدة الخيار، نفذ عتق الأمة، لأنها ملكه، فحينئذ (يرد) العبد على سيده فلا ينفذ عتقه. قوله: «وتلفه من البائع إن كان في يده» إلى آخره. قلت: اختلف الناس في (ضمان) المبيع على الخيار فقال الشافعي في أشهر قوليه ضمان من المشتري مطلقًا لأيهما كان الخيار وقال أبو حنيفة ضمانه من مشترط الخيار)، فإن اشترطاه فضمانه من البائع، لأنه ملكه بحق الأصل، وقد روى عن أبي حنيفة أنه إذا كان الخيار للمشتري فلا ضمان على البائع لخروجه عن ملكه بإثبات البيع من جهته، ولا على المشتري لاشتراطه الخيار، بل هو موقوف. واختلف قوله مالك في ذلك، فقيل ضمانه من البائع

مطلقًا، فالمشتري أمين فيما غاب عليه (وما لا يغب عليه)، وبه قال الليث والأوزاعي، وهذا بناء على أنه على الانحلال، وسواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما، وقد روى عن مالك أن ضمانه من المشتري إن كان في مدة ضمان العوارض، فلا يضمن ما لا يغاب عليه، ويضمن ما يغاب عليه، إذا لم تقم بينة على التلف، فإن قامت البينة على ذلك ففيه قولان (بين) ابن القاسم وأشهب، فإن كان في يد البائع فضمانه منه اتفاقًا. فرع: إذا وجب الضمان بالتلف فهل يغرم الثمن، أو الأكثر من الثمن أو القيمة قولان في المذهب مبينان على تغليب حكم البيع، أو التعدي، وقد اختلف المذهب في بيع الخيار هل هو على الحل، واشتراط الخيار فيه تتميمه، أو على العقد واشتراط الخيار فيه لفسخه بعد انعقاده. والظاهر أن الضمان من البائع من حيث كان العقد غير لازم فلم ينتقل ملك البائع عن المبيع حقيقة، كما لو باع البائع ولم يقبل المشتري، وأما من جعل ضمانه من مشترط الخيار فإنما نظر إلى أن اشتراط الخيار إن كان من البائع فالملك باق له، فالضمان (عليه)، وإن كان الاشتراط من المشتري فقد صرفه البائع عن ملكه وقد بقي معلقًا حتى ينقضي الخيار وهو أحد قولي (الحنفية)، وإنما يدخل في (ملك) المشتري إذا اشترط الخيار، لأن اشتراطه قد منع من دخوله في ملكه. وقول الحنفية أنه معلق لا يتجه لأنه لا ينفك عن ضمان، فإما البائع وإما المشتري، فإن انتفى (الضمان) عن البائع بحصول البتات من جهته تعين تضمين المشتري تشبيها له بالعقد اللازم (فيه)،

وفيه نظر، إذ لا يقاس موضع الخلاف على موضع الاتفاق. فروع تتعلق بالخيار، واختلفوا في النقد في (بيع) الخيار بغير شرط، والمشهور جوازه، وأما اشتراطه فممنوع في الأجل القريب والبعيد لاحتمال أن يكون تارة بيعًا تارة سلفًا. فرع: إذا بينا على أن ضمانه من البائع فالخراج له لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الخراج بالضمان) واختلف قول ابن القاسم وأشهب فيما إذا بيعت أمة على الخيار، فولدت في مدة الخيار، وأمضى من له الخيار البيع، فقال ابن القاسم وأشهب فيما إذا بيعت أمة على الخيار، فولدت في مدة الخيار، وأمضى من له الخيار البيع، فقال ابن القاسم الولد للمشتري: بناء على أنه ليس بغلة إذ هو كالجزء منها، وقال أشهب: هو للبائع كالغلة واللبن، واتفقوا على أن الصوف للمبتاع لأنه مشتري. فرع: إذا قلنا إن الولد للبائع فهو بيع حصلت فيه تفرقة فهل يفسخ أم يجبران على الجمع بينهما (فيه) قولان في المذهب مبينان على ما أوجبته الأحكام، هي يجعل كما دخلا عليه أم لا؟ وإذا أجبرناهما على الجمع فهل المقصود الجمع بينهما في ملك واحد، أو في حوز واحد (فيه) قولان. فرع: إذا وهب للعبد مال من أيام الخيار فقال في الكتاب هو للبائع، وقال بعض الشيوخ إلا أن يكون المشتري قد استثنى ماله، (فالمال) الذي وهب له للمشتري بخلاف المال يوهب للعبد المرتهن فهو لسيده غير داخل في الرهن.

فرع: إذا جن من له الخيار نظر (له السلطان) في الإمضاء، أو الرد، وأما المغمى عليه فقال ابن القاسم: يوقف الأمر حتى يفيق، وقال أشهب: ينظر له السلطان كالمجنون، وهو (خلاف في شهادة) هل يدوم الإغماء أم لا. فرع: اختلف المذهب إذا اشترى سلعة على (خيار) فلان ففي المذهب فيه خمسة أقوال أحدهما أنه حق لمشترطه فقط دون صاحبه، ودون (المشترك رضاه) (وقع) في الواضحة، (وقيل): إنه حق لمن (جعل) له الرضا وللباقي من المتبايعين دون مشترط ذلك، وقيل: بالتفرق بين البائع والمشتري، فإن اشترى ذلك البائع فله (الاستقلال بالإمضاء) أو الرد، وإن اشترطه المشتري توقف فعله على رضا من اشترط رضاه، وقيل: إنه حق للبائع والمشتري دون من اشترط رضاه، وقيل: إن كان اشتراط رضى الأجنبي من المتبايعين جميعًا، ولهما في ذلك غرض صحيح فهو كوكيل لهما، فليس لأحدهما عزله عن ذلك لتعلق حق خصمه بذلك، وليس لأحدهما أن يرد أو يمضي دونه، وهذا هو اختيار بعض المتأخرين، وهو اختيار بعض شيوخنا إذا ظهر أحد القصدين، فإن لم يظهر أحدهما فظاهر الكتاب إسقاط الرد، وقال ابن حبيب ليس له ذلك. قال القاضي -رحمه الله-: «بيع الربا غير جائز، والربا ضربان تفاضل ونساء»: قلت: وهذا كما ذكره، وقد انعقد الإجماع على تحريم الربا قال الله

تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وثبت من حديث عبادة بن الصامت قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح سواء بسواء عينًا بعين فمن زاد أو استزاد فقد ربا، وإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)، (وهذا نص في منع لتفاضل في الصنف الواحد، ومنع النسيئة في الصنفين). (قال القاضي): «والربا تفاضل ونساء»: يعني به (الربا) الشرعي الثابت تحريمه بالنص وإلا فالربا اللغوي أعم من ذلك، لأنه عبارة عن الزيادة، وانعقد الإجماع على تحريم النساء في هذه الأصناف المعدودة في حديث عبادة. وأجمع الجمهور على تحريم النساء في هذه الأصناف المعدودة في حديث عبادة. وأجمع الجمهور على تحريم التفاضل في الصنف الواحد منها، وقد كان ينقل عن ابن عباس: (أن لا ربا إلا في النسيئة) اعتمادًا على ما روى من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا ربا إلا في النسيئة) وأجاز ابن

علية التفاضل والنسيئة في هذه الأصناف الربوية إذا اختلف الصنفان ما عدا الذهب والفضة، فإنهم اتفقوا على تحريم النساء (فيه) قوله: «والتفاضل على وجهين تفاضل في العين وتفاضل في القيمة» هو كما ذكره، وقد مثل كل واحد من القسمين، وكذلك قال أهل المذهب: التوليج على قسمين، توليج في الأعيان، وتوليج في الأثمان، وكلاهما موجب للرد. قوله: «فالتفاضل في العين يحرم» (يريد) الربوي من المطعومات والعين مسكوكًا أو غير مسكوك، وجمهور الفقهاء على أن الحكم معلق بمعاني هذه الأشياء المعدودة في حديث عبادة بن الصامت وأبي سعيد لا بأسمائهما، وقال قوم: إن الحكم معلق بأسمائهما، ومقصور عليها وهما صنفان منهم نفاة القياس، ومنهم القائلون بإثبات القياس إلا أنهم عدموا في هذا المحل النوع المعتبر منه، ولم يروا قياس الشبه حجة، وهؤلاء الذين قصروا الحكم عليها

قائلون بنفي القياس (رأوا أن) ذلك من باب الخاص، ورأى الجمهور أن ذلك من باب (الشبهة على العلة) فيلحق المسكوت (عنه) بالمنطوق به إذا كان في معناه بناء على إثبات قاعدة القياس، وقد اختلف (القائلون بالتعليق) في علة الربا، ولهم في ذلك مسالك. ونبدأ بعلة النساء للإجماع على امتناعه، وقد اختلف الناس في ذلك، واتفق مذهب مالك -رحمه الله- وجميع أصحابه على أن العلة في ذلك الطعم مطلقًا في النصف والصنفين، ولذلك حرموا النسيئة في الصنفين، وأجازوا التفاضل (فيهما)، فالطعم (بالإطلاق) علة (منع) النسيئة في المطعومات عندنا وهو الصحيح لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل يدًا بيد والتعليق بالمشتق كاف في التعليل، إلا أنه يلزمهم على مقتضاه الاكتفاء بذلك في امتناع التفاضل وهم غير قائلين به، وأما العلة في امتناع التفاضل فللمالكية فيها ثلاث طرق: أحدها: اعتبار الاقتيات والادخار معًا، والثانية: اعتبار الاقتيات فقط، وهو اختيار القاضي أبي إسحاق، واعتبر بعضهم الادخار فقط، وأضاف القاضيان أبو (الحسن) وأبو محمد إليهما وصفًا ثالثًا: وهو كونه متخذ للعيش غالبًا، وأضاف بعضهم كونه مصلحًا للأقوات، اعتبر بذلك الملح فيها وهو مصلح للأقوات وإنما خصوا الأقوات، لأن طلب قانون العدل فيها أعم، وحفظ المعاش فيها ألزم لحاجة جميع الناس إليها، وجعل بعضهم الادخار مكملاً للعلة، لا شرطًا ولا

جزاءً، وأجرى حكم الربا في النادر الادخار كما أجراه في المعتاد، وقال الشافعي: (العلة) في ذلك الطعمية، وقالت الحنفية: المعتبر الكيل والوزن، وقال ابن الماجشون: المعتبر المالية (بالربا) فالربا ممتنع عنده في جميع الأموال حياطة لها، وتحرزًا من المغابنة، وبه قال بعض المتابعين، وقال بعضهم المعتبر المالية في الأجناس التي يجب فيها الزكاة فقط، وقال ابن المسيب: (العلة) الطعم والكيل، وهو جمع بين قولي الشافعية، والحنفية، واتفقوا كلهم على أن العلة في الذهب والفضة كونهما أثمانًا للمبيعات، وقيمًا للمتلفات وأرواشًا للجنايات وهذه تسمى بالعلة القاصرة، وكل طائفة تمسكت بطريق من الاستنباط، أما المالكية قالوا له كان المقصود الطعم وحدة للزم الاكتفاء بصنف واحد، ولما وقع التعديل دل على أن المقصود التنبيه بكل واحد منها على ما في معناه فاشتركت كلها في الاقتيات، والادخار، والطعمية، والكيل، والوزن، والمالية، واختص البر والشعير بكونهما أصول الأقوات، فوقع التنبيه بهما على ما في معناهما من القطاني والسلت، ونبه بالتمر على جميع الحلاوات كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المتخذة لإصلاح الطعام، وأما الشافعية فعولوا على تعليق الحكم بالوصف المشتق، وذلك دليل العلة اعتمادًا منهم على

قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاُ بمثل يدًا بيد)، (فكان الطعام علة كالسرقة المرتبة عليها القطع في قوله تعالى: {والسارق والسارقة} الآية) وعول الحنفية على قوله -صلى الله عليه وسلم-: في بعض طرق حديث (عبادة) وكذلك ما يكال، أو يوزن، وأما ابن الماجشون فرأى أن المقصود هو العدل في المبيعات، وحفظ الأموال ليلاً يغبن بعض الناس بعضًا فكان ذلك عامًا في جميع الأموال، ولما كان نفي الغبن، وتحصيل قانون المماثلة والعدل منها (حصرها) الجمهور في الأقوات فقط، لأن الحاجة إليها أهم والمنفعة (بها أعم) (وأنها متقاربة) المنافع المقصود لا يختلف كل الاختلاف، فلذلك كان المطلوب فيها التماثل. تنبيه: اختلفوا في تعيينا لقياس الذي (يقع به) إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به في حديث عبادة فبعضهم جعله قياس شبه، وجعله بعضهم قياس المعنى فألحق الزبيب بالتمر، لأنه في معناه، وهو قول القاضي أبو بكر بن الطيب، عول على قياس المعنى من حيث كان قياس الشبهة عنده ليس بحجة. وإذا فرعنا على مذهب مالك -رحمه الله- وجب تحصيل الربوي من غير الربوي، ومعتمد مذهب مالك أن المطعومات على ثلاثة أقسام: قسم ربوي

بلا خلاف، وقسم ليس بربوي بلا خلاف، وقسم مختلف فيه، فالأول ما اجتمع في الأوصاف الثلاثة (وهو) كونه مقاتًا مدخرًا متخذًا للعيش غالبًا. والقسم الثاني: غير الربوي هو ما لم يحصل فيه واحد منهما كالخص والهندبا والبقول. والقسم المختل فيه هو ما وجد فيه بعض الصفات دون بعض، والخلاف في ذلك خلاف (في) شهادة، وتنحصر أصول ذلك في مسائل: المسألة الأولى: (اختلفوا في البيض، والمشهور أنه ربوي، وقال الشيخ ليس بربوي). المسألة الثانية: اختلفوا في التوابل هل هي ربوية أم لا؟ وفي المذهب فيها قولان، وإذا قلنا إنها ربوية فهل هي من جنس واحد، أو أجناس مختلفة (قولان في المذهب) والمختار أنها أجناس مختلفة لاختلاف منافعها وتباين الأغراض (فيها)، ولأنها لا تتمازج في منبت ولا في محصد، قاله القاضي أبو الوليد. المسألة الثالثة: اختلفوا في الفواكه كالتفاح والكمثرى والمشمش

(ونحوه هل هو ربوي أم لا؟ قولان) في المذهب. المسألة الرابعة: البلح وهو الرطب قبل طيبه هل هو (علف، أم طعام ربوي، قولان) عندنا والمشهور أنه ربوي. المسألة الخامسة: ما لا يمر من الرطب، ولا يتزبب من العنب قولان (والمشهور) أنه ربوي. المسألة السادسة: اختلفوا في اللبن المخيض، والمشهور أنه ربوي لأنه (قوت غالب) الأعراب وقيل إنه ليس بربوي، واتفقوا على أن الحليب ربوي، لأنه فيه (سمن)، والسمن، والإدام ربوي. المسألة السابعة: (اختلفوا في الحلبة) هل يجري فيها الربا أم لا؟ ثلاثة أقوال فيها قيل إنها ربوية وقيل (إنها) ليست بربوية، وقيل: اليابسة ربوية بخلاف الخضراء.

المسألة الثامنة: اختلفوا في الماء العذب، وجمهور أهل العلم أنه ليس بربوي، وقد استقرئ من قول ابن نافع: أنه ربوي لأنه مشروب متطعم، وبه قوام الأجسام، وربما كانت الحاجة إليه في بعض الأوقات أشد من الحاجة إلى الطعام، فإن أجرينا فيه الربا، فانظر: (هل يجوز) بيع (دار بدار) فيهما عينان تجريان. فيه نظر مبناه على الإتباع هل هي مقصودة أم لا؟ قولان ذكرهما الإمام. أبو عبد الله، وإنما خصوا (العذب) لأن المالح ليس بمشروب، وقد وقع في بعض الروايات أن الماء ربوي، وظاهره العموم، وقال بعض المتأخرين الرجوع في مثل هذه المسائل إلى العوائد، وهو المفتي أن يحيل عليها، وأن الخروج عن العادة في ذلك وهم. قال القاضي -رحمه الله-: «وكل (مسمى) مما يحرم التفاضل فيه فإنه صنف منفرد بنفسه لا يضم إليه سوى أنواعه إلا الحنطة والشعير والسلت فإنها صنف واحد، (واختلف قوله) في القطنية» قلت اتفق المتقدمون من أهل المذهب على أن القمح والشعير والسلت صنف واحد قال الإمام أبو عبد الله لا يختلف المذهب في ذلك، ورأى الشيخ أبو القاسم السيوري

ومن نصر قوله من المتأخرين أن الشعير والقمح (صنفان) وهو أصل مذهب الشافعي، والمعتمد لنا من وجوه: الأول: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) واسم الطعام يشملها قاله القاضي أبو محمد. الثاني: ما رواه مالك في موطئه أن سعد بن أبي وقاص علف حماره فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك، فاتبع بها شعيرًا (ولا تأخذ إلا مثلها، وعن عبد الرحمن بن الأسود ومعيقيب الدوسي مثله، وروى مسلم: (أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال بعه واشتر به شعيرًا فذهب الغلام وأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمر أخبره بذلك فقال لم فعلت ذلك انطلق فرده، ولا تأخذ إلا مثلاً بمثل). ففي هذا دليل قاطع على أنهما جنس واحد. واعتمدوا من طريق المعن على أنها متقاربان في المنبت والمحصد

(والمقصود) والاقتيات والرفاهة الحاصلة فالحنطة غير مقصودة قصدًا شرعيًا، وربما (ألحقت) بالمكروهات، ولم يكن غاب قوت بالحجاز إلا الشعير فلتفت مالك إلى عوائدهم الغالبة، واعتمد الشافعي على (تقديرها) في حديث عبادة بن الصامت، وذلك دليل على اختلاف أجناسهما لاختلاف أسمائها وصفاتها، واختلفوا هل (يلحق) بالقمح والشعير والسلت العلس وهو الأشقالية أم لا؟ قولان في المذهب أنه ير ملحق بها، وألحقه ابن حبيب، وكذلك الأرز والذرة والدخن ألحقها ابن وهب بالسلت والشعير الحنطة، والمشهور من المذهب خلافه، وقد بينا أن ذلك اختلاف في شهادة. وإذا فرعنا على أن هذا غير ملحق، فهل يكون أجناسًا مختلفة أو جنسًا واحدًا (قولان في المذهب المشهور أنه أجناس مختلفة، وقيل إنها جنس واحد حكاه القاضي أبو الوليد رواية، وحكى القاضي الخلاف في القطاني هل هي جنس واحد أو أجناس مختلفة) وفي مذهب فيه ثلاثة أقوال فقيل: إنه جنس واحد وقيل: أجناس مختلفة، وقيل: إنه جنس واحد في الزكاة احتياطًا، ومختلفة في البيوع. واخلفوا في أجناس (القطنية) هل هي جنس واحد أو أجناس مختلفة، وذلك مع تسليم كونه أصولها واحدة. قال القاضي -رحمه الله-: «واللحوم ثلاثة أصناف»: قلت: اختلف الناس في اللحوم على ثلاثة مذاهب، فقال أبو حنيفة: هي أجناس مختلفة والتفاضل فيها

جائز إلا في الجنس الواحد منها فقط، وقال الشافعي هي جنس واحد، وجعلها مالك ثلاثة أجناس، فلحم ذوات الأربع جنس واحد، ولحم الطير كله جنس، وقد روى عنه أن الجراد صنف رابع، قال الإمام أبو عبد الله: والمعروف من المذهب أن بيع بعضه ببعض متفاضلاً جائز، وذكر ابن حارث عن سحنون أن التفاضل فيه ممتنع، لأنه مما يدخر وييبس، واعتمد مالك على أن (هذه الأشياء أجناس مختلفة فلحم كل جنس تابع) لجنسه، وعول الشافعي على اتفاق الاسم، والمنفعة المقصودة غالبًا مع (عموم) قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل يدًا بيد). قوله: «وما غيرته الصنعة من المأكول صار (كجنس آخر)» يريد أن اختلاف المنافع والصنائع المقصودة تصير جنس الواحد جنسين، والضابط أن الصنعة إن كثرت جدًا، وأخرجت المصنوع (عن أصله) فهي معتبرة، وإن قلت فهي غير معتبرة، والجمهور أن طحن الحبوب وعجنها (بعد الطحن) لا يخرجها عن (أصلها) لقلة الصنعة في ذلك، فإن اختبز الحنطة أو أقليت فهل يكون ذلك صنعة أم لا؟ (قولان) المشهور أن الخبر والقلي صنعة،

واختلف المتأخرون هل يجز بيع الخل بالزبيب، والثمر بالعنب والمشهور جواز ذلك بناء على أن الصنعة فيه ناقلة، ومنعه أبو زيد في الثمانية، ورأى أنه من باب المزابنة، وإذا ليس فيه إلا تفريق الأجزاء [فهو] يشبه الطحن. وجعل القاضي الخبز والطبخ (والتخليل) (صنعة)، ويريد الطبخ بالإبزار، وأما السبق (بالماء) وحده، فهل هو صنعة أم لا؟ فيه قولان، المشهور أنه ليس بصنعة، والتجفيف بالشمس، أو بالنار لا يعد صنعة ناقلة. فرع: إذا قلنا إن طبخ اللحم صنعة فهل المعتبر الطبخ فقط، أو اللحم والمرق فيه قولان في المذهب مبنيان على اختلاف في شهادة، وبناه الإمام أبو عبد الله على الإتباع هل هي مقصودة أو ملغاة. فرع: اختلف المذهب في بيع الدقيق بالحنطة مثلاً بمثل. وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال: الجواز مطلقًا. والثاني المنع مطلقًا، لأن القمح يختلف ريعه، والثالث جاوزه وزن التحقيق المماثلة لا كيلاً فروى عن مالك جواز القمح بالدقيق في اليسير بين الجيران لضرورة، وكذلك اختلف قوله في العجين بالعجيب والخبز بالخبز متماثلاً فيه قولان عن مالك، المشهور جوازه متماثلاً لحصول المساواة، والشاذ منعه لاختلاف العجين في التعجين بالماء، وهو من باب اعتبار الربا المتوهم، وفيه خلاف، وعبارة شيوخنا في ذلك الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل.

فرع: في الجاف بالجاف، والمشهور جوازه، وقال ابن حبيب: لا خير في القديد بالقديد لاختلاف اليبس، وكذلك المبلول بالمبلول لاختلافه. فرع: اختلفوا في مد القمح ومد دقيق بمد قمح ومد دقيق، أو في مد قمح ومد شعير بمد قمح ومد شعير، والمشهور المنع، وأجازه محمد إذا تبين الفضل، وذكر القاضي في صرة التفاضل المعنوي أن يبيع صاعًا معقليًا وصاعًا دقل بصاعي برني فالتفاضل بينهما حاصر في المعنى لاختلاف المعنى وهو ممتنع محققًا سواء كان ربا أو متوهمًا، لأن قاعدة المذهب أن توهم الربا كتحققه. قال القاضي «فأما النساء فهو على ضربين»: شرح: قد ذكرنا أن النساء محرم في المطعومات، وفي النقدين مع (التماثل) والتفاضل وأما في غير المطعومات وغير النقدين فتحريم النسيئة في ذلك مع التفاضل (في الجنس الواحد) مثل أن يبيعه ثوبًا بثوبين إلى شهر، فذلك سلف بزيادة، وإن باعه كثيرًا بقليل فهو ضمان بجعل، (وأصل مذهب ملك -رحمه الله- سد الذرائع) وحمل الناس على التهمة، واعتبار ما مذهب ملك -رحمه الله- سد الذرائع) وحمل الناس على التهمة، واعتبار ما

يدخل اليد، وما يخرج منها، ولذلك ينظر إلى (أفعال) المتعاقدين، وما يخرج من أقوالهما لا إلى نفس الأقوال، وخالف الشافعي في هذه القاعدة، (ودلائل) المذهب معلومة مبناها على اتهام الناس، والاحتياط للدين. قال القاضي -رحمه الله-: «فضل والمزابنة»: قلت اشتقاق المزابنة من الزبن وهو الدفع، لأن كل واحد من المتبايعين يريد مدافعة صاحبه ومغابنته، وهي جارية في الربويات وغيرها من الجنس الواحد، ويجمعها بيع معلوم بمجهول، (أو مجهول بمعلوم، أو مجهول بمجهول) من جنسه، فإن كان المبيع من جنس الربويات كان فيه الربا والمزابنة، وإن كان من غير الربويات كانت فيه المزابنة فقط لاحتمال أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، وذلك كاف في التحريم، فإن تحققت الزيادة، (وتبين التفاضل) في غير الربويات جاز، وخرج بتحقيق الزيادة عن باب المزابنة، وأجاز بيع الرطب بالرطب مع (اختلاف) الرطوبة، وقد ذكرنا الخلاف فيه، وأصل المذهب أن التساوي فيما يطلب فيه شرعًا، التساوي مطلوب في الحال والمآل، لذلك قلنا إن ما تقع فيه المعاوضة إما أن يكونا رطبين أو يابسين أو أحدهما رطبًا والآخر يابسًا، فإن كان رطبين فلا يخلو أن تكون الرطوبة هي غاية طيبها أم بعدها غاية أخرى فإن كانت (تلك) الرطوبة في الغاية فلا خلاف (في المذهب) في

جواز ذلك مثلاً بمثل لأن التساوي المطلوب حاصل كالزيتون بالزيتون، (والملح بالملح)، وإن كانت بعدها غاية أخرى، ففي المذهب فيه قولان أجازه مالك، ومنعه عبدا لملك، وذلك كالرطب بالرطب والعجين بالعجين، وإن كانا يابسين جاز متساويًا (وإن كان ربويًا) أو مطلقًا إن كان غير ربوي يدًا بيد وإن كان أحدهما رطبًا والآخر يابسًا فهو الذي نص عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واعتبر فيه المآل فقال -صلى الله عليه وسلم-: (وقد سئل عن (بيع) الرطب بالتمر (قال) أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذن) وهذه أول مسألة سئل عنها أبو حنيفة حين دخل بغداد، وأخطأ النص وعدل إلى القياس، وقال: إن كانا جنسين جاز متفاضلاً أو متساويًا، وإن كان جنسًا واحدًا جاز التساوي في الحال، وغفل عن اعتبار المآل، وخالفه في ذلك صاحباه، وهذا الحكم عندنا جاز في كل رطب بيابس من جنسه، وأجاز القاضي اللبن باللبن إذا كانا حليبًا أو مخيضًا، وأما الحليب بالمخيض أو المخيض فلا يجوز، لأن ذلك داخل في باب المزابنة. فرع: إذا وجب اعتبار المماثلة وفقد المكيال والميزان رجع إلى التحري، وجرى مجرى الكيل والوزن. واختلفوا في فروع.

الأول: إذا أجزنا التحري (في اللحم) فهل يتحرى اللحم نقيًا من العظم ويقدر قدره بعد (زوال) العظم منه أو لا يلتفت إلى العظم، ولا يعتبر قولان في المذهب والمشهور نفي الالتفات إليه، لأنه موجود في أصل الخلقة، وبه قوام اللحم فأشبه النوى، والقول الثاني: أنه يزال فيتحرى اللحم دونه حكاه الشيخ أبو إسحاق، وكذلك اختلفوا في قشر البيض هل يعطي حكم العدم فلا يدخل في التحري ويراعي ويقدر إسقاطه قولان أيضًا، وهذا بناء على أن البيض ربوي، وعلى جواز بيع بعضه ببعض تحريًا، وقد ذكرنا الخلاف فيهما. فرع: اختلفوا في الجلد هل يعتبر نزعه إذا تحرينا لحم الشاة المذبوحة بمثلها أم لا؟ قولان: أحدهما: أن الجلد ساقط غير معتبر كالقشر، وقيل: إنه معتبر، وفي المذهب (قول آخر) أنه لا يجوز التحري في الشاتين المذبوحتين حتى يستثنى ( ... ) كل واحد منهما جلده بنفسه، لأنه سلعة ولحم بسلعة ولحم فصار كذهب وسلعة بذهب وسلعة، والمذهب منعه. فرع: إذا أجزنا (الخبز) بالخبز تحريًا فهل يتحرى الدقيق أو رطوبة الخبز ويبوسته في المذهب قولان، ورواية المتقدمين تحري الدقيق، ورأى القاضي أبو الوليد أنه إنما يتحرى الخبز في نفسه كالدقيق. قال القاضي -رحمه الله-: «فصل الأعيان المبيعة ضربان طعام وغير طعام»: شرح: تكلم في هذا الفصل على بيع الطعام قبل قبضه، وقد ثبت عن

النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن ذلك وأرخص في الإقالة والشركة التولية. وثبت عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن بيع ما لم يقبض، وربح ما لم يضمن وقد اختلف العلماء في تفسير نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يضمن، فروى محمد بن المواز عن مالك، وأكثر أهل المدينة أنه مخصوص بالطعام المشترى كيلاً لا جزءًا لأن

الجزاف يدخل) في ضمان المشتري بنفس التسليم والقبول. وقال جمهور أهل المذهب إنه عام في الطعام وغيره. (وصورة ربح ما لم يضمن) أن يبيع الرجل ملك غيره بغير إذنه، ثم يشتريه البائع من مالكه الأول بدون ما باعه به، وذلك ممنوع، لأنه من ربح ما لم يضمن. واتفق مالك، وأكثر أصحابه على القبض مشترك في الطعام فقط، فلا يباع (الطعام) قبل قبضه، ويباع ما عداه قبل القبض، وقال عبد العزيز بين أبي سلمة، وعبد الملك بن حبيب القبض شرط في جواز كل مكيل أو موزون، لأن فيه حق التوفية كالطعام وسوى القاضي (بين) ما ينقل وما لا ينقل في جواز بيع ذلك قبل قبضه تنبيهًا على مذهب أبي حنيفة لأنه اشترط القبض في كل مبيع سوى العقار فقط، وقول القاضي: «ما لم يعرض فيه (مانع)» فيه إشكال. (وقراءته) غير مرتبة فذكرت فيه أنه إشارة إلى أصل المذهب في حماية الذرائع، وذلك فيما إذا اشترى سلعة فلا يجوز له أن يبيعها من بائعها قبل قبضها بأكثر من ثمنها خيفة من أن تصير السلعة محللة (وكأنها لغو، يدفع) في المعنى) عشرة في خمسة عشر وهو محرم، لأنه ربح في السلف، فمنع بيع ما عدا الطعام في هذه الصورة قبل

قبضه لعارض وهو قصد الربا (أو توهمه)، وكذلك إذا بيع (ذلك) قبل قبضه بأي وجه من وجوه الربا كالدين بالدين، أو البيع والسلف فيمنع في غير الطعام لعارض، وكذلك إن عرض في الطعام نحو ذلك، فيحرم لعلتين، إذ الحكم الشرعي قد يكون معللاً بعلل كثيرة، وإنما قصر مالك الحكم على الطعام فقط لأنه المنصوص عليه في الحديث. فدل على أن ما عداه بخلافه، وإذا قلنا إن المنع مقصور على جنس الطعام فهل هو عام في جنسه، أو مخصوص بالربوي دون ما عداه في المذهب قولان أحدهما انه عام في الربوي وغير الربوي، وروى ابن وهب وابن نافع عن مالك أنه مخصوص بالربوي فقط، والأول أصح تمسكًا بمقتضى (عموم) لفظ الطعام إلا أن يثبت التخصيص بدليل، وإذا قلنا إنه مخصص بالأطعمة (كلها) فهل ما كان من الأدوية والعقاقير (داخل) في ذلك أم لا؟ وقد اختلفت الرواية في الكزبور (والكروياء) والفلفل وما في معناهما من التوابل هل يلتحق بالطعام أو بالأدوية قولان في المذهب، ففي المدونة إلحاق ذلك بالأطعمة، وفي مختصر ابن شعبان إلحاقه (بالعقاقير) والأدوية، وكذلك اختلفوا في الحبة الحلوة والحلية، فابن القاسم ألحقها بالأطعمة، وألحقها أصبغ، ومحمد بالأدوية، قال سحنون

وأجمعوا كلهم على أن الزعفران ليس بطعام، والخردل طعام وهذا فيه نظر. فرع: إذا قلنا أن القبض شرط في بيع الطعام فقط فهو جار فيما فيه (حق التوفية) وأما الجزاف فاختلفوا في جواز بيعه قبل قبضه، فأجازه مالك والأوزاعي لأنه داخل في ضمان المشتري بنفس العقد بخلاف ما فيه (حق) توفية، ومنع ذلك أبو حنيفة والشافعي لعموم نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن بيعه قبل قبضه، (ومبنى) الخلاف على تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة. قوله: «إلا أن يكون على غير وجه المعاوضة» قلت الطعام إما أن يثبت من معاوضة أو من غير معاوضة، أو متردد بينهما، والمعاوضة تنقسم على ثلاثة أقسام: الأول: معاوضة يقصد فيها المغابنة والمكايسة كالبيع والإجارة والمهور والصلح، والمال المضمون بالتعدي والخلع ونحو ذلك، فلا خلاف في المذهب أن هذا النوع لا يباع قبل قبضه. والثاني: المعاوضة متخصصة للمكارمة والرفق كالقرض والبدل فلا خلاف في المذهب في جواز بيع هذا الطعام قبل قبضه، واختلفوا فيما

(يصح) فيه كلا الوجهين كالشركة، والإقالة، والتولية، فأصل المذهب جواز الإقالة» من الطعام قبل قبضه (لما ثبت) من (مراسيل) ابن المسيب أنه -صلى الله عليه وسلم-: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والإقالة والتولية) وذلك لأنها جارية مجرى المعروف، وخارجة عن باب المكايسة إلى باب (المعروف) والمكارمة. وقد اختلف المذهب في الإقالة هل هي حل للبيع أو ابتداء البيع، والأول أصح، (وأما الإقالة في الطعام مما) ثبت من غير معاوضة كالهبة والصدقة والميراث، ولا خلاف في المذهب في جواز بيعه قبل قبضه لخروجه عن مورد النص، وأما ما ثبت للأجناد في بيت المال من الطعام فهل يجوز لهم بيعه قبل قبضه (لأنه) كالهبة أو يمنع ذلك تغليبًا لحكم المعاوضة لأنهم إنما يستحقونه عوضًا عن خروجهم للغزو وذبهم عن المسلمين قولان فيه في المذهب. فرع: إذا ملك طعامًا بهبة، أو صدقة جاز بيعه قبل قبضه كما ذكرناه، فإن ابتاع طعامًا (قبل قبضه) جاز له أن يهبه قبل قبضه، ولا يجوز لمن صار

إليه أن يبيعه (قبل قبضه) لأنه قائم مقام الواهب. فرع: إذا قلنا بجواز الإقالة من الطعام، وكان رأس المال عينًا مما يقضي فيه بالمثل فهل تجوز الإقالة فيه على مثل رأس المال لا على عينه، منعه ابن القاسم لاحتمال خروجه عن باب المعروف إلى باب المعاوضة برد المثل، ورأى أن حقيقة الإقالة رد الأعيان نفسها أجازه أشهب لأن المثل كالعين، ومبنى المسألة على الدنانير والدراهم هل تتعين أم لا؟. فرع: إذا اشترى طعامًا فأشرك فيه قبل قبضه أو ولاه ففي المذهب في ذلك قولان الظاهر الجواز كالإقالة، لأن مورد النص عدل بدليلهما والشاذ اختصاص الجواز بالإقالة فقط دون الشركة والتولية، وهو ضعيف بالنظر إلى مقتضى الدليل اللفظي. فرع: إذا أشرك في البعض، أو أقال في البعض لم يجز، لأن التبعيض يخرجه عن حقيقة باب المعروف ولو قبض بعضه وبقي بعضه جاز تولية ما قبض (والشركة) فيه دون من لم يقبض، لأن قصد المعروف في ذلك ظاهر، فإن أشرك فيما قبضه، وفيما لم يقبض لم يجز لخروجه عن باب المعروف إلى باب المكايسة، وفي ذلك خلاف في المذهب. قال القاضي -رحمه الله-: «وكل مبيع هلك قبل قبضة فهو من المشتري إن كان متعينًا متميزًا»: إلى آخر الفصل. شرح: أصل المذهب أن العقد على الحاضر ينقل الضمان فيه إذا لم يكن في المبيع حق توفيه. وحكم العهدة غير ناقض لهذه القضية الكلية لأنه خارج عن القياس فهل يشترط فيه التمكين (وأن يمضي زمان يمكن التسليم

فيه، أو يكتفى بلفظ التعاقد والإيجاب قولان في المذاهب ونصوص المتقدمين أن العقد في ذلك كاف في نقل الضمان، وأما الجزاف يباع على الكيل فلا يدخل في ضمان المشتري إلا بالقبض، واختلف (المذهب) في (المكيال والميزان) يهرق بنفس امتلائه هل يكون من البائع، أو من المشتري قولان. قوله: "وبيع الطعام وسائر المكيلات جزافا": قلت الضابط: (فيما يجوز) بيعه جزافًا، إن كل ما (يكون) المقصود منه جملة لا آحاد أعيانه جاز بيعه جزافًا، وكل ما يكون المقصود آحاد أعيانه، فلا يجوز بيعه جزافًا، وتفصيل ذلك أن المكيلات والموزونات يجوز بيعها جزافًا. وأما المعدودات، فإن قلت أثمانها جاز بيعها جزافًا، وإن كثرت أثمانها، واختلفت آحادها اختلافًا كثيرًا كالجواهر والثياب، لم يجز بيعها جزافًا، وأما العين فهل تباع جزافًا أم لا؟ فيها تفصيل إما أن تكون مصوغة، أو مسكوكة، (فإن كانت مصوغة)، فانظر هل المقصود آحادها، أو جملتها، وذلك إحالة على شهادة وإن كانت مسكوكة فلا يخلو أن يكون التعامل فيها وزنا، أو عددًا، فإن كان التعامل فيها عددًا ففي جواز بيعها جزافًا قولان في المذهب التحريم، وهو المشهور، وحكى القاضي أبو الحسن فيه الكراهة لقلة الغرر، وتماثل الآحاد، وإن كان التعامل فيها وزنًا فيها يجوز بيعها جزافًا أم لا؟ قولان في المذهب: الجواز، والمنع، واختلفوا هل منع كراهة، أو تحريم.

قوله: "ومن شرط جواز (بيع الجزاف) تساوي المتعاقدين في الجهل بمقداره": قلت: وهذا كما ذكره لأنه إذا علم أحدهما مقداره (غلب القمار) والمخاطرة، وقد اختلف المذهب في (هذا الأصل)، وهو علم أحد (المتعاقدين هل يؤثر في فساده أم لا؟ ويجوز بيعه على تصديق البائع نقدًا، ومنعه في بيع النسيئة خوفًا من تطرق الربا إليه لاحتمال أن يجد) نقصًا في الكيل قيتركه رجاء الصبر عليه، فيكون (مرة) عليه سلفًا جر منفعته. قال القاضي رحمه الله: "بيع الثمار بعد بدو الصلاح جائز مطلقًا" شرح: بيع الثمار إما أن يكون قبل بدو الصلاح، أو بعده، فإن كان بعده فلا خلاف في جوازه مطلقًا، وإن كان قبله فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن (يشترط) التبقية، (أو يشترط القطع، أو يكون عاريًا من الشرطين، فإن اشترط التبقية) فلا خلاف في المذهب في فساد البيع لخوف العاهات والغرر، فإن تطوع المشتري بالقطع فسد البيع (لا محالة اعتبارًا بحكم انعقاده، وإن) شرط القطع جاز البيع بلا خلاف عندنا، وفي العقد المطلق روايتان: الفساد، والصحة، رواية البغداديين عن المذهب الفساد، وهو اختيار الشيخ أبي محمد بن أبي زيد، وأبي إسحاق التونسي، واختار الشيخ أبو الحسن

اللخمي، والشيخ أبو القاسم بن محرز الصحة، ويجبر المشتري على القطع، واستقرئ ذلك في الكتاب. وأختلفوا في فروع: الأول: إذا اشترى الشجرة في صفقة، ثم اشترى الثمرة (في صفقة) قبل طيبها، صح البيع وذلك كما لو اشتراهما في صفقة واحدة، لأن الثمرة تبع، ومنع ذلك ابن عبد الحكم، والمغيرة، وابن دينار. فرع: إذا اعتبرنا بدو الصلاح فهو معتبر في كل نوع يطيب بعضه، وهل يتعدى إلى الحوائط المتعددة له، لأنها في حكم الحائط الواحد لإمكان هدم الجدار، أو يعتبر كل واحد من الحوائط بحكم نفسه قولان في المذهب (وأصل المذهب) إجراء ذلك في النوع الواحد مطلقًا لتقارب الوقت غالبًا، واختلفوا هل يباع نوع بطيب آخر أم لا؟ والجمهور أن كل نوع معتبر بنفسه، وشد الليث وغيره فجعل طيب نوع جاريًا في غيره وسار إليه. فرع: إذا قلنا إن طيب بعض النوع معتبر في باقي ذلك النوع فهم فيما يتقارب زمانه، وأما الباكور الذي لا يتقارب زمانه، فلا يباع جميع النوع بطيب أوله لتباعد الزمان. فرع: إذا كانت الأشجار مما يطعم بطنين في سنة واحدة، ففي جواز بيع البطن الثاني ببدو صلاح الأول روايتان: الظاهر، المنع، وظاهر كلام

القاضي جوازه، ويكون للمشتري إلى آخر إبانه، واشترط أصحابنا في (بيع) بطون الموز أن يضرب الأجل لآخره، (لأنه يبقى سنين عديدة فيحتاج إلى مدة معلومة)، وأجاز مالك أن يباع أول بطن من القرظ والقضب ونحوه بطيبه، واختلفوا هل يجوز اشتراط الخلفة أم لا؟ وتحصيل المذهب في ذلك أنها إن كانت غير مأمونة فلا يجوز اشتراطها بلا خلاف، وإن كانت مأمونة فهل يجوز اشتراطها أم لا؟ قولان في المذهب فإذا أجزنا اشتراطها، فهل يشترط خلفات معدودة أو يجوز اشتراطها إلى أن تفنى قولان في المذهب المشهور اشتراط العدد وأجاز الشيخ أبو القاسم بن الجلاب اشتراطها إلى أن تفنى. قوله: "ولا يجوز شراء الكتان إذا استثنى البائع حبه، ولا القرظ واستثنى برسيمه". وهذا كما ذكره، وهو مبني على أصلهم في المستثنى هل هو مبقى على ملك للبائع أو [الـ] مشتري والأصل مختلف فيه، وبيع الحنطة في سنبلها ممنوع، لأنه بيع ما لم تعلم صفته، وأجاز بيع الباقلاء، والجوز، واللوز، في قشره جريا على العادة واختلفوا في جواز بيع السنبل مع حبه فأجازه جمهور العلماء من أهل المدينة، ومنعه الشافعي لأنه من باب الغرر كبيع

الزرع في تبنه بعد درسه، (وأجاز مالك بيعه في تبنه بعد درسه) جزافًا، والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور ما رواه نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض وتأمن العاهة، نهى البائع والمشتري" قوله: "ومن باع أصل نخل وفيها ثمر مؤبرة فثمرها للبائع": قلت: اختلف الفقهاء في الثمار هل تتبع الأصول أم لا؟ فقال أبو حنيفة الثمرة للبائع قبل الإبار وبعده، ولا تتبع الأصول عنده بحال، وقال ابن أبي شبرمة هي للمشتري مطلقًا أبرت أم لا، وهذا بناء على (نفي) التبقية المحضة، وفرق مالك بين أن تؤبر أم لا؟، فإن أبرت فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، وإن لم تؤبر فهي للمشتري بالعقد من غير شرط اعتمادًا على ما رواه ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع).

فرع: اختلفوا إذا أبر بعضها دون بعض، (تحصيل) مذهب مالك أنهما إن كانا متساويين أعطى كل واحد منهما حكمه، وإن كان إحداهما تبعًا فهل يعطى حكم نفسه أو حكم متبوعه قولان. (كما حكى) القاضي، وإبار الزرع فركه، وقيل: ظهوره، وبالأول قال ابن القاسم. قوله: "والزرع الصغير (إذا لم يظهر) إذا بيعت الأرض وسكت عنه، فقيل للبائع، وقيل للمشتري"، قلت: إذا أطلق لفظ البيع في الأرض فقد نصوا على أن البناء والشجر مندرج تحت الأرض، واتفقوا على أن الظاهر من الزرع الذي أفرك، أو قارب الإفراك غير داخل. واختلفوا في الذي لم يظهر لصغره، أو فيما ظهر ولم يتبين ظهوره، وفي الحجارة هل تندرج) تحت لفظ الأرض أم لا؟ والمعول عليه أنها إن كانت مخلوقة في الأرض اندرجت، واختلفوا إن كانت مدفونة لدافن، والخلاف فيه مبني على الخلاف فيمن ملك ظاهر الأرض هل يملك باطنها أم لا؟ قولان، وكذلك لفظ البستان تدخل فيه الأشجار، ولفظ الدار لا يتناول المنقولات وإنما يندرج تحت (الثوابت)

كالأبواب والأشجار، (والرفوف) والسلاليم المبنية بالمسامير، وبالطين دون المحلولة، وسنذكر حكم مال العبد في التبعية، (وأصل المذهب) أنه لا يتبع إلا بالشرط. قوله: "وبيع الثمار على رؤوس النخل جائز فإن استثنى بعضه فعلى وجهين"، قلت: اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يبيع الرجل ثمر حائطه، ويستثنى ثمر نخلات معينة. واختلفوا هل يجوز أن يستثني منه كيلاً معلومًا، فمنع من ذلك فقهاء الأمصار لانه من باب الثنيا فاتقوا فيه الغرور (لأنه استثناء) مكيل من جزاف، وأجازه مالك وأهل المدينة في الثلث فما دونه، ومنعوه فيما فوق الثلث، وكذلك اختلفوا في الصبرة تباع جزافًا هل يجوز أن يستثني منها كيلاً معلومًا، فمنعه الجمهور، وأجازه مالك، كالنخل، وأجاز أيضًا استثناء الجلد والسواقط من الأطراف التي لها قيمة يسيرة من الحيوان الذي لا يجوز ذبحه، واختلفوا في استثناء ما له قيمة، والمشهور المنع، وأجاز ابن حبيب أن يبيع الشاة، ويستثني الرأس والأكراع، واختلف قول مالك إذا استثنى منها أرطالاً معلومة، فروى عنه

ابن وهب منع ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنه أجازه في الأرطال اليسيرة فقط (والجمهور) على الامتناع كالصبرة (وثمرة) الحائط يستثني منها مكيله. قال القاضي رحمه الله: "فصل في العرية": اختلف أهل اللغة لم سميت بذلك، فقيل: لأنها عريت من الثمن، وقيل: لإعراء النخل عن الثمرة بالهبة، وقيل: لإعرائها من المساومة عند البيع، وقيل: هي مشتقة من قولهم عروت الرجل إذا قصدته تلتمس معروفه، والعرية في الشرع إعطاء الثمرة على وجه مخصوص، وقال القاضي: العرية أن يهب الرجل ثمرة نخله أو نخلات من حائطه لرجل قال الأبهري: وهي من فعل المعروف، واتفق العلماء على أنها خارجة عن الأصول مستثناة من أصول ممنوعة، واختلفوا في وجه الرخصة فيها، فقال مالك: الرخصة فيها للمعري خاصة من وجوه، لأنه فيها أنواعًا من المزابنة والتفاضل في الحال والمئال والتسمية (وبيع الطعام بالطعام إلى أجل)، وقال الشافعي الرخصة فيها للمعري، ولغيره من كل من أراد شراؤها للضرورة (إلى أكل الرطب، وقال أبو حنيفة: الرخصة فيها

من حيث إن فيها رجوعًا في الهبة على صفة مخصوصة) إذا كان الموهوب لم يقبضها، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرية أن تباع بخرصها تمرًا يأكلها أهلها رطبًا وفي هذا دليل على أن الرخصة فيها عامة لأن كل من اشتراها فهو من أهلها، وقيل: هو للمعري فقط، وإذا قلنا بمذهب مالك فلها خمسة شروط: الأول: أن تزهى. والثاني: أن تكون أقل من خمسة أوسق روايتان للشك الواقع في الحديث المتضمن جوازها، ولا خلاف في امتناع ذلك في الزائد عليها. والثالث: أن يشتريها بالتمر، فإن اشتراها بالعين فهل يجوز يجوز أم لا؟ قولان المشهور المنع قصرًا للرخصة على موردها، والشاذ الجواز ملاحظة لمعنى الترخيص وهو قول (المخالف). والرابع: أن تكون التمرة مؤجلة إلى الجذاذ فإن عجلت بشرط لم يجز، ولو تطوع بتعجيله بعد العقد جاز، وإنما اعتبرت هذه الشروط لأن باب الرخصة أن تقصر على ما وردت عليه، ولا يخرجها عن ذلك، وأوجب الشافعي أن يعطي التمر نقدًا فإن أخرت لم يجز عنده، فإذا ثبت جوازها فهي مقصورة على النخل والعنب عند مالك، وروى عنه أنها جائزة فيما ييبس ويدخر كالجوز واللوز والتين (والفستق) وغيره، واختلف المذهب في وضع

الجوائح فيها على قولين قال ابن القاسم فيها الجائحة. وقال أشهب ليس فيها جائحة. تنبيه: عجبًا (من أبي حنيفة كيف جوز) العرية وجعلها من (أصول) مستثناة في النهي عن الرجوع في الهبة، ولم يقع فيها استثناء من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يجعلها مستثناة مما استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم. وههنا فروع تتعلق بالعرية: الأول: إذا تعددت الحوائط فأعراه من كل واحد منها قدر خمسة أوسق فما دون، فهل يجوز أن يشتري من كل واحد خمسة أوسق اعتبارًا له بحكم نفسه، أو يجعل جميعها كالحائط الواحد فلا يشتري من جميعها إلا خمسة أوسق فيه ثلاثة أقوال بين المتأخرين فاختار الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وتلميذه أبو بكر بن عبد الرحمن أنها كالحائط الواحد، ورآى الشيخ أبو الحسن بن القصار أن لكل واحد منها حكم نفسه، فيشتري من كل واحد منها خمسة أوسق، وفرق الشيخ أبو القاسم بن الكاتب قال: إن كانت العواري كلها بلفظ واحد، في زمان واحد، فالحوائط المختلفة كحائط واحد، وإن كانت في أوقات مختلفة بألفاظ مختلفة أعطى كل واحد حكمه. المسألة الثانية: شراء المعري بعض عريته هل يجوز أم لا؟ فيه قولان مبنيان على تحقيق العلة. المسألة الثالثة: إذا أعرى جماعة شركاء في حائط واحد عرية فهل يجوز لأحدهما أن يشتري حظ الآخر من العرية أم لا؟ قولان، منعه ابن الماجشون

لخروجه عن محل الرخصة، وأجازه غيره. المسألة الرابعة: اختلفوا في زكاة العرية والهبة، فقيل: على الموهوب والمعرى، (وقيل: على المعري)، وكذلك اختلفوا في السقي، فقيل: على المعرى، وقيل: على المعري، وقال: محمد لا خلاف أن السقي على المعرى، والخلاف صحيح مبناه على لفظ العرية هل يقتضي التزام الزكاة، والسقي أم لا؟ وهو الصحيح. المسألة الخامسة: اختلفوا في حوز العرية، فقيل: الإبار، وقيل: تسليم الرقبة قاله أشهب في كتاب محمد، وقال ابن حبيب: لا يتم حوزها (إلا باجتماع أمرين أن يكون في النخل ثمرة، وأن يقضيها الموهوب). قال القاضي: "والجوائح (موضوعة) " إلى آخره. شرح: اختلف الناس في وضع الجوائح فقال مالك: وأصحابه بوضعها، (وأنكرها) أبو حنيفة، والشافعي، والثوري، والليث، والدليل على وضعها ما خرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتباع تمرًا فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئًا فبم يأخذ أحدكم من

مال أخيه) الحديث، ومن طريق المعنى أنه مبيع بقى على البائع فيه حق توفيه السقي، فكان ضمانه منه كالصبرة تشتري على الكيل، وضعف الشافعي حديث جابر، وكان يقول أنه اضطرب في ذكر الجوائح فيه، قال: فإن ثبت حديثه وجب وضعها في القليل والكثير. واحتج من أسقط القضاء بحديث أبي سعيد الخدري قال: أجيح رجل في ثمار ابتاعها، وكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك) ولحكمه صلى الله عليه وسلم بالجائحة، وزعم بعض أهل العلم أن الأمر بوضعها كان قبل النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وتأول مالك وأصحابه حديث أبي سعيد على أن البائع عديم، أو على أن المقدار الذي أصيب من التمر حينئذ لا يقضى فيه بالجائحة لقلته، أو على أن تكون الجائحة أصابت الثمرة بعد طيبها وبعد جذاذها، ولا يقضى بالجوائح التي تصيب حينئذ، وهذه تأويلات لا عاضد لها. فصل: إذا ثبت القضاء بالجوائح فذهب معظم الثمرة لزم المشتري بقية الثمرة بحصتها من الثمن بخلاف الطعام يشتري على الكيل، ثم يذهب معظمه فلا يلزم المشتري باقية، لأن الجوائح معتادة في الثمار، فالمشتري قد دخل

عليها بخلاف الاستحقاق، أو نقص الطعام، فإذا تقرر ما ذكرناه، فالقول في الجوائح ينحصر في فصول: الفصل الأول: فيما يعد جائحة وما لا يعد. الفصل الثاني: في محلها في المبيعات. والفصل الثالث: في قدرها. والفصل الرابع: في زمان القضاء بالجائحة. والفصل الخامس: في كيفية الرجوع. فأما الأول فيما يعد جائحة، فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال ابن القاسم الجائحة ما لا يستطاع دفعه وإن علم به، وقال مطرف وابن الماجشون الجائحة ما أصيب الثمرة من السماء، وأما ما كان من صنع الآدمي فليس بجائحة. وتحصيل (المذهب) فيها على أنها (على وجهين أحدهما أن تكون من فعل الله تعالى، والثاني من فعل الآدمي فالأول) على وجهين إما أن تكون من قبل الماء، أو من قلته، فإن كان من قبل الماء) وقلته كالعطش، فاتفقوا على أنها جائحة، وهذا القسم من أقسام الجوائح. اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة على القضاء بها، ويوضع قليله وكثيره بلا خلاف عندنا (وإن كان) من قبل الماء لكثرته فهو نوع من العفن. قال ابن القاسم يوضع قليله وكثيره وأما ما كان من فعل الله، وليس من قبل الماء كالبرد الشديد، والحر، والريح، والعفن والجراد، وانكسار الأشجار فلا خلاف عندنا أنها جائحة. وأما ما كان من فعل الآدمي فلا يخلو أن يكون مما يستطاع دفعه

كالسارق، أو مما لا يستطاع دفعه كالجيش، والخلاف في القسمين منصوص في المذهب، ومذهب ابن القاسم أن الجيش والسارق جائحة، وقال صلى الله عليه وسلم: (أرايت إن منع الله الثمرة) وظاهر ذلك اختصاصها بالأمور السماوية، وهو قول مطرف وابن الماجشون. الفصل الثاني: في محلها وهي (جارية) في الثمار بلا خلاف، وهل تجري في البقول، سيأتي القول فيه، وتحصيل القول الكلي فيها أنها جارية في كل ما يحتاج إلى بقائه في أصوله لتمام إصلاحه، واستكمال طيبه كالتين والعنب، والخوخ، والزيتون، والرمان، والياسمين، والورد، ونحوهما ما له ساق (ثابت) وأما ما لا يحتاج إلى بقائه في أًوله (كالتمر اليابس، والزيتون المستكمل فلا جائحة اتفاقًا، لأن طيبه قد كمل، واختلف الرواية في قسم ثالث دائر بين القسمين وهو ما احتيج إلى بقائه في أصله لحفظ) نضارته لا لتمام صلاحه (هل يقضى فيه بالجائحة أم لا؟، فروى أصبغ عن ابن القاسم ما يدل على أنه لا جائحة فيه بناء على أن المراعى كمال الصلاح)، ومقتضى رواية سحنون أن الجائحة موضوعة فيه، واختلفوا في البقول هل توضع فيها الجائحة أم لا، قولان مشهوران، في المذهب وإذا قلنا إنها توضع فيها، فهل هي معتبرة فيها بالثلث كالثمار أم توضع في قليلها وكثيرها قولان مشهوران أيضًا. الفصل الثالث: في قدرها، والمعتمد عليه في مذهب مالك أنها

(إنما) توضع إذا بلغت الثلث (فإن قصرت عنه فلا توضع وقد ذكرنا الاتفاق في العشر، والاتفاق في البقول، وإذا قلنا باعتبار الثلث) فهل المقصود ثلث القيمة، أو ثلث المكيلة فيه تفصيل، تحصيله أنه إن كان مما يحبس أوله على آخره، وتختلف قيمته بحسب أوله وآخره، فالمعتبر فيه ثلث القيمة اتفاقًا، (وإن تساوى) ولم يكن مما يحبس أوله على آخره، فهل المعتبر ثلث المكيلة، أو ثلث القيمة قولان في المذهب والصحيح من مذهب ابن القاسم اعتبار ثلث المكيلة، ومذهب أشهب اعتبار ثلث القيمة، لأنها المقصود من المكيلة. واختلفوا في فروع: الأول: إذا كانت الثمار أجناسًا مختلفة فوقعت الجائحة فهل يعتبر كل جنس على حدته، أو تكون الجائحة المقدرة بالثلث معتبرة بالجميع قولان في المذهب، وهل يعتبر في ذلك ثلث المكيلة أو ثلث القيمة، فيه أيضًا ما قدمناه. فرع: إذا تزوج امرأة بثمرة فأجيحت فهل يقضي بالجائحة في ذلك البيع أم لا؟ لأنه من عقد معاوضة ومكارمة قولان. قال ابن القاسم: لا جائحة فيه، وقال ابن الماجشون: فيه الجائحة كالرد بالعيب، وقد ذكرنا الخلاف في العرية هل يقضي فيها بالجائحة أم لا؟ على قولين في المذهب. الفرع الثاني: إذا باع ثمر حائطه، واستثنى منه مكيلة معلومة، ثم أجيحت الثمرة فهل توضع من العدد المستثنى بقدره أم لا؟ فيه قولان في المذهب. (قال ابن وهب لا يوضع من ذلك قيلاً أو كثيرًا، وروى ابن القاسم وأشهب أنه يوضع عنه بقدره) وقال ابن القاسم مرة أخرى إن قصرت الجائحة عن

الثلث لم يوضع (عن المشتري) شيئًا، وإن بلغت الثلث وضع عن المشتري بقدره. الفرع الثالث: إذا اشترى الأصل والثمرة في صفقة واحدة فلا جائحة، لأن الثمرة تبع، ويجري الخلاف فيها على الخلاف في الاتباع (هل يراعى) وإن اشترى الأصل، ثم اشترى الثمرة فإما أن تكون بعد بدو الصلاح أو قبله، فإن كان بعد بدو الصلاح فالعقد صحيح، وفي وضع الجائحة قولان مبنيان على الاتباع، وإن كان قبل بدو الصلاح ففي صحة العقد قولان: الظاهر الفساد، ومن (أجاز ففي) وضع الجائحة حينئذ قولان، وإن اشترى الثمرة أو لا، ثم (أتبعها) الأصل نظرت فإن كان الشراء قبل طيب الثمرة فالبيع فاسد، ولا جائحة حينئذ إلا أن يشتريها على القطع، ثم يتبعها الأصل من غير تراخ، فالتبقية جائزة، وإن كان بعد طيبها، فالجائحة موضوعة فيها (لأنها مقصودة). قال القاضي رحمه الله: "قد بينا (تحريم) التفاضل في الجنس الواحد". شرح: تكلم في هذا الفصل على (جمل) من أحكام الصرف، وهو مشتق من الصريف، وهو الصوت وسمى بذلك لتصويت (النقد عند

طرحهما). وذكر أهل العلم أن هذه اللفظة لم تقع في كتاب ولا في سنة، إلا في حديث عبادة بن الصامت (التمس مني صرفًا). والصرف في الاصطلاح: عبارة عن بيع أحد النقدين بخلافه. فإن بيع بمثله فهو مبادلة إن كان عددًا، أو مراطلة إن كان وزنًا بالصنجة أو الكفة. والأصل في وجوب التناجز في الصرف ما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضه على بعض). وقال في الفضة: نحوه: (ولا تبيعوا غائبًا بناجز) وقال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب إلا ها وها مثلاً بمثل) وقد

اتفق العلماء على أن الإشارة بقوله: (ها وها) إلى سرعة المناجزة، وهل ذلك عبارة عن المجلس أم لا؟ اختلف العلماء فيه، فقال أبو حنيفة والشافعي: إذا تعاقدا وطال الأمر بينهما في المجلس من غير تقابض، فالعقد (بينهما) جائز، وذلك تناجز ما داما في المجلس لم يفترقا وهؤلاء جعلوا التناجز عبارة عما يكون في المجلس وإن طال، وقل مالك إن طال الأمر بينهما في المجلس من غير تقابض فسد الصرف (سبب الخلاف اختلافهم) في قوله: (ها وها) واختلفوا إن كان التأخير غلبة هل يفسخ الصرف أم لا؟ فيه قولان في المذهب، واتفقوا على فساده إذا وقع التأخير اختيارًا. وههنا فروع تتعلق بالمتاجرة. فرع: اختلفوا في المواعدة في الصرف على ثلاثة أقوال في المذهب: الأول: المنع قال أصبغ في ثمانية أبي زيد، فإن وقع ذلك فسخ قياسًا على المواعدة (على النكاح) في العدة. والثاني: الجواز مطلقًا (قاله) ابن نافع في السليمانية، قال ما علمت أحدًا أكرهه، وليس كالمواعدة في العدة لأن تتميم العقد في النكاح محرم، وتتميم العقد في الصرف هو المقصود (فافترقا وامتنع) الإلحاق، والثالث الكراهية هو المشهور عن مالك، وهو اختيار ابن القاسم مراعاة للخلاف.

والمسألة الثانية: اختلفوا في الخيار في الصرف، وفيه قولان في المذهب: المشهور، المنع والشاذ الجواز، حكاه أبو اسحاق بن شعبان في الزاهي عن المذهب، وبه قال (أبو زيد) وغيره من المخالفين ومبناه على الخلاف في بيع الخيار هل هو على الحل أو على العقد؟ المسألة الثالثة: الوكالة على العقد والقبض جائز وعلى القبض فقط، وعلى العقد فقط ممنوع إل أن يكون الموكل حاضرًا وقت القبض فهل يجوز توكيله على القبض بمحضره أم لا؟ قولان (في المذهب) المشهور اشتراط قبض الموكل نفسه، والشاذ جواز قبض الوكيل بحضرته وهو خلاف في حال. قوله: "ولا تجوز فيه (نظرة ولا) حوالة ولا حمالة" وهما كما ذكره لأن ذلك داع إلى التراخي فإن أعطى الحميل فيه على الاستحقاق جاز،

وأما أخذ الحميل بأحد النقدين ممنوع، واختلف المذهب هل من شرط التناجز أن يفترقا بعد التقليب أم لا؟ المشهور أنه شرط، وإن افترقا على غير تغليب ففي كتاب محمد الصرف منقوض، وإن وجدها خيارًا، وروى عن مالك الصرف جائز إذا كانت خيارًا، وكذلك اختلفوا هل يجوز الصرف على التصديق والمشهور المنع بناء على اعتبار المثال، وأجازه أشهب. فرع: هل من شرط التناجز حضور النقدين أم لا؟، واختلف المذهب فيه على قولين وتنبني عليه فروع: الأول: صرف ما في الذمة، والصرف على الذمة، أما صرف ما في الذمة ففيه اختلاف مشهور، وتحصيل القول فيه أن ما في الذمة إما أن يكون (حالاً أو مؤجلاً، وإما أن يكون من جانب واحد أو من جانبين؟، فإن كان حالاً من جانب واحد فقولان: الأشهر، الجواز، والشاذ المنع، وإن كان حالاً من جانبين ففيه قولان أيضًا وهو من نوع المقاصة والاقتضاء، وإن كان مؤجلاً فالمشهور منعه مطلقًا كان) من جانب واحد، أو من جانبين، وأجازه الشيخ أبو اسحاق بن شعبان لأنهما متناجزان في المعنى، وأما الصرف على الذمة فصورته أن يتعاقدًا على الصرف، ويستسلف كل واحد منهما ما عقد عليه، وهو ممتنع إن كان ذلك من الجانبين للتراخي الممتنع في عقد

الصرف وإن استسلف أحدهما، وكان نقد الآخر حاضرًا ففي المذهب قولان: الجواز، والمنع مبنيان على علم أحد المتبايعن بالفساد هل يفسد العقد أم لا؟ فرع: اختلفوا في صرف المغصوب على ثلاثة أقوال منهم من جوزه في المسكوك والمضروب وغيره، ومنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه في المسكوك دون المصوغ، ومبنى الخلاف على الخلاف في الدنانير والدراهم هل تتعين أم لا؟ ولا خلاف في المذهب أنها تتعين إذا ظهر (قصد) التعين، وكذلكط اختلفوا أيضاً في جواز صرف (الرهن* والمستعار (والمستودع) على قولين: الجواز، والمنع. قوله: «فإن تقابضا نقودًا أحدهما رديًا أو زائغًا فأراد رده بطل الصرف، وله أن يمسكه ولا (يبطل الصرف)» وهذا كما ذكرناه، وتحصيل القول فيه أنه لا يخلو إما أن يقوم بزائف أم لا؟ فإن قام به فهل يجوز له البدل، ولا ينتقض الصرف أو لابد من انتقاضه فيه قولان في المذهب المشهور الانتقاض، (وأجاز) الليث، وابن وهب، وأشهب رواية عن مالك (البدل، وقال

أحمد) يكون شريكًا له بمقدار الزائف، وإذا قلنا (بالانتقاض) فهل ينتفض جميعه، أو ينتقض منه مقدار الزائف فقط، فيه خلاف في المذهب والشهور أنه ينتقض جميعه، وقيل: ينتقض منه ما قابل الزائف وحده، وقيل: ينتقض ما قبل دينارًا واحدًا إن قابله النقض، فإن زاد انتقض على صرف دينار انتقض منه صرف دينارين، وهذا إذا سمى لكل دينار ثمنًا، (فإن لم يسم لكل دينار ثمنًا) انتفض الصرف كله، وهو اختيار الشيخ أبي القاسم بن الجلاب وابن أبي زمنين (والشيخ أبي إسحاق والشيخ أبو القاسم بن محرز)، والقاضي أبو الوليد، وقيل: إذا كان النقض يسيرًا انتفض منه ما قابله وحده أو ما قابل دينارًا واحد على قول آخر، وإن كان النقض كثيرًا انتقض جميعه، وقيل: إن وجد النقص بعد (المفارقة) والطول انتقض الصرف كله، وإن وجده بالحضرة فلم يرض به فله البدل ناجزًا، ولا ينتقض الصرف، ومبنى المسألة على الخلاف في العقدة إذا اجتمعت حلًالا وحرامًا هل يفسخ جميعها أو يفسخ منها ما قابل الحرام فقط، وأما لو رضي بالزائف فلم يقم به فروي ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك أن الصرف (لا ينتقض) وروى ابن المواز عنه أن الصرف منتقض، وقد روى عنه التفرقة بين اليسير والكثير، فأجازه في اليسير، ومنعه في الكثير. وإذا فرقنا بين اليسير والكثير، فقد اختلف في حد اليسير فقيل

الدانق، وقيل: ما تختلف (به) الموازين، واختلف في النحاس، والرصاص، هل يجعل كالمغشوش أو كالعدم إذا كان التعامل معه متعذرًا البتة، واختلفوا إذا قال له بعد العقدة زدني، هل تعد هذه الزيادة هبة محضة، أو ملحقة بالصرف فلها حكمه فيه قولان. وثمرة هذا الخلاف إذا وجد الزيادة زائفًا هل له رده أم لا؟ قولان، وإذا قلنا: بالرد انتقض الصرف على المشهور من أقوال المتأخرين، وقال سحنون: القيام كالرد، ولابد من فسخ الصرف، وإا أجزنا (المصالحة) عن الرد، فيختلف هل يجوز بكل شيء نقدًا أو إلى أجل أو يشترط فيها النقد وأن يكون من جنس ما يباع به النقد فيه قولان في المذهب المشهور اشتراط ذلك، والشاذ عدم اشتراطه. قال القاضي رحمه الله: «ويجوز اقتضاء الذهب من الرق والورق من الذهب إذا حلا»: قلت: هذا الذي ذكره (بناء) على الأصل الذي حكيناه عن المذهب أن صرف ما في الذمة جائز إذا كان حالًا، وهو مشهور المذهب وجعلوا حلوله على المشهور محضوره من الجهتين، واشترط القاضي حلولهما معًا وهو المشهور. وتحصيل المذهب في اقتضاء أحدهما عن الآخر أنهما إن كان حالين فقولان: الجواز، وهو المشهور، والمنع وهو الشاذ، وإن لم يحلًا معًا فقولان المشهور المنع والشاذ الجواز، وكذلك إذا حل أحدهما دون الآخر ففيه الخلاف الذي ذكرناه. وصح عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما منعا اقتضاء أحدهما عن

الآخر حلا أو لم يحلا اعتمادًا على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد وغيره: (ولا تبيعوا غائبًا بناجز) وأجازه أبو حنيفة وإن لم يحل الأجل نظرًا إلى المتاركة الناجزة، وفي حديث ابن عمر قال: (كنت أبيع الإبل بالبقيع أبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأخذ الدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس به إن كان بسعر يومه) خرجه أبو داود في السنن. قوله: «ولا يجوز في الذهب بالذهب (أو) الفضة بالفضة أن يكون مع أحدهما غيره قليلًا كان أو كثيرًا» إلى آخره. شرح: وهذا كما ذكره وعقد هذا الباب على مذهب مالك أن كل جنس فيه الربا إذا بيع بمثله فلا يجوز أن يكون مع أحد الجنسين غيره، ولا معهما جميعًا سواء كان ذلك الغير مما فيه الربا، أو مما لا ربا فيه، وأجاز ذلك أبو حنيفة وغيره، فيجوز على نص مذهبه أن يباع (صاع) من ثمر وثوب صاعي تمر، وقابل الصاع بالصاع، والثوب بالصاع الآخر، وكذلك أجاز دينارًا ودرهمًا بدينارين على المقابلة (الحكيمة)، وهو ممتنع على مذهب مالك، لأنه تفاضل معنوي كما نص عليه القاضي والدليل على ما (ذهب إليه القاضي) ما رواه فضالة بن عبيد قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم

خيبر) بقلادة فيها ذهب وخرزًا ابتاعها بتسعة دنانير، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا حتى تميز بينهما) فقال: إنما أردت الحجارة فقال: لا حتى تميز بينهما) وهذا نص في محل الخلاف). قال القاضي رحمه الله: «ولا يجوز دينار ذهب عال ودينار دون بدينارين (وسط)»: وهذا كما ذكره القاضي ون ذلك داخل تحت التفاضل المعنوي، وأصل المذهب أن المبادلة في النقدين يطلب فيها التساوي، ولها بعد ذلك وجهان: إما العدد، وإما المراطلة، والتسوي هو الأصل فيهما من غير زيادة ولا نقصان، كانت الزيادة من جنس ما تراطلًا به، أو من غير جنسها لأنهم أجازوا أن يبدل الناقص بالوازن على وجه المعروف والرفق في اليسير دون الكثير مع تساوي الفضتين، أو الذهبين، وإنما خصوه باليسير بناء على أن العادة تقتضي المسامحة في اليسير دون الكثير، ولم يختلف (المذهب) أنه ممتنع في الكثير، واختلف في حديث اليسير، فقال بعض المتأخرين في ضبط ذلك أما الثلاثة دنانير فيجوز قولاً واحدًا، وأما فوق ستة دنانير فيمتنع قولًا واحدًا، وما بين ذلك ففيه قولان الجواز والمنع والتحديد بناء على العادة. قال القاضي رحمه الله: «الدينار والدينارين في حد اليسير وقيل الثلاثة»: وفي كتاب محمد الستة دنانير، واختلفوا في حد النقص أيضًا

فقيل: (الدانق)، وقيل: الدانقان وهو خلاف في حال. فرع: إذا اشترطنا تساوي النقدين فكان الأنقص أطيب امتنعت المبادلة اتفاقًا لخروجها عن باب المعروف إلى المكايسة، وإن كان الأرجح أفضل فقولان: الجواو لابن القاسم، لأنه أبلغ في المعروف، والمنع لمالك لأمرين أحدهما الرجوع إلى حكم الأصل، ومقتضاه مع التفاضل بين الذهبين، فخرجت الصورة المتفق على جوازها، وهي مع تساوي النقدين، ورجع ما عداها إلى حكم الأصل، (وثانيهنا اعتبار المثال) لاختلاف نفاق السكة في (المثال)، فيتوهم فيه المكايسة، وكذلك روى عن مالك منع اقتضاء السمراء من المحمولة، واقتضاء القمح من الشعير قبل الآجل إذا كان من قرض اعتبارًا بالمثال، والصح جوازه. قوله: «وتجوز المراطلة وهي الذهب بالذهب متماثلاً في الميزان بغير صنجة» وهذا كما ذكره، لأن المطلب من التماثل حاصل باستواء المكفتين، واختلفوا في فروع: الأولى: اختلف المتأخرون في المراطلة بالمسكوك قبل أن يعلمك وزنه، وفيه قولان: المنع، لنه جزاف، والجواز اعتبارًا بتساوي الكفتين. الفرع الثاني: اختلفوا في السكة والصياغة هل (هي معتبرة في المراطلة

كما في الاقتضاء، لأنهما مقصودان، أو غير معتبرة قولان بين المتأخرين، فإن اعتبرناها امتنع مراطلة المسكوك والمصوغ بغيره من التبر والمسكوك، وإن لم نعتبرها أجزنا ذلك، والأول أصح لأنها مقصودة فيدخل ذلك تحت التفاضل المعنوي كسلعة وفضة، بسلعة وفضة. الفرع الثالث: إذا اختلفا في الجودة والرداءة، واختلطا في الكفتين امتنعت المراطلة وإن انفردا فكان الرد~ كله في كفة واحدة، والجيد في كفة أخرى، جازت المراطلة لحصول التساوي وزنا. قوله: «ولا يجوز أن ينضم إلى الصرف عقد بيع إلا في (اليسير) يكون تبعًا» قلت: اختلف (المذهب) في اجتماع الصرف والبيع على ثلاثة أقوال: المنع مطلقًا في اليسير والكثير، والثاني الجواز مطلقًا في اليسير والكثير، وهو قول أشهب، واستقرأه اللخمي من كتاب محمد، والثالث جوازه إن كان أحدهما يسيرًا، ولا يجوز ذلك في الكثير، وذلك النكاح والبيع والقراض والمساقاة، وهذه العقود المختلفة الأحكام على القولين المشهور المنع، والشاذ الجواز، وإذا قلنا بالمنع فله علتان أحدهما أنه معلل باعتبار المثال لإمكان الاستحقاق، فيقع التأخير في الصرف، والثاني: أنه معلل بتناقض الأحكام وإذا فرعنا على اعتبار الجواز في اليسير فكان البيع، والصرف في دينار واحد، فهل يطلب فيه أن يكون أحدهما تبعًا للآخر أم لا؟ قولان في المذهب المشهور أنه لا يعتبر ليسارة الدينار في نفسه، وقيل: إنه معتبر، وإذا قلنا بالاعتبار، فما مقدار اليسير، قال في كتاب محمد الثلث فما

دونه، قال القاضي أبو محمد الدرهم فما دونه، وقال: في موضع آخر نصف الدرهم، وحصله بعض المتأخرين قال: إما أن يكون الصرف إلا فيما دون الدينار، فإن كان البيع أكثر، والصرف أقل فلا خلاف أنه لا يجوز أن يكون الصرف تبعًا أو البيع تبعًا، وإن كان الصرف أكثر والبيع تبعًا جاز، واختلفوا في قدر ذلك فمنهم من اعتبر أن تكون قيمة العرض أقل من صرف دينار كما يعتبر في الدراهم قدر ذلك، وهو اختيار الشيخ أبي موسى بن مناس، واعتبر بعضهم الثلث حكاه الشيخ أبو القاسم بن محرز، وقال بعضهم دون الثلث، وقال: بعض العراقيين من المالكية النصف تبع، وبالزيادة عليه يخرج من حد البيع، وهذه (الروايات) منصوص عليها في اعتبار التبعية في السيف المحلى، وهي جارية في هذا المحل). قال القاضي رحمه الله: «ومن باع بنقد أو (اقترض) ثم بطل التعامل به لم يكن (له) عليه غيره إن وجد وإلا فقيمته إن فقد»: قلت: وهذا كما ذكره أن المراعى هو النقد الذي وقع التعامل به، فإن عدم ذلك انتقل إلى قيمته، واختلف قوله مالك في الفلوس، والصحيح أنها كالدراهم إذا تعامل الناس (بها، إذ) الحكم ليس متعلقًا (بعين) النقدين، بل (بالمقصود) منها وهو متساو، ثم ذكر شراء تراب المعادن، وشراء تراب (الصواغين). وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فمنع الشافعي الوجهين، وأجازه

غيره فيهما، ومالك رحمه الله (فصل)، فأجاز شراء تراب المعادن ومنعه في الصواغين، لأنه غالبه الخطر والغرر بخلاف تراب المعادن. قال القاضي رحمه الله: «يجمع بين الغرر ثلاثة أوصاف»، إلى آخر الفصل. شرح: وقع في هذا الموضع روايتان: الرواية الصحيحة: "يجمع بين الغرر ثلاث أوصاف" (وفي رواية: "يمنع بين الغرر لثلاث أوصاف) والرواية الأولى أحسن في المعنى، والمقصود حنيئذ ضبط أنواع الغرر وهو مقتضي الفصل. وجعل القسم الثالث وهو الخطر عين الثاني وهو الجهل، ونوع قسم الجهاز (أنواعًا) والخطر راجع إلى الجهل، فأما المغايرة بينهما فلا تتحقق على ما وصفنا، وأشار القاضي إلى أن كثيرًا منها تتداخل. قوله: «فأما ما يرجع إلى تعذر التسليم فكالآبق والضالة والشرد والمغضوب» إلى آخر التمثيل أم العبد الآبق، والبعير الشارد فيمتنع بيعه مع جميع ما مثل به من ذلك، لما ذكره من تعذر التسليم والجهل بصفة المبيع، لأن ذلك كله مجهول الصفة إلا المغضوب في بعض أحواله، فإنه قد يكون حاضراً مرئياً، فإن كان الآبق (معلوم الصفة)، معلوم المكان (مثقفاً) فيه

بحيث لا يمكن فراره فتبايعاه فهو حينئذ من باب بيع (الغائب)، فيشترط فيه ما يشترط في الغائب المبيع على الصفة، فانظر كيف رجعت الأنواع الثلاثة إلى قسم الجهل، وإن اختلفت أنواعه واعتباراته. قوله: «وبيع الأجنة واستثنائها»:أما بيعها فظاهر المنع وأما استثناؤها فممتنع بناء على أن المستثنى مبيع لا مبقى على ملك البائع. قوله: «وحبل الحبلة» وهو نتاج ما تنتجه الناقة، وهو أيضاً ممتنع للتعذر والجهل معاً، وقد صح النهى عن بيع حبل الحبلة. واختلف العلماء في تأويله، فقيل: كان أهل الجاهلية يجعلونه أجلًا، فيقولون أبيعك بكذا إلى أن تنتج الناقة، وتنتج نتاجها، وقيل: هو بيع نتاج النتاج، فكانوا يجعلونه مبيعاً لا أجلًا، وكلا الوجهين محرم، والمضامين بيع ما في ظهور الفحول، والملاقيح بيع ما في ظهور الإناث، هذا هو المشهور من أقوال العلماء وهو قول (مالك) وعكسه آخرون. قوله: «وأما ما يرجع إلى الجهل فيتنوع» وجميع هذه الأنواع التي مثل بها (ظاهرة المنع) وأما قوله: بعتك ما في كمي فالجهل فيه بالذات والصفة ظاهر. قوله: «بعتك ثوابًا في بيتي» فهو كالأول في الجهل، (ويخالفه) من

حيث أن الجهل في الصورة الأول متعلق بذات المبيع وصفته، وفي القسم الثاني بصفته كما أشار إليه فإن قال له: بعتك ثوبًا في بيتي على صفة كذا فهو منوع، لأنه من باب بيع الحاضر على الصفة وعندنا قولان في جواز بيع الحاضر على الصفة، والمشهور امتناعه، لأن الرجوع إلى الصفة إنما (أحزناه) لتعذر الرؤية في الغالب بخلاف الحاضر. قوله: «ومنعه البيعتان في بيعة»: وهذا راجح إلى الجهل بذات المبيع (وثمنه وقد صح نهى النبي صلى اله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة". قوله: «ومنه بيع الحم في جلده»: راجع إلى الجهل بصفة المبيع، وذلك شرط الخيار المتد)، لن المبيع قد تغير صفته مع طول المدة غالباً. قوله: «وأما الخطر فبيع لا مرجى سلامته كالمريض في السياق، وما لا يدري أيسلم أم يتلف»: ومثل ذلك بالثمرة قبل بدون صلاحها، وقد أشار - صلى اله عليه وسلم - إلى على ذلك فقال: "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأكل أحدكم مال أخيه"والمراد شراؤه على التبقية، وأما شراؤها قبل طيبها على الجذ، والمنع تغليبًا لحكم الإبقاء إذ هو المقصود الأغلب في الثمار، وفسر القمار بيع الملامسة وهو أيضاً راجع إلى الجهل (بصفة المبيع)، وفصل القمار عن

الخطر، وجعله هنا قسمًا متميزًا بنفسه عن الخطر، وجعلهما في أول القسم قسمًا واحدًا، وفسر بيع الحصاة، وهذا كلها بيوع ثبت النهى عنها، وكانت معلومة في الجاهلية، وهي (تنيف عن الثلاثين) بيعاً فاطلبها في (كتاب شرح) الأحكام. قوله: «تأكد الغر لكثرة أسبابه ظاهر»: وانظر هل يلزم (تأكد) التحريم أم لا؟ ومبنى المسألة على نظر أصولي وهو هل ما يقال هذا أوجب من هذا، أو هذا أحرم من هذا أم لا والصحيح أنه (مقول) من جهة كثرة المحرمات، وباعتبار كثرة الزواجر، وتعد الأوامر وتضاعف الثواب (والعقاب) لا باعتبار نفس الحقيقة إذ المعقول من الواجب والحرام شرعًا لا يختلف. قال القاضي رحمه الله: قوله: «وأما ما يرجعل إلى الحال فبيع الإنسان على بيع أخيه». شرح: روى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلقوا الركبان للبيع ولا بيع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا تصوروا بالإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)

ولا خلاف بين العلماء في صحبة نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وفي الصحيح من طريق آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يبع) أحدكم على بيع أخيه ولا يسم على سومه، ولا يخطب على خطبته) وقد اختلف العلماء في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا بيع أحكم على بيع أخيه) فقال: مالك وأبو حنيفة المعنى لا يسم على سومه ورداص معنى قول صلى الله عليه وسلم: (لا بيع أحدكم على بيع أخيه) إلى معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يسوم أحدكم على سوم أخيه، وذلك إذا ركن البائع إلى (السائم) ولم يبق بينهما إلا اختبار الذهب، أو اشتراط العيوب أو البراءة، ولهذا كره بعض أهل العلم بيع المزايدة في إلحاقه خوفًا من الوقوع في لك، وقال الشافعي: معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن بيع البعض على بعض البعض إذا تم البيع بينهما باللسان، ولم يفترقا بالأبدان فأما آخر هو أن يعرض عليه سلعة هي خير منها. وقال الثوري: معنى النهى عن ذلك أن لا يطرأ رجل آخر على المتابعين قيل تمام البيع، فيفسد البيع بينهما، وهو راجع إلى ما ذكرناه، وفسره الشيخ أبو القاسم فقال: "ولا يجوز أن يبيع الرجل على بيع الرجل

وذلك أن يوقف السلعة فيركن المشتري إليه، فيأتي رجل آخر فيعرض عليه سلعة مثل تلك السلعة بأدنى من ثمنها ليفسد على البائع ما شرع فيه من البيع ولا يجوز أن يسوم على سوم أخيه، وذلك أن يدفع في السلعة ثمناً، ويركن البائع إلى عطيته فيأتي رجل آخر فيزيد للبائع إلى عطيتع فيأتي رجل آخر فيزيد للبائع في ثمنها ليفسد على المشتري"، واختلف العلماء فيهذا البيع إذا وقع، فقال قوم من أهل العلم: فمن فعله أساء ويستغفر الله وليتب، وليعرض السلعة على الذي داخل عليه فيها، فإن أراد أن يأخذها بالثمن الذي اشتراها به فليسلمها له. وقال داود وأصحابه إن وقع ذلك فسخ على كل حال، إذ النهى يقتضي فساد المنهي عنه، وهو الذي حكاه القاضي عن المذهب في البيع والنكاح، وروى عن مالك أن البيع يفسخ ما لم يفت وكذلك النكاح، وأنكره ابن الماجشون في البيع وقال: إنما قال ذلك مالك في النكاح واخنتلف العلماء هل يدخل الذمي تحت هذا النهى أم لا؟ قال الجمهور: لا فرق في ذلك بين الذمي وغيره، وقال الأوزاعي: لا بأس بالسوم على سوم الذمي، إنما ذلك للمسلم. قوله: «ومنه بيع النجش» أيضاً من الفساد الراجع إلى حال العقد كالأول والنجش في اللغة: الزيادة، وقال بعض أهل اللغة النجش مدح الشيء وإطراؤه، فمعناه لا يمدخ أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها، وهو لا يريد شراءها، وقال بعضهم؛ أصل النجش في اللغة تنفير الوحش من مكان إلى مكان، ومعناه

في البيع: تنفير الناس عن شيء ما إلى غيره، وقال بعض اللغويين: أصل النجش الختل، ومنه قيل للصائد ناجش لأنه يختال الصيد، ويحتال عليه، والنهي عن هذا البيع لما فيه من الفساد والضرر وسواء كان الناجش من سبب البائع ممن دسه يريد نفعه، أو ممن لا يريد الإضرار بالمشتري، وإن لم يقصد نفع البائع. واختلف العلماء في هذا البيع إن وقع أيضاً، فقالت طائفة من العلماء: هو مفسوخ لصحة النهي عنه، والنهي يدل على فساد النهى عنه وهذه رواية ابن الجهم (والقزويني) عن مالك، وبه قال أهل الظاهر، وقال أبو حنيفة: الناجش آثم، والبيع تام. قال الإمام عبد أبو عبد الله المشهور من مذهب مالك أنه ليس بمفسوخ كالمصراة، لأن علة النهى (معقولة)، وللمشتري الخيار بين الرد وأخذها يفيتهما ما لم تزد على الثمن وسئل مالك عن ثلاثة (شركاء في سلعة) أرادوا التفاضل فيها، فقال أحدهم لآخر: امسك عن الزيادة فيها إذا تقاومناها ليقتدي بك الثالث، وهو بيني وبينك، فنهى عن ذلك، ورآه في معنى النجش، وأجازه أصبغ وابن حبيب ولم يجعلاه نجشاً، ولا في معناه، لأن النجش

هو الزيادة، وها (إمساك) لا زيادة. وقوله: «ومنه تلقى السلع قبل أن تورد للأسواق» وصح أيضاً النهي عن ذلك، وقد اختلف العلماء في نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك هل هو لحق أهل السوق، أو لحق البائع خوفاً أن يغنيه، (أو حق عام بأن يبيعه) ويسترخص في الشراء منه، فقال مالك: لحق أهل السوق، وقال الشافعي: هوم حوطة على البائع، فإن قيل: يلزم على مقتضي قول الشافعي: أن يكون نهيه صلى الله عليه وسلم (عن التلقي) معارض لنهيه عن أن يبيع الحاضر للبادي، (إذ علة النهى عن التلقي أن لا يغبن البدوي، وعلى البيع عن بيع الحاضر للبادي أن لا يستقصى للبادي) بحيث يسترخص منه، قلنا: أجاب عنه علماؤنا رضي الله عنه، فقالوا المصلحة الراجحة العامة أولى من المرجوحجة الخاصة وبيان ذلك أن مصلحة التلقي خاصة للمتلقي، وليس مصلحته بأولى من مصلحة البائع للبادي فتعين النهى لمعنيين: الأول: رجحان جانب أهل السوق واعتبار مصلحتهم أولى. والثاني: مقابلة مصلحة المشتري المتلقي بالبائع المتلقي فحيث تساوي (النظر في) مراعاة ذلك، فإن مراعاة صاحل الملك أولى تغلبياً للأرجح، ولما كان في مباشرة

البدوي للبيع بنفسه سبيل إلى الرخص على أهل السوق، ورجح جانبه على جانب البائع البدوي، لأن الأشياء عندهم بغير ثمن فقويت المصلحة الراجحة في المجلس، (وعاد) الأصلان إلى معنى واحد. وقد اختلف العلماء في حكم التلقي إذ وقع بعد اتفاقهم على النهي عند ابتداء، وأن فاعله إن عاد إليه بعد النهي أدب، فروى ابن حبيب أن السلعة تنزع من يده، وترد (على بائعها وهو اختيار ابن المواز) وروى عن ابن القاسم أنه يؤدب وتنزع السلعة من يده وترد لأهل السوق، فيشترك فيها أهل السوق من أهل الحاجة إليها من التجار وغيرهم، فالربح له والوضيعة عليه، وروى عن ابن القاسم أنه يؤدب ولا تنزع السلعة من يده، فإذا حصل ذلك، قلت: هل تنزع السلعة من يده أم لا؟ فيه قولان عندنا، وإذا قلنا أنها تنزع فهل ترد إلى البائع أو إلى أهل السوق قولان عندنا أيضاً، ومبنى ذلك على اختلافهم في علة النهى هل هي حق للبائع أو لأهل السوق. فرع: اختلف المذهب في حد التلقي ففي الواضحة عن مالك لا تلقي السلع وإن كانت على مسيرة يوم أو يومين، وعن مالك أيضاً أنها تتلقى فيما كان بعيداً، وهو ما زاد على الميل، وقيل: عنه ما زاد على الفرسخين فلا بأس بالتلقي فيه، وجعل في (حد) اليسير. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا

تلقوا الجلب فمن تلقى منه شيئاً فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتي السوق وهذا حديث متفق على صحته، (ومقتضي القول به). قوله: «ومنع بيع الحاضري للبادي»: قلت صح النهى عن ذلك أيضاً، قال ابن وهب: ومن فعل ذلك زجر، ولم يبلغ به الأدب، وإنما ذلك ليتمكن غبنه، إذا هو جاهل بالأسعار فيترك أهل الحاضرة لاسترخاص منه، والارتفاق به، إذ الأشياء تأتيهم عفواً بخلاف أهل (الحاضرة). واختلفوا في البادي المراد في الحديث، هل كل وارد على مكان، ولو كان من أهل المدينة، وقيل: المراد به سكان البوادي فقط، والتفسيران في المذهب وعندنا فروع: مختلف فيها): الأول: لا خلاف عندنا أنه لا يبيع حاضر لبادي، وهل يشتري الحضري للبدوي أم لا؟ فيه قولان فقيل: لا يشتري له كما لا يبيع له ليتمكن للحضري غبتة ترجيحاً لأهل الحواضر في ذلك عليهم، وقيل: يشتري له، لأن علة النهى (في البيع) منتفية (في الشراء له) وهو قول ابن حبيب. الفرع الثاني: هل يخبر الحضري البدوي بالقيمة ينصحه، ويشير عليه إذا

استشاره أم لا؟ فيه قولان، فروى عن مالك أنه لا يشار على أهل البادية في بيع سلعهم التي يأتون بها إلى الحاضرة، ولا يخبرون بالسعر، وجعل إخبارهم بالسعر كالمشورة، والمشورة كالبيع، وروى عنه جواز ذلك، لنه مقتضى النصيحة الإيمانية والأخوة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه، وفي حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا بيع حاضر لبادي ذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض). الفرع الثالث: إذا وقع هذا البيع المنهي عنه، هل يفسخ أم لا؟ قولان مبنيان على النهي هل يدل على فساد المنهي عنه. قوله: «ومنه البيع يوم الجمعة بعد النداء»: وهذا البيع أيضاً منهي عنه لقوله تعالى: {وذروا البيع} واختلف المذهب في فروع: الأول: هل يفسخ هذا البيع أم لا؟ فالمشهور أنه يفسيخ مطلقاً، وعن ابن الماجشون يفسخ في حق من اعتاد ذلك وتكرر منه، وفي المجموعة لا يفسخ. الفرع الثاني: ما في معنى البيع كل مشغل كالنكاح والإجارة على المشهور. الفرع الثالث: إذا قلنا بفسخة فذلك ما لم يفت، فإن فات فهل يمضى بالثمن، إذا هو فاسد في الثمن، أو بالقيمة خوفاً من تتميم البيع الفاسد، فيه قولان عندنا. الفرع الرابع: إذا فات وكضى بالقيمة، فمتى يقوم هل بعد الصلاة، وهو

وقت الإباحة، أو وقت البيع بناء على تقدير (الجواز) لإمكان اختلاف القيم قولان عندنا، وثمرة ذلك إذا اختلفت القيمة في الزمانين. قال القاضي: رحمه الله: «وبيع الأعمى وشراؤه جائز». شرح: الأعمى يمكنه العلم (بالبيع) ذات وصفه من طريق الإخبار، فإذا حصثل عنده العلم بالمبيع جاز العقد اعتباراً بالحصحي بجامع العلم، وهذا (هو المشهور) (وقد) قال أشياخنا كل من صح منه عقد السلم صح منه بيع الأعيان كالبصير. قوله: «ومن زاد في سعر إخراج من سوق المسلمين إلا أن يلحق بالناس» إلى قوله: " وبيع العربان على وجهين" يتعلق بذلك حكم الحكرة والتسعير، والأصل في التسعير ما رواه أبو هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله سعر لنا فقال: بل ادعو الله، فجاء رجلفقال: يا رسول الله سعر لنا فقال: بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقي الله وليس لأحدعندي مظلمة) وفي حديث آخر أنه قال حين سأله:

(إن الله هو القابض والباسط المغلي، وإني لأرجو أن ألقي الله، وليس لأحد عندي مظلمة ظلمته إياه في عرض ولا مال). قال علماؤنا: والتسعير على وجهين أحدهما إن حط من (سعر) الناس أمر أن يلحق بسعرهم، أو يقوم من السوق، والثاني أن يحد لأهل السوق سعراًيبيعون عليه لا يتجاوزونه بع جمع أهل السوق (ومعاونهم)، واتفاق الجمهور على (الزيادة) في سعر ذلك، فالول في قسمي التسعير (غير جائز، والأصل في) ذلك قصة عمر بن الخطاب مع حاطب بن أبي بلتعة حين مر به وهو يبيع زبيباً له بالسوق فقال له عمر: (إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا) قال عيسى بن دينار: كان حاكب يبيع بدون سعر الناس، وهذا السعر المعتبر المجهول أصلاً يرجع إليه الناس، وهو سعر جمهور الناس لا ما ينفرد به الواحد أو العدد يسير، فيرجع الواحد والأقل للجمهور، ولا ينعكس الحال، وهل ذلك عام في كل المبيعات أو مخصوص، وقال ابن حبيب: ذلك في المكيل والموزون مأكولاً (كان أو غير مأكول دون غيره من المبيعات التي لا يكال ولا يوزن فإنما اختص المكيل والموزون) لأن الرجوع فيه إلى

المثل، فالمصلحة فيه تقتضي حمل الناس فيه على سعر واحد بخلاف (ما يرجع إلى) القيم لاختلاف الأغراض فيه ما لم يكن متماثلاً، وهذا حكم (غير) الجالب، (وأما الجالب) إلى السوق الذي ليس من الباعة الملازمين له (المترسمين)، به فهل يمنعون من النقص كما يمنع الباعة أم لا؟ وفي كتاب محمد لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس ليتسامح (فيكثر الجلب) وقيل: هم كأهل السوق مطلقاً، وقيل: كأهل السوق إلا في القمح، والشعير فيسامحون فيه خاصة لعموم الضرورة إليه. قال المصنف: قد فسر الأشياخ قول القاضي رحمه الله: «ومن زاد في سعر على وجهين» أحدهما أن يبيع أغلى من أهل السوق، والثاني أن يبيع أرخص من أهل السوق إضراراً بأهل السوق، والتفسير الأول هو الصحيح، وهو الجاري على قضية حاطب بن أبي بلتعة. والقسم الثاني من قسمي التسعير وهو أن يحد لأهل السوق حداً فهذا هو الذي اختلف فيه العلماء، فقال بمنعه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وولده سالم والقاسم بن محمد والجمهور، وهو مذهب مالك الصحيح الذي لا شك فيه، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وربيعة، ويحي بن سعيد وروي أشهب في العتبية عن مالك أنه لا بأس إذا سعر عليهم على قدر شرائهم فقال مالك لا بأس) به ولكني أخاف أن يقوموا من السوق، واحتج الجمهور بحديث أبي هريرة الذي قدمناه، وراعى في رواية أشهب المصالح

العامة، وأما الجالب فلا (يسعر) عليه، (وبيع كيف يشاء. قوله: «والحكرة ممنوعة» الأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحتكر إلا خاطئ) وقال عمر بن الخطاب: (لا حكرة في سوقنا) رواه مالك في موظئه. وحقيقة الاحتكار: هو إدخار المبيع وطلب الربح فيه بانتقال الأسواق. واللحكرة حالتان: يمنع في إحداهما وهي إذا كانت في وقت الضيق والضرورة فيمنع المحتكر (من الشراء) حينئذ من السوق، وإذا أضر ذلك (بالناس) إلا في مقدار قوته، فإنه مضطر إليه فلا يمنع منه، وتجوز في حال الكثرة، والسعة، وروى ابن المواز عن مالك أنه سئل عن التربص بالطعام وغيره رجاء الغلاء فقال: ما علما فيه نهى، ولا أعلم به بأساً يحبس إذا شاء، ويبيعه إذا شاء، ويخرجه إلى أي البلاد شاء، وقيل: لمالك فيمن يبتاع الطعام، فيجب غلاءه قال: ما من أحد يبتاع طعاماً أو غيره إلا ويجب غلاءه، قال مالك: ومما يعيبه من مضى ويرونه ظلماً منع الاحتكار إلا لم يكن مضراً بالناس ولا بأسواقه، وذلك سواء عندنا في الطعام وغيره. وروى ابن حبيب عن مالك أن احتكار الطعام يمنع في وقت الضيق والسعة، وهذا فيمن صار إليه الطعام

بابتياع، وأما من صار إليه بزراعة أو غيرها فلا خلاف في أنه لا يمنع احتكاره. فصل: إذا احتكر من منعناه الاحتكار، فهل يأمر الإمام ببيعه، ويجبرهم على إخراجه في وقت الغلاء الشديد، اختلفت الرواية فيه، فروى عن مالك أنه أنكر ذلك، وقال ما سمعته، وعنه رواية أخرى أنه لا يخرج عليهم ويباع من أهل الحاجة إليه بمثل ما اشتراه، وإن لم يعلم شراؤه فيسعره يوم احتكاره، وجميع ما يحتاج الناس إليه في ذلك سواء يمنعون من احتكاره وقت الضيق والضرورة. قال القاضي رحمه الله: «وبيع العربان على وجهين» إلى آخر الفصل، ترجم مالك رحمه الله ما يكره من بيع العربان وروى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان وفسره مالك بالوجه الممنوع الذي ذكره القاضي. وإن وقع البيع على ذلك فقال عيسى بن دينار: يفسخ فإن فات كانت فيه القيمة، وأما الاحتساب بالعربان إذا مضى البيع فجائز كما ذكر القاضي إلا أنه يشترط أن يجعل العربان على يد غير البائع، أو يد البائع مختوماً خوفاً من أن يكون (النقد) تارة ثمناً وتارة سلفاً. قوله: «والدين بالدين ممنوع إذا كان من الطرفين» تحرزاً بقوله: "إذا كان من الطرفين" من السلم.

قوله: «وما كان خارجاً عن أصله» إلى آخره إشارة إلى (الرخص إذ) لا يقاس عليها ولا يتعدى بها (محلها). وذكر المستثنيات من قواعدها وهي ظاهرة كما ذكره كالإقالة والشركة والتولية والحوالة والعرية والسلم. وفي مراسيل ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وأرخص في الشركة والإقالة والتولية) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع) وفي حديث ابن عباس: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان وأرخص في السلم). قوله: «وإذا باع مالك غيره» يتعلق به بيع الفضولي، وهو عندنا موقوف على الإذن، جائز بإجازة المالك، وقال الشافعي: هو عندنا فاسد،

والدليل (للإجازة) حديث عروة الباقي حين دفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ليشتري به شاة، فاشتري به شاة، ثم باعها بدينارين، فابتاع بأحدهما شاة فجاء بالدينار والشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه صلى الله عليه وسلم وبارك له في صفقة يمينه) ولو كان فاسداً لفسخه. ذم ذكر مسألة النصراني يسلم عبده، أو يشتري عبداً مسلماً، والأمر فيهما ظاهر، والأصح في المسألة الثانية فسخ العقدة لوقوعها فاسدة. قال القضي رحمه الله: «فصل ومن ابتاع سلعة على السلامة فظهر بها عيب» إلى قوله: «ولا يجوز لبائع السلعة (المعينة) أن يكتم عيبها». شرح: الأصل في وجوب الرد بالعيب الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله سبحانه: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) وقد أجمع علماء الأمصار على من اطلع على عيب قديم في المبيع فله الرد على ما يأتي تفصيله، وذلك في عقود المعاوضة كالبيع، والنكاح، فيثبت في ذلك حكم الرد بالعيب بلا خلاف (وأما عقود المكارمة كالهبة والصدقة فلا يثبت فيها حكم الرد بالعيب بلا خلاف)، واختلف المذهب في هبة الثواب فقال: عبد الملك بن الماجشون: لا يرد الموهوب له فيها بعيب، لأن مبناها على المكارمة، وقال المغيرة: (له الرد بالعيب) المفسد دون ما عداه لأن العيب المفسد متلف للمقصود حكاه القاضي أبو الوليد.

ولا بد من ذكر العيوب التي توجب الرد فنقول الأصل أن المشتري إذا ظهر على عيب يوجب الرد فهو مخير بين الرد والإمساك، فإن رده أخذ ثمنه الذي دفع، وإن أمسك فلا شيء له ولا يجبر على أرش العسيب من أباه إذا كان الرد ممكناً ولم يحدث معنى مفوناً إلا في العقار على ما سنذكره، فإن تراضيا على الأرش مع إمكان رد العين جاز، لأن ذلك حق لهما، فإذا اتفقا على ذلك فلا مانع منه (وانفرد) ابن شريح من علماء الشافعية فقال: ليس لهما اختيار في ذلك وهل هو كالحقوق المالية كخيار الشفعة وغيره. قوله: «ولا غيره»: تلفيف، إذا لا محل للغير. قوله: «ولا يلزم بذل الأرش ولا أخذه بالتراضي»: أبدل البذل من الأرش بدل اشتمال وأطلق القاضي القول في جميع المبيعات جرياً على مذهب البغداديين من أصحاب مالك، لأنهم جعلوا العقار والحيوان والعروض في ذلك سواء، والمشهور من مذهب مالك الذي عليه (أكثر) أصحابه التفريق بين العقار وغيره، فقالوا إن للمشتري التمسك بالمبيع من العقار وأخذ إرش العيب اليسير، ولا يقع الرد فيه بالعيب اليسر إلا أن يختاراه معاً، (ويتفقا عليه) ويتراضيا به، وإن كان العيب كثيراً فهو مخير بين الرد والإمساك ولا شيء له. واختلف نظر المتأخرين في تحديد اليسير، فقيل: ما نقص عن الثلث، وقيل: السدس، وقيل: (ما لا يأتي) على معظم الثمن. وأما

الحيوان فهو فيه مخير بين أن يرد، أو يتماسك، ولا شيء له، واختلف الرواة في العروض، فالمشهور أنها كالحيوان، والشاذ أنها كالأصول وهو اختيار كثير فقهاء الأندلسيين. قوله: «فإن فات ذلك لم يكن إلا الأرش» وهو كما ذكره، ثم بين أنواع الفوت فذكر منها فوت المبيع بالموت، والزمانة، والهرم، وفواته بتلف الملك كالعتق، والتدبير، والاستيلاء، والكتابة، واختلف المذهب في مسائل: المسألة الأولى: البيع هل هو فات أم لا؟ وعندنا فيه ثلاثة أقوال أحداها: أنه (ليس هو) فوتاً مطلقاً، ولا رجوع له بقيمة العيب. والثاني: أن له الرجوع بقيمة العيب. والثالث: إنه إن نقص من ثمنه لأجل العيب رجع على البائع بالنقص وإلا فلا، وبسط القول فيه بعض أشياخنا فقال: لا يخلو؟ أن يبيعه من بائعه، أو من غيره، فإن باعه من غير بائعه ففيه الثلاثة الأقوال الاتي قدمناها، وإن باعه بأقل، رجع عليع بالأقل من أرش العيب أو بقيمة الثمن، وإن باعه منه بأكثر. (فالزيادة) للمشتري إن كان البائع مدلساً، وإن لم يكن مدلساً وقع التراجع، وانفسخ البيعتان، وعاد المبيع إلى ملك الأول. المسألة الثاني: وظء الجارية هل هو فوت يوجب له الرجوع بقيمة العيب كسائر المفوتات أم لا؟ اختلف العلماء فيه، والمشهور من مذهب مالك أنه ليس بفوت، وقال أبو حتنيفة: هو فوت يمنع الرد، ويوجب له الرجوع بقيمة العيب، وهي رواية ابن وهب، وابن نافع، وأصبغ في البكر والثيب، وعلى المشهور بني القاضي رحمه الله مذهبه قال: (ووطء للثيب لا يمنع الرد وكذلك وطء البكر") وإنكا الوطء في الثبت كالقبلة واللمس بخلاف الوطء

في البكر، لأنه قطع عضواً منها، فله الرد، وعليه رد ما نقصها الوطء كسائر العيوب الحادثة عنده، وصريح مذهب الشافعي أن وطء البكر يمنع الرد. المسألة الثالثة: اختلف المذهب في (العيوب) النفسانية كالآبق والسرقة هل يفيد الرد بالعيب أم لا؟ فالذي حكى القاضي عن المذهب أن الإباق فوت خلافاً للشافعي، لأن الرد ينعدم معه، ويجعله في حكم الغائب المفقود. المسألة الرابعة: إذا اشترى شيئاً على السلامة، ثم أجره أو رهنه، ثم اطلع على عيب قديم فمذهب ابن القاسم أنه يرد بالعيب (متى) عاد إلى يده، وقال أشهب: إذا لم يخلصه من الرهن، أو الإجارة معجلاً لطول مدة الإجارة أو الرهن، وبعد أجلها، كان له أرش العيب، وهو اختيار ابن حبيب، وقال ابن القاسم إذا قرب ذلك كالشهر ونحوه فله الرد، فإن فات ملكه بهبة، ثم اطلع على عيب، فالمنصوص أنه يرجع بقيمة العيب، لأنه إنما يشتري على الصحة قال مالك: إذا فات المبيع بشيء من وجوه الفوت كان فيه قيمة العيب. المسألة الخامسة: إذا حدث في المبيع تغير عين المقصود منه، وصيره كأنه ليس العين المبيعة، كان ذلك كتلف العين المعيبة للرد، فإن حدث فيه ما أثر فيه، إلا أنه لم يغير المقصود منه فليس بفوت، والمشتري بالخيار بين أخذ قيمة العيب القديم، أو رد ما (نقصه) العيب الحادث عنده، واختلف المذهب فيب الرمد، والحمى، والوعك، هل يفيت الرد وكذلك العمى والشلل، وقطع ذنب بغلة الركوب، وعجف الدابة، وهرم العبد، أو الأمة وتزويج الأمة هل يمنع جميع ما ذكرناه الرد إلحاقاً له بما يتلف المقصود أو لا يمنع الرد، وعليه

إذا أراد الرد رد ما نقصته هذه العيوب، والصحيح أن هذا كله ممنوع، فما أتلف كالعمى منع الرد، وما غير الصفة ولم يتلف المقصود، فله الرد، وعليه (رد) ما نقص، فإن شك التمسك وأخذ قيمة العيب فله ذلك، وكذلك نقصان القيمة كحوالة الأسواق، والهزال لا يفيت الرد في هذا الباب (على المرضى). وههنا فروع: إذا اختلف البائع والمشتري فقال البائع للمشتري رد المبيع مع قيمة النقص الحادث، وأبى المشتري إلا أخذ قيمة العيب القديم، فهل القول قول المشتري، أو قول البائع، قولان في المذهب حكاهما القاضي أبو الوليد وغيره مبنيان على مراعاة الأصل (والمثال)، والكمشهور أن القول قول المشتري، لأن البائع إما مفرط إذا لم يكشف عن العيب، وإما مدلس فكأنه طلب حل البيع، (المنعقد)، ولا سبيل إليه إلا بالتراضي. قوله: «وكذلك إن تصرف في المبيع»: قلت تصرفه في المبيع بعد علمه بالعيب له ثلاثة أحوال حال الاختيار، وحال الاضطرار، (وحال الاختبار) بلا خلاف في تصرف الاختيار أنه يبطل الرد، ولا يبطله حال الاختبار بلا خلاف. واختلفوا في حال الاضطرار على قولين كما حكاهما القاضي: أحدهما: أنه مسقط للرد لأنه تصرف بعد العلم بالعيب، والاضطرار لحق نفسه لا لحق البائع. والثاني: أن ذلك لا يسقط الرد، لأنه في حكم (المكره). فرع: الاستعمال القاطع للرد بالعيب (بعد) الاطلاع على العيب هو

الاستعمال المقتضي نقصًا في المبيع كلبس الثوب، ووطء الجارية البكر والثيب، إذ الوطء إنما يباح فيمن (يستقر) ملكه، وأما من يريد نقض (البيع) فيه فلا يجوز له وطؤها حينيذٍ، واختلفت الرواية في العبد والدابة هل يمنع من استخدام العبد، وركوب الدابة أم لا؟، فالمشهور أنه يترك استعمال ذلك، وقال ابن حبيب لا يمنع من استخدام العبد وركوب الدابة، لأنه من باب الخراج بالضمان، فإن كان المبيع عقارًا فهل يخليه إذا أراد (الرد) بالعيب أم لا؟ المنصوص أنه لا يخليه، بل له الانتفاع به، وهو ينازع البائع، لأن ذلك خراج محض، وهو (مانع) للضمان، هذا نص الرواية. قوله: "وإذا ابتاع رجلان عبدًا" إلى آخره. ذكر في هذه المسألة قولين أحدهما قول ابن القاسم أن لمن شاء منهما الرد، لأن البائع دخل على التبعيض حين العقد فكأنهما صفقتان. والثاني: قوله أشهب: أنه ليس له الرد مع اختلافهما، فإذا اختار الرد خير (شريكه)، وليس لأحدهما التبعيض على البائع، إذ المبيع شيء واحد ولو اشترى سلعةً على الخيار فمات، فأراد بعض الورثة الرد، وبعضهم الإمضاء لم يكن لهم التبعيض، لأن البائع لم يدخل في هذه الصورة على التبعيض، وهي مسألة القياس والاستحسان. قوله: "وإذا نما المبيع على المبتاع، ثم أراد رده" إلى آخره. الطارئ على المبيع قد يكون نقصًا وقد تقدم، وقد يكون زيادة، وهي على قسمين: منفعة، أو غلة، وعين، وعطف الغلة على المنفعة بواو الجمع. إما كقوله: (أقوى وأفقر بعد التهم)، وإما أن تكون المنفعة ما سكن، والغلة ما اغتل من خراجٍ وغيره فأما المنفعة فلا خلاف في المذهب أنها ترد، ولا يرد شيء

مما استغل، لأنه خراج، والخراج بالضمان على مقتضى ما رواه عروة عن عائشة (أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قضى بأن الخراج بالضمان) إن كانت الزيادة عينًا فلا تخلو أن تكون ولادة، أو نتاج أو غيره، فإن كانت ولادة فالمشهور أن الولد كعضوٍ من أعضائها ليس بغلةٍ فيرد مع أمه. والقول الثاني: أنه غلة ويجبر نقص التزويج الحادث عنده بزيادة الولد، وروي ذلك عن ابن القاسم. وعندنا رواية ثالثة أنه لا يرد مع أمه، ولا يجبر به العيب الحادث، وعليه رد ما نقصه العيب الحادث مع رد الولد، لأنه كعضوٍ من أعضائها، وقال الشافعي: الولد للمشتري كسائر الغلات اعتمادًا على قوله- صلى الله عليه وسلم-: (الخراج بالضمان) والنتاج حكمه كالولادة وغاير القاضي- رحمه الله- بين (النتاج والولادة)، وإنما يفترقان لأن النتاج لا يستعمل عرفًا في الآدميات، وإنما يستعمل للناقة، وقد يستعمل لسائر الماشية، والولادة تستعمل في جميع الحيوانات وربما استعمل في الشجر مجازًا، فإن كان النماء ليس ولادة ولا نتاج فهو أنواع: الأول: كالثمار، ولا يخلو أن تكون موجودة حين العقد أم لا؟ فإن حدثت بعد العقد فهي للمشتري بلا خلافٍ كالخراج والغلة، وإن كانت موجودة حين العقد، إما أن تكون مأبورة أم لا؟ فإن كانت (غير مأبورة فهي له، كما لو حدثت عنده، ولا يرد عنها شيئًا إذا اختار الرد)، وإن كانت مأبورة ففي هذه الصورة قولان المشهور أن لها قسطًا من الثمن فيردها مع الأصل وهو قول ابن القاسم، والشاذ أنه لا ترد الثمرة أبرت أم لا؟ لأنها بيع وغلة، وإذا أوجبنا عليه الرد على المشهور فتلفت الثمرة بغير فعله، فله الرد، ولا شيء عليه في هلاك الثمرة، لأن ذلك كموت ولد الجارية الحادث

عنده، وإن كان هلاك الثمرة بفعله غرم مكيلتها اعتبارًا بالأجنبي. وإذا أوجبنا عليه رد الثمرة فله قيمة السقي والعلاج مطلقًا، وقيل: ما لم يزد على الثمرة، لأنه إنما أوجب له قيمة السقي في عين الثمرة لا في ذمة البائع. والثاني: الألبان والسمون، ولا خلاف أنها غلة للمشتري لا يرد عنها شيئًا سواء كان ذلك موجودًا يوم العقد أو غير موجود، لأنه تبع غير مقصود بالبيع. والثالثة: الصوف إن حدث بعد العقد فلا خلاف أنه له، وليس عليه رده، سواء كان قائمًا بيده أو فائتًا، فإن كان موجودًا يوم الصفقة تام الخلقة فهل (يردها) لأنه له قسطًا من الثمن أم لا؟ قولان مذهب ابن القاسم أنه يردها معها وإن جزت، وقال أشهب لا يرد الصوف مطلقًا سواء كان حادثًا أو يردها معها وإن جزت، وقال أشهب لا يرد الصوف مطلقًا سواء كان حادثًا أو موجودًا حين العقد تامًا أو غير تام، لأنه تبع، وقول ابن القاسم: تشهد له العادة. والرابع: الزيادة المتصلة كالصبغ والرقم في الثوب، وذلك لا يمنع الرد، ويوجب للمشتري الخيار في التمسك والرجوع بقيمة العيب أو الرد، ويكون شريكًا للبائع بما زادت الصنعة في ثوبٍ فقط، ومن هذا النمط السمن. اختلف المذهب فيه على قولين وجوده كعدمه، ولا يثبت به الخيار للمشتري، وليس له إلا التمسك أو الرضا بالعيب من غير أرش، وقيل: يثبت له بالخيار بين أخذ الإرش أو الرد. وقد ذكرنا الخلاف في الهزال وههنا فروع: إذا كان له الرد فصرح به، ثم هلك المبيع قبل الوصول إلى يد البائع، فاختلف المذهب في ضمانه على ثلاثة أقوال:

أحدها: أن ضمانه من البائع بناءً على أن الرد بالعيب نقض بيع. والثاني: أنه من المشتري بناءً على أنه ابتداء بيع. والثالث: أنه إن حكم الحاكم بالرد فمن البائع، وإلا فمن المشتري. قال القاضي -رحمه الله-: "ولا يجوز لبائع السلعة (المعيبة) أن يكتم (عيبها) " إلى قوله: "والبيع جائز مساومةً ومرابحةً". شرح: الغش محرَّم شرعًا، لأنه من أكل المال بالباطل، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تصروا الإبل والغنم) الحديث. ومر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجلٍ يبيع طعامًا فسأله كيف يبيع فأخبره فأومأ إليه أن أدخل يده فيه. فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال -صلى الله عليه وسلم-: «من غشنا فليس منا». واختلف العلماء في تأويله، فقال بعضهم المراد به تكفير المستحل له، وقال بعضهم هو على معنى التغيظ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أيما عبدٍ ترك الصلاة فقد كفر) وقال بعضهم معناه: ليس على مثل سنتنا وطريقتنا.

والتصرية: حقن اللبن في الثدي أيامًا ليوهم البائع المشتري أن ذلك الحيوان غزير اللبن. واختلف العلماء في البيع الواقع على صفة الغش كالتصرية ونحوها، فقال بعضهم: إن ذلك يمنع صحة العقد، فإذا وقع البيع على الغش فهو فاسد، وقال أبو حنيفة: ليس التصرية عيبًا، وقال مالك والشافعي والجمهور: التصرية عيب وغش، والبيع معها صحيح، وللمشتري الخيار تمسكًا بمقتضى نص تخييره -صلى الله عليه وسلم- المشتري في حديث المصراة الثابت الصحيح حيث قال: «فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر» فأثبت له الخيار، فدلَّ على أن العقد صحيح، قال أبو حنيفة: حديث المصراة خارج عن الأصول من أوجه: الأول: إنه معارض لقوله- صلى الله عليه وسلم-: (الخراج بالضمان). والثاني: إن فيه الطعام بالطعام نسيئة، وهو محرم إجماعًا. والثالث: إن فيه المزابنة وهي بيع (المعلوم بالمجهول). والرابع: إن فيه نقض الأصل، لأن الواجب في المتلف، إما المثل وإنما القيمة ولا واحدٍ في هذا المحل. والخامس: إن فيه بيع الطعام قبل قبضه. إلى غير ذلك من الوجوه التي فارقها بها الأصول، فقدمت عليه، وبه قال أشهب: من أصحابنا، ولا شك في فساد قولهما، لأنه) أصلٌ بنفسه، فلا يتحكم فيه على الشارع.

قوله: "والقول في الموضعين قول من قوي سببه منهما مع يمينه" يعني: أنه إن ثبت قدمه فهو من البائع، وإن ثبت حدوثه (بالمشاهدة، أو بالبينة) فهو من المشتري، (وإن وقع الشك فالأصل الصحة فهو من المشتري) ويحلف البائع وقوي السبب بالمشاهدة (أو الشهادة، و) في حال الاحتمال باستصحاب حال (السلامة)، وإذا وجب اليمين في هذه الصورة، فهل يحلف على العلم في العيب الخفي والظاهر أو على البت في الظاهر، وعلى العلم في الخفي. اختلف في ذلك ابن القاسم (وأشهب) فمذهب ابن القاسم الفرق بين الظاهر والخفي، ثم ذكر العيوب الموجبة للرد وأنها ما أثرت نقصًا في المبيع، أو في الثمن، أو في التصرف، أو خوفًا في العاقبة، وهذه الأقسام متداخلة: فالأول: هو (نقص ذات المبيع) منه ما يؤثر في نقص الثمن كقطع عضوٍ من أعضائه، ومنه (ما لا يؤثر) في بعض الأحوال كالخصة فإنه ربما يزيد في الثمن، ولعله أراد بالنقص في التصرف إذا قطع بعض الآلة البدنية التي تعينه على التصرف، إذا بنينا أن هذا يكون على الثمن بالنقص والعيب المخوف عاقبته هو ما تؤمن عودته من الأورام الذاهبة بعد حدوثها (لإمكان عودتها)، ومثله

القاضي في المعونة بالزوجة في العبد، والزوج في الأمة، فإن الطلاق لا يسقط (الرد) فيهما، وجعل الخصى مما ينقص في الثمن، وذلك يختلف بحسب الأمصار والعوائد والأحوال، وأما الدين في (غير) سفه، فلا يرد به إذا قضاه العبد، لأنه برده قد سقط. ومثل نقصان الأحكام الشرعية فيعود ذلك بنقص الثمن. وعطف القاضي الجذام والبرص على العمى والعور لا على نقصان الأحكام بالجنون. قال صاحب العين: الزعر في شعر الرأس وفي ريش الطائر. قلت وفرق في ذلك إذا ذهب أطوله وبقى أقصره وأردؤه. فرع: وجود الزنى في العبد والأمة، قال مالك والشافعي هو عيب، لأنه نقصان في الخلق الشرعي الذي هو العفاف. وقال أبو حنيفة ليس بعيب. فرع: التأنيث في الذكر، والتذكير في الأنثى عيب عندنا، والبول في الفراش عيب عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: ترد به الجارية دون العبد، وهو نظر حسن لأن الجارية قد تراد للنوم معها في فراشٍ واحد. فرع: الحمل في الرائعة فيه، وفي الوخش قولان مبنيان على العادة. فرع: اختلف المذهب في ارتفاع الحيض هل هو عيب أم لا؟ قولان

عندنا المشهور أنه عيب في العلي، والاستحاضة عيب في الوخش وغيره، وقد قيل في العلي خاصة. فرع: الشيب الكثير في الرائعة عيب، واختلف المذهب في اليسير فيها على قولين وليس بعيبٍ في الوخش عندنا. فرع: الخفاض عادة (نساء) العرب، فعدمه في العلي من رقيق العرب عيب، وليس بعيبٍ في رقيق العجم، لأنهم لا يعرفونه قاله القاضي أبو محمد. ومثل القاضي أبو محمد ما يتقي علاقته بالزوج والزوجة والاستدانة في سفهٍ ولم يمثل ما تؤمن عودته، ولعله أشار إلى الأورام، وبياض العين ونحوه. قوله: "وعهدة الثلاث لازمة في الرقيق": واختلف الفقهاء في القضاء بالعهدة، ومعنى العهدة أن يشتري عبدًا أو أمةً فما حدث فيه من فوت عين، أو من عيبٍ عند المشتري في الثلاثة الأيام فهو من البائع، وعهدته عليه، فإن شاء المشتري أخذ بجميع الثمن، وإن شاء رده على البائع، ولا شيء عليه فيما حدث عنده فإن هلك عنده في الثلاثة، أو في عهدة السنة من عيوبها الخاصة فهو من البائع، وقد قال مالك: ومن اتبعه. وعلى منع القول به قال أكثر فقهاء الأمصار ورأوا أن كل عيبٍ حدث بعد قبض المشتري فعهدته عليه.

واعتمد مالك في العمل عليها في الأمرين: النص والعمل، أما النص فما رواه الحسن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (عهدة الرقيق ثلاثة أيام) وروى قتادة عن الحسن مرسلًا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (لا عهدة بعد أربع) وفي هذين الحديثين مقال لأهل العلم بالإسناد. وصح أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قضى بالعهدة، فقال: ما أجد لكم شيئًا أوسع مما جعل النبي- صلى الله عليه وسلم- لحيان بن منقذ، فإنه جعل له عهدة ثلاثة أيام فيما اشترى إن رضي أخذ، وإن سخط ترك، وقال محمد بن يحيى بن حبان: ما جعل ابن الزبير عهدة الرقيق ثلاثة أيام إلا لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمنقذ بن عمرو أنت بالخيار ثلاثًا وروى مالك أن أبان بن

عثمان، وهشام بن إسماعيل كانا يذكران الرقيق في عهدتهما وخطبتهما عهدة الرقيق ثلاثة أيام من حين يشتري العبد أو (الوليدة)، وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو الزناد، والزهري، والفقهاء السبعة الأعلام بالمدينة، وعلموا بها في المدينة، (واستمروا) عليها، وروى الشافعي عن ابن جريح قال: سألت ابن شهاب عن عهدة السنة قال: ما علمت فيها أمرًا سالفًا، وهي على قسمين: صغرى، وكبرى، فالصغرى عهدة الثلاث وهي صغرى في الزمان، كبرى في الضمان، وهي من جميع العيوب الحادثة فيها عند المشتري، والكبرى: عهدة السنة من العيوب الثلاثة: الجنون والجذام والبرص، وهي كبرى في الزمان، وصغرى في الضمان، وما حدث فيها من غيرها من العيوب فهي من المشتري تمسكًا بالأصل، وهي في الرقيق فقط، لأنه يكتم عيبه، فيستظهر على البائع فيه بثلاثة أيامٍ للإمكان أن (يظهر عيبه) المكتوم كأيام الخيار، والاستبراء والتصرية التي نص الشارع عليه الصلاة والسلام عليها في حديث المصراة، وجعلت السنة للعيوب الثلاثة، لأنها قد تظهر في بعض الفصول

الأربعة من السنة، وإذا ثبت القول بها تعين النظر في مسائلٍ (تتعلق)، بها. المسألة الأولى: محلها، ولا خلاف في القضاء بها في كل بلدٍ جرت العادة بالقضاء بها فيه، وهل يقضي (بها) في البلاد التي لم يعرفوها أم لا؟ اختلفت الرواية في ذلك عن مالك، فروى المدينون عنه القضاء بها في كل بلدٍ علموا بها أم لا، واعتادوها أم لا، ويحكم بها علة من علمها، أو جهلها وروى المصريون عنه أنه لا يقضي بها حيث لم تجر العادة بها. المسألة الثانية: في تداخل العهدتين، اختلف المذهب على قولين: المشهور من المذهب نفي التداخل، وأن عهدة السنة بعد عهدة الثلاث، وبه قال الفقهاء السبعة، والشاذ عهدة الثلاث داخلة في عهدة السنة. المسألة الثالثة: (اختلف المذهب) في ابتداء عهدة الثلاث، قال ابن القاسم: لا يحسب يوم العقد نهارًا كان العقد، أو ليلًا، والابتداء عنده من أول النهار، والثاني من يوم العقد، وقال سحنون: الاعتبار من حين العقد إلى مثله من الزمان، وهذا أعدل. المسألة الرابعة: الضمان في العهدتين من البائع على الصفة التي ذكرناها، والنفقة والكسوة عليه والغلة له على مقضى الضمان، إلا أن المذهب على خلاف ذلك، وفي العهدة الصغرى النفقة والكسوة على البائع والضمان منه، واختلف المذهب في الغلة، والمشهور أنها للمشتري وفيه نظر، لأنها

تابعة للضمان كما ذكرناه، (ورأى) بعض المتأخرين أن الغلة للبائع (بالتبعية) للضمان، وحكاه عن المذهب هذا حكم العهدة في الصغرى، وأما النفقة والكسوة في العهدة الكبرى فعلى المشتري، والغلة له، والضمان عليه إلا في العيوب الثلاثة فقط. هذا (التحصيل). المسألة الخامسة: النقد المشترط في عهدة الثلاثة غير جائزة لتردده بين البيع والسلف وهل يجوز بغير شرطٍ أم لا؟ فيه خلاف في المذهب، ويجوز في عهدة السلف القضاء به على من أباه اعتبارًا بالمصلحة، ومراعاةً للحاجة إلى الأثمان. المسألة السادسة: إذا طرأ على المبيع عيب ولم يعلم (أكان) حدوثه في العهدة، أو بعدها، ففيه روايتان: فقال ابن القاسم هو من المبتاع حتى يعلم أنه أصابه في العهدة اعتبارًا بأصل السلامة وقال ابن نافع هو من البائع حتى يعلم أنه سلم في أيام العهدة اعتبارًا بأصل الضمان فتقابل هذين الأصلين وقع الخلاف في ترجيح أحدهما على الآخر. المسألة السابعة: إذ وجبت العهدة بالعادة، أو بالاشتراط فللمشتري إسقاطها لأن ذلك حق له، فله القيام به وإسقاطه، فإن أسقطه سقط، فإن أحدث في المبيع ما يمنع الرد، ويقتضي الرضى به كالعتق، ثم حدث في العهدة عيب في عهدة الثلاث قولان، قال سحنون العهدة ثابتة، والعتق نافذ، ويرجع بقيمة العيب، وفي كتاب محمد تسقط بقيمة العهدة، ولا رجوع له، وهذا الحكم في عهدة السنة أيضًا. قوله: "ويجوز البيع بشرط البراءة في الرقيق دون غيره": اختلف

المذهب في بيع البراءة على ستة أقوال: الأول: جوازه فيما يعلم به البائع من العيوب في الرقيق خاصة، لأنه يكتم عيبه. والثاني: جوازه في الرقيق، وسائر الحيوان، إذ لا يكاد يحاط بعيوبه. والثالث: جوازه في الحيوان والعروض، وسائر المبيعات، وهو نص ابن وهب، وابن كنانة. والرابع: إنكاره، ولا يتنفع باشتراط البراءة مطلقًا، ولا يبرأ البائع إلا من العيوب التي علمها واشتراطها على المشتري. (الخامس: إنكاره إلا فيما خفف السلطان فيه، وفي بيع المواريث لقضاء الديون). والسادس: إنكاره إلا فيما كان من العيوب لا يتجاوز قيمته ثلث (قيمة) المبيع، وهو قول المغيرة، والمخزومي، قال بعض الشيوخ المتأخرين: لم يختلف قول مالك في جواز بيع البراءة من البيع باليسير، ولا في بيع البراءة في بيع السلطان، ولا في سقوط العهدتين في بيع البراءة، فأما من أجاز مطلقًا فوجهه أن القيام بالعيب حق المشتري، فإذا أسقطه البائع بالبراءة، ورضي المشتري بذلك سقط كسائر الحقوق المالية، وأما من منعه مطلقًا فلأنه من باب الغرر والجهالة، إن لم يعلم البائع عيبًا، وإن علمه وكتمه برئ منه فهو غش. وأما من أجازه (مطلقًا) في الرقيق خاصةً، فلأنه يكتم

عيبه خوفًا من أن يزهد فيه، وأما من أجازه في سائر الحيوان فلما ذكرناه من أنه لا يكاد يحاط بعيوبه (فيعقد) البائع فيه، ويصدق فيما يدعيه من جهل العيوب التي فيه. وروى مالك- رضي الله عنه- أن عبد الله بن عمر باع غلامًا له بثمانمائة درهم، وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسمه فاختصما إلى عثمان بن عفان فقضى على عبد الله أن يحلف: لقد باع العبد وما به من داءٍ يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف فارتجع العبد، وصح أن زيد كان يجيز بين البراءة، وإذا ثبت ما ذكرناه، فهل يجوز أن يبيع البائع على البراءة بحدثان ملكه، وإن لم يختبر المبيع، أو لا يجوز بيعه على البراءة إلا بعد الاختبار قولان: المشهور من المذهب اشتراط الاختبار، قال مالك: التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامة الرقيق عندهم قال: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلًا لا تنفع البراءة، وقال بعد الملك تنفعهم البراءة وههنا فروع تتعلق بما ذكرناه: فرع: روى ابن القاسم أنه إذا باع السلطان عبدًا على مفلس، فللمشتري أن يرده بالعيب وهو يؤخذ منه أن بيع السلطان ليس ببيع براءة، وحكى بعض أشياخنا أن المذهب لم يختلف أن بيع السلطان بيع براءة، باع للمفلس، أو لقضاء الديون عن الميت، أو على الغائب، وكذلك الوصي إذ باع للإنفاق على يتيمه، فبيعه بيع براءة على المشهور. فرع: إذا فرعنا على المشهور من المذهب أن بيع السلطان بيع براءة،

فاشترى منه رجل ظانًا أن المبيع مال السلطان، وأنه ليس (بنائبٍ) فيه عن المفلس، ثم اطلع على عيبٍ فهل له القيام به أم لا؟ قولان: أحدهما أنه لا مقال، لأن بيع السلطان لا يكاد يخفى لاجتماع الناس إليه (واحتيالهم فيه غالبًا). والثاني أن له القيام بالعيب. قوله: "والعبد يملك ملكًا ناقصًا": وهذا أصل مذهب مالك كما (ذكره) أن العبيد مالكون خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، والدليل لنا قوله سبحانه: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} [النور: 32]. وصفهم الله سبحانه بالفقر، والغنى وهما من صفات المالكين، وقال تعالى: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون} [يس: 71] (نبه) جميع العقلاء حرهم وعبدهم على معرفة الصانع، ووصفهم بأنهم مالكون. وقال- صلى الله عليه وسلم-: (من باع غلامًا وله مال) وهذا لأم مالك. والأصل في الكلام الحقيقة لا المجاز ولأنه يملك المنافع كوطء زوجته وغير ذلك فكذلك الأعيان، ولا خلاف أن لسيده انتزاع ماله إلا أن يتعلق به حق غيره كالمأذون له في التجارة. ثم ذكر حكم مال العبد في التبعية وهو في البيع للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع اعتمادًا على نص الحديث، فإن اشتراطه المبتاع جاز وكان تبعًا له، وهو يجوز أن يشتري نصفه أو ربعه أم لا؟ قولان في المذهب: الجواز قياسًا

على الكل، والمنع لأن القصد إلى التجزئة دليل على أنه معتبر لا تبع، وما له في العتق تابع له، وقد روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من أعتق عبدًا وله مال فماله له إلا أن يستثنيه سيده) والأصل أنه مالك للسيد، فلا يخرج منه إلا بدليل، وذكر الخلاف في الهبة والصدقة وإسلامه في الجناية هل يتبعه ماله أم لا؟ قولان والصحيح أنه غير تابع، لأن انتقال الملك لا يكون بالشك. قوله: "ولا تجوز التفرقة بين الأم وولدها": قلت: الأصل في منع التفرقة قوله- صلى الله عليه وسلم-: (لا توله والدة عن ولدها) وقوله- صلى الله عليه وسلم-: (من فرق بين الأم وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) وانعقد الإجماع على تحريمه، وإذا كان التفريق محرمًا فالجمع واجب، وهل المقصود الجمع في الملك الواحد، أو في البلد الواحد قولان عندنا (وإذا وقع البيع على التفرقة على مراعاة النهي هل يفسخ، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه أو يفسخ، ويجبران على الجمع فيه قولان عندنا) مبنيان على الاختلاف في النهي كما ذكرناه، وفي حد التفرقة روايتان في المذهب أحدهما الأثغار، والثاني البلوغ، وفي المذهب رواية شاذة بنفي التفرقة مطلقًا تمسكًا بعموم اللفظ. قوله: "ولا يجوز في الأب" قلت: لأن النص لم يتناول إلا الأم لما لها من الشفقة والحنان فلا يستضر بمفارقة الأب كالأم. قوله: "والتصرية عيب" التصرية في اللغة: الجمع يقال صريت الماء في

الحوض أي جمعته فيه، قال تعالى: {فأقبلت امرأته في صرةٍ} [الذاريات: 29] أي في جماعةٍ من النساء، وقد قدمنا الكلام في حكم المصراة، وبقيت فروع تتعلق بذلك: الأول: إذا اطلع على عيب المصراة فله الرد به كما ذكرناه إلا أن يرضى بذلك، فلا يرد وهو إن علم أنها مصراة فله الرد به كما ذكرناه إلا أن يرضى بذلك، فلا يرد وهو إن علم أنها مصراة قبل الحلاب أو بعده، وله إذا حلب مرة أن يهمل حتى يحلب مرة أخرى ليعلم مقدار حلبها، فإن حلبها ثالثة فهل له أن يرد بعد الحلبة الثالثة، وهو مقتضى الحديث، أو ليس له الرد، لأنه إذا اختبرها (بالثانية) ثم حلبها الثالثة فهو رضى، قولان عندنا مشهوران ففي كتاب محمد له أن يرد إن شاء ولو حلب الثالثة، (وقال ابن القاسم: لا يرد إذا علم التصرية بالحلبة الثانية). فرع: أوجب الشارع- صلى الله عليه وسلم- رد صاعًا من تمر. وفي بعض طرق الحديث: (صاعًا من طعام)، وفي بعضها: (صاعًا من سمراء) وكل ذلك دفعًا للخصومة، ولو أراد رد اللبن (بعينه) لم يجز لأنه بيع الطعام قبل قبضه، وإنما نبه- صلى الله عليه وسلم- على التمر، لأنه غالب قوتهم حينئذٍ. فرع: إذا قدرنا أن قيمة الصاع تزيد على قيمة الشاة فهل يقضى عليه بالصاع أم لا؟ ظاهر المذهب أنه يقضى عليه". فرع: إذا كانت شياه كثيرة مصراة فهل يكتفي بصاعٍ واحدٍ لجمعيها أو بصاعٍ لكل واحدة. (اختلف فيه المتأخرون، فقال ابن القاسم بن الكاتب بتعديد الصيعان، وقال أحمد بن خالد: يكتفى بصاعٍ

واحد". فرع: إذا رضى بعيب التصرية ثم رد بعيب غيره فهل يقضي عليه برد الصاع أم لا؟ قال أشهب: يرد الصاع، وقال محمد: لا يرد قصرًا للحديث على ما ورد، حكاها المتأخرون من الأشياخ. قوله: "وإذا فات المبيع في البيع الفاسد ضمنه المبتاع"، وهذا كما ذكره أن المبيع بيعًا فاسدًا يضمنه المشتري بالقبض، لأنه قبضه بشبهة العقد، ولم يقبضه على حكم الأمانة ويفسخ (ما دام) قائمًا، فإن فات بعيبٍ في البدن، أو عقد، عتق، ونحوه أو حوالة سوق وتعذر فسخه رجع فيه (بقيمة) المثل فيما له مثل، أو القيمة في ذوات القيم، وسواء كان المبيع مجمعًا على فساده، أو مختلفًا فيه، فإنه يضمن بعد الفوت القيمة، وفي المذهب رواية شاذة أن المختلف فيه إذا فات أمضى بالثمن لشبهة الاختلاف. قال القاضي- رحمه الله-: "والبيع جائز مساومةً ومرابحةً" إلى آخر الفصل كلا البيعتين جائز شرعًا لدخول النوعين تحت عموم قوله سبحانه: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (وفي) المرابحة (وجهان)، وكلاهما صحيح جائز، ثم أحسن البيان، وحاصل الأمر فيه على ثلاثة أقسام: منها ما يحسب، ويحسب ربحه وهو ما أثر في المبيع بزيادةٍ كالخياطة والصبغ، ومنها ما يحسب ولا يحسب له ربح، وهو غير المؤثر كحمل المبتاع من بلدٍ إلى بلد، وكراء

البيوت، ومنها ما لا يحسب ولا يحسب ربحه كالسمسرة والدلالة والشد والطي، وفرق القاضي بين الدلالة والسمسرة جريًا على عرفهم، وهما في عرفنا سواء، ذكر اختلاف المتابعين، والأصل في هذه المسألة ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع ويترادان) وفي حديث ابن مسعود: (تحالفا وتفاسخا). وتحصيل مذهب مالك فيه أنهما إذا اختلفا في مقدار الثمن ففي المذهب فيه خمسة أقوال: الأول: القول قول المشتري بوجود العقد لأنه الغارم. قال الإمام أبو عبد الله: ذكر اللخمي في معياره أن بعض الأصحاب ذكر عن السيوري أنه وقع في الواضحة أن القول قول المشتري بنفس العقد، وهو قول أبي ثور. (والثاني: أن التحالف والتفاسخ مطلقًا فات المبيع أو لم يفت، إذ لا ترجيح، وكل واحد منهما مدعٍ ومدعى عليه). والثالث: التحالف والتفاسخ ما لم يفت المبيع، فإذا فات فالقول قول المشتري ترجيحًا بالفوات، لأنه الغارم حينئذٍ ما لم يقبض المشتري المبيع بان به أو لم يبن. والفوت يكون بتغير السوق وزيادة المبيع (ونقصانه)، وإن اختلفا في جنسه مثل أن يقول: (أحدها) بعتك بدينار، وقال الآخر بثوب، فلا خلاف في هذا أنهما يتحالفان ويتفاسخان، ولو اختلفا في النوع فقال: أحدهما بعتك

بقفيز (قمح)، وقال الآخر بقفيز شعير فهو (كالاختلاف) في المقدار، وقيل: كالاختلاف في الجنس، وإذ أوجبنا التحالف فمن المبدأ باليمين ثلاثة اقوال: أحدها: تبدئة البائع. لأن أصل الملك له. والثاني: تبدئة المشتري، لأن البائع قد وافقه على البيع، وإنما خالفه في الثمن. والثالث: التقارع بينهما، واختاره بعض المتأخرين، أو أهل التبدئة من باب الأولى أو من باب الأوجب، وحكى الشيخ أبو الحسن اللخمي وغيره فيه قولان، ولو نكلا عن اليمين قولان أيضًا: أحدهما: أن القول قول البائع (لابن حبيب)، وقيل يترادان: (لابن القاسم) حكاهما القاضي، وإذا تحالفا انفسخ البيع، فإذا أراد أحدهما أمضى ما قاله صاحبه، فهل له ذلك، ويجبر عليه من أباه، لأنه مقتضى الإقرار بالعقد أم لا؟ لأنه قد انفسخ بالتحالف، وهذا كأنه ابتداء بيع قولان عندنا. وبدأ القاضي من مسائل بالاختلاف في الصحة والفساد (ولا شك أن الأصل الصحة فمن ادعاها رجح قوله بادعاء حكم الأصل، ويحلف لنفي دعوى خصمه إلا أن يكون الفساد) غالبًا على البياعات، ففيه حينئذٍ اختلاف في المذهب. قال سحنون: القول حينئذٍ قول مدعي الفساد، وإن اختلفا فما ينفي اللزوم مثل أن يدعي أحدهما (الخيار، والآخر، البت)،

فالقول قول مدعي البت، لأنه الأصل. وقال أشهب: القول قول مدعي الخيار، وحكى الأشهر من المذهب في الاختلاف في المقدار، وقد ذكرنا ما فيه. قوله: "وإن كان (اختلافهما) في قبض الثمن". قلت: قد يختلفان في قبض الثمن، وقد يختلفان في قبض المثمون، فإن اختلفا في قبض المثمون رجع إلى العادة، فإن أشكل الأمر فإن الأصل أن الثمن) والمثمون باقيان بيد أربابهما، إلا أن يثبت الانتقال؟ ولو قيل: إن أصل العقد (يقتضي) التمكين والتقابض فالقول قول مدعيه لكان صوابًا، فإن أشهد المشتري على نفسه بقبض الثمن فهل يكون إشهاده شهادة على قبض المثمون أم لا قولان عندنا، وما شهدت فيه العادة باستعجال القبض غالبًا نحو البقل واللحم والصرف، فالقول قول مدعي العادة إذا قبض المشتري سلعته، وبان بها، وإن قبضها وهي بيده، ولم يبن بها ففي هذه الصورة قولان: المشهور القول قول البائع، لأنه مدعي عليه القبض، والشاذ أن القول قول المشتري لأنه غارم، وطول الزمان شاهد على صحة دعوى القبض، ولو اختلفا في تعجيل الثمن أو تأجيله رجع إلى العرف، فإن لم يثبت ففيه قولان حكاهما القاضي رواية ابن وهب أن القول قول المشتري، ورواية غيره أن القول قول البائع، والصحيح أن الأصل التعجيل فالقول قول مدعيه. واختلف المذهب في العرف هل هو (كشاهدين أو) كشاهدٍ فيحلف مدعيه أم لا قولان عندنا. قال القاضي- رحمه الله-: "فصل ولا يجوز لمن وطئ أمة الفصل" إلى آخره.

شرح: من أراد بيع أمة وطأها وجب على البائع الاستبراء عندنا لاحتمال أن تكون حملت منه فيكون قد باع ولده (وأم ولده)، ومدخلًا للشبهة في نسبه، والنسب أوجب ما احتيط له، وقال أبو حنيفة والشافعي الاستبراء في هذه المسألة واجب على المشتري مستحب للبائع وهو ضعيف، والصحيح وجوبه على كل واحدٍ منهما، إما على البائع فلما ذكرنا، وإما على المشتري فلقوله- صلى الله عليه وسلم-: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض). قال القاضي أبو محمد وغيره من أئمتنا، ولا يحل للمشتري مقدمات الوطء مطلقًا من اللمس للذةٍ وغير ذلك إلا بعد تحقق الاستبراء لاحتمال أن تكون أم ولد البائع. قوله: "والاستبراء حيضة" قلت: لأن البراءة تحقق بها مع أن مقتضى قوله- صلى الله عليه وسلم-: (حتى تحيض) وذلك يصدق على الواحدة، واتفاق على المتبايعين على استبراء واحد جائز كما ذكره القاضي لحصول الغرض المقصود من البراءة، ويكفي في صحة الاستبراء قولها، لأن النساء مؤتمنات على أرحامهن إلا أن يدعين ما لا يشبه بحال، ثم ذكر حكم القافة عند الالتباس فيها إذا وطأها وأتت بولدٍ يمكن لحوقه بهما، والقافة عند العرب قوم كانوا يعملون المشابهة، وقد اختلف العلماء في الحكم بها، وقضى بها جمهور الفقهاء من المدنيين، والشاميين وغيرهم، ونهى عن الحكم بها العراقيون، والدليل لمالك وسلفه من وجوه: الأول: حديث عائشة- رضى الله عنها-، قالت دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسرورًا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمع ما قاله مجزز المدلجي

لزيدٍ وأسامة: ورأى أقدامهما فقل إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، فسرور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك يدل على أنه حق لا باطل كما يقول العراقيون وكان المشركون يطعنون في نسب أسامة، لأنه أسود، وأبوه أبيض. الدليل الثاني: قوله- صلى الله عليه وسلم- في قصة هلال بن أمية (إن جاءت به على نعت كذلك فهو لشريك). وقد تقدم الحديث وعمل به عمر بن الخطاب بمحضر الصحابة، لا مخالف له وجرى العمل به المدينة فكان حجة، وإذا ثبت الحكم بالقافة تعين النظر في مسائل: الأولى: محلها: ومحلها عند مالك اليمين؟ وهل يقضي بها في النكاح أم لا؟ قولان في المذهب، المشهور أنه لا يقضى بها فيه، وقال ابن وهب يقضى بها في النكاح، وهو قول الشافعي. المسألة الثانية: هل يكتفي بقائفٍ واحد، أو لابد من قائفتين قولان عندنا مبنيان على الاختلاف في القافة هل هي حكم أو شهادة. المسألة الثالثة: إذا قضى القائف بالاشتراك في الولد الواحد، فقد اختلف الفقهاء فيه، وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن يؤخر الصبي حتى يبلغ ويقال له وال أيهما شئت اعتمادًا على قول عمر بن الخطاب (للغلام وال أيمما شئت) كما رواه مالك في موطئه. والثاني: أنه يلحق بأقواهما شبهًا. والثالث: أن يكون ابنًا لهما قاله أبو ثور، وروي ذلك عن سحنون وغيره من أهل المذهب وبه قال من السلف عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما، وهي بنوة شرعية لا بنوة طبيعية، ولا يكون الولد ابنًا لأبوين طبعًا. قال سبحانه: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى} [الحجرات: 13]، وقال: {أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان: 14]، وقال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا} [لقمان: 14]. وفي المذهب قول رابع أنه لا يكون ابنًا لواحدٍ منهما، إذ لا يلحق النسب بالشك، وقد قال بعض أهل العلم بإلحاق الولد: بالقرعة اعتمادًا على ما رواه (الشعبي) عن زيدٍ بن أرقم قال: كان علي- رضي الله عنه- (باليمن) فأتى امرأةً وطأها ثلاثة أناسٍ في طهرٍ واحد فسأل كل واحدٍ أن يقر لصاحبه بالولد فأبى فأقرع بينهم ولضى بالولد للذي أصابته القرعة رواه الثوري بإسناده.

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة قال القاضي- رحمه الله-: "الإجارة جائزة" إلى قوله: "والإجارة ضربان". شرح: الإجارة مشروعة، والدليل على ذلك الكتاب والسنة (والإجماع) أما الكتاب فقوله سبحانه: {فإن أرضعن لكم فئآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6]، وقوله سبحانه: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} [القصص: 27] الآية، والدليل على ذلك من السنة وجوه: الأول: قوله- صلى الله عليه وسلم-: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه). والثاني: حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، وذكر فيه (أنه استأجر أجيرًا) الحديث وهو ثابت في الصحيح، وقال- صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وذكر رجلًا استأجر أجيرًا فاستوفى عمله ولو يوفه أجره) وقال- صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يطوي المظالم يوم القيامة ويجعلها تحت قدميه

إلا ما كان من فض الخاتم وعرق الأجير) ذكره الإمام أبو بكر بن فورك في المشكل، وذكرنا في كتابنا فيه، ومنها ما خرجه البخاري عن عائشةٍ قالت: استاجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل وقيل: إنه عامر بن فهيرة هاديًا خريتًا وهو على دين كفار قريش فدفعا له راحلتيهما وواعده غار ثور براحلتيهما بعد صبح ثلاث ليال، وذلك حين أمر بالهجرة من مكة إلى المدينة فطلب أبو بكر صحبته). وأجمع العلماء على جواز عقد الإجازة إلا من لا عبرة (بمخالفته مخالفة) الجمهور كالأصم وابن عيينة فإنهما منعاها. قال بعض شيوخنا: ولعل الأصم لم يبلغه الإجماع لصممه، وإنما منعاها، لأن المنافع في العقد معدومة، فكان اشتراؤها غررًا، (وكان من باب) بيع ما لم يخلق، وإذا ثبت جوازها فهل هي من العقود الجائزة

كالجعل والشركة، أو من العقود اللازمة، جمهور أهل العلم أنها من العقود اللازمة. قوله: "ولا تصح أن تكون المنافع المعقود عليها معلومة" ينبغي أن يزيد من جنس ما لم ينه عنه الشرع احترازًا من المنافع المعلومة المنهي عنها كأجر (النائحات) والمغنيات وغير ذلك، ثم ذكر العلم بالمنافع طريقين: أحدهما: أن يكون جنس المنفعة معلومًا كركوب الدابة، وبناء الحائط، وخياطة الثوب، وسكنى الدار ونحوه مما يعلم بالمشاهدة. والثاني يلزمه فيه ضرب الأجل لينحصر به، وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن ركوب الدابة، وسكنى الدار وإن كانا معلومين فيلزم فيهما ضرب الأجل (ابتداءً وانتهاءً) لينتفي الغرر (وتتبين المدة) المشتراة منافعها لا محالة، ويتنزل ذكر المسافة في ركوب الدابة منزلة ذكر الأجل، ثم ذكر ضابطًا كليًا لما يجوز استئجاره من المنافع فقال: كل عينٍ لها منفعة يجوز تناولها بغير أجرةٍ فإجارتها لتلك المنفعة جائزة، وهذا معترض فإن إجارة الآبق والبعير الشارد ممنوعة وهبة أعيانهما وهبة منافعهما جائزة لجواز هبة الغرر، والمجهول، انظر هل يدخل تحت هذا والضابط إجازة الدنانير والدراهم وغيرهما مما لا يعرف بعينه أم لا؟ (وظاهره) تناوله، وإن كانت إجارة ذلك لا تصح على المشهور من المذهب. قال ابن القاسم: وإجارة الدنانير والدراهم قرضًا وإنما لم تصح إجارتها، لأن الإجارة تقتضي تمليك الانتفاع بها، وذلك يستلزم إتلاف أعيانها، إذ لا منفعة فيها مع بقاء العين، فإذا أتلف (عينها)، ورد مثلها صار

حكم الإجارة إلى القرض في المعنى، فإن استأجرها فهي قرض، والإجارة ساقطة عن المستأجر على قول ابن القاسم، وأجاز الشيخ أبو بكر الأبهري وغيره استئجارها للتجميل بها، (والتكثير) ليراها الناس بين يديه لما يتعلق (له) بذلك من الأغراض (بشرط) أن يكون مالكها حاضرًا مع مستأجرها خوفًا من إتلاف عينها، ورد مثلها مع زيادة الأجرة فتكون سلف جر نفعًا ثم ذكر القاضي أن إجارة العيان مدة معلومة على ثلاثة أضرب: أحدها أن يبين الابتداء والانتهاء، وهذا لا خلاف في جوازها لانتفاء الغرر فيه من كل وجه. والثاني: أن يذكر المدة ولا يبين أولها، واتفق المذهب على جواز ذلك إحالة على العادة، إذ مقتضاها أن أول المدة من حين العقد كابتداء الأجل في السلم وفي اليمين فيمن حلف أن لا يتكلم فلانًا شهرًا (فانعقد اليمين) عليه من وقت يمينه بحكم العادة، في جميع ذلك، وقال الشافعي: إن لم يبين أول المدة في الكراء فهو باطل وراءه غررًا. والثالث: أن يعقد الكراء منه مشاهرةً، فيقول الشهر بكذا، أو السنة بكذا، فالخلاف في هذا القسم في محلين: الأول: في جوازه، ولا خلاف في مذهب مالك في جوازه، لأن المنافع معلومة المقدار في المعنى فهو بمنزلة أن يقول له بعتك ما في هذه الصبرة ما شئت كل قفير بكذا، ومنع الشافعي كراء المشاهرة من حيث إن المنافع لم تتقيد، وله وجه من النظر. الثاني: إن انعقدت الإجارة مشاهرةً فله أن يخرج متى شاء، وللمالك أن يطالبه بالخروج متى شاء. واختلف المذهب هل يكون عليه من الأجر بحسب

ما سكن وهو الصواب، إذ العقد (لم يكن) على شهرٍ كامل، وإنما وقع على (حساب) أن الشهر بكذا وتكون أجرة شهر واحد أو سنة كاملة إن كانت الإجارة مشاهرةً أو مساناةً وكل الكراء (واقع) على الحد المقدار من سنة، (أو شهر). تكميل: شرط علماؤنا في المنفعة المشتراة في عقد الإجارة خمسة شروط: الأول: أن تكون معلومة من الطرفين كما ذكرناه، واختلف في فروعٍ (تتعلق بهذا الشرط). الأول: إذا استأجر الطحان بصاعٍ من دقيقٍ أو القمح الذي يطحنه، ففيه قولان الجواز، لأنه معلوم حكاه الشيخ أبو الفرج، والمنع، وهو قول ابن المواز للغرر. الفرع الثاني: إذا قال له القط زيتوني أو أحصد زرعي فما لقطت أو حصدت فلك نصفه فيه قولان: الجواز لابن القاسم، (لأنه جعل) له الترك متى شاء، والمنع لغيره لإمكان الغرر. والشرط الثاني: حصول المنفعة للمستأجر احترازًا من الاستئجار على العبادة التي لا تصح النيابة فيها (شرعًا) كالصلاة والصوم، والخلاف في جواز النيابة في الحج معلوم، وتجوز الإجارة على غسل الميت، (لأن كل

واحد من الحي والميت) ينتفع بذلك. واختلف المذهب في جواز الإجارة على الأذان والصلاة، فمنع ابن حبيب الإجارة على ذلك مجتمعين أو مفترقين، (وأجاز ذلك ابن عبد الحكم مجتمعين أو مفترقين)، وكأنها إجارة على ملازمة الموضع الخاص على ارتقاب الأوقات لا على العبادات، والمشهور من المذهب جواز الإجارة على الصلاة مع الأذان لا على الصلاة وحدها، وصح أن عمر بن الخطاب أجر سعيد القرظي رزقًا للأذان، وكان أحد مؤذني النبي- صلى الله عليه وسلم-. والثالث: أن تكون المنفعة مقدورًا على تسليمها حسًا وشرعًا، فإن كانت غير مقدور عليها حسًا لم تجر الإجارة كالاستئجار على تعليم الأخرس اللفظ، والأعمى الخط، وكذلك إن كانت للمنفعة غير مقدور على تسليمها شرعًا. فالعجز الشرعي كالعجز الحسي مثل أن يستأجر حائضًا على كنس المسجد، فالإجارة (غير جائزة). والشرط الرابع: أن لا يتضمن استيفاء (المنفعة استيفاء) العين، فإن تضمن ذلك لم تجز الإجارة مثل أن يستأجر (الأشجار) لأكل ثمارها، والشاة والناقة لنتاجها فهذا بيع عين قبل الوجود لا شراء منفعة. والشرط الخامس: أن تكون المنفعة متقومة، وعلى هذا اختلف في فرعين: الأول: إجارة المصحف. فقال ابن حبيب: لا تجوز إجارته، وأجاز بيعه، قال: وكره إجارته من لقيت من أصحاب مالك، واختلف قول ابن القاسم، لأن إجارته ثمن للقرآن وبيعه بين الورق والخط فافترقا.

الفرع الثاني: هل يجوز استئجار الأشجار لتجفيف الثياب عليها، وفيه روايتان: الجواز، والمنع، وكلاهما للأصحاب. قوله: "وعقد الإجارة لازم من الطرفين" قد ذكرنا اختلاف العلماء في ذلك والمعول عليه اللزوم، لأنها بيع من البيوع، فإن طرأ (على العين المستأجرة ما يمنع استيفاء المنافع منها انفسخت الإجارة، وكذلك إن طرأ ما ينقص منها) نقصًا يتضرر به المكتري مثل تساقط السقف وكثرة التأذية بالقطر، مثل القاضي القسم الأول المانع من استيفاء المنافع باحتراق الدار (وانهدامها) أو غصبها أو مرض العبد والدابة، وهذه (محلها أسباب تقتضي الفسخ لحصول الخلل في المعقود عليه، وكذلك الحوانيت يأمر السلطان (بغلقها)، فإن الكراء يفسخ على نص الروايات، وهي كغصب العين، أو المنفعة. فإن نقصت المنفعة وأراد الإصلاح ورفع الضرر الموجب لنقص المنفعة مضى ذلك، فإن أدى (ذلك) إلى ضرر المستأجر لطول المدة، فله الفسخ إذا كان ضرره لا يمكن البقاء معه سبب للخيار في فسخ العقد إن شاء فإن أمكن استيفاء المنافع وتعذر أحد المتعاقدين فالإجارة لازمة لا تنفسخ عندنا إلا في كراء الدابة للحج، لأن أيام الحج معلومة، وأما غير ذلك فلا، مثل أن يستأجر حانوتًا ليبيع فيها متاعه، فيحترف، أو دار ليسكنها، ثم يريد السفر ونحوه لأن (العقد لازم) مع إمكان استيفاء المنافع، وقال تعالى: {أوفوا

بالعقود} بخلاف تعذر المنفعة، وتعلق بنقص المنفعة من العين المعقود عليها. فروع: الأول: إذا اكترى أرضًا فغرقت فمنع ذلك من (الانتفاع) بها، فهل يسقط عنه الكراء أم لا؟ فصل الأشياخ فقالوا إن كان غرقها في الإبان بحيث لو انحصر الماء عن الرض لأمكن زرعها، فلم ينحصر فالكراء ساقط، وكان كانفساخ الإجارة، وإن كان الغرق بعد الإبان فالكراء لازم لا يسقط منه شيء، ولو استأجر أرضًا فكانت النمل والدود ونحو ذلك مما يفسده، ولم يبينه له رب الأرض فالكراء ساقط عن المستأجر نص عليه أبو الحسن اللخمي ولو استأجر أرضًا للزراعة فزرعها فأصابته جائعة فالكراء لازم، ولا يسقط عنه منه شيء. قوله: "وتسليم الأجرة (غير مستحقة) بمجرد القول" وهذا تنبيه على مذهب الشافعي لأن مالكًا يرى أن الأجرة ثمن للمنافع، فكل جزء من المال يقابل كل جزء من المنفعة إلا أن تكون هناك عادة، أو شرط، أو يكون التقديم هو مقتضى الأحكام، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي: يجب تسليم الأجرة عند تمام العقد وانبرامه، فإن كانت الأجرة عرضًا معينًا، أو طعامًا رطبًا يسرع إليه الفساد، فالتعجيل في هذه الصور خارج عن الأصل، لأنه لو أخر العرض المعين لكان من باب المعين (يقبض إلى أجل) فيؤدي إلى الجهل (والغرر) لإمكان تغيره بالتأخير، فالشرط ظاهر بالتنصيص عليه، والعادة في الطعام الرطب والفواكه كون التقديم هو موجب الأحكام مثل أن

يكون الثمن (عرضًا) معينًا فتأخيره من باب المعين بقبض إلى أجل، وهو مممنوع، واختلف في فروع: إذا استأجر بثوبٍ معين ومقتضى العرف التقديم (جازت الإجارة)، فإن كان مقتضى العرف التأخير، فهل يحمل الإطلاق على العرف الفاسد فيسقط العقد أو يصح تغليبًا لمقتضى الأحكام على مقتضى العرف فيه قولان عندنا. قال القاضي- رحمه الله-: "الإجارة ضربان: إجارة عين وإجارة الذمة" إلى قوله: "والجعل جائز". شرح: وهذا كما ذكره في أن الإجازة المتعلقة بالعين تقتضي تعليق العقد بتلفها العين تقتضي تعليق العقد بتلفها العين وانفساخه تبلغها، إذ هو مقتضى التعيين. قوله: "وتقع المحاسبة" يعني: في الدواب وغيرها ما عدا السفن، فلا محاسبة فيها على المشهور، لأنها على البلاغ، وتنفسخ الإجارة بموت الرضيع والصبي والمتعلم لتعذر الخلف غالبًا، ولو استأجر على خياطة ثوب فهلك فهل تنفسخ الإجارة، أو عليه البدل إذا لم يتعذر غالبًا قولان. واختلف المذهب إذا استأجر على رعاية غنم، هل يلزم اشتراط الخلف في أصل العقد أم لا يلزم، إذ هو مقتضى الحكم قولان المشهور اشتراط ذلك فى العقد وقيل: هو مقتضى، فلا حاجة إلى الاشتراط، وعندنا رواية ثالثة بالفسخ عند موتها ولا سبيل إلى البدل، لأنة فسخ دين فى دين. (قوله: "والشروع في الاستيفاء": وهذا كما ذكره، لأن قبض الأوائل كقبض الأواخر). قوله: "وموت أحد المتعاقدين لا يوجب فسخ الإجارة": هذا مذهب

مالك خلافًا لأبي حنيفة والدليل لنا أنه عقد معاوضة لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع وبه قال الشافعي، وأحمد، وداود، وأبو ثوار، وغيرهم، واعتمد أبو حنيفة على أن الملك بالموت قد انتقل إلى الورثة وقياسًا على النكاح الذي يبطل الموت. قوله: "أو ما عدا الشرب" يعني: أن الزرع في أرض السقي يسقط الكراء بخلاف سائر الجوائح وقد قدمناه). قوله: "ولا يتعين من تستوفي به المنافع وإن عين" قلت: وإن كان إشارةً إلى مسألة الغنم فهو صريح مذهب ابن القاسم، وإن كانت إشارةً إلى غيره ففيه نظر. ورأى القاضي أن تعيين المحل كالوصف، فلا تنفسخ الإجارة بذهاب المحل ويتنزل المثل منزلة العين، وهذا الأصل عندنا فيه خلاف في المذهب، وتظهر فائدته إذا فات المحل كتلف الغنم وهلاك الثوب هل تنفسخ الإجارة أم لا؟ وعليه البدل قولان مشهوران قد تقدما. قوله: "وإذا استأجر دابةً ليركبها أجاز أن يركبها (غيره) وكذلك إذا اكترى أرضًا ليزرعها": وهذا الذي قاله هو الصحيح خلافًا لمنعه، والحجة لنا أنه ملك المنافع، فله أن يفعل فيها ما شاء مما لا يضر برب الأصل.

قوله: "وإذا زاد (على ذلك) قيمة الزيادة ": وفيه تنبيه على خلاف أبي حنيفة، قال: لا كراء فيها زاد لأنه (المتسلط) وهذا خطأ فإنه لم يسلطه على الزيادة، فإذا زاد فقد انتفع، فعليه قيمة الزيادة، وأما الدابة يزيد عليها في المسافة فعليه الأجرة الأولى بلا خلاف، وربها بالخيار فيه تضمين قيمة الدابة، وأخذ قيمة الزيادة، لأنه متعد بالإمساك وحبسها عن أسواقها، فعليه الضمان كالتعدي بالأصل، وقال الشافعي: ليس لرب الدابة تضمين قيمة الدابة لبقاء عينها، وإنما على المتعدي قيمة الزيادة فقط، وهو (سديد) في النظر وقد اشترطنا الإجارة أن تكون معلومة من الطرفين، وطعام الظئر والأجير وكسوتهما معلومان بالعادة، ويقضى في ذلك بالوسط، فلذلك أجازه الجهمور ومنعه الشافعي في كل أجير، ووافقه أبو حنيفة في الظئر للضرورة، وحكى القاضي جواز كون (الإجارة) ثمنًا للمنافع جريًا على المشهور من المذهب، وفيه رواية بالمنع، وبه قال أبو حنيفة، لأنه دين بدين وهو ضعيف.

قوله: "وإجارة المشاع جائزة من الشريك وغيره": نبه على خلاف أبي حنيفة لأنه قال: لا تجوز إجارته إلا من الشريك خاصةً، والصحيح جوازه مطلقًا، لأن الشريك كالأجنبي في إمكان الانتفاع بالجزء المشاع. قوله: "ولا يضمن (الأجير) ما تلف (في) يده": قلت لأنه يده يد أمانة، وقد قيل بتضمين كل أجير في الطعام وغيره، وإن لم يفرط، وهي رواية عن مالك، والمعتمد عليه تضمين الأجراء في الطعام خاصة رعيًا للمصلحة، كان منهم تفريط وتغرير أم لا؟. وإذا قامت لهم البينة على هلاك الطعام من غير تفريط سقط الضمان على الأصح لزوال التهمة بالشهادة ولو قال الراعي: أكلها الذئب، فالأصل أمين فإن ذبحها، وقال: خفت عليها الموت لم يضمن على المشهور، لأنه مصدق، وقيل: يضمن حكاه الشيخ أبو القاسم. قوله: "واختلف في كرائها" في الملاح روايتان: أحدهما أنه لا شيء له بناءً على أنه على البلاغ، وقيل: بقدر المسافة، وفرق أصبغ بين أن يلجج أم لا، فإن لجج فهو جعل، وليس له من الكراء

شيء إلا بالبلاغ، وإن لم يلجج (فهو إجارة له) بحساب ما سكن، وإن لم يضمن الملاح لأنه غير متعد، فإن تعد وثبت تعديه فهو ضامن إن غر بالفعل، وإن غر بالقول لم يضمن على المشهور، ويتعلق (بالسفينة) ذكر تخفيفهما، ولا خلاف في وجوبه في حال الشدة، وخوف الغرق فيلقى من السلع ما ثقل دون الخفيف، واختلف المذهب في الرقيق وهل هو كحرمة الآدمي أو كسائر الأموال، والصحيح أنه كالآدمي أو كسائر الأموال، والصحيح أنه كالآدمي ويقع التوزيع على التجار على حسب القيم. واختلف المذهب في مكان القيمة، فقيل: في أقرب المواضع إليه، وقيل: في المكان الذي تحمل السلع إليه، وقيل: المعتبر الثمن الذي اشتريت به. قوله: "ويضمن الصناع (المؤثرون) بصناعتهم" قلت: اختلف الفقهاء في تضمبن الصناع فقال به مالك ومن (اتبعه)، وخالف في ذلك أبو حنيفة والشافعي (وأحمد) والعمدة لنا أنه يروى عن عمر وعلي وغيرهما، ولا مخالف لهما فكان كالإجماع، وأعطاهم المخالف حكم الأمانة المحضة وهو الصحيح نظرًا، وبه أفتى أبو عمران الفاسي فشنع عليه فقهاء عصره بالقيروان، (وأن الشتاء حينئذٍ صب في داره بالماء المالح) لما

خالف مالكًا، والقول بتضمينهم اعتبارًا (بالمصالح)، وسواء عمل في حانوته، أو في بيته بأجرٍ أو بغير أجر، كان التلف بصنعه أو بغير صنعه إذا كان مما يقدر على التحفظ منه. واختلف المذهب في إفساد الفأر هل يضمنه الصانع أم لا؟ على قولين، ولو قامت لهم البينة على التلف فهل يسقط عنهم الضمان أم لا؟ قولان المشهور سقوطه، عملوه بأجرٍ أو بغير أجرٍ وقال أشهب: لا يسقط، (وإن سقط) الضمان عنهم ففي وجوب الأجرة لهم قولان، قال ابن القاسم: لا أجرة لهم، وقال ابن المواز: هي لهم. وجه قول ابن القاسم: أنهم لم يسلموا المنفعة بتلف العين واعتبر ابن المواز أنه وفى عمله، وهذا حكم الأجير العام، وأما الخاص فأمين محض لا ضمان عليه. فرع: إذا قلنا بتضمين الصناع فشرط الصانع نفي الضمان هل ينتفع بهذا الشرط أم لا؟ فيه قولان عندنا. فرع: والصناع الضامنون المؤثرون بصناعتهم كما ذكره القاضي، وأما من لم يؤثر كالناسخ يضع عنده الكتاب المستنسخ منه، والحداد يضع (المثال) الذي يعمل عليه. قال سحنون: لا ضمان على هؤلاء إذا لم يؤثروا بصناعتهم شيئًا، وقال محمد: ضامنون اعتبارًا بالمصلحة. قوله: "والقول قول الصانع إذا خالفه رب السلعة" قلت: اختلافهما يتصور في مسائل: الأولى: أن يقول رب المتاع للصانع سرق مني، وقال الصانع: استصنعتني قولان أحدهما أن الصانع مدع، فالقول قول رب المتاع. والثاني: أنهما يتحالفان، ثم يقال لربه: ادفع له قيمة عمله، فإن أبى قيل له:

فصل في الجعل

ادفع له قيمة شيئته، فإن أبى كانا شريكين، ولو قال ربه للصانع أودعكته وقال الصانع: استصنعتني، فقال ابن القاسم: هو مصدق إذ العادة لم تجر بالإشهاد على مثل هذا، وقال غيره: الصانع مدعي: فالقول قول ربه. والثانية: إذا قال الصانع لرب المصنوع: استصنعتني بأجر، وقال ربه باطلًا، فالقول قول الصانع مع يمينه، وهل تكون له أجرة مثله أو الأقل منها. أو ما ادعى من الأجرة قولان عندنا. المسألة الثالثة: إذا دفع إلى الصانع ببينةٍ فلا يبرئه إلا الرد بالبينة، فإن قبضوا بغير بينة، فادعوا الرد، ولم تقم عليه بينة، فقال ابن الماجشون: القول (للصناع لأنهم حائزون بالعمل)، ولو اختلفا في مقدار أجرة البناء في دارٍ أو غيره، فالقول قول رب الدار، تكميل: قال علماؤنا من الحزن أن يعلم الأب ابنه الصغير الصنعة إذ المال تعرض له آفات الزمان، فإن احتاج الولد إلى الصنعة وجدها، وقد علم الله سبحانه كثيرًا من النبيئين الصنائع ورضيها لهم، ولو شاء لغناهم عنها، فالأول من حرث آدم، وكان نوح نجارًا، وكذلك كان يحيى بن زكريا، وكان إدريس خياطًا، وكان إبراهيم بزازًا، وكان داود صانع الدروع وأجار موسى نفسه من شعيب، وسليمان من الملاحين حين زال ملكه، وفقد خاتمه الذي كان سر أمره، فينبغي (اتباعهم)، والاقتداء بآثارهم صلوات الله عليهم. فصل قال القاضي- رحمه الله-: "والجعل جائز وليس بلازم" إلى آخره. شرح: الأصل في جواز الجعل، الكتاب، والسنة، أما الكتاب فقوله

تعالى: {ولمن جاء به حمل بعيرٍ وأنا به زعيم} [يوسف: 72] وأما السنة فقد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- أمضى لصاحب الرقية ما أخذ على رقيته حيث شفى زعيم الحي فقال له: (من أكل برقيته فقد أكل برقية حق) الحديث، والإجماع منعقد على جواز الجعل في الآباق والضوال. واختلف الفقهاء في جوازه فيما عداهما، فمنعه أبو حنيفة للغرر والجهالة، وللشافعي قولان: الجواز، والمنع، والصحيح جوازه، اعتمادًا على ما ذكرناه. قوله: "وليس بلازمٍ إلا أن يشرع في العمل": واختلف المذهب في الجعل هل هو من العقود الجائزة، أو اللازمة، والمشهور من مذهب مالك أنه من العقود الجائزة لا يلزم إلا بالعمل كالشركة والقراض وغير ذلك، فإن شرع المجعول له في العمل لزم الجاعل هذا هو الصحيح من المذهب. وحكى الشيخ أبو الحسن اللخمي وغيره من المذاهب فيه ثلاث روايات: أحدها (هذه الرواية الصحيحة المشهورة، الرواية الثانية أنه يلزم بالقول في حق الجاعل خاصةً دون المجعول له، الرواية الثالثة) أنه لازم بالقول لهما كالإجارة ومعتمد المشهور من المذهب جريان العمل من السلف بالمدينة عليه. وإذا فرعنا على جوازه فاخلتف فيه في فروع: الأول: اختار القاضي أبو محمد في المعونة، وشرح الرسالة وغيرهما أن الجعل إنما يجوز في الشيء (اليسير الذي لا خطر له، أو فيما كان لا ينحصر بأجرةٍ، ولا يجوز في الشيء) الكثير، وحمله على المذهب

وظاهر الروايات أنه يجوز في الكثير واليسير مما لا يتقدر من الأعمال بزمان، هكذا حكى القاضي أبو الوليد الباجي، وأبو الوليد بن رشد وغيرهما من المذاهب. قوله: "ومن شرطه تقدير الأجرة دون العمل": وهذا كما ذكره، لأن الأجرة إن كانت مجهولة دخلها الغرر من الطرفين. الفرع الثاني: إذا وقعت العقدة بين المتجاعلين جازت بشروطها، فإن قال رب الآبق: من جاء بعبدي الآبق فله كذا من غير أن يعقد ذلك مع رجلٍ بعينه، فجاء به، فهل له الرجوع على ربه بما أنفق عليه أم لا؟ المشهور أن له ذلك، وفي العتبية: النفقة من الذي جاء به، وهل له الطلب بالأجرة، وإن كره رب الآبق أم لا؟ فصل فيه أهل المذهب فقالوا إن كان الآتي به عادته ذلك، وعلم منه أن ذلك من شأنه، وأنه مما يكتسب بذلك، فله أجر مثله، وله النفقة التي أنفقها على الآبق، فإن لم يكن ذلك من شأنه، ولم يكن مما نصب نفسه للطلب، فلا جعل له على رب العبد، وإن أنفق عليه فهل يقضى له بالنفقة عليه أم لا؟ لأنه محتسب فيه قولان عندنا، والمشهور أنه ليس له في هذه الصورة إلا نفقته فقط، ولا جعل له، وقال ابن الماجشون: لا جعل له، ولا نفقة. الفرع الثالث: إذا جاعله على الإتيان بعبده فاستحق العبد بعد أن وجده، وقبل وصوله إلى ربه ففيه تفصيل: إما أن يستحق العبد بحريةٍ ففيه قولان أحدهما أنه لا جعل له على أحدٍ بحال، والثاني: الجعل على الجاعل، وإن استحق بملك في هذه الصورة فجاء به، فهل يكون الجعل على الجاعل أو على المستحق الأول وهو المشهور، لأنه مقتضى العقد. الفرع الرابع: إذا جاعله على عبده الآبق فأتى به ثم (أفلت) فأتى به

آخر فلن يكون الجعل، فيه خلاف والصحيح أنه بينهما بمقدار (التعب)، ولو أخذ الآبق، ثم أرسله ضمن قيمته لتعديه. الفرع الخامس: إذا أنكر المالك: (سعى) العامل في الرد فالقول قول مالك: لأنه المدعى عليه الغرم. الفرع السادس: إذا اختلفا في مقدار الجعل تحالفا ورجعا إلى جعل المثل. الفرع السابع: اختلف في الجعالة الفاسدة هل ترد إلى جعل مثلها أو إلى أجرةٍ مثلها فيه خلاف في المذهب حكاه القاضي أبو الوليد، واختلفت قاعدة المذهب في مشارطة الطبيب على البرء والمعلم على التعليم، (والحافر) على استخراج ماء البئر، والمغارسة في الأرض هل ذلك كله حكم الجعالة، أو حكم الإجارة حكاه القاضي وغيره، فإن كان حكمه حكم الإجارة تعين العمل فيه بالزمان أو غيره مما يضبطه، وإن كان جعلًا امتنع تقدير الأجل لكثرة الغرر حينئذٍ.

باب القراض

باب القراض قال القاضي- رحمه الله-: "باب القراض" إلى آخره. شرح: قلت: الكلام في جواز القراض وأحكامه وفروعه، قال الليث بن سعد كان القراض في الجاهلية معلومًا فأقره الإسلام، وصار سنة، وذكر علماء الآثار انعقاد الإجماع على جوازه، واختلفوا في أول قراض كان في الإسلام، فروى أن أول قراض كان في الإسلام أن عمر بن الخطاب أخرج من السوق من لا يعلم حكم البيوع، وكان فيه يعقوب مولى الحرقة جد العلاء بن عبد الرحمن فأعطاه عثمان مالًا قراضًا فأجلسه في السوق وكان يعلمه ويرعى أحواله، إذ لا يتقضي عثمان وورعه إلا ذلك، وقيل: أول قراض كان في الإسلام الذي أخذه عمر من أبنائه لما خرج عبد الله وعبيد الله ولداه في جيشٍ إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة فرحب بهما، فقال لو أقدر لكما على أمرٍ أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما الربح فقالا وددنا ذلك ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن ياخذ منهما المال فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر فقال أكل الجيش أسلفه مثل هذا قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال، أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر:

يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا، والرجل عبد الرحمن بن عوف، فقال عمر: قد جعلته قراضًا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال)، فإذا ثبت جوازه، فالربح فيه على قدر ما يتفقان (عليه) من الإجزاء من نصفٍ، أو ثلثٍ، أو سدسٍ، ونحوه، ولو كان الجزء معلومًا بالتقدير. لم يجز مثل أن يقول لك من الربح مائة، أو درهمًا فلا يجوز، لأنه لا يعلم هل يزيد الربح على ذلك أو لا يصل إليه فيقوى فيه الغرر، ولو قال له: اعمل في المال على أن لك فيه شركاء، وكانت لهم عادة حملًا على ما اعتادوه، فإن لم يكن في البلد عادة مخصوصة فقال ابن القاسم: للعامل قراض مثله، وقال غيره له النصف. قال القاضي- رحمه الله-: "وإن عقداه على أن جميع الربح لأحدهما جاز" قلت: وكذلك إن جعلاه المساكين، لأن الربح مال لهما فمن أسقط حقه لصاحبه، أو وهبه لغيره فهو جائز كالهبة المحضة وخالف في ذلك الشافعي، فقال إن العقد حينئذٍ فاسد إذا اشترطه أحدهما لصاحبه نفيًا للغرر، وقصر له على سنته من حيث إنه رخصة، وذلك أنه إن كانت (خسارة) فعلى رب المال، وإن كان ربحًا فليس له في شيء، فتأكد فيه الغرر مع اشتراط الربح لأحدهما، فلذلك منعه الشافعي، وقال أبو حنيفة: إذا (كان) جميع الربح للعامل كان قرضًا لا قراضًا. قوله: "ولا (يجوز أن) يكون رأس المال فيه عرضًا ولا غيره سوى

الدنانير والدراهم، وفي التبر والنقار وخلاف": يتعلق (به) الكلام في رأس مال القراض، واشتراط علمائنا فيه أربعة شروط: الأول: أن يكون نقدًا، احترازًا من غيره كالعروض وغيرها، وقد اختلف الفقهاء في القراض بالعروض فمنعه الجمهور، وجوزه ابن أبي ليلى، واحتج الجمهور على منعه باختلاف الأسواق في العروض وتبيانها بالارتفاع، والانخفاض ويقوى فيها الغرر، فالواجب عند الجمهور أن يقر على سنته، إذ هو خارج عن الأصول، ووجدت (وثيقة) بخط الشيخ أبي محمد بن أبي زيد- رحمه الله- مضمونها أنه دفع عروضًا لرجلٍ على أن يبيعهما، ويجعل ثمنها قراضًا بينه وبينه. وأصل مذهب مالك أنه إذا أعطاه عرضًا يبيعه على أن يجعل رأس المال من العروض فهو ممنوع، ومنعه الشافعي أيضًا لأنه قراض ومنفعة، أو قراض وجعل، أو إجارة إن جعل له على البيع ثمنًا، ومع ذلك فثمن العرض مجهول

فيؤول ذلك إلى الجهل برأس مال القراض، وأجازه أبو حنيفة. واختلف المذهب في مسائل: المسألة الأولى: النقرة غير المسكوكة إذا وقع التعامل بها جاز أن يكون رأس مال القراض إجماعًا فإن لم يكن التعامل بها فهل يجوز القراض بها أم لا، فيه ثلاثة أقوال: الجواز والمنع والكراهة، فالجواز لأنه ذهب يتعلق الحكم بعينه، والمنع لأنها ليست أثمانًا (في الحال)، وإن اعتبرنا القولين خرج من ذلك الكراهة توسطًا بينهما، والتبر عندنا كالنقار سواء. المسألة الثانية: اخلتفوا في الفلوس هل هي كالعروض، أو كالعين، وعندنا فيها قولان لمالك وعلى ذلك يجري الخلاف فيها في هذا الباب وغيره. المسألة الثالثة: لا يجوز القراض بالدراهم المغشوشة قاله القاضي أبو محمد، وقاله غيره: إن جرى التعامل بها في بلد، وصارت فيه أصول الأثمان فهي مثل غير المغشوش. والشرط الثاني: أن يكون معلومًا، احترازًا من أن يكون صرة مجهولة. والشرط الثالث: أن يكون معينًا ويدخل تحت هذا الشرط فروع: الأول: أن يكون له دين في ذمته، فيقول له اجعله قراضًا، ولا خلاف فيه أنه محرم لما فيه من التهمة على أن يكون من باب: انظرني وأزيدك، وهو ربا الجاهلية.

والثاني: أن تكون الدراهم رهنًا بيد العامل، أو بيد أمين، فلا يجوز أن يقارضه بها (حتى يقبض ربها) فإن كانت عنده وديعة فقارضه بها، فالمشهور الكراهة، فإن نزل مضى، والشاذ الجواز وهو الصحيح نظرًا، (لأنها) في المعنى تحت يد ربها، [وإن] كان دينًا في الذمةـ، فأحضره لربه جاز أن يبقيه عنده قراضًا بعد حضوره على الأصح لخروجه بإحضاره عن تهمة الإبقاء في الذمة، ولو أمر رجلًا أن يقبض (دينًا) له من رجلٍ (آخر، ويعمل به قراضًا لم يجز عند مالك وأصحابه، لأنه اشترط لنفسه منفعة) (زائدة) في القراض وهي تكليف (العامل للقبض)، وأجازه الشافعي لأنه وكالة. والشرط الرابع: أن يكون مسلمًا (إلى يد العامل)، احترازًا من أن يشترط رب المال أن يبقى المال في يده، أو يد غير العامل، فلا يجوز لما فيه من التضييق المؤدي إلى الغرر، وكذلك لو اشترط أن يراجعه، أو وكيله في التصرف لم يجز للتضييق (المؤدي) للغرر (وكذلك شرط: المخرج له من باب الأمانة إلى (التهمة)، فإن شرط رب المال أن يعمل معه غلامه بحظٍ من الربح قولان: الجواز والمنع.

فرع: إذا دفع له مالين قراضًا ففيه تفصيل إما أن يدفع له ذلك على شرط أن يخلطها أم لا؟ فإن كان على شرط الخلط جاز، اتفق الجزء فيهما أو اختلف، فإن كان على أن لا خلط لم يجوز مع اختلاف الجزء لما فيه من الغرر والمقامرة، فإن اتفق الجزء فيهما بشرط عدم الخلط، ففي المذهب في هذه الصورة قولان: الجواز، والمنع، فالجواز أنه مال واحد في المعنى لاتفاق الربح والمنع لأن ذلك إخراج له عن بابه إلى باب المقامرة. قوله: "وهو مستثنى من أصولٍ ممنوعة": والأمر كما ذكره ولما كان كذلك وجب أن لا يخرج به عن سنته المشروعة فيه، ولذلك لا يجوز فيه الأجل للغرر المتأكد حينئذٍ خلافًا لأبي حنيفة تشبيهًا له بالإجارة، ثم ذكر أنه من العقود الجائزة لا اللازمة، لكل واحدٍ منهما (تركه قبل العمل) بخلاف المساقاة على الأصح. قوله: "إلا أن يتعلق للآخر فيه حق" إشارةً إلى حكمه بعد وقوع العمل لتعلق حق كل واحد منهما بالعمل الذي هو مظنة الربح غالبًا، فإذا اشتغل العامل المال (بسلع فليس لأحدهما حله وعلى العامل بيعها، ونض المال، وكذلك إن طعن به فليس لرب المال) رد العامل بعد طعنه ولو اشترى (العامل) زاد السفر فلرب المال حل العقد، ولا يكون ذلك شغلًا إلا أن يطعن به ويجبر على (رد) المال من أباه إلا أن يكون تأخير (البيع: نظرًا مصلحًا فيحملان عليه حسب العرف، ومقتضى العادة. قوله: "ولا يجوز أن يضم إليه عقد غيره": وهذا هو المشهور، لأنه

رخصة أجيز للضرورة (فيقتصر) على ما ورد به الشرع، وحكى أشياخنا خلافًا في المذهب في العقود المختلفة الأحكام هل يجوز أن يضم بعضها إلى بعضٍ أم لا؟ قولان والصحيح المنع. قوله: " (ولا أن يشترط) أحدهما زيادةً على صاحبه" تتصور الزيادة المشترطة في حق رب المال، (وفي حق العامل، أما حق رب المال) فمثل أن يشترط بعد اشتراط جزءٍ من الربح عدد مثل أن يقول في شرط الربح وزيادة مائة دينارٍ أو نحوه وكذلك في حق العامل، وكذلك لو اشترط رب المال الضمان على العامل، فالقراض فاسد، لأنه زيادة (غرر)، وكذلك لو شرط رب المال على العمل زكاة رأس المال فهذا لا يجوز بلا خلاف، فإن شرط أحدهما على صاحبه زكاة الربح ففيه في المذهب (نظر، تحصيله بعد). قوله: "وله أنه يسار بالمال إلا أن يشترط عليه (ترك السفر) وليس له أن يبيع بالدين إلا أن يؤذن له": وهذا كما ذكره القاضي تحكيمًا للعادة، لأن السفر بمال القراض عادة معلومة، وعرف جار عند التجار، إذ لم توجد عنه مندوحة غالبًا. قال ابن حبيب: السنة أن لا يخرج العامل بالمال إلا أن يأذن له ربه، ولعله راجع إلى العادة فإن (حجر عليه ربه الخروج) فخرج فهو

متعد، (وكذلك البيع بالدين خارج عن العرف، فلذلك منعناه منه، فإذا سافر العامل) بالشرط أو بمقتضى العادة الجارية، فهل له النفقة والكسوة أم لا؟ فيه خلاف بين العلماء، وتحصيل القول فيه أنه إن كان به في الحضر فليس له نفقة ولا كسوة إلا بالشرط، فإن شغله البيع والشراء عن الانقلاب إلى منزله فنصوص المتقدمين أن نفقته في الحضر على نفسه، ولم يفرقوا، وحكى ابن القاسم في وثائقه أنه إذا منعه البيع والشراء في الحضر عن الانقلاب إلى (أهله) فله أن يتعدى (بالأفلس)، فإن سافر فلا يخلو أن يكون يسيرًا بحيث تستغرقه النفقة والكسوة أم لا فإن كان يسيرًا فلا شيء له بلا خلاف عندنا، وإن كان كثيرًا وسافر به إلى بلدٍ له فيه أهل (فلا نفقة في انصرافه إليهم، أو عنهم، وإن لم يكن له فيه أهل) فله النفقة ذاهبًا وراجعًا. وفي المذهب في هذه الصورة قول آخر أن له النفقة في ذهابه دون غيابه حكاه ابن القاسم الموثق وحكى القاضي أبو محمد أن للعامل في السفر النفقة والكسوة (التي لولا الخروج) بالمال لم يحتج إليها، وهي الزيادة على نفقة الحضر، قال ابن القاسم وله أن يكتسى منه في بعيد السفر، ولا يكتسى في قريبه إلا أن يقيم إقامةً يحتاج فيها إلى الكسوة. قال ابن حبيب (ومن قول مالك) أنه ينفق في قريب السفر في ركوبه وطعامه، ولا يكتسى إلا في البعيد، قال محمد: والخمسون دينارًا كثيرًا

(وفي غير كتاب محمد الأربعين دينارًا كثيرًا) (وأشهر أقوال) الشافعي أنه لا نفقة له أصلًا إلا أن يأذن له رب المال، وروي عنه أن له النفقة (مطلقًا)، وروي عنه أيضًا أن له النفقة في الحضر) وقال الليث: يتغذى في الحضر ولا يتعاشى. قال القاضي أبو محمد: "وينفق القريب على نفسه في إقامته في الحضر كالحاضر يسافر": والصحيح أنه ينفق منه بالمعروف إذا انتقل به في السفر والحضر، وكان انتقاله مانعًا من تصرفه لنفسه لأنه لم يدخل على التبرع. وإنما هو طالب للفضل، فلو أوجبنا عليه النفقة من ماله وهو مشتغل بتحريك مال القراض لأدى إلى تلف ماله، ثم ذكر أن يد العامل على المال يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتفريط، أو بالتعدي، وكذلك ليس عليه من الخسارة شيء فإن خسر في المال، ونض المال فرده إلى ربه، وبريء منه، ثم أخذه بعد ذلك فهو قراض مؤتنف، وليس عليه جبر الخسارة إلا أن يعمل فيه بعد الخسارة، وقبل أن يرده إلى ربه فيربح في العمل الثاني قبل الرد فعل العامل الخسارة، ويجبر على ذلك من أباه. قوله: "ولا يفسخه العقد بموت أحد المتقارضين" وهذا كما ذكره، وتحصيل القول فيه أنه إن مات رب المال فلورثته من الحق ما لموروثهم، ولهم الفسخ، ورد المال ما لم يشرع العامل في العمل، فإن مات العامل فإما أن يموت قبل الشروع أو بعده، فإن مات العامل قبل الشروع فمن طلب منهما حل العقد فله ذلك، وإن مات بعد الشروع في العمل، فقد تعلق

الحق بكل واحد من رب المال والعامل، فلورثة (في المال العمل) إن كانوا أمناء أو أتوا بأمين، وإلا رد المال على ربه، ثم ذكر حكم القراض الفاسد، وهل المستحق فيه أجرة المثل، أو قراض المثل. وفصّل بعضهم: لكل قراض فاسد أجرة مثله ... سوى أربعة قد حصلت بيان قراض بعرض وقراض مؤجل ... أو إبهام حظ وقراض ضمان وفرق القاضي بين قراض المثل، وأجرة المثل بما ذكره. وقال ابن حبيب: أجرة المثل معلقة بالربح كقول الجمهور في قراض المثل، وحكى القاضي أبو محمد عن بعض الأصحاب أن قراض المثل متعلق بالذمة، (والفرق بين الذمة والرقبة حقيقة أن القبة: عبارة عن ذاته وهيكلته، فإذا قيل: في بعض الأحكام في رقبته، فالمراد أن يقتضي منه عينًا لا بدلًا، وأما الذمة فهي عبارة عن ظرف ودعاء أثبتها الشرع على أن تكون محلًا للإلزام والالتزام شرعًا لا وجودًا لما في الأعيان، وإنما وجودها في الأذهان كالإنسانية في الإنسان، والحيوانية في الحيوان، وذلك أن الآدمي لما فارق الحيوان بخطاب الشرع فارقه بذمة تكون محلًا للإلزام في العقود والحقوق والتمليكات، وسائر الأحكام، وهو نوع كرامة لما أكرموا بالخطاب الملزم للحقوق وأكرموا بالمحل لذلك، وأما الحكمي فهو أن كل دين التزمه برضا من له الدين كان في ذمته، فيسمى دين معاملة، وكل ما التزمه بغير رضى كان في رقبته، فيسمى جباية) كقول الجمهور في إجارة المثل، وتظهر فائدة الخلاف إذا كان أحدهما أقل من الآخر، وفيما إذا عدم الربح على الأشهر. قوله: "وزكاة رأس المال على رب المال" إلى آخره، وهذا (لا خلاف) فيه أن زكاة رأس المال على رب المال لأنه ملكه، لا ملك فيه

للعامل، وزكاة الربح تابعة لأصله، ويزكى العامل، ورب المال زكاة المالك الواحد على المشهور من المذهب، وتظهر فائدة هذا إذا كان أحدهما ممن لا تجب عليه الزكاة كالعبد والذمي. قال ابن القاسم: إذا كان العامل عبدًا، أو ذميًا، فلا زكاة عليه في حصته من الربح، إذ ليس من أهل الزكاة، وقال عبد الملك تلزمه الزكاة اعتبارًا بالملك، ولا يجوز أن يشترط رب المال على العامل زكاة رأس المال بلا خلاف، وهل يجوز اشتراط أحدهما على الآخر زكاة الربح ففي المذهب أربعة أقوال: الجواز مطلقًا والمنع مطلقًا، وجواز اشتراط رب المال على العامل دون عكسه، وقيل: عكسه والصحيح الجواز وكذلك ربع العشر مضاف إلى الجزء الذي وقع العقد عليه، والمنع اعتبارًا. بها يتطرق إلى التجزئة من الجهالة بالاشتراط، وهو بعيد، لأن ربع العشر الذي هو مقدار (الزكاة) مضاف بنسبته إلى الجزء فلا جهالة، وبقيت مسائل تتعلق (بالقراض نذكرها فرعًا فرعًا). الأول: القراض شراء تجارة العامل، ويجب أن تكون غير مضيقة بالتعيين أو (بالتأقيت) وقيدنا بالتجارة لتخرج أعمال اليد كالطرز والصبغ والصناعة وسائر الحرف، فإن العقد عليها استئجار لا قراض، فإن عين له صنفًا من (أعيان) المتاجر فلا يخلو أن يكون كثير الوجود أو (نادر) الوجود، فإن كان (نادرًا) لم يجز لما في ذلك من التضييق على العامل (المحقق للغرر) وإن كان كثير الوجود جاز تعيينه، وإن عين له رجلًا

للمعاملة لم يجز وكذلك إن عين له حانوتًا أو سوقًا محصورًا (تندر) فيه السلع. فرع: قال أهل المذهب لا يبيع العامل بدين إلا بإذن، ولا يشتري بالدين، وإن أذن له، وانظر ما الفرق بينهما، وله الرد بالعيب إذا اطلع عليه، وإن كره رب المال ولا يشتري العامل من رب المال خوفًا من التهمة على القراض بالعروض، ولا يشتري بأكثر من رأس المال، فإن زاد فعل ذمته لا على ذمة رب المال، ولا يجوز للعامل أن يقارض غيره، ولا أن يشاركه، لأن رب المال إنما رضى بأمانته، فإن فعل فهو متعد. فرع: إذا اشترى العامل أمة من مال القراض فوطئها فحملت فهي له أم ولد إن كان موسرًا وإن كان معسرًا وله حصة من الربح فالمشهور أن الجزء الذي يخصه منها بحسب ربحه له حكم أم الولد وقيل: جميعها أم ولد، ويتبعه بقيمتها دينًا في ذمته، وإذا أثبتا لها في حال اليسر حكم أم الولد، فعليه لرب المال الأكثر من ثمنها أو قيمتها. واختلف الأشياخ (في تعيين) القيمة، فقيل: يوم الوطء، وقيل: يوم الحمل، لأن به وقع الفوت، ومن ضمن قيمة أمة بالوطء من شريك، أو مقارض فلا شيء عليه من قيمة الولد، وروى عن مالك أنها تباع، وإن حملت، وهذا إذا لم يكن فيها فضل، لأنه متعد في ذلك، وإن وطئها العامل ولم تحمل فرب المال مخير بين أن يضمنه قيمتها يوم الوطء، أو يطلبه بثمنها والله الموفق. فرع: إذا اختلف المتقارضان فاختلافهما في فصول: الأول: ضياع المال، أو خسارته، فالقول قول العامل مع يمينه، لأنه أمين، فإن اختلفا في رد المال وكان قبضه بغير بينة (صدق، لأنه أمين)،

فإن قبضه ببينة فقولان: أحدهما: أنه لا يقبل دعواه في الرد إلا ببينة. الثاني: أنه يقبل بغير بينة (فلا يبرأ إلا ببينة)، فإن اختلفا في مقدار رأس المال فالقول قول العامل، لأنه أمين، فإن اختلفا في الجزء الذي وقع القراض عليه فإما قبل الشغل فللعامل الخيار بين أن يعمل بما ادعاه رب المال أو يترك، وإن كان بعد الشغل فالقول قول العامل بشرطين: الأول: أن تكون دعوى مشبهة. والثاني: أن يكون المال بيده، فإن أسلمه إلى رب المال فالعامل مدع، والقول قول رب المال وكذلك لو ادعى ما لا يشبه ولو ادعى العامل أنه قراض، وقال: ربه بل بضاعة بغير أجرة ففيه قولان: أحدهما: أنهما يخلفان جميعًا، ويعطى العامل أجرة مثله قاله محمد وقيل: القول قول صاحب المال مع يمينه إلا أن تكذبه العادة، ولو قال العامل: هو بضاعة بأجرة، وقال صاحب المال قراض كان القول قول العامل، ولو قال العامل: هو قراض وقال ربه هو قرض، فالقول قول (رب المال)، وإن اختلفا في الصحة والفساد فالمشهور أن القول قول مدعي الصحة والشاذ العكس إذا كان غالبًا، ولو ادعى العامل زيادة (نفقة) في السفر من ماله قبل المقاسمة فالقول قوله لأنه أمين، وكذلك القول قول العامل إذ ادعى عليه رب المال التعدي ليضمنه فإن قال صاحب المال: هو وديعة، وقال الآخر: قراض، والمال قام، فالقول قول رب المال فإن ضاع المال في هذه الصورة، فإما أن يكون ذلك قبل التحريك أو بعده، فإن كان قبل التحريك فلا ضمان على العامل لاتفاقهما على أنه أمانة ومصيبته حينئذٍ من ربه، وإن ضاع بعد التحريك فالقول قول رب المال لأنه لم يأذن له في التجارة، وهكذا نص عليه أهل المذهب، وفهي نظر (محال) على (تشبيه) الدعوى، وترجيح قول الغارم المدعى عليه، ولو

قال: هو في يدي قراض، أو وديعة، وقال ربه سلف، فالقول قول ربه كما قدمناه، وحيث جعلنا القول قول العامل (أو رب المال) فلابد من اليمين لنفي التهمة في هذه (المحل) لاحتمال الكذب. وإن قال رب المال: هو بضاعة بأجرة، وقال العامل: بل هو قراض، فإن اتفقت الأجرة (والجزء فلا فائدة للخلاف في هذه الصورة وإن اختلفا) فالقول قول العامل إذا أشبه قوله، فإن نكل أو لم يشبه قوله فالقول قول رب المال في الأجرة التي سمي مع يمينه. قال أبو الوليد: وأصل قول مالك أن العامل أمين فالقول قوله في جميع دعاويه إذا ادعى ما يشبه. فرع: إذا اشترى العامل بمال القراض من يعتق عليه، أو على رب المال فيه تفصيل لنا: إذا اشترى من يعتق عى رب المال فلا يخلو أن يكون عالمًا بذلك أو غير عالم؟ فإن كان غير عالم بذلك عتق على رب المال وولاؤه له، ويرجع عليه العامل بما يخصه من ربح إن كان، وإن كان عالمًا فإنه يعتق على رب المال (فاشتراه) قاصدًا، فذلك لا يخلو أن يكون العامل موسرًا أو معسرًا، فإن كان العامل موسرًا أعتق على رب المال وولاؤه له، وعلى العامل غرم ثمنه له، لأنه أتلف عليه ماله في المعنى، وإن كان العامل معسرًا أعتق منه بقدر حصة العامل من الربح، وبيع منه بقدر رأس المال وحصة ربه من الربح، إذ لم يملكه في المعنى، قال سحنون: هذا أحسن ما جاء في ذلك من الاختلاف، فإن اشترى العامل من يعتق عليه فلا يخلو أن يكون في المال ربح أم لا؟ فإن لم يكن في المال ربح لم يعتق عليه مطلقًا إذ لم يملكه إلا بتقدير أن يملك حظًا من الربح، وذلك معدوم فإن كان في المال ربح، فإن وفى حظه من الربح بقيمة العبد (عتق عليه جميعه، وإن لم يف حظه من الربح بقيمة العبد) إما أن يكون موسرًا قادرًا على التكميل أم لا؟ فإن لم يكن له سوى

حظه من الربح عتق عليه منه بحظه، وإن كان له ما يكمل به عليه عتق جميعه واختلف المذهب في حظ رب المال هل يلزمه قيمته أو الأكثر من ثمنه أو قيمته يوم الحكم فيه قولان عندنا، قال ابن القاسم: إن كان موسرًا وقد علم، رأيت أن يعتق عليه ويدفع إلى رب المال رأس ماله.

باب المساقاة

باب المساقاة قال القاضي -رحمه الله-: "باب المساقة وكراء الأرض والمزارعة وما يتعلق بذلك". شرح: المساقاة عند جمهور أهل العلم جائزة خلافًا لأبي حنيفة، ومعتمد الجمهور ما وراه عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شطر ثمرها وقال لهم: أقركم ما أقركم الله) ورأى أبو حنيفة أنها خارجة عن الأصول من أوجه:

الأول: المزابنة لأن فيها قسمة التمر بالتمر متفاضلًا، وهي بيع الخرص. والثاني: المخابرة: وهي كراء الأرض بما يخرج منها. والثالث: بيع ما لم يخلق. والرابع: إجارة مجهولة فلما خالفت الأصول جعل قضية أهل خيبر مخصوصة، ورأى أنهم عبيد ملكهم -صلى الله عليه وسلم- وأرضهم بحكم الفتح فأقرهم على حكم العبيد، وأجرى لهم شطر التمر رزقًا لهم كما تجرى السادات بدليل قوله: (أقركم ما أقركم الله) فلو كان عقدًا صحيحًا لقيده بالأجل وفيه نظر لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث عبد الله بن رواحة الأنصاري يخرص عليهم فيقول لهم إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي فكانوا يأخذونه)، وهذا يعطي حكم الشركة مع أن الأئمة أبا بكر وعثمان فعلًا ذلك، ولا مخالف لهما من السلف، وقياسًا على القراض لاشتراكهما في دعوى الضرورة إليهما وهو مظنة الترخيص، ويتعين الكلام في محلها، وبه بدأ القاضي ولا خلاف عندنا أنها جائز في الأصول كلها، وفي الشجر اعتمادًا على فعله -صلى الله عليه وسلم- لأنه ساق أهل خيبر على ما فيها من زرع وشجر، فلذلك أجازها مالك في المباقل والمقاثي والزرع إذا عجز عن ذلك صاحبه. وهل تجوز في الثمرة بعد الطيب في ذلك قولان منعه ابن القاسم

إذ لا ضرورة حينئذٍ، وأجازه سحنون، وفي البقول (إذا نبتت) قبل أن تستقل: قولان عندنا: الجواز نظرًا إلى سبب الرخصة التي هي دعوى الحاجة والمنع قصرًا للرخصة على محلها. قال علماء المالكية: يشترط في الأصل التي تقع المساقاة عليها ثلاثة شروط: الأول: أن تكون مما لا تختلف ثمرتها احترازًا مما له بطون كالورد والقضب والقرط. والثاني: أن تكون مما يمنع بيعها احترازًا مما حل بيعه، فلا تجوز المساقاة فيه، إذ لا ضرورة إلى المساقاة، وأجاز ذلك سحنون كما ذكرناه، ورأى ذلك إجارة بنصفه. والشرط الثالث: وهو مخصوص بالزرع (بشرطين: الأول: أن يعجز ربها عنها). والثاني: أن تكون ظاهرة قد عجز ربها عنها أما ظهورها فمشترط بلا خلاف، وفي اشتراط العجز عنها خلاف عندنا، المشهور ما ذكرناه من اشتراطه، لأن (بوجوده) تتحقق الضرورة المقتضية (للرخصة). قوله: "وهي عقد لازم" قلت: بخلاف القراض وهل تنعقد بغير لفظها أم لا؟ قولان عندنا المشهور أنها لا تنعقد إلا بلفظ المساقة، وقال محمد بن

المواز وسحنون تنعقد بكل لفظ من ألفاظ الإجارة، ثم ذكر القاضي العمل الذي يوجبه عقد المساقاة على العامل وهو معلوم بالعادة، وهو عمل يده ونفقته على نفسه، وعلى دواب الحائط ورقيقه، كانوا له أو لرب الحائط، وعليه السقى والإبار والزبر، والتذكير وسرو الشرب، وهو تنقية الحياض، وشد الحظار، وهو تحصين الحائط، (وخم) العين وهو كنسها ونحو ذلك مما يوثر في الثمرة، وينقضي بانقضائها، وأما ما لا يتعلق بالثمرة، ويبقى بعد زوالها كحفر الآبار، وإنشاء الغراسة، وبناء بيت الاحتراز ونحوه فلا يقتضيه العقد، وهو يجوز اشتراطه أم لا؟ نص القاضي أبو محمد وغيره من المالكية أن اشتراط ذلك لا يجوز، وحكى القاضي أبو الوليد بن رشد أنه يدخل في المساقاة بالشرط لا بالعقد، ومن هذا القسم إنشاء ظفيرة للماء، والظفيرة ما حول النخل، وقيل: هي موضع الماء كالصهريج، وقيل: هو الشجرة يغرسها، والصحيح من المذهب أن هذه الأشياء التي تبقى بعد (انقضاء المساقاة) لا يقتضيها العقد، ولا يدخل فيه، ولا يجوز اشتراطها لأن ذلك زيادة، وينفرد بها رب المال، تخرج المساقاة عن بابها إلى باب الإجارة المجهولة، وبيع الثمار قبل بدو صلاحها، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ساقى أهل خيبر ولم

يشترط عليهم من ذلك شيئًا، ولم (يلزمهم) -عليه السلام- لهم مؤونة، وما كسر من آلات الحائط، أو مات من الحيوان، أو غار من العيون أو انهار من الآبار، فعلى رب الحائط إصلاحه ليتمكن العامل من العمل، وإذا وجبت على العامل الآلات والدواب والدلاء وغير ذلك فاشترطها على رب الحائط، فهل يجوز ذلك أم لا؟ أما ما كان من ذلك من الحائط فيجوز للعامل اشتراطه، وأما ما لم يكن في الحائط فهل يجوز أن يشترطها العامل على رب الحائط أم لا؟ قولان عندنا المشهور أنه لا يجوز، وأجازه ابن نافع وهو قول الشافعي. واختلف المذهب فيما رث من دلو أو حبل أو سانية بحيث لا ينتفع به هل يكون خلفه على رب الحائط، أو على العامل قولان عندنا (وكذلك اختلف المذهب هل يجوز لرب الحائط أن يشترط إخراج ما في الحائط من دولب أو رقيق أم لا؟ فيه قولان عندنا) المشهور جواز ذلك، والشاذ منعه. قوله: "وانتهاؤها إلى الجذاذ": لأن بالجذاذ حصلت المنفعة، ولم يبق محل للعمل إلا أن تنعقد على أعوام، فتلزم إلى انقضائها. قوله: "والمساقاة على جميع أنواع الشجر جائزة": يريد النوعين من شجر السقي والبعل ونبه على خلاف الليث وغيره فإنه منع المساقاة في البعل، إذ السقي بالماء هو العمل الأغلب المقصود في (الغلات)، وقال

داود: لا تكون إلا في النخل، وقال الشافعي: لا تكون إلا في النخل والكرم، والجمهور على جوازها في الشجر المسقي والبعل لدعوى الحاجة إليها في جميع ذلك. فرع: يجوز أن يساقيه سنين ما لم تكثر، قيل لمالك: عشرة أعوام فأنكر التحديد. قوله: "وإذا أخرج الحائط خمس أوسق بين رب المال والعامل ففيه الزكاة": وهو معتبر بالقراض، لأنه مال واحد بخلاف الخلطة، لأن العامل لا يستحق شيئًا إلا ببدو الصلاح، (وببدوه تجب) الزكاة فيتناولها الوجوب، وهي على ملك صاحب الأصل. قوله: "وليس لأحدهما زيادة شرط على الآخر" يعني: مثل أن يشترط أحدهما على الآخر زيادة دراهم، أو شيئًا خارجًا عن المساقاة لا يتعلق بصلاح الثمرة، وأجاز اشتراط الزكاة على أحدهما بخلاف القراض، قال القاضي أبو محمد في المعونة، لأن ذلك جزء معلوم، وهذه العلة جارية في القراض، والمعنى فيهما واحد، ثم ذكر حكم البياض يكون في الحائط. وتحصيل القول فيه أنه يستحب لرب الحائط أن يلغيه للعامل، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما ساقى أهل خيبر ألغى لهم البياض الذي كان لهم فيها، ولم ينقل أنه منع اليهود منه، ولا استثناه لنفسه، ولا طلب أجرة منهم عليه، فإن لم يلغه رب الحائط للعامل، واستثناه لنفسه، فإن كان على أن يعمله بنفسه أو بماله ولا يتولى المساقى من عمله شيء، ولا يناله سقي الحائط للعامل فهذا

لا خلاف في جوازه بناء على أصل الملك، فإن سكتا عنه فهو لرب الحائط بحكم الملك، وروى عن مالك أنه يلغي للعامل، فإن اشترطه رب (الحائط) لنفسه على أن على العامل سقيه وعلاجه، لم يجز سواء كان بذره من عنده أو من عند رب الحائط، لأنه اشتراط زيادة على المساقاة، (وذلك إخراج لها عن مورها، وإن اشتراط دخوله في المساقاة)، فإن كان أكثر من الثلث لم يجز أن يدخل في المساقاة، لأنه من باب اجتماع الشركة والمساقاة، وإن كان أقل من الثلث فاشترطه العامل جاز بشرط أن تكون قيمته الثلث فأقل من نصيب العامل عن ابن حبيب، أو من الجميع على القول الثاني الواقع في كتاب محمد، فإن كان قيمته أكثر من ثلث نصيب العامل، أو من ثلث الجميع لم يجز اشتراطه، لأنه حينئذٍ يصير معتبرًا لا ملغي، فإن اشترط دخوله في المساقاة في محل الجواز جاز، وكان حكمه حكم التجزئة في المساقاة، فإن شرط رب الحائط على المساقي أن يزرعه من عنده، ويعمله بيده، وما حصل بينهما جاز، وإذا أجزنا إدخاله في المساقاة إذا كان يسيرًا، (فاشترطه) صاحب الأرض، وهو أكثر من النصف، فهل يجوز أم لا؟ كرهه أصبغ ونص على كراهته القاضي أبو محمد، وأجازه غيره، وإنما اعتبرنا الثلث، لأنه حينئذٍ يصير تبعًا كمسالة الدار فيها شجرة يستثنى المكتري ثمرتها قبل طيبها، فيجوز إذا كان قيمة ثمرتها الثلث فدون، (لأن ذلك ينزلها منزلة) التبعية، فإن زادت قيمتها على الثلث، لم يجز، وكان من باب شراء الثمرة قبل (بدو صلاحها)، وبقيت مسائل تتعلق بالمساقاة:

المسألة الأولى: المساقاة على حوائط كثيرة مختلطة الثمار جائز على الأجزاء (المتفقة) والمختلفة إذا تعددت العقود، فإن كان ذلك في عقد واحد جاز على الأجزاء (المفقة)، ولم يجز على المختلفة لما فيها من المقامرة، ودليلنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ساقى أهل خيبر على اختلاف حوائطهم مساقًا واحدًا، ولم ينقل عنه خلاف ذلك، فأقر ذلك سنته. المسألة الثانية: إذا وقعت عقدة المساقاة فاسدة وجب فسخها قبل الشروع في العمل، فإن فاتت بانتهاء العمل، أو بالشروع في العمل فهل الواجب فيها أجرة المثل، أو مساقاة المثل مطلقًا، أو الأقل من المساقاة المثل أو أجرة المثل هذه الثلاثة الأقوال في المذهب، وهي مبنية على ما قدمناه في القراض وفي المذهب قول رابع أن منها ما يرد إلى مساقاة المثل، وذلك في المساقاة في حائط قد أطعم، وفيما إذا اشترط العامل على رب المال أن يعمل معه، في المساقة والبيع، وفيما إذا ساقاه في حائط سنة على جزء، وآخر على جزء غيره. (وفيما عداهما يردان إلى آجرة المثل). المسألة الثالثة: إذا اختلفا في الجزء الذي وقعت عليه المساقاة، فالقول قول العامل إذا أتى بما يشبه، لأن مؤتمن كالقراض. المسألة الرابعة: إن القسمة بني المساقي ورب الحائط إن كانت كيلًا فهي جائزة وهل تجوز القسمة بينهما بالخرص أم لا؟ ثلاثة أقوال في المذهب. الجواز مطلقًا اعتمادًا على فعل عبد الله بن رواحة. والثاني المنع (حذرًا) من المزابنة، والثالث أنه ممنوع في الربوي من الثمار جائز في غري الربوي.

فصل قال القاضي -رحمه الله-: "وكراء الأرض جائز للزرع بما عدا الطعام" إلى آخره. شرح: كراء الأرض جائز بالدنانير والدراهم وسائر العروض والحيوان (وسائر الأثمان) ما عدا الطعام. والدليل على ذلك ما رواه رافع بن خديج أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها فأما بالذهب والفضة فلا بأس به) وهو معنى نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة (أي) كرائها بالطعام، والمخابرة كراؤها ببعض ما يخرج منها، وأما الدور والحوانيت وغير ذلك فيجوز كراؤها بالطعام وغيره إجماعًا، وإذا أجزنا كراءها فهل يجوز النقد (في كراء الأرض أم لا؟ أما المامون منها فيجوز النقد) فيها. ولا يجوز في غير المأمون خوفًا من أن يكون تارة بيعًا، وتارة سلفًا، وهو نص القاضي وغيره من أئمتنا. فرع: يجوز كراء الداء سنين كثيرة كالعشرة الأعوام ونحو ذلك مما يؤمن فيه التغيير غالبًا، وكذلك يجوز كراء أرض المطر، وأرض السقي بالعيون والآبار والأنهار السنين كالعشرة الأعوام ونحو ذلك، وقال ابن الماجشون: لا يجوز كراء أرض المطر إلا لعام واحد، ويجوز كراء أرض السقي بالعيون الثلاثة الأعوام والأربعة، ويجوز كراء أرض الأنهار والآبار عشرة أعوام ونحوها، وكل هذا مبني على استحسان ومصالح، ثم تكلم على حكم الشركة

في الحرث وهي جائزة إجماعًا، واختلف المذهب هل هي من العقود الجائزة أو اللازمة، وبالأول قال الجمهور قياسًا على القراض، وهي رواية ابن كنانة عن مالك، قال ابن رشد: وبه جرى العمل بقرطبة وبالثاني قال ابن الماجشون وسحنون قياسًا على الإجارة اللازمة بنفس العقد، ولملاحظة هذا الأصل، اختلف المذهب أيضًا هل يلزم فيها التكافؤ والاعتدال وهو المشهور أو لا يلزم فيها إلا السلامة من كراء الأرض بالطعام فقط، وأم الاعتدال فيها على هذه الرواية فليس بشرط، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم تغليبًا لحكم الإجارة، وإذا فرعنا على المشهور من اعتبار الشرطين التكافؤ والسلام من كراء الأرض بالطعام فهل يجوز اشتراط الحصاد والدرس والتذرية على العامل أم لا؟ قولان عندنا منعه سحنون، وأجازه غيره من الأندلسيين، (وبهذا) جرى العمل عندهم، حكاه ابن القاسم في وثائقه. فرع: إذا دفع رب الأرض حظه من الزريعة على أن يخرج العامل مثله فزرع نصيب صاحب الأرض، ولم يزرع نصيبه من غير عذر، فالزرع كله لرب الأرض، وعلى العامل خدمته وله الأجرة، فإن لم يزرع حظه ولاحظ صاحب الأرض حتى فات الإبان لزم العامل لرب الأرض (كراء) نصفها مع نصيب قيمة عمله ومؤنة حصاده ودرسه، قاله ابن لبابة. فرع: هل يجوز لرب الأرض أن يشترط على الشريك أن يطرح الزبل في الأرض أجازه أهل المذهب بشرطين: أحدهما: أن تكون الأرض مأمونة. والثاني: أن تبقى الأرض بين مدة ينقضي فيها الانتفاع بذلك الزبل. فرع: إذا ادعى العامل أن رب الأرض لم يدفع له الزريعة، فالقول قول

(رب المال) لأنه مدعى عليه. فرع: اختلف المذهب في الشركة الفاسدة إذا فاتت لمن تكون الإصابة فقيل لصاحب البذر، وعليه كراء المثل، وقيل: لصاحب الأرض، وقيل: لمن اجتمع له (شيئان) فأكثر، وذكر سحنون عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنه قال الزرع لصاحب الزريعة) وهو قول مالك في رواية ابن غانم.

باب الشركة

باب الشركة قال القاضي -رحمه الله-: "باب الشركة". شرح: أجمع العلماء على أنها جائزة إذا وقعت على شرائط الصحة، والأصل فيها من الكتاب قوله سبحانه مخبرًا عن أهل الكهف:} فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة {] الكهف: 19 [فإن لم يكن المبعوث شريكًا، فالباعثون شركاء، ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركًا له في عبد قوم عليه) الحديث. وهي قسمان: شركة أبدان، وشركة أموال. فشركة الأموال على قسمين: عنان ومفاوضة، فهي إذن أربعة أنواع، وأنكر

بعض المالكية شركة العنان، وروى عن مالك أنه سئل عن شركة العنان فقال: لا أعرفها، ولعله أنكر التسمية، وإلا فهي لفظة معلومة في اللغة وشركة (معروفة) عند العلماء. وقال الجوهري في الصحاح: "شركة العنان بفتح العين: أن يشتركا في شيء خاص دون سائر أموالهما كأنه عن لهما شيء فاشترياه مشتركين فيه وقيل هو مشتق من قولهم عناني الشيء إذا أخطر ببالك وأظهرته، حكاه القاضي أبو محمد، وقيل معناه تساوي الشريكين في التصرف كتساوي الفارسين في السير، فهي على هذا مشتقة من عنان اللجام بكسر العين فيه. وأنشد القاضي لبعض العرب: وشاركنا قريشًا في علاه ... وفي أحسابها شرك لعنان وهي من العقود الجائزة، ولكل واحد منهما أن يفاصل شريكه (متى شاء) وهي عقد غير لازم مورث لانتقال الأملاك بالموت. ونتبع كلام القاضي: قوله: "وضرب آخر غير جائز وهو شركة الوجوه": وفسر هذه

لشركة، وإنما امتنعت لأنها من أكل المال بالباطل، لأنها شركة بغير مال ولا صناعة، وإنما هي من باب أن كل واحد استعار وجه صاحبه (وجاهه) بشرط ضمان النقصان رجاء الربح. وذلك غرر محض وأجاز أبو حنيفة هذه الشركة، وخالف في ذلك الجمهور. قوله: "ويشترط الربح بقدره ثم يخلطاه مشاهدة أو حكمًا": وهذا تنبيه على مذهب المخالف في الفرعين: الأول: اشترط مالك -رحمه الله- أن يكون العمل والربح على قدر رؤوس الأموال، وأجاز أبو حنيفة اختلافهما بأن يكون رأس مال أحدهما أكثر من الآخر، والربح دونه، وبالعكس تشبيهًا (بالقراض)، والعمدة لنا أن الربح ثمرة المال والعمل، ولما كان ثمرتهما وجب أن يكون تابعًا لهما كالخسران بدليل لو شرط أحدهما على الآخر جزءًا ينفرد به من الخسارة المقدرة في المال كان ممتنعًا، فكان حكم الربح كذلك، لأنهما فرعان عن مال الشركة، فوجب التساوي فيهما على قدر الملك كأجرة العبيد، وخراج العقار، وأثمان سائر المشتركات ونحوه هذا أصل المذهب، وروى (عن مالك) أنه إذا رضي صاحب الأكثر أن يكون له نصف الربح جاز إذا لم يكن حطيطة حطت من الربح لزيادة منفعة من شريكه مثل أن يكون ينتفع ببصره ونفوذ معرفته، لأن ذلك معروف محض إذا عرى عن المقابلة. وإذا بنينا على وجوب التساوي في رأس المال والعمل والربح، (فانعقدت الشركة على خلاف ذلك فسخت ما لم تفت، فإن فاتت بالعمل

فالربح) والخسارة بينهما على قدر العمل ويرجع من قل (رأس) ماله على صاحبه بأجرة المثل في نصف الزيادة في العمل، إذ لولا هذا لكان تتميمًا للعقد الفاسد، ولا سبيل إليه. الفرع الثاني: اشتراط الخلطة، وقد اختلف الفقهاء فيه فمنهم من أوجبه، ومنهم من أسقطه منهم أبو حنيفة القائل بأن الشركة (تصح)، وإن كان مال كل واحد على حدة، وفي مذهب مالك في اشتراطه قولان، فاشترطه سحنون، وغيره، وعليه جرى العمل، ولم يشترطه ابن القاسم، وأجاز الشركة، وإن بقى مال كل واحد منهما بيده، أو جعلاه على يد أحدهما أو على يد أمين. وإذا بنينا على اشتراط الخلط فهو جائز حسًا أو حكمًا بأن يتسلطا يديهما عليه معًا، (وتغالي في ذلك) الشافعي، باشتراط الخلط حسًا، لأن يقع التناصح في العمل والتناصف في طلب الفضل. قوله: "والمفاوضة أن يفوض كل واحد منهما إلى الآخر التصرف": وأجازها جمهور العلماء وعجبًا من الشافعي -رحمه الله- حيث منعها، حكاه عنه القاضي أبو محمد عبد الوهاب وغيره من ائتمنا وهي في المعنى

كالوكالة، يوكل كل واحد منهما صاحبه على التصرف في ماله على الإطلاق وهذا معنى المفاوضة. قوله: "ولا يكون شركة إلا بما يعقد أن الشركة (عليه) ": يعني أن تفاضل رؤوس الأموال في هذه الشركة كما يجوز أن ينفرد أحدهما بمال لا يدخله في هذه الشركة، ومنع أبو حنيفة التفاضل في رؤوس الأموال في هذه الشركة والانفراد، ورأى أن بعضها يقتضي التساوي، وعمدتنا أنها شركة العنان، ويلزم أحد المتفاوضين ما عقده شريكه (أو حله) من بيع أو ابتياع أو وضيعة أو رضاء بعيب، أو إقالة، أو تولية أو شركة أو تأخير، ولا يجوز لأحدهما أن يضيع ويقارض ومنعه سحنون، وانظر هل يجوز أن يكاتب عبدًا (أو عبيدًا للتجارة) أم لا؟ والصحيح جوازه إذا اقتضاه النظر، وتبينت فيه المصلحة (وله أن يودع إذا ادعت إلى ذلك ضرورة، ولا يجوز أن يهب ولا أن يتلف شيئًا من مال الشركة، وإنما له التصرف فيه بالمصلحة) والنماء، أو مظنته، ولا ضمان على واحد منهما فيما تلف على يده من مال المفاوضة إلا بالتفريط، أو التعدي مثل أن يعامل بغير شهادة أو يبعثه في البحر في زمان العطب غالبًا، أو نجحوه مما تتبين في المفسدة، وتتعين فيه الخسارة، ولمن ابتاع من أحدهما الرجوع على صاحبه بالعيب وعلى الجملة، يتنزل كل واحد منهما منزلة صاحبه، وليس لأحدهما أن يحابى، فإن حابى ففي ماله، وكذلك لا يجوز له إقراره بمال من مال المفاوضة لمن يتهم عليه من أب أو ابن أو زوجة أو صديق ملاطف، ولكل واحد منهما أن ينفق على نفسه وعلى عياله من مال الشركة، وسواء كان عيالهما سواء، أو كان عيال أحدهما (كثيرًا) إلا أن يتفاحش الأمر، ويكثر عيال أحدهما بحيث يتلف

معظم المال، وكذلك حكم الكسوة، ولا تراجع بينهما في ذلك، لأنه مقتضى المفاوضة، ويجوز اشتراكهما في بلدين على أن يجهز أحدهما لصاحبه لرجاء المصلحة في ذلك. قوله: "وأما شركة الأبدان فجائزة": إلى آخر الفصل (والتحصيل) فيه أن شركة الأبدان جائزة عند مالك وأبي حنيفة ومنعها الشافعي، والمعتمد لنا من وجوه: الأول: اشتراك الغانمين في الغنيمة وهم إنما يستحقونها بالعمل، وفي الأثر أن عبد الله بن مسعود شارك سعدًا يوم بدر فأصاب سعد فرسين، ولم يصب ابن مسعود شيئًا فلم ينكر النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهما ذلك، ولأن العمل تجوز المفاوضة عليه، وكذلك الشركة (سيما أن) المقصود من شركة المال هو العمل، ورأى الشافعي أن القراض خارج عن الأصول، فلا يقاس عليه، مع أن الأعمال لا تنضبط فكانت من باب الغرر المنهي عنه شرعًا. وشرط القاضي في هذه الشركة شرطين: اتفاق العمل والمكان وفي هذين الشرطين خلاف بين العلماء، فلم يشترط أبو حنيفة اتفاق الصنعة، واشترطه مالك خوفًا من القمار والغرر الذي يكون اختلاف الصنعتين، وكذلك اشترط أن يكون في موضع واحد لما في ذلك من انتفاء الغرر وهو قول ابن القاسم، وأجازه أشهب إذا كانا في حانوتين لحصول المقصود من اتفاق

الصنعة، ويجوز أن يلغي أحدهما لصاحبه ما كان تافهًا، وإن مرض أحدهما أو غاب الأيام اليسيرة لم يكن له الرجوع على صاحبه إلا أن تطول الغيبة، أو المرض، فله أخذ ما استفاد بعمله، وكذلك في شركة المفاوضة والعنان والاشتراك في الحمل على الدواب من باب شركة الأبدان، فإن كانت رقاب الدواب مشتركة فلا خلاف في جواز هذه الشركة، فإن لم يشتركا في رقاب الدواب فالمشهور جواز الشركة لأنها شركة بدن، والشاذ المنع لاختلاف الحمل، ودخول الخطر فيه. قوله: "وتجوز في الاحتطاب والاصطياد": تنبيه على مذهب أبي حنيفة ولعله إنما منع ذلك لقوة الغرر فيه، وزيادة الخطر. قوله: "ويجوز أن يكون رأس المال فيها عينًا وعرضًا": يتعلق به الكلام في رأس مال الشركة، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على جواز الشركة بالعين إذا كان من نوع واحد، وتحصيل القول في ذلك أن رأس المال إذا كان ذهبًا من أحدهما ودراهم من الآخر فالمشهور أن ذلك لا يجوز، لأنه صرف مستأخر في المعنى، ولأنه بيع وشركة في عقد واحد، والجمع بينهما ممتنع، والشاذ الجواز بناء على التناجز في المعنى. وإذا بنينا على المشهور فوقعت الشركة على ذلك فسخت ما لم تفت بالعمل، فإن فاتت وجب التراجع، وقسم الربح على مقدار رأس المال، فإن اختلفت (السكة) بالجودة (والرداءة) فهل يجوز أم يكره، لأن ذلك قمار ومخاطرة قولان: الجواز اعتبارًا بالنفاق، والكراهة لما ذكرناه، فإن كان رأس المال طعامًا فلا يخلو أن يكون من نوع واحد أو من نوعين، فإن كان من نوع

واحد ففيه قولان: الجواز، والمنع، وجه الجواز أن اتفاق الصنف كالذهب والفضة من الطرفين، ووجه العمل أن الطعام تختلف فيه الأغراض، وتتفاوت الأثمان بخلاف النقدين، فيقع فيه التأخير، وهو ممتنع في الطعام، والمنع هو المشهور، وإذا امتنع في الصنف الواحد فهو من النوعين أحرى. قوله: "وتنعقد على قيمته دون ثمنه": يريد أنه إذا أخرج أحدهما ثوبًا والآخر ثوبًا أو عرضًا آخر، انعقدت السكة بقيمة العرضين، وإن لم يذكرا الأثمان، ويكون رأس مال كل واحد منهما قيمة عرضه. قوله: "كان العرض مما يتميز عينه (كالرقيق والحياة) (والثياب) أو ممن لا تتميز": فيه تنبيه على تفصيل الشافعي، فإن صريح مذهبه أن الشركة إن كانت عي أثمان العروض مما تتميز عينه صحت، فإن سكتا عن الأثمان لم تصح الشركة مع سكوتهما، وإن كانت مما لا تتميز صحت الشركة على القيمة. وتحصيل قول مالك أنهما إن اشتركا وسكتا عن الثمن انعقدت الشركة بينهما على قيمة العرضين، لأنها معلومة عادة. فرع: هل من شرط الشريكين في المال أن لا يبيع أحدهما إلا بمحضر صاحبه شرطه طائفة من العلماء، والجمهور لم يشترطه وهو الصحيح، لأنه مقتض للوكالة والائتمان.

باب الرهون

باب الرهون قال القاضي -رحمه الله-: "باب الرهون": إلى قوله: "ولا يجوز غلق الرهن". شرح: الرهن مصدر رهنت داري رهنًا، وقد يستعمل الشيء في نفسه، وهو جائز، والأصل في جوازه الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله سبحانه:} وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهن مقبوضة {الآية] البقرة: 283 [، فإن قيل لا حجة فيها لتوقف الجواز فيها على شيئين: فقدان الكاتب في السفر، قلنا هو خطاب خرج عن الغالب فلا مفهوم له، يبينه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رهن درعه في الحضر عند يهودي في (ثلاثة) آصع من شعير، ومات ودرعه مرهونة. ومن أهل العلم من قصره على مورده من الآية وهو شاذ لا يعول عليه، قال به مجاهد وغيره. ويجب الكلام في الحد الذي ذكره القاضي. قوله: "احتباس العين وثيقة": إشارة إلى الشيء المرهون في نفسه، وحد القاضي ليس بجامع لخروج الغلات والديون عنه، وهو عندنا: "كل ما

يمكن أن يستوفى الدين منه، أو من ثمن منافعه عينًا كان أو غلة أو دينًا" كرهن الدين عند من هو عليه أو غيره مفردًا أو مشاعًا مما يصح بيعه، أو مما لا يصح كجلود الميتة بعد الدباغ، والعبد الآبق، والبعير الشارد على ما فيه من خلاف، وكالثمرة قبل بدو صلاحها، (كان) مما يعرف بعينه أو مما لا يعرف بعينه كالدنانير والدراهم إذا طبع عليها على المشهور مما سنذكره ملكًا للراهن أو مستعارًا له ليرهنه، ونحن نرسم هذه الجملة مسألة (مسألة). قوله: "ليستوفي الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها": إشارة إلى المدير وغيره، فإن الحق إذا امتنع استيفائه (من عينه) لامتناع بيعه لم يمتنع استيفاء الحق من ثمن منافعه وخدمته. قوله: "عند تعذر أخذه من الغريم": إشارة إلى الانتقال وهو في الحمالة على هذا الترتيب أيضًا على المشهور كما سنبينه. المسألة الأولى: قد ذكرنا أن احتباس الرهن إنما هو لاستيفاء الحق منه، أو من ثمن منافعه ومن المعلوم أن استيفاء الحق يتمكن من الأعيان القائمة، والغلاة كخراج العبيد، وكراء المساكن والديون الثابتة في الذمم، فيجوز أن يرهن ذلك كله، فيرهن داره وغلة عبيده، وخراج مسكنه ودينه عند من هو عليه أو غيره لإمكان الاستيفاء من جميع ذلك، ومنع الشافعي من رهن الدين، وشرط أن يكون الرهن عينًا، ولا وجه لذلك لإمكان حوزه واستيفاء الحق منه وهو فائدة الرهن. والله أعلم. المسألة الثانية: رهن المشاع جائز عندنا وعند الشافعي خلافًا

لأبي حنيفة. وسبب الخلاف هل تمكن حيازة المشاع أم لا؟ والدليل لنا أنه كما يصح قبضه بالبيع فيصح ارتهانه كالمقسوم، ومن الحنفية من منع بيع المشاع، فالاحتجاج عليهم حينئذ بجواز بيعه على جواز رهنه لمخالفهم في الأصل، والصحيح أنه متصور التسليم في المحلين. فرع: إذا بنينا على الصحيح من جواز رهنه تعين النظر في صفة حوزه، ولا يخلو أن يكون باقيه للراهن أو (لغيره)، فإن كان للراهن فلا يتصور حوزه إلا بقبض جميعه، وارتفاع يد الراهن عن جملته. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: "وإن كان جميع الدار أو العبد أو النوب للراهن فرهن نصف ذلك، ورفع يده عن جميع الرهن كان محوزًا". واختلف المذهب إذا كانت أيديهما (عليه هل يكون محوزًا أم لا؟ وكذلك في الصدقة، وإن كان باقيه لأجنبي فحوزه بحلول المرتهن محل الراهن، وارتفاع يد الراهن عنه، وسواء كان ذلك النصيب المشاع تحت يد المرتهن، أو تحت يد الشريك حائزًا للمرتهن، أو تحت يد عدل، أو تحت أيديهما) معًا، وسواء كان المشاع مما لا يبان به كالعقار هذا أصل المذهب. فرع: إذا ارتهن نصيبه من دار وأكرى نصيب شريكه وسكن فقال ابن القاسم: فسد الرهن بسكناه، إذا لم يقم المرتهن، فإن قام فله المقاسمة، إذ له أن يقول ليس لك أن تفسد عليه حيازة رهني، ولو حاز المرتهن ما رهنه من المشاع بغلق، أو غيره صح الحوز وللمرتهن أن يمنع الراهن من السكنى (حتى يقاسمه الرقاب، وإن كانت مما ينقسم، فإن كانت الدار مما لا ينقسم فللمرتهن أن يمنع الراهن من السكنى) ويكرى جميعها، فإن كان رهن توثقة

فقط فجميع الكراء للراهن، وإن كان رهن توثقة وانتفاع فالكراء بينهما على الأجزاء المرتهنة. المسألة الثالثة: يجوز البيع على رهن معين، ولا كلام في لزومه بالتعيين، ويجوز أن ينعقد على رهن غير معين، وعلى الغريم حينئذ أن يعطي الصنف المعتاد، ولا يلزم البائع قبول (ارتهان) ما لم تجر العادة بارتهانه مما في حفظه كلفة كالعبيد والدواب في حق من لم (يعهد) ذلك. المسألة الرابعة: يجوز أن يكون الرهن مما يجوز بيعه، ومما لا يجوز بيعه مما يصح تملكه احترازًا من الخمر والخنزير. ويدخل تحت هذا الضابط أنواع الثمرة قبل بدو الصلاح، والعبد الآبق والبعير الشارد، والجنين في بطن أمه وجلود الميتة بعد الدباغ، وجلود السباع المذكاة لأخذ جلودها، والمصحف والولد الصغير دون أمه، والأم دون ولدها، ونحن نفصل ذلك فنقول: رهن الثمار قبل بدو صلاحها جائز، وسواء كان طيبها عند محل أجل الدين، أو قبله أو بعده، أما إذا كان طيبها عند محل أجل الدين فلا إشكال حينئذ، فإن كان الطيب قبل ذلك وشرط إيقاف ثمنها (إلى محل الأجل) جاز إذ لا جهالة، فإن شرط المرتهن بيعها إذا طابت، وأن ينتقد ثمنها، فلا يخلو أن يكون ارتهانها بعد عقد البيع، أو في أصل العقد، فإن كان بعد عقد البيع جاز اشتراط تعجيل الثمن لسلامة أصل العقد من الغرر، وإن كان الارتهان في أصل العقد للبيع لم يجز لما في ذلك من الغرر والترجية في الثمن الذي لا يدي متى يتعجله لاحتمال أن تهلك الثمرة فيتأخر الثمن، أو أن تسلم ولم يبلغ ثمن ثمرتها مقدار الدين، وإن مات قبل طيب الثمرة وترك ما يوفي منه الدين، وفي الدين، وسلمت الثمرة للورثة، وإن ترك ما يفي ببعض الدين قبض ما أمكن، وانتظر بالباقي بدو الصلاح وبقيت تحت يده إلى الاستيفاء، فإن كان على الميت الراهن ديون كثيرة فلمرتهن الثمرة

محاصتهم في الحال لجملة دينه، ويبقى الثمرة بيده إلى إبان البيع فتباع، فإن وفيت بدينه رد ما أخذ في المحاصة، وتحاص فيه الغرماء، وإن كان ثمن ثمرتها أكثر من دينه رد الفضلة مع ما نابه أولًا في الحصاص، وإن كان ثمنها أقل فقد كشف الغيب أنه ليس له في الحاصة إلا بمقدار (ما بقى) فقط، فيرد ما زاد على ذلك للغرماء فيتحاصوا فيه أيضًا، وأما لعبد الآبق والبعير الشارد فرهنه جائز في أصل العقد في القرض، وبعد تقديره في الذمة، وبعد عقد البيع، وهل يجوز رهنه في أصل العقد أم لا؟ قولان في المذهب: الجواز، والمنع، والمشهور الجواز والشاذ المنع، ومبنى الخلاف على الخلاف في الرهن هل له قسط في الثمن أم لا؟ ومنع في الكتاب رهن الجنين في بطن أمه، وأجازه ابن ميسر، وهذا إذا كان في أصل العقد، أما بعد العقد فهو جائز. وقسم الشيخ أبو الحسن اللخمي الرهن على خمسة أصناف: الأول: ما يجوز بيعه وملكه، ولا خلاف في جواز رهنه. والثاني: ما يجوز ملكه، ولا يجوز بيعه للغرر كالعبد الآبق، والبعير الشارد وقد قدمنا ما فيه. والثالث: ما يجوز ملكه ولا يجوز بيعه لا للغرر، بل لمعنى آخر كأم الولد، وجلود الميتة قبل الدباغ وعظام الميتة. قال الشيخ أبو الحسن: فهذا القسم لا يجوز رهنه. قلت وفيه تفصيل وتعليل، فأما أم الولد فلا يجوز رهنها، إذ ليس له أن يستأجرها، ولا أن يبيعها، فلا يرهنا، إذ لا يملك منها رقبة ولا منفعة، وأما جلود الميتة بعد الدباغ فلا تباع على المشهور، لأن طهارتها خاصة، فلذلك لا ترهن، وأجاز ابن وهب بيعها بعد الدباغ،

فيجوز رهنها، وكذلك عظام الميتة إذا صلقت على خلاف فيها. والقسم الرابع: ما لا يجوز ملكه كالخمر والخنزير والسم ونحوه، ولا خلاف في امتناع بيع هذا القسم ورهنه. والقسم الخامس: ما اختلف في جواز بيعه، من هذا المصحف (وكتب الفقه) وجلود السباع المذكاة، وجلود الميتة بعد الدباغ ونحو ذلك مما اختلف في جواز بيعه، فيختلف في جواز رهنه على حسب الاختلاف في جواز بيعه، وقد قدمناه، ويجوز رهن الأم دون ولدها الصغير ولا يفرق بينهما في البيع، وتباع هي وولدها، ومرتهنها أحق بثمنها دون ثمن ولدها، ويوزع الثمن بينهما، ويكون في الباقي مما ينوب الولد إسوة الغرماء، ويرهن الولد دون أمه، وتكون الأم مع ولدها عند المرتهن ليتم حوزها، وقيل لا يرهن حتى يبلغ حد التفرقة إلا أن تكون معه أمه. فرع: إذا ارتهن عصيرًا فصار خمرًا أريقت عليه، وهل يلزم المرتهن أن يرفع أمره إلى (الإمام) أم لا؟ قولان، اللزوم خوفًا من أن يكون حاكم الموضع ممن يرى (تخليلها). والثاني أنه لا يلزم إذا أقام على ذلك بينة، فإن صارت خمرًا، فغفل عنها حتى عادت خلًا فهي في الدهن، فإن كان الراهن نصرانيًا رهن خلًا عند مسلم، فصار خمرًا أسلم ذلك إليه ولم يرق، فإن عادت خلًا أو خلله انتزعت منه وعادت إلى الراهن توفية لمقتضى العقود الشرعية. فرع: رهن المدير فيه تفصيل تحقيقه أنه لا يخلو أن يرهن رقبته أو خدمته، فغن رهن رقبته على أنه يباع قبل الموت لم يجز، فإن وقع ذلك فهل يعود حقه في الخدمة، وتباع خدمته وقتًا بعد وقت على حساب استئجار العبد والأمة، أو يبطل حقه من الرقبة والمنفعة معًا فيه قولان عندنا، وإن رهن

رقبته على أنه إن مات الراهن، ولا مال له بيع المدبر للدين السابق على التدبير، فلا يخلو أن يكون هذا الرهن في قرض، أو بيع، فإن كان في قرض جاز، وإن كان في بيع بعد العقدة جاز أيضًا، وإن كان في أصل عقدة البيع فأجازه اللخمي وغيره على الخلاف في جواز رهن الغرر، وقد تقدم ما فيه، وأما رهن خدمته فجائز. فرع: أجاز مالك رهن المصحف، ومنعه الشافعي، وقال في الكتاب: ولا يقرأ فيه المرتهن فإن أباحه له الراهن للقراءة، إما أن يكون في سلف، أو في بيع، فإن كان في سلف لم يجز ذلك، لأنه سلف جر نفعًا، كان ذلك في أصل السلف أو بعد عقده، وأما في البيع فظاهر الإطلاق المنع، وأجاز أشهب في أصل البيع، ومنعه بعد العقد لإمكان التهمة على أن تكون إباحته للانتفاع به في مقابلة النظرة، فيكون من باب سلف جر نفعًا. فرع: إذا ارتهن (دارًا) ثم ثبت أنها حبس ففي المذهب قولان في هذه الصورة، أحدهما أن منافعها للمرتهن، إذ هي على ملك الراهن من الحبس، والثاني أنه لا شيء له من غلتها إذ الرهن إنما يتعلق بالرقبة لا بالمنافع، وقد قدمنا الخلاف هل تعود على المرتهن رقبة المدير في منافعه أم لا؟

فرع: يتعلق بما قدمناه من رهن الغرر، وهو أن يشترط المرتهن منفعة الرهن وهو مما يسرع إليه التغير كالحيوان والثياب ونحوها، فهل يجوز ذلك أم لا؟ قولان كرهه في الكتاب وقال ابن القاسم: وأنا لا أرى به بأسًا كالإجارة، وهذا إجارة وبيع، وأجرى الأشياخ هذا الخلاف على الخلاف في جواز ارتهان الغرر، وقد قدمناه. المسألة الخامسة: قد ذكرنا أن وثيقة الرهن قد تكون مما يعرف بعينه، ومما لا يعرف بعينه كالدراهم والدنانير والفلوس، وكل ما يكال أو يوزن. وتحصيل القول فيما لا يعرف بعينه إذا رهن أنه لا يخلو أن يطبع عليها أم لا، فإن طبع عليها فلا خلاف في جواز ارتهانه وإن لم يطبع عليه، فإن كان تحت يد (عدل جاز، وإن كان تحت يد) المرتهن لم يجز للاتهام على أن يتسلفها. قال أشهب: لا أحب ارتهان الدنانير، والدراهم، والفلوس إلا مطبوعة للتهمة على أن يتسلفها، فإن لم يطبع حين الرهن، وعثر على ذلك لم يفسخ البيع، وأجبر على طبعه من أباه، ويجوز رهن الحلي، وإن لم يطبع عليه، لأنه مما يعرف بعينه، ولا يكاد يلتبس غالبًا. المسألة السادسة: يجوز أن يكون الرهن ملكًا للراهن أو مستعارًا له ليرهنه، وبجواز ذلك قال الشافعي، إذا علم المعير فإن حل أجل الدين وكان مليًا حكم عليه بقضائه، ورجع الرهن من المستعار إلى ربه، فإن كان عديمًا استوفى الدين من ثمن الرهن المستعار، ويقضي السلطان على الراهن ببيع الرهن، وإن كره ذلك ربه، لأنه إنما أعاره لذلك فإن بيع وقضى ثمنه الدين عن الراهن فلربه الرجوع عليه، واختلف المذهب بم يرجع المعير على المستعير، فقال ابن القاسم: يرجع عليه بقيمة المرهون، وقال أشهب إنما يرجع بثمنه (الذي بيع عليه به، واختاره بعض المتأخرين، وإلا كان بيعًا بالقيمة) وهو لا يجوز.

وتظهر فائدة الخلاف إذا كان أحدهما أكثر من الآخر، فإن بيع بأكثر من الدين يقضي الدين وفضلت من الثمن فضلة، وقفها الإمام، فإن ضاعت فضمانها من ربها، ولا ضمان على المستعير، فإن هلك المرتهن المستعار في يد المرتهن يرجع المعير على المستعير بقيمته إن كان مما يغاب عليه. وقاص الراهن المستعير المرتهن، إذ هو ضامن فيما يغاب عليه، فإن كان مما لا يغاب عليه فلا ضمان على المرتهن، ولا على المستعير. فرع: إذا أعاره عبدًا ليرهنه في دراهم، فرهنه في طعام فالمشهور أنه ضامن له لتعديه وقال أشهب: لا ضمان عليه في العبد وهو رهن في عدد الدراهم التي أعاره ليرهنه فيها، والأول هو الصحيح، لأنه إنما أعطاه له لوجه مخصوص، فلا يخرج عنه لما في ذلك من التعدي على المالك. والله أعلم. قوله: "وهو جائز بكل دين لازم": ويتعلق به الكلام فيما يجوز أخذ الرهن فيه، ونبه على مذهب المخالف القائل أنه لا يجوز الرهن إلا في السلم فقط، (فقصر) الآية على محلها، ويجوز أخذ الرهن في سائر الأثمان في البيوعات إلا في الصرف وفي رأس مال السلم، لأن أخذ الرهن في الصرف، وفي رأس مال السلم يؤدي إلى التأخير، وهو ممتنع إجماعًا، ويجوز أخذ الرهن في المسلم فيه، وفي القرض والغصب وقيم المتلفات، وأوراش الجنايات، وفي قتل الخطأ، لأنه مال على العاقلة، فيجوز أخذ الرهن منهم

فيه، وفي العارية المضمونة، وفي المنافع المضمونة في الذمة، وفي الجعل (بعد العمل) لأنه لازم، وفي المهور، لأنها ديون محققة، ولا يجوز أخذ الرهن في الحدود ولا في القصاص، ولا في كتابة، ويجوز أخذه في جراح العند التي لا قود فيها كالمأمومة، والجائفة لأنها أوراش مالية، وأما قتل العمد والجراح التي يقاد منها، فهل يجوز أخذ الرهن فيها أم لا؟ ففيه تفصيل، فإن بنينا على قول من يرى أنه ليس فيها إلا القود فلا يجوز أخذ الرهن فيها، وإن قلنا بالتخيير فيها بين القود والدية، وجبرنا القاتل على المال، وإذا أراد الولي ذلك فهذا مال أو ما يصير إلى المال فيؤخذ عنه الرهن والكفيل. قوله: "ويجوز عقده قبل وجوب الحق وبعده مقارنة له": قلنا أما إذا كان سابقًا أو مقارنًا فلا كلام فيه، فإن تأخر عن العقد، فإن كان على شرط زيادة في الأجل أو منفعة يشترطها فلا يجوز لأنه سلف جر نفعًا، وإن لم يكن على ذلك فهو جائز، ويجرى على تقديم الرهن على الحق المضمون، وكلا القسمين جائز عندنا كما ضكره، وقال الشافعي: لا يصح ذلك، ولا وجه له وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وإذا كان الرهن شرطًا في أصل العقد للبيع أو القرض كان أبين، لأنه يجري في الجبر على تسليمه مجرى البياعات، وإذا كان بعد العقد كان في الجبر على تسليمه عي حكم الهبات. قوله: "ويلزم بمجرد القول": قلت: لأنه من جملة عقود المعاوضة. قوله: "والقبض شرط في صحته": وهذا صريح مذهب مالك أن

العقد يوجب (لزوم) الرهن للراهن ويجبر الراهن على الإقباض، والعمدة لمالك قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول، وقد قال تعالى:} فرهن مقبوضة {] البقرة: 283 [إشارة إلى أن حكم الرهن أن يكون مقبوضًا ألا تراه أنه إن امتنع من ذلك جبر على الإقباض والتمكين، فإذا رفع الراهن يده عنه وأجازه المرتهن، أو جعل على يد عدل صح بلا خلاف، وإن بقيت يد الراهن عليه مع القدرة على حوزه حتى فلس الراهن الراهن (أو مرض) أو مات بطل الرهن، إلا أن يكون بقاؤه في يد الراهن بغير تفريط في المرتهن (في القبض مثل أن يرهنه دارًا عائبًا فيخرج المرتهن لحوزها فيموت الراهن قبل حيازة لها)، أو يكون مجدًا في الطلب، قائمًا به مستمرًا عليه، فلم يتمكن من القبض حتى قام الغرماء فهذا رهن صحيح على الأصح، إذ لا تفريط، وقيل يبطل ويكون إسوة (الغرماء) لعدم الحوز، وهو ظاهر إطلاق الكتاب. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وإنما تبطله التهمة أن يكونا قصدا إلى بقائه"، وشرط القاضي استدامة القبض احترازًا من أن يعود اختيارًا إلى يد الراهن مطلقًا بأي وجه رجع من إجازة، أو وديعة، أو استخدام، أو عارية أو غير ذلك، هذا كله سواء في إبطال الحوز، وعندنا رواية أنه لا يبطل الحوز رجوعه بأجرة. وإذا فرعنا على المشهور من أن رجوعه (يبطل) الحوز،

فرجع بإجارة إلى يد الراهن من غير المرتهن مثل أن يرهن دارًا، ثم يكريها من المرتهن رجل، ثم يكريها مكتريها من راهنها فقال ابن القاسم في العتبية: إن كان المكتري الذي أكراها المرتهن منه من سبب الراهن فالكراء لازم، وذلك فساد لرهنه ما دامت في يده. يريد إن علم المرتهن بذلك، وإن كان أجنبيًا صح الرهن. فرع: وإذا بنينا على ما قدمناه من أن رجوع الرهن إلى يد المرتهن يبطل حوزه، فقام يطلب رده ليعود له الحوز، فله ذلك إلا أن يفوت ويحال بينه وبينه بقيام الغرماء. وإذا أجزنا له القيام بطلب الرد فهل يكون له ذلك في العارية، أو يحمل على عارية المثل ففيه تفصيل، أما إن كانت العارية مؤجلة، فليس له الارتجاع قبل الأجل، وله الارتجاع بعد (انصرام) الأجل ما لم يستحدث دينًا، أو يقوم عليه الغرماء، وأما إن كانت العارية مبهمة فهل له الارتجاع في الحال أو يحمل المبهمة على (أجل المثل) قولان عندنا. وإذا أجزنا له القيام في رده فإنما ذلك إذا قال جهلت أن ذلك نقض للرهن وأشبه قوله فله الرد بعد أن يحلف، ولو أحدث فيه ربه بعد رجوعه إليه بيعًا أو تدبيرًا أو عتقًا أو تحبيسًا لكان ذلك (فوتًا) يمنع القيام بالرد، فإن كان الرهن رضا أذن له في حرتها حمل على أول بطن، فإذا رفع زرعه قبضها، وليس له أن يسترده، ولو أجره صاحبه من أجنبي بإذن المرتهن فسد الرهن فإن أجرة المرتهن بإذن الراهن لم يفسد، ولو استأجره المرتهن من الراهن فهل يبطل الرهن أم لا؟ فصل فيه الشيخ أبو الحسن اللخمي فقال: إن ولي الراهن العقد بنفسه فسد الرهن، وإن وليه وكيله جاز، وهذا لا معنى له، لأن يد وكيله كيده شرعًا، وإذا خرج الرهن من يد المرتهن غلبة لم يفسد الرهن كالغصب وآباق العبد، فإن وجد الآبق في يد الراهن، فقال المرتهن أبق

ولم يعلم ذلك لم يصدق وفسد الرهن عن قيام الغرماء، فإن ثبت أباقه لم يفسد. فرع: إذا اشترطنا القبض المستدام، فهل يشترط أن يكون قبضا للرهن أم لا يشترط. وتظهر فائدته فيما إذا كان الرهن تحت يده بإجارة أو مساقاة، ثم ارتهنه فهل يكون حوزه بذلك حوزًا للرهن أم لا؟ فيه قولان فقال ابن القاسم ذلك حيازة، وعنه في كتاب محمد لا يكون حوزًا، لأنه محوز (بوجه) غير الرهن، وتظهر فائدة هذا إذا قام الغرماء، هل يكون أحق به أم لا؟، وكذلك إذا كان المرتهن غير المستأجر مثل أن يؤاجر بغيره أو يساقي غلامًا في حائطه، ثم يرهنه من رجل آخر فهل يكون ذلك حوزًا للمرتهن أم لا؟ فيه تفصيل، فإن حاز العامل أو المستأجر الرقاب للمرتهن، أو جعل المرتهن مع العامل رجلًا فهو حوز صحيح، وإن لم يحز العامل للمرتهن، ولم يجعل معه المرتهن أمينًا، فليس بحوز، وفي الدمياطية فيمن ارتهن بعيرًا وهو في الكراء فعلفه المرتهن، وقام به فهو حوز، وإن كان تحت يد المستأجر فهل يضمن الرهن أم لا؟ قولان عندنا، أحدهما: أنه لا يضمنه، إذ ليس أصل حوزه بالرهن، وإنما حازه بحكم الإجارة وهو قول عبد الملك، والثاني أنه يضمن على حكم الرهان. فرع: ارتهان ما في الإجارة بخلاف ارتهان فضلة الرهن فحوز المستأجر للمرتهن ليس بحوز على ما قدمناه، وحوز فضلة الرهن حوز، لأن الفضلة محازة عن ربها، والمستأجر محاز لربه. فرع: إذا كان الرهن تحت يده بغصب، (ثم تعامل) الغاصب والمغصوب منه تحت يد الغاصب رهنًا صح ذلك عندنا خلافًا للشافعي لصحة الانتقال من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن عندنا، وقال الشافعي: لا

يصح ويبقى على ضمان الغاصب إلا أن يقبضه، وكذلك رهن الوديعة ويجب أن يعلم المودع الذي هي تحت يده أنها رهن في حق فلان فيحوزها للمرتهن (لا للمودع فإن لم يعلم المودع أو علم إلا أنه قال أحوزها للمرتهن)، فهل يكون الرهن صحيحًا أو باطلًا، أما إن عثر على ذلك قبل قيام الغرماء فللمرتهن طلب الحوز لنفسه، وإن قام الغرماء، وفلس الراهن فلا يخلو أن يكون المودع حاضرًا أو غائبًا، فإن كان غائبًا ففلس الراهن قبل قدوم الغائب ولم يقره المرتهن في طلب الحيازة، ففي صحة هذا الرهن قولان أحدهما صحته، ويكون المرتهن أحق به من الغرماء إذا لم يفرط. والثاني: بطلانه لعدم الحوز. واختلف المذهب إذا رهنه بعض الوديعة، ورضى المودع أن تكون الوديعة تحت يده لهما جميعًا، ففي المبسوط لعبد الملك: لا يجوز ذلك فليس ذلك بحوز، وقيل هو حوز ومن هذا الأصل اختلافهم في حوز الأب لولده الصغير إذا تصدق عليه ببعض داره، أو عبد وكانت يده عليه له ولولده، ففي صحة هذه الصدقة قولان حكاهما الشيخ أبو الحسن وغيره. قوله: "ويجوز أن يجعلان على يد أمين يرضيان به": وهذا تنبيه على مذهب المخالف لأن من الفقهاء من رأي أن قبضغير المرتهن لا يكون قبضًا، والجمهور على خلافه، لأنه محوز على الراهن في المحلين، وهو المقصود. وههنا (فروع): الأول: إذا اختلفا فادعى أحدهما إلى كونه عند المرتهن، (وديعة) وادعى الآخر إلى كونه أمين ففيه تفصيل. لبابه أنه إن كانت عادة حكم بها،

وإن لم تكن هناك عادة فقال ابن القاسم القول قول من ادعى العدل لتقابل الدعوى، وحصول المقصود بكونه تحت يد عدل، وقال غيره القول قول المرتهن. الفرع الثاني: إذا اختلفا في العدل الذي يوضع على يده، فادعى أحدهما إلى شخص وادعى الآخر إلى غيره، ففيه قولان عندنا، أحدهما أن النظر في ذلك إلى الحاكم فيوقفه حيث شاء لتقابل الدعوى، والثاني: أن القول قول المالك إذا ادعى ما لا ضرر فيه على (الآخر)، إذ هذا نظر لماله. الفرع الثالث: إذا كان المرتهن رجلين جعلاه حيث شاءا، ويجوز أن يجعلاه تحت يد أحدهما، وينظر الآخر فيه، ويتفقده، ولا يرفع يده عنه، فإن ضاع، وكان مما يغاب عليه فضمانه منهما معًا. مسألة: قد بينا أن القبض شرط في الاختصاص بالرهن، فقبض العرض والحيوان حوزها والبينونة بها، وقبض الأعدال والسفن والأنهار والأرضين والأشجار والعقار وضع المرتهن يده عليها، وارتفاع يد الراهن عنها، ويمنع المرتهن الرهن من التصرف فيها في المستقبل، وحوز مسكن الراهن خروجه عنه، وإخلائه من شواغله إلا أن يدخلها في الرهن، ويرفغ يده عنهما فتتبع المسكن، ولو ارتهن تابوتًا دون ما فيه فحازه عنه جاز، وكذلك الحائط دون رقيقه وثمرته ودوابه، فحوز الأصل حوز لما فيه، فإذا حال بينه وبين الرقاب وما فيها صح، وكان المرتهن الأصل أو ما فيه، وإن كان الرهن طعامًا مختزنًا فحوزه تسليم المفتاح إلى المرتهن أو إلى أمين وطابعه (كمفتاحه). قوله: "وضمان الرهن من مرتهنه": اختلف العلماء في ضمان الرهن

على ثلاثةِ أقوال فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور الرهن أمانة تحت يد المرتهن فلا ضمان عليه فيه بحال اعتمادًا على قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه» وقال قوم هو مضمون على الإطلاق وهو قول أبي حنيفة والكوفيين اعتمادًا على ما روى أن رجلًا رهن فرسًا من رجل فهلك في يده فقال -صلى الله عليه وسلم- للمرتهن: (ذهب حقك) وفرق مالك -رضي الله عنه- بين ما غاب عليه فيقع (في ضمان المرتهن) استحسانًا لمكان التهمة، وما يغاب عليه مما لا يستقل بنفسه كالثياب، والبسط، والسلام، وغير المضمون أربعة أقسام:

الأول: ما لا يبان به كالعقار على اختلاف أنواعه، والثاني أن يكون مما يغاب عليه إلا أنه داخل بالعقد على أن يبقى في موضعه، ولا يغيب عليه كالثمار في رؤوس النخل والزرع القائم أو في الجرين والأندر، وهذا موكل إلى الأمانة. والثالث: ما لا يغاب عليه مما هو مستقل كالحيوان على اختلاف أنواعه، فإذا ادعى هلاكه قبل قوله إلا أن تكذبه قرائن، وقد اختلف المذهب في ضمان الرهن إذا كان حيوانًا على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يضمن، والثاني أنه لا يضمن، (والثالث: أنه يضمن كل ما يستباح ذبحه وأكله دون ما لا يستباح ذلك فيه). والقسم الرابع: ما يبان به، ولا يغاب عليه كالسفن ترتهن، وهي على ساحل البحر، وآلات السفن ونحو ذلك، فهذا غير مضمون، لأنه مما لا يغاب عليه. فرع: إذا ارتهن رهنًا مما يغاب عليه فضاع عنده (فضمنه)، ثم أفلس ولا مال له إلا ما على الراهن فقال ابن القاسم: الراهن إسوة الغرماء بناء على أن الدّين ليس يرهن في الرهن إذ لم ينعقد الأمر على ذلك، وقال (أشهب) الراهن أحق بما عليه، والأول أصح، واختلف المذهب في خمسة مسائل: المسألة الأولى: إذا قامت البينة على تلف ما يغاب عليه هل يسقط الضمان تحكيمًا للبينة أم لا رجوعًا إلى حكم الأصل. المسألة الثانية: إذا اشترط (نفي) الضمان فيما فيه الضمان، أو إثباته في محل سقوطه، هل يوفي بالشرط أم لا؟ قولان عندنا. المسألة الثالثة: ما أصاب الرهن من سوس أو قرض فأر أو حرق نار

هل يضمنه المرتهن أم لا؟ وفي الدمياطية عن مالك: المرتهن ضامن وعليه (تفقده ونفضه)، وفي كتاب محمد: لا ضمان عليه وهو المشهور، وألحق القاضي وغيره الحيوان بالعقار، إذ لا يخفى هلاكه. قوله: "وكذلك إن كان على يد أمين": يعني أن ضمانه من الراهن سواء كان حينئذ مما لا يغاب عليه أم لا؟ وهو نصه في «المعونة»، وإنما لم يضمنه المرتهن إذ لم يقبضه فلا ضمان عليه حينئذ مطلقًا كان مما يغاب عليه أم لا؟ فإشارة القاضي بقوله: «وكذلك أي سقوط الضمان الذي هو أقرب مذكور إلى التفريق. قوله: «ونماء الرهن داخل معه إن كان مما لا يتميز»: يتعلق به الكلام في غلاة الرهن. وقد اختلف العلماء في غلاة الرهن هل يدخل ذلك في الرهن أم لا؟ على ثلاثة مذاهب: فقال قوم إن جميع ذلك يدخل في الرهن وبه قال أبو حنيفة والثوري، وقال قوم: إن جميع ذلك لا يدخل في الرهن. وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن غلات الديار والعبيد والحيوان والثمار غير داخلة في الرهن، وما كان على صورة الرهن وخلقته داخل في الرهن (كولد) الجارية المرتهنة وقال ابن القاسم في الصوف إذا كان موجودًا يوم الرهن، ثم جز، فهو داخل في الرهن، وقال أشهب: هو غلة لا يدخل فيه. قوله: «ونفقته على راهنه»: وهذا صريح مذهب مالك -رحمه الله-، ونبه

بذلك على خلاف أحمد بن حنبل وغيره القائل إن الرهن إن كان حيوانًا فعلى المرتهن نفقته، وله ركوبه والانتفاع به، معتمدًا في ذلك على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الرهن محلوب ومركوب) والجمهور من أهل العلم على أنه ليس للمرتهن الانتفاع بشيء من الرهن اعتمادًا على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الرهن من رهنه غنمه وعليه غرمه). ولذلك وجبت على الراهن نفقته ومؤنته وسقيه وعلاجه وإن كان عبدًا، فمات فعلى الراهن كفنه ودفنه، فإن أنفق المرتهن على الرهن بأمر الراهن أو بغير أمره فله الرجوع عليه بقدر النفقة، وهل يكون الرهن رهنًا في النفقة أم لا، المنصوص أنه لا يكون رهنًا بالنفقة إلا أن يقول له الراهن أنفق عليه على أن نفقتك في الرهن فحينئذ يكون أحق به من الغرماء، لأن رقبته مرتهنة في الدين، والنفقة لأنها دين، وقال أشهب النفقة على الرهن كالنفقة على الضالة، فالنفقة في هذا مبدأ على غيره من الغرماء، فإن ارتهن زرعًا ببئرها، فانهارت فهل يجبر الراهن على الإصلاح أم لا؟ المشهور أنه لا يجبر، وعن ابن القاسم أنه يجبر إن كان مليًا. وإذا بنينا على المشهور أنه لا يجبر على الإصلاح فأصلح المرتهن لخوف هلاك الزرع أو النخل فهل تتعلق نفقته بعين النخل، أو الزرع، فما زاد على ذلك باطل ليس فيه شيء، أو يتعلق الزائد بذمة رب النخل فيه قولان. قوله: "ومال العبد ليس برهن معه": قلت: لا يقتضي عقد الرهن دخول المال كما لا يقتضيه عقد البيع إلا بالشرط، وقد تقدم ما فيه.

قوله: "ويثبت رهنًا (بتقاررهما) ما لم يفلس الراهن": يتعلق به الكلام في صفة الحوز، وفي من يحوز عقد الرهن منه، وهو للراشد الذي لم يتعلق (بماله) حق غيره، احترازًا من المفلس، فلا يجوز رهن المفلس عندنا. واختلف قول مالك في رهن من أحاط الدين بماله، ولم يحكم بتفليسه هل يجوز رهنه أم لا؟ فالمشهور جوازه قبل التفليس، والشاذ أنه لا يجوز وللمأذون له في التجارة والمكاتب أن يرهنا ويرتهنا ويرهن الوصي عن محجوره للمصلحة، ولا يرهن أحد الوصيين إلا بإذن الآخر. وأما صفة الحوز ففيه تفصيل، أما قبل قيام الغرماء فيكفي في ثبوته الإقرار به، ولا يلزم معيانة البينة له، وأما بعد الموت، أو المرض، أو الفلس، فالمنصوص اشتراط معاينة الشهود الحوز، فإن لم يثبت ذلك لم يكن حوزًا، وكان للمرتهن إسوة الغرماء، قاله ابن القاسم في كتاب محمد. فرع: إذا استقرض الوصي ليتيمه من نفسه حاز الرهن لنفسه، فهل يكون هذا حوزًا صحيحًا أو لا؟ قولان حكاهما اللخمي، والصحة أولى لحصول الحيازة حسًا وحكمًا كحوز الوديعة. قوله: "وإذا كان فيه فضل جاز أخذ حق آخر عليه": يتعلق به الكلام في جواز ارتهان فضلة الرهن، ويجوز رهن الفضلة عند من (الرهن) تحت يده وعند غيره، فإن رهنها عنده وزاد في الدين على ارتهان الفضلة جاز، وكان حائزًا للرهنين جميعًا فإن كان الرهن في هذه الصورة تحت يد عدل ورضى العدل أن يحوز الفضلة لمرتهنها جاز، وإن لم يرض بذلك، ولم يحزها له ففي صحة الرهن في هذه الصورة قولان حكاهما الشيخ أبو الحسن

اللخمي فإن ارتهن الفضلة عند غير المرتهن الأول فلا يخلو أن يرضى الأول بذلك أم لا؟، فإن رضي به فلا خلاف في صحة الرهن، ويتم حوز الثاني ويبدأ الأول عليه، فإن علم الأول بارتهان الفضلة ولم يرض به، وكان في قيمة الرهن زيادة على (قدر) الحق ففي المذهب في هذه الصورة قولان، فقال ابن القاسم في كتاب محمد: لا يجوز إلا برضاه، لأن الأول إنما حاز لنفسه، وقال أصبغ بجوازه، وإن لم يرض الأول قياسًا على المخدم يهب صاحبه رقبته لغير المخدم فيجوز ذلك وإن لم يعلم المخدم، وكذلك إذا كان الرهن في هذه الصورة على يد عدل، فإن حاز لهما جاز وإن لم يرض بالحيازة للفضلة فالمشهور البطلان، ويتعلق بهذه المسألة الكلام في ضمان فضلة الرهن، وتحصيل القول في ذلك أنه إذا كان الرهن كله تحت يد المرتهن الأول لنفسه ولصاحب الفضلة، فضاع، وكان مما يغاب عليه، فهل يضمن المرتهن جميعه، أو يسقط عنه ضمان الفضل لأنه فيه أمين (فيه قولان عندنا، قال ابن القاسم: يسقط عن الأول ضمان الفضلة لأنه فيها أمين) وقال أشهب: ضمانه كله من الأول إذ لم تتعين الفضلة، فهو رهن واحد ولو كان الرهن كله على يد الثاني مرتهن الفضلة جرى فيه الخلاف المتقدم. قوله: "والرهن متعلق بجملة الحق وبابعاضه فما بقى جزء منه فهو رهن به": وهذا تنبيه على مذهب المخالف القائل أن للراهن أن يسترد من (الرهن) بقدر ما أدى من الدين. قوله: "ولا يجوز غلق الرهن": وهذا كما ذكره لثبوت نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن

غلق الرهن لما فيه من الغرر والجهل. قوله: "فإذا حل الحق وتعذر أخذه من الغريم باعه": قلت: فائدة الرهن أن يتخلص المرتهن من دينه من ثمن الرهن، أو من ثمن منافعه، ولذلك يختص به المرتهن، فإن باعه الراهن بنفسه، ووفى منه دينه فهو الواجب بالأصل، ووكيله بمنزلته، ويصح أن يوكل الراهن المرتهن على بيعه كالأجنبي، فإن وكله فهل له عزله لتعلق حقه بالوكالة أم لا؟ فيه قولان المشهور أنه ليس له عزله لتعلق حقه بالوكالة. والشاذ أن له عزله، وهو قول الشافعي وإسماعيل القاضي من أصحابنا اعتبارًا بسائر الوكالات. فرع: إذا وكل الراهن المرتهن على البيع فهل يستحب له الرفع إلى الحاكم وهو المشهور عن مالك دفعًا للخصومة، أو يستقل بنفسه توفية لمقتضى التوكيل حقه في قولان، وبجوازه من غير حاجة إلى الرفع، قال أشهب. فرع: إذا بنينا أنه لا يبيع، فباع نفذ البيع، ولا يرد، وقيل إن كان من الأشياء التي لها بال كالدور، والعقار، والحيوان، يرد البيع فيه ما لم يفت، فإن فات مضى قاله في كتاب محمد وفي العتبية عن ابن القاسم أحب (قوله) إلى (أن يمضي إذا أصاب وجه البيع، وإن كان له بال).

قوله: "وإذا اختلف المتراهنان في غير الرهن فالقول قول المرتهن": يتعلق به الكلام في اختلاف المتراهنين، ويتصور الاختلاف في مسائل: الأولى: التداعي في أصل الرهن والقول قول الراهن إذ الأصل عدمه، قال أشياخنا، ولو ادعى المرتهن أن مال العبد أو ثمرة النخل رهن، وأنكره الراهن فالقول قوله، إذ الأصل عدمه. المسألة الثانية: الاختلاف في عين الراهن مثل أن يقول أحدهما: رهنتني هذا الثوب (بعينه) ويقول الآخر: هذا الفرس، فالقول في هذه الصورة قول المرتهن، لأنه مدعى عليه. المسألة الثالثة: اختلافهما في قدر الحق، فالرهن شاهد للمرتهن فيما يدعيه إلى قيمته، فإن قال المرتهن هو في عشرة، وقال الراهن في خمسة، فإن كانت قيمة الرهن عشرة فالقول قول المرتهن مع يمينه وهو أحق به لحوزه له، فإن كانت قيمة الرهن خمسة فالقول قول المرتهن على المشهور. وفي العتبية: إذا كانت قيمة الرهن خمسة فالقول قول المرتهن لأنه يقول: رضيت أن آخذه في عشرة، فإن كرهت أن تفديه فدعه، وهذا بناء على أنه شاهد على نفسه لا على الذمة، فإن كانت قيمته سبعًا حلفًا جميعًا، وكان رهنًا في (قدر) قيمته. واختلفت الرواية في فروع من هذا النمط. الأول: إذا بنينا على أن الرهن شهد مع بقاء عينه، فهل يشهد على نفسه أو على الذمة فيه قولان عندنا، أحدهما أنه شاهد على (الذمة) فيحلف المرتهن، ويأخذ من المطلوب العشرة التي حلف عليها، وشهد بها في الرهن، فإن أبي الراهن أخذ الرهن أجبر عليه، والثاني أن الرهن شاهد على نفسه،

فيحبسه المرتهن فيما حلف عليه، ولا يتعلق ذلك بذمة الراهن ولا يجبر على أخذه إلا أن يشاء أن يفديه، فله ذلك مراعاة لأصل ملكه. الفرع الثاني: إذا جعلناه شاهدًا على نفسه، وحلف المرتهن هل له أن يحلف الراهن أم لا؟ قولان عندنا، أحدهما: أن المرتهن يحلف أنه في عشرة، فإذا حلف المرتهن استحلف الراهن أنه لم يرهنه في عشرة، ثم يسلم الرهن للمرتهن، وإذا استحلفنا الراهن، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: له يمين الاستحقاق، وليس على المرتهن كبير مؤنة في بيعه، فكان أولى أن يحكم على الراهن باليمين، وحمله على ذلك (كاذبًا) على مقتضى دعوى المرتهن. حكى القولين أبو الحسن اللخمي وغيره. الفرع الثالث: إذا كان الرهن على يد عدل هل يكون القول قول المرتهن إذا ادعى مثل قيمته كما لو كان في يد المرتهن، أو يكون القول قول الراهن فيه قولان: قال محمد بن المواز القول قول المرتهن وإن كان على يد عدل، لأنه إنما أخذه توثقًا فلا فرق. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: إذا كان على يد عدل فالقول قول الراهن إذ ليس بحائز له، وإنما رجح قوله إذا كان (في) يده اعتبارًا (بحق) الحوز. الفرع الرابع: إذا ادعى المرتهن أنه في عشرة، وادعى الراهن أنه في خمسة، وكانت قيمته سبعة، فقد قدمنا أنهما يتحالفان معًا لاختلاف الروايات، وهل يحلف المرتهن على عشرة التي هي دعواه، أو على قيمة الرهن المشهور أنه يحلف على أنه رهن في عشرة، ويأخذه إلا أن يفكه ربه بها، إذ هو شاهد على نفسه، لا على الذمة (وقال محمد له أن يحلف على مقدار قيمة الرهن لا غير، وهذا يحقق أن الرهن شاهد على نفسه لا على الذمة).

الفرع الخامس: إذا حلف المرتهن أنه في عشرة، وكانت قيمة الرهن سبعة فأراد الراهن أن يأخذ الرهن ويدفع المرتهن السبعة، قال ابن نافع: ذلك له ولا حجة للمرتهن، والمشهور أنه للمرتهن، وليس للراهن أخذه إلا أن يفكه بالعشرة التي حلف المرتهن على صحتها. قوله: "فإن كان في يد المرتهن حلف على ما ادعاه" يعني على العشرة في الصورة التي ذكرناها وكان القول قوله في قدر الرهن يريد إذا كانت قيمة الرهن عشرة، فإن كانت قيمته سبعة حلف الراهن على نفي ما زاد، وفرق القاضي بين أن يكون الرهن تحت يده، أو تحت يد عدل، وقد ذكرنا علة الفرق، ثم تكلم القاضي على ما إذا تلف الراهن وصفته مع فوات عينة تتنزل منزله فإن اتفقنا على صفة قومت، وإن اختلفا (فالقول قول المرتهن لأنه الغارم، وهذا إذا اختلفا في قيمته، وإن اختلفا) في مقدار الحق شهدت الصفة بذلك على حكم شهادة العين. فرع: اختلف المذهب متى تعتبر القيمة فقيل يوم القبض، وقيل يوم الحكم. قوله: ومن رهن عبداً، ثم اعتقه نفذ عتقه إن كان موسراً": واختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: قال الشافعي: لا ينفذ عتقه أصلاً، موسراً كان، أو معسراً تغليباً لحق المرتهن على الرهن، وقال أبو حنيفة: ينفذ عتقه موسراً، ويعجل للمرتهن دينه، وإن كان معسراً رد عتقه، وإذا بيننا على المذهب، وأمضينا العتق مع اليسر فالواجب أن يعجل للمرتهن دينه، فإن أتي الراهن برهن آخر بدل العبد، فقال ابن القاسم: ليس له

ذلك، ويحكم له على الراهن بتعجيل الدين، وأجازه الشيخ أبو بكر الأبهري لحصول المقصود من الرهن بعوضه، وإذا كان الراهن معسرواً لم ينفذ عتقه، وبقي رهناً بيده إلى الأجل، فإن استمر الإعسار رد عتقه وإلا نفذ. قوله: "ومن رهن أمه لم يجزله وطؤها": وهذا كما ذكره، لأن في وطئها إعادتها إلى قبضة، وتعريضها لأن تكون أم ولد، فإن أذن له المرتهن في وطئها بطل الرهن، لأن إذنه في الوطء مبطل للحوز المستدام المشترط في صحة الرهن، فإن وطئها بغير إذنه إما أن تحمل أم لا، فإن لم تحمل فهي رهن بحالها، وإن حملت وكان معسراً يبعت عليه، وقضي الحق من ثمنها، وإن كان معسراً كانت أم ولد، وعجل للمرتهن حقه اعتباراً بالعتق، فإن أوجبنا بيعها مع العسر فكانت قيمتها أكثر من الدين بيع منها بقدر الحق، وكان ما بقي بحساب أم الولد، أن الزيادة لا حق للمرتهن فيها، ولا سيبل إلي بيع الولد، إذا هو حر على كل تقدير، قال أشهب إن وجد من يبتاع منها بقدر الدين فعلت، وأعتق ما بقي، وإن لم يجد استوفي بالدين إلى الأجل، فإن وجد أيضاً ذلك، وإلا بيعت كلها، وقضي الدين، وكان ما بقي، وإن لم يجد استوفي بالدين إلى الأجل، فإن وجد أيضاً ذلك، وإلا بيعت كلها، وقضي الدين، وكان ما بقي لربها يصنع به ما شاء فإن وطئها المرتهن فلا يخلو أن يكون وطؤه لها بإحلال الراهن وإذنه أم لا، فإن كان بغير إذنه فهو زان، وعليه الحد، وإن كان بإذنه، فنص القاضي أبو محمد على سقوط الحد للشبهة وتلزمه قيمتها للراهن لتكمل الشبهة في درء الحد عنه، فإن حملت كانت له أم ولد، ولا شيء على المرتهن من قيمة الولد، لأن السيد حين أباح له الوطء رضي بحرية الولد، لأنه مقتضي ما دخل عليه الواطئ.

قوله: "وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن فللمرتهن إجازته وفسخه": وهذا فيه تفصيل وتحصيل القول فيه أنه لا يخلو أن يتعدي الرهن في بيعه قبل حوز المرتهن أو بعده، فإن باعه قبل الحوز ففيه قولان: المشهور أن البيع ماض، والمرتهن مفرط، والثاني: أن المرتهن مخير بين إمضاء البيع، أو رده لتعلق حقه بالرهن إلا أن يتبين تفريطه، وأما إذا قبض المرتهن الرهن فتعدي الراهن فباعه فالمرتهن بالخيار بين فسخ البيع وإمضاه، لأن المرتهن قد قبض الرهن، وحازه وهذا هو المشهور، والشاذ أن البيع ماض، ويوقف الثمن إلى محل الأجل، قال ابن القاسم: ليس عليه أن يعطيه رهناً غيره، لأنه مفرط حين تركه يبيعه، وف يكتاب محمد: يمضي البيع والثمن للراهن ولا يتعجل للمرتهن حقه، ولا يوضع له رهن في مكانه، ولا ينفض ما بينهما من بيع، أو سلف، وقد قيل يجبر على رهن آخر مكانه قاله ابن الماجشون فإن لم يجد له رهناً فللمرتهن رد سلعته، وله أن يمضيها بالثمن إلا الأجل من غير رهن، فإن باعه (بأمر) المرتهن ومضي البيع، فإن أراد تعجيل الحق، وزعم أنه إنما أجاز البيع ليتعجل الحق فالقول قوله مع يمينه كما ذكر القاضي. والله الموفق.

كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به

كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به قال القاضي رحمه الله تعالي: "المستحق عليهم الحجر ضربان" إلى آخره. شرح: الحجر: منع المالك من التصرف في ملكه لمعني ما، والأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم} الآية [النساء:5]، وأما السنة فما ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حجر على معاذ بن جبل، وقال لغرمائه خذوا ما وجدتم، وليس لكم غيره) قال الزهري: أدان معاذ ديناً فباع رسول الله -صلي الله عليه وسلم-[ماله] حتى قضي دينه، وقال: (ليس لكم إلا ذلك)، وأجمع العلماء على أن جنس الحجر مشروع، أما على الأيتام الذين لم يبلوغ الحكم فبالاتفاق، لأنه نص القرآن، وإذا اختلفوا في الحجر على العقلاء الكبار السفهاء فالجمهور على أن للقاضي أن (يستأنف) الحجر عليهم

اعتمادًا على فعله -صلي الله عليه وسلم- حين حجر على معاذ، وعلى أنه إجماع الصحابة، حين وقعت قضية عبد الله بن جعفر مع أن الآية التي ذكرناها أصل في هذا الباب، تقتضي أن سبب الحجر السفه، فحيث وجد علق الحكم (عليه)، وللخصم أن يقول السفه جزء العلة، ومجموع العلة الصغر والسفه معاً بناء على جواز التعليل بالعلة المركبة، وتعليل الحكم الواحد بعلتين وهو الأصح من أقوال الأصوليين، وقال طائفة من العلماء لا يبدأ الحجر على الكبار، و (الدليل) لهم حديث حسان بن سعد وفيه أنه ذكر لرسول الله -صلي الله عليه وسلم- أنه يخدع في البيوع فجعل له رسول الله -صلي الله عليه وسلم- الخيار ثلاثاً ولم يحجر عليه). وقسم القاضي المحجور عليهم على قسمين، وقال علماؤنا: أسباب الحجر سبعة، الصبا، والجنون، والتبذير، والرق، والفلس، والمرض، والنكاح في حق الزوجة، وسنذكر ذلك مفصلاً، ثم قسم المحجور عليهم لحق أنفسهم أقساماً، وبين ذلك -رضي الله عنه- أحسن تبيين. قوله: "ولا تراعي عدالته في دينه أو فسقه": وهذا لأن المقصود من الرشد ضبط المال وإصلاحه وتنميته، ونبه على خلاف الشافعي حين راعي العدالة في الرشد، وأوجب الحجر على الفاسق المصلح لماله.

قال مالك: وإذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، وهذا يدل على أنه لا بالبلوغ محمول على الرشد، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد يذهب بنفسه لا بماله. قوله: "وأما (في) الصغيرة فيراعي مع البلوغ وإصلاح المال أن تتزوج، ويدخل بها زوجها": ويؤنس رشدها إذ لا يتصور إيناس الرشد من المرأة إلا (بعد اختبارها غالباً)، وفي المذهب في ذلك روايات: الأولى: إنها بالبلوغ وإيناس الرشد محمولة على الرشد من غير اشتراط التزويج كالذكران، وهي رواية عن مالك، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. والرواية الثانية: أن المعتبر الدخول وأبناء الرشد من غير تحديد بمدة مقدرة. والثالثة: أنها لا يحكم لها بالرشد إلا بعد سنة. والرواية الرابعة: اعتبار سنتين بعد الدخول. والرواية الخامسة: أنها لا يحكم لها بالرشد إلا أن تمر بها بعد الدخول خمس سنين. والرواية السادسة: أنه لا يحكم لها بعد إلا بعد سبع سنين التي هي أقصي (أمد) الحمل، وهذا لا وجه له، وهذا كلها استحسانات ليس عليها من الشرع دليل.

واختلف المذهب في فروع: الأول: أفعال المهمل، وعندنا في ذلك روايتان، فروي ابن القاسم أن أفعاله كلها على الرد وروي ابن كنانة، وابن نافع أن أفعاله كلها ماضية، وزاد المتأخرون قولين: أحدهما أنه إن كان ظاهر السفه ردت أفعاله، (وإن كان خفي السفه مضت أفعاله)، القول الآخر: أنه إن كان (سفهه) حاصلاً قبل البلوغ، ثم استمر ولم يأت عليه حال رشد فأفعاله مردودة، لأنه لم يزل في ولاء، يبيع ما يساوي ألفاً بمائة. (الفرع الثاني: المحجور عليه إذا رشد ولم يفك الحجر عنه هل تمضي أفعاله أو ترد فيه قولان حكاهما الإمام أبو عبد الله)، ثم ذكر علامات البلوغ، والاختلاف فيها إلا في الإنبات خاصة، وفي تقدير السنين، أما الإنبات فهو من علامات البلوغ عندنا، ولم يعتبره أبو حنيفة، واختلف فيه قول الشافعي، والدليل على أنه بلوغ، أو دلالة على البلوغ، قوله -صلي الله عليه وسلم- (الجزية على من جرت عليه المواسي وقال في بعض غزواته: (اقتلوا من جرت عليه المواسي) وحكم-صلي الله عليه وسلم- سعدًا في قريظة، فحكم بقتل مقاتلهم، وسبي ذراريهم، فكنا نكشف عن مآزرهم فمن أنبت منهم قتلناه،

ومن لم ينبت جعلناه في الذراري، فقال -صلي الله عليه وسلم- (حكمت فيهم بحكم الله) وذكر أهل الآثار أن عثمان بن عفان أتي بغلام قد سرق فقال إن كان أخضر منزره فاقطعوه، واختلف في سن البلوغ فعن ابن وهب أن أقل ذلك خمسة عشرة سنة، وقيل ثمانية عشر، وقيل ما بينهما، وحديث ابن عمر حين (أغزاه) النبي -صلي الله عليه وسلم- وهو ابن خمسة عشر سنة، ورد ابن أربع عشر سنة، دليل على صحة ما ذهب إليه ابن وهب على أن حديث ابن عمر فيه اختلاف بيه (الرواة). واختلف المذهب في أفعال البكر المعنسة، فروي ابن الحكم ومطرف عن مالك أنها إذا عنست جاز صنيعها في مالها، وإن كان لها أب أو وصي، وقال ابن القاسم: لا يجوز لها بيع، ولا عتق، ولا عطية، ولا كفالة، وإن أجازه الولد لم ينبغ للسلطان أن يجيزه، وعن ابن وهب وغيره أن بيعها جائز، وهبتها وصدقتها لا تجوز. قوله:"ولا يحجر عليه إلا الحاكم": يعني الكبير السفيه، ونبه على خلاف محمد بن الحسن، حيث قال يحجر عليه الأب من غير حاكم وهو

ضعيف وكل مختلف فيه فيفتقر إلى اجتهاد الحاكم بترجيح أحد القولين على الآخر. قوله: "ولا ينفك (حجره إلا بحاكم" في هذه اللفظة روايتان أحدها ولا ينفك حجره فيتقيد ذلك بالكبير السفيه، والرواية الثانية: ولا ينفك الحجر، وهذا إطلاق في كل حجر، وهذا إطلاق في كل حجر، والرواية الأولى أجري على المشهور من المذهب، لأن للأب أو الوصي أن يفك الحجر من غير إذن حاكم، أما الأب فلا أعلم فيه خلافاً عندنا، وأما الوصي، فاختلفت فيه الروايات عن المذهب والمشهور أن الوصي من قبل الأب كالأب، فله أن يفك الحجر إذا علم رشده من غير افتقار إلى حكم حاكم، وقيل لا ينفك عنه الحجر إلا أن يعلم غيره رشده من غير حكم، وعندنا رواية ثالثة أنه لا بد من يثبت رشده ويتقرر عند الحاكم ثبوته. قوله:"وأما المحجور عليهم لحقوق غيرهم فأربعة": وبدأت بالزوجات وهن قسم مختلف فيه، والمذهب كله متفق على الحجر عليهن فيما زاد على الثالث إلا في المعاوضات والمصالح، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا حق لزوجها في مالها، ولا حجر عليها، والدليل لنا قوله -صلي الله عليه وسلم-: (تنكح المرأة لدينها، ومالها، ولجمالها) وذلك يدل على أن للزوج حقًا في مالها، هذا استدل به القاضي أبو محمد وغيره، وفيه نظر، وقال -صلي الله عليه وسلم-: (لا يجوز لامرأة

أن تقضي في ذي بال إلا بإذن زوجها) رواه ابن الماجشون بإسناده إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- وقال-صلي الله عليه وسلم-: (لا يحل لامرأة ملك زوجها عصمتها عطية في مالها إلا بإذنه) فإن صح مقتضاه الحجر عليها في جميع مالها، وهو خلاف المذهب أن تصرفها بالعطية والائتلاف جائز في الثلث فما دونه، ولعله قياس على المريض فإن تصرفت في أكثر من الثلث فهل يحمل ذلك على الجواز حتى يسترده الزوج، وهو قول ابن القاسم، أو على الرد حتى يجيزه وهو قول مطرف وابن الماجشون، ثم إذا اختار الرد فقال مالك: يرد جميعه لأنه ضرر، وقال المغيره، يجوز منه مقدار الثلث (اعتباراً بالمريض، وقيل يجوز منه مقدار الثلث) إلا في العتق خاصة، إذا لا يتصور فيه التبعيض فيرد جميعه حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي وغيره، وأما المريض (والعبيد والمفلسون) فلا خلاف في الحجر عليهم، وألحق الحامل والزاحف في القتال والمقرب للقتل بالمريض، للاشتراك في العلة غالباً. قوله: "ومن استدان من المحجور (عليهم) ديناً (بغير إذن وليه)، ثم فك حجره لم يلزمه ذلك فيمن حجر عليه لحق نفسه كالسفيه والصغير": وهذا كما ذكره، إذا لو لزمهم لم يكن للحجر عليهم فائدة بخلاف من حجر عليه لحق غيره لذهاب العلة، فإن فسخ السيد عن عبده الدين قبل عتقه بطل، ويكفي في ذلك الإشهاد من غير حاجة إلى حكم حاكم، وهذا في غير المأذون له، وأما المأذون فلا تفك عنه الديون، لأنها مقتضي الإذن له في التجارة.

فصل في المفلس

قوله: "ولولي المحجور عليه لسفه أو لصغر أن (يأذن) له في التجارة:: وهذا كما ذكره أن اختبار الولي لمحجوره مأذون فيه بمقتضي قوله سبحانه: {وابتلوا اليتامي} الآية [النساء:6]، ومخرج الخطاب على الغالب، وما استدان من دين فمتعلق بمال الاختبار (لا بذمته) لبقاء الحجر عليه، وقدر مال الاختبار تابع القدر مال اليتيم (وولي اليتيم) مصدق فيما يدعيه من النفقة على محاجيره الذين في حجره، وتحت حضانته فإن كان الأيتام عند الأم، أو الحاضنة لزمه إقامة البينة على ما يدعي دفعه من النفقة، ثم ذكر أن النفقة على الأيتام تابعة لأموالهم وأحوالهم، وتلزمهم نفقة أمهاتهم وآبائهم مع يسرهم، وعسر آبائهم، ويجوز تأديب الوصي ليتيمه وضربه وخلط نفقته، بنفقته على وجه النظر والمصلحة، وكذلك التجارة في ماله لقوله سبحان {ويسئولنك عن اليتامي قل إصلاح لهم خير} [البقرة: 220] ويأكل الوصي من مال اليتيم بالمعروف إذا كان محتاجاً إلى ذلك بقدر أجر له إذا كان ينظر في مصلحته ويقوم بأشغاله ومنع من ذلك أبو حنيفة والدليل لنا قوله تعالي: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء:6] وبه أفتي ابن عباس وغيره، ولا يقبل قول الوصي في رد المال إلى اليتيم بعد الرشد إلا بالإشهاد" لقوله تعالي {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} الآية [النساء:6]، وقال أبو حنيفة: القول قوله مع يمينه لأنه أمين، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأنه مقتضي النص. فصل قال القاضي -رحمه الله-: "وأما المفلس فإذا طلب غرماؤه أو بعضهم الحجر عليه (فللحاكم) أن يحجر عليه ويمنعه التصرف في ماله": وهذا كما

ذكره، وقد ذكرنا أن الأصل في ذلك أن النبي -صلي الله عليه وسلم- حجر على معاذ بن جبل، وإنما يجوز الحاكم الحجر علي المديان بالديون الحالة الزائدة على قدر ماله، لا بالديون المؤجلة، وإذا أفلس (الغريم) نفسه، ومكن غرماءه من ماله، فقسموه من غير حكم، فهو كحكم الحاكم بتفليسه، وهذا حكم الحاضر، وأما الغائب فلا يخلو أن يكون قريب الغيبة مثل الأيام فليكتب الإمام في الكشف عن أمره حتى يعلم ملؤه من عدمه، وإن كان بعيد الغيبة وعرف ملؤه فهل يفلس أم لا؟ قولان قال ابن القاسم: لا يفلس اعتباراً بما علم من ملئه وقال أشهب: يفلس وتحل ديونه أخذاً بالاحتياط. قوله: "ويمنعه التصرف في ماله" قلت: للحجر أربعة أحكام: التصرف في المال بالتفويت، والثاني: حلول دينه، وبيع ماله وقسمته على الغرماء، والثالث: حبسه إلى ثبوت (إعساره)، والرابع: الرجوع إلى (عين) المال. (أما الأول: منع التصرف) في المال، ولا خلاف أن الحجر يمنع التصرف في المال بالإتلاف، فلا يجوز عتقه ولا هبته ولا بيعه بالمحاباة، لأن ذلك إتلاف لمال الغرماء، والحاكم بتحجيره عليه قد منعه من ذلك فأما بيعه بالقيمة فموقوف على إجازة الغرماء. واختلف المذهب في عتقه أم ولده هل يمضي، إذا ليس له من رقبتها إلا الوطء أم لا (إجراء لها مجري) الرقيق في انتفاعه بها، فإمضاء ابن القاسم في الكتاب وفي كتاب ابن سحنون، وقيل: مردود قاله المغيرة: وإذا قلنا بمضي العتق على قول ابن القاسم: فهل يتعبها أم لا؟ ففي كتاب

محمد يتبعها مالها، وقال ابن القاسم: لا يتبعها إلا أن يكون يسيرًا، وأما ما لا يتعلق بماله وتصرفاته كالطلاق، والخلع، واللعان، واستحاق النسب وغير ذلك فلا خلاف أنه ماضي عليه. واختلف المذهب في فرعين: الأول: إذا أقر بعد الحكم بتفليسه بدين عليه هل يقل إقراره أم لا؟ ثلاثة أقوال المشهور أنه لا يجوز إقراره بدين مطلقاً لقريب و (لا) بعيد. الثاني: إقراره ماض إن كانت ديونه ثابتة بإقراره للتساوين وإن كانت (بغير) بينة فلا يجوز إقراره إلا أن يقيم المقر لهم بينة لما في ذلك من إدخال النقص عليهم في المحاصة بقوله. والثالث: جوازه إذا علم أن رب الدين كان يتقاضاه. الفرع الثاني: إذا أقر المفلس بقرض معين، أو وديعه بعينها، ففيه ثلاثة أقوال أجاز ابن القاسم (إقراره) بذلك، وأبطله اصبغ إلا ببينه على ذلك، والثالث جوازه) إذا كان على أصل القراض والوديعة بينه، (وإن لم تقم علي عينه)، فإن لم تكن على أصله بينة فهو إقرار باطل وهذا حكم المديان بعد تفليسه، وتحجير الحاكم عليه، وأما قبل الحجر فيمنع من الإتلاف كما ذكرناه وأما معاوضته وما يلزمه بالشرع من النفقات والأضحية والصدقة اليسيرة فجائز، واختلف المذهب في جواز رهنه، وقضاء بعض غرمائه دون بعض،

فعن مالك في ذلك روايتان. فرع: وإذا أبطلنا إقراره بالدين (يتعلق) بذمته إن أفاد مالاً غير ما حر عليه فيه، ويحلف المفلس على دين يقوم له به شاهد واحد، فإن نكل عن اليمين مع شاهده فلغرمائه من أحب منهم أن يحلف قاله ابن حبيب، وكذلك إن نكل عن اليمين المردودة، وإن أراد سفراً فلمن بقي له عليه دين حال منعه من السفر. قوله: "وتحل الديون المؤجلة عليه بفلسه" وهذا مذهب مالك -رضي الله عنه- لخراب الذمة بالفلس والموت فتحل الديون في المحلين عندنا قال ابن شهاب: مضت السنة أن الدين الذي عليه يحل بالموت، وقال غيره: لأن الله سبحانه لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين، وقال الحسن وغيره: لا تحل الديون بالموت، وللشافعي في حلول الديون المؤجلة بالفلس روايتان، والصحيح ما ذهب إليه مالك لما ذكرناه، وأما ديون المفلس، أو الميت فباقية إلى آجالها (لاستمرار) الذمم، وانتقال حق رب الدين إلى الورثة والغرماء، ثم ذكر أن حقوق الغرماء منها ما يتعلق بمال معين كبائع السلعة يجدها بعد التفليس على الشرائط التي نذكرها، ومنها ما يتعلق بالذمة، ويوجب المحاماة، وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: (أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره) وروه الزهري على مساق آخر عن

أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هاشم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: أيما رجل غاب أو فلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو إسوة الغرماء ولتعارض هذه الأحاديث اختلف الفقهاء في ذلك فحمل الحديث الأول جماعة من الفقهاء على الوديعة والعارية وهذا ضعيف لم ثبت في الرواية الصحيحة من ذكر البيع، وقد بينه عبد الرازق في مصنفه مسنداً إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- وفيه: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه (شيئاً فوجد بعينه فهو أحق به، وإن مات ابتاعه فصاحب المتاع) إسوة الغرماء، وفي طريق الزهري: فإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو إسوة الغرماء ذكره أبو عبيد في كتاب الفقه. وتحصيل مذهب الفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قال قوم: صاحب السلعة أحق بها من الغرماء في الموت والفلس (وهو قول الشافعي وأحمد وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والكوفيون هو إسوة الغرماء في الموت والفلس). وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت على شروط

نذكرها، وذلك إذا تعذر الثمن من مال المفلس، وههنا فروع: الأول: إذا أراد الغرماء أن يدفعوا لبائع السلعة ثمنها من أموالهم ويأخذوها لأنفسهم فلا يخلو أن يحطوا عن المفلس من دينهم أم لا؟ فإن التزموا دفع ثمنها من أموالهم والحطيطة عن المفلس من ديونهم فلا خلاف في المذهب أنهم يمكنون من ذلك، وقال ابن كنانة: ليس لهم دفع ثمنها من أموالهم بحال ولا معني، وإلا أرادوا دفع ثمنها من أموالهم من غير حطيطة عن المفلس فهل يمكنون من ذلك أم لا؟ قولان عندنا، المشهور: أن ذلك لهم، وقال أشهب: ليس لهم ذلك إلا بعد الحطيطة، ولو اتفق الغرماء على أن يدفعوا الثمن للبائع من مال المفلس، ويتمسكوا بالسلعة لجاز ذلك، ويكون نماء السلعة (ويقضي لهم عليه). الفرع الثاني: إذا قبض البائع الثمن، فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال داود، وإسحاق، إن قبض من الثمن شيئًا فهو أسوة الغرماء اعتماداً على مساق حديث عبد الرازق، وقال مالك هو بالخيار بين أن يرد ما قبض، ويختص بسلعته، أو يحاص بما بقي له من الثمن، (ولو قبض بعض الثمن ووجد بعض السلعة فهو بالخيار بين أن يضرب ببقية الثمن) أو يرد ما قبض، ويأخذ ما وجد، ويضرب بقية ثمن ما فات، وهذا ما لم يتغير المبيع بغير انتقال فذلك فوت فليس حينئذ مع الفوت إلا المحاصة، والفوت كالحنطة يطحنها، أو يزرعها، أو يخلط جيدها مع رديئها، والكبش يذبحه والثوب يصبغه، والخشبة يقطعها، والهزيل يسمنه، وقد قيل: إن طحن القمح لا يكون فوتًا في باب العيوب، ويتخرج ذلك ههنا. واختلف عندنا في صبغ الثوب ودبغ الجلد هل هو فوت أم لا؟ واضطرب في ذلك قول ابن وهب، ونبه على أنه ليس بفوت، وروى عن

مالك أنه سئل عن قطع مثله، فوقف فيه وقال لا أدري، فإن أضاف إليه (صناعة) مثل الغزل ينسجه، أوعينًا مثل البناء في الأرض، فله الرجوع في عين سلعته، ويكون شريكاً للغرماء بقيمة ما زاد، وأما إذا خلط السلعة بجنسها المماثل لها كالزيت يخلط بمثله، والزبيب بجنسه ونحو ذلك، فله أخذ مكيلته، ويتنزل المثل منزلة العين ولو ولدت الأمة، أو الماشية فله أخذ الولد مع أمه لأنها كالعين الواحدة فولدها كعضو منها، وأما الثمرة والصوف على ظهور الغنم كالغلة إلا أن تكون الثمرة مأبورة يوم الشراء، أو الصوف كاملاً على ظهور الغنم فحينئذٍ يدفع مع أصله، ويرجع للبائع، لأنه عين شيئه. فرع: إذا باع ثوباً أو ثوبين فوجد أحدهما قائماً وفات الآخر، فله أن يأخذ القائم، ويحاص الغرماء بقيمة الفائت من الثمن الأول، ولو ولدت الأمة فمات أحدهما فقد ذكرنا أن الولد مع أمه كالعين الواحدة فليس له أخذ الباقي بجميع الثمن، أو المحاصَّة، فإن بيع الولد، وبقيت الأمة أو عكسه ففيه اختلاف، تحصيله إن بيعت الأم، وبقي الولد فقولان أحدهما أنه يأخذ الباقي بحسابه من الثمن حكاه الشيخ أبو القاسم، والثاني أنه يأخذ الباقي في جميع الثمن وهو قول سحنون، وكذلك إذا بيع الولد، وبقيت الأم فالمشهور أنه يأخذها بجميع الثمن وهو قول ابن القاسم، وقيل: يأخذها بحصتها من الثمن، ويحاص الغرماء بما ينوب الولد من الثمن وهما كسلعتين في صفقة. فرد: إذا ابتاع عبدًا فجنى، ثم فلس المشتري قبل قبض البائع الثمن فله المحاصة مع الغرماء، فإن أراد البائع أن يفديه من الجناية، فذلك له ويأخذه حينئذٍ بنفسه بجميع الثمن، ولا يحاص بما فداه به، (لأن ذلك منه يتنوع، ولو وجده مرهوناً فأراد فداه وأخذه بالثمن، فله الرجوع إلى محاصة الغرماء بقدر

ما فداه به)، والفرق بين أن يفديه من الرهن أو من الجناية ظاهر، لأن الرهن متعلق بذمة المشتري بخلاف الجناية، فلهذا أوجبنا له المحاصة بقدر الفدية من الرهن دون الفدية من الجناية. فرع: قد ذكرنا أن البائع أحق بسلعته إذا فلس المشتري قبل دفع الثمن، وهذا إذا كان البيع صحيحاً، واختلف المذهب في المبيع الفاسد هل يكون البائع أحق به من السلعة كالبيع الصحيح أو لا؟ قولان، قال سحنون: كالبيع الصحيح)، وقد محمد: لا يكون أحق بها. فرع: إذا فاتت السلعة بالبيع فللبائع المحاصة لا غير، فإن ردت بعيب على البائع المفلس وهو المشتري أو لا فهل للبائع أن يرد ما أخذ في الحصاص ويأخذ سلعته أم لا؟ المنصوص عن ابن القاسم أن له ذلك، وقيل حكم مضي فلا يرد، خرجه الشيخ أبو الحسن اللخمي. قوله: "وفي الموت لا رجوع له": وهذا كما ذكره، هذا مذهب مالك -رحمه الله- لأن ذمة الورثة كذمته بخلاف الفلس لخراب ذمته. قوله: " وإذا جمع الحاكم مال المفلس": يتعلق به الكلام في (تلف) مال المفلس، وفصل القاضي بين أن يتلف بعد جمع الحاكم له، وقبل بيعه، أو يتلف ثمنه على يد الحاكم، فضمان الأول من المفلس في الثاني روايتان، وحكي الشيخ أبو الحسن، وغيره فيه خلافاً مطلقاً في المذهب فيما إذا تلف مال المفلس بعد أن جمع قبل البيع أو بعده يرجع حاصلة إلى أقوال ثلاثة: الأول: المشهور عن مالك أن مصيبته (من المفلس حتى يقبضه الغرماء كان عرضاً أو عيناً، والثاني رواية عبد الملك عن مالك أن مصيبته) من الغرماء

من حضر منهم ومن غاب، ومن علم ومن لم يعلم، كان دينه عيناً، أو عرضًا، أو حيوانًا، أو ما كان، والثالث: إن كان عينًا فضمانه من الغرماء، وإن عرضًا فضمانه من المفلس وهو قول المغيرة وغيره، والصحيح أنه باق على ملك المفلس حتى يقبضه الغرماء وههنا فروع: قد ذكرنا أن البائع أحق بسلعته في الفلس، وإذا حكمنا له بأخذها فهل ذلك نقض للبيع الأول، أو ابتداء بيع قولان عندنا، وتظهر ثمرة ذلك في مسائل منها: إذا باع عبداً فأبق عند المشتري، ثم فلس فقال ابن القاسم: ليس له ذلك)، وقال أشهب: له ذلك فإن وجده كان أحق به، وإلا رجع فحاص، وفي كتاب ابن حبيب عن أصبغ: ليس له أن يختاره، وهذا بناء على أنه بيع الآبق. فرع: هل يكون في الفلس أحق بالعين كما يكون أحق بالعرض أم لا؟ قولان عندنا ففي المدونة فيمن أسلم عينًا دنانير أو دراهم ثم فلس المسلم إليه فربها أحق بها في الفلس إذا عرفت وهي كالمكيل والموزون، وقال أشهب: يكون إسوة الغرماء، ومبناه على الخلاف في تعيين الدراهيم والدنانير. فرع: إذا كان العرض من قرض ففي كتاب محمد فيمن أقرض عرضاً أو عبداً هو أسوة الغرماء، لأن الحديث إنما جاء في البيع، وقيل: هو أحق به كالبيع، حكاه أبو محمد الأصيلي لقوله -صلي الله عليه وسلم- (أيما رجل أدرك ماله

بعينه)، وهذا عام وملاحظة للمعني وهو فيهما واحد. فرع: اختلف المذهب في الحوالة هل يكون المحال أحق بالسلعة إذا كانت من بيع، وأحيل بثمنها وفلس المحال عليه، فقال ابن القاسم: لا يكون أحق (بالسلعة) وقال غيره هو أحق، ومبناه على الحوالة هل هي من باب البيع أو من باب المعروف. فرع: إذا باع ثمرة قد أزهت ثم فلس المشتري بعد أن يبست فقال مالك: هو أحق بها لأنها عين ماله، وقال مرة هو إسوة الغرماء لانتقال حالها. فرع: اختلف المذهب هل تقع المحاصة مع الغرماء بنفقة الزوجات والأبوين والصداق، (والجنايات، ومتعة المطلقة أم لا؟ بناء على أن ذلك هل يلحق بالمعاوضات أو بالهبات)، وموجبات الأحكام قولان عندنا، ثم ذكر حبس المديان إذا أدعي الفلس من غير بيان وهو الحكم الرابع الذي أوجبه الحجر، والواجب أولاً (خلعه) من ماله فيؤخذ العين وتباع عروضه للتجارة أو للقنية، واختلف في فروع. الأول: هل تباع خاتمة عليه أم لا؟ قال ابن القاسم: تباع، وقال أشهب: لا تباع وكذلك اختلف المذهب في ثياب جمعته هل تباع عليه أم لا؟ قولان، وكذلك كتب العلم هل تباع عليه أم لا؟ وفي كتاب محمد: لا تباع (عليه) للغرماء، وإن مات كان الوارث (وغيره) ممن هو أهل للانتفاع بها سواء، وقال ابن عبد الحكم: تباع عليه، وتباع كتابه المكاتب، وخدمة المعتق

إلى أجل، والمدبر ودينه المؤجل ويترك له من النفقة ما يعيش به هو وأهله الأيام، وفي كتاب محمد: الشهر، وعن ابن كنانة في كتاب المدنيين لا يترك له شيء من النفقة وهل يترك له كسوة زوجته أم لا؟ قولان قال سحنون: لا يترك له كسوة، والمشهور خلافه، وإذا خليت كسوته وكسوه ولده وزوجته فهل تجرد لهم أم لا؟ قولان قال سحنون: تجرد، وقال غيره لا تجرد. فصل في الحبس وإنما يحبس من جهل حاله، وأدعي الفقر، فإذا ثبت فقره فهل يقضي عليه باليمين على صحة الشهادة لأنها إنما تعلقت بالظاهر فقط، أو لا يحلف، قولان. قوله: "ومدة الحبس غير مقدرة" وقال ابن الماجشون: لا يحبس في الدريهمات (أكثر) من نصف شهر ويبلغ في الكثرة أربعة أشهر وفيما بين ذلك الشهرين، وهل يحبس الولد في دين الوالد أو نفقته قولان عندنا، وصح أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- سجن في تهمة وسجن الصحابة بعده) وقال -صلي الله عليه وسلم- (يحل عرضه وعقوبته) والعقوبة هنا السجن وعرضه أن يقول مطلني ظلمني ونحوه، وذكر أبو عبيد أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قدم عليه ناس من البادية ومعهم إبل فصحبهم في الطري قرجلان وباتا معهم، فلما أصبحوا فقدموا بعض إبلهم فجاؤوا إلى رسول الله-صلي الله عليه وسلم- فحبس أحدهما، وقال لصحابه أذهب فأطلب ما ذهب، فذهب فجاء بما ذهب، فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: (استغفر لي، فقال له

يغفر الله لك، فقال له النبي-صلي الله عليه وسلم- وأنت يغفر الله لك) فأخذ منه بعض الفقهاء السجن بمجرد الدعوي مع الشبهة، ويحبس النساء في الدين كالرجال، وتجعل معهن امرأة أمينة، ويمنع المسجون من دخول زوجته عليه تضييقاً سيما إذا سجن في أمر بين، ولا يمنع المسجون من أن يزوره من إخوانه من النسب والإسلام، وإذا لم (يجد من) يشهد له، وقد طال سجنه أخرج، وقد سئل مالك عن التجار الذين يأخذون أموال الناس ثم يقولون ذهبت منا، ولا يعرف ذلك، فقال يحبسون حتى يوفوا الناس حقوقهم أو يتبين أنه لا شيء له، قال: فهذا لا يعرف ولا يعجل سراحهم حتى يستبرأ أمرهم، وفي كتاب محمد، وابن حبيب عن مالك وأري أن يخرج هؤلاء من السوق، وإذا ثبت عسر المحبوس خلي سبيله، وهل للغرماء أن يدوروا معه حيث دار، ويلازموه؟ المنصوص ليس لهم ذلك، والحجة عليه قوله -صلي الله عليه وسلم- (خذوا ما وجدتم معه ليس لكم غيره) ولأن الملازمة حبس، وقد ثبت موجب نفيه وهو مقتضي قوله سبحانه: {فنظرة إلى ميسرة} ويحبس الوصي على الأيتام فيما عليهم من دين إذا كان لهم بيده مال، لأن امتناعه من الأداء من باب اللدد، وهل يطاف بالمفلس في السوق (والملعن بالسفه)، وينادي عليه، فيه خلاف عندنا، وجري العمل عليه حفظاً لأموال الناس، وهل

يؤخذ المديان بعمل صنعة يكتسب منها، ويؤدي الدين، قال الجمهور: ولا يؤاجر اعتمادًا على الآية وقضية معاذ، وقال أحمد بن حنبل يؤاجر، واختاره اللخمي إذا كان صانعًا (إنما عوامل غالبًا على صناعته، ثم ذكر فلس (الصناع) ومستأجريهم، وتحصيل القول فيه فأنهم إذا قبضوا السلع وأفلس أربابها فهم أحق بها في أيديهم إذا كانوا قد عملوا الصنعة في الموت والفلس، لأن صنعتهم بأيديهم ولم يسلموها، وإن كان التفليس قبل العمل فهو بالخيار بين أن يفسخ الإجارة، أو يكون أسوة (الغرماء) إن عمل، وإن فلس الصانع فلرب السلعة أن يخلص بقيمة تلك السلعة، وباقي مسائل التفليس (مذكور في المطولات).

باب الصلح والمرافق وإحياء الموات

باب الصلح والمرافق وإحياء الموات وما يتصل بذلك شرح: الأصل في الصلح الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله سبحانه: {والصلح خير} [النساء: 128] وأما السنة فما روي مرفوعًا إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا، أو حرم حلالاً) وقد روي موقوفًا على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهو على قسمين: صلح على الإقرار، وصلح على الإنكار، فالصلح على الإقرار جائز، بإجماع المسلمين،

وأما الصلح على الإنكار فأجازه الجمهور، ومنعه الشافعي لأنه من أكل المال بالباطل، واعتمد الجمهور على أنه شراء خصومه وافتداء من اليمين، وقد صح جوازه عن عثمان، وابن مسعود وغيرهما فكان حجة، وقسمه القاضي قسمين، معاوضة وإسقاط وإبراء، فالقسم الأول: أن يدعي على رجل شيئًا، ثم يبيعه منه فلا يجوز إلا في معلوم وحكمه حكم البيع، فيراع (في صحته) ما يراعي في البياعات، فيحرم فيه (من وجوه الربا ما يحرم في البيع ويحل فيه ما يحل فيه، والقسم الثاني: وضع بعض الحق المدعي فإن كان الغريم مقرأ فهو صلح على (الإقرار، وإن كان منكراً فهو صلح علي) الإنكار، وهل يراعي في الصلح على الإنكار ما يرعي في البيع أم لا؟ فيه قولان عندنا مثل أن يدعي دنانير فينكر فيصالحه عليها بدراهم مؤاجلة، فهو محرم عند ابن القاسم، لأنه صرف مستأخر، وأجازة أصبغ وغيره، ولم يره صرفًا وإنما رآه معاوضة على إسقاط المنازعة فقط، فإذا وقع الصلح فاسدًا بخروجه إلى باب الربا فهل يفوت بوقوعه أم يفسخ أبدًا، أو يفسخ ما لم يطل هذه الثلاثة الأقوال واقعة عندنا، والصحيح أنه كالبيع الفاسد فيفيته ما يفيت البيع الفاسد. قوله: "وإحياء الموات على وجهين": قلت اختلف الفقهاء في إحياء الموات على ثلاثة أقوال، فاشترط فيه أبو حنيفة إذن الإمام قرب من العمران

أم لا؟ ولم يشترط الشافعي مطلقًا، وفصل مالك فاشترطه في القريب دون البعيد هذا هو المشهور من مذهبه، وقال أصبغ وسحنون: لا يفتقر إلى إذن الإمام فيما قرب، ولا فيما بعد، ورواه ابن عبدوس عن أشهب، والأصل في جوازه قوله -صلي الله عليه وسلم-: (من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق) والإحياء: البناء والغرس وحفر الآبار وشق العيون وغير ذلك من أنواع (العمارة) مما يعلم أنه إحياء، واختلف الرواية عن المذهب فيمن أحيا (أرضًا) وتركها حتى خربت، ثم أحياها رجل آخر فهل تكون للأول لأنه ملكها أولاً بالإحياء، أو للثاني لأنها كالموات حيث خربت فيه عندنا قولان المشهور أنها للثاني كالصيد إذا استأنس ثم استوحش، ثم صاده صائد فهو للثاني، لأنه باستيحاشه صار غير مقدور عليه. فرع: إذا بيننا على المشهور من اشتراط إذن الإمام فيما قرب تعين النظر في أمرين: الأول: حد القرب والنظر فيما إذا أحيي بغير إذن الإمام فيما اشترطنا فيما إذنه، وحد القرب عندنا مختلف فيه، أما البلدان فالقريب منها ما تلحقه مواشيها بالرعي في غدوها ورواحها وهو لهم مسرح، ومحطب، وأما الدار فحريمها إذا كانت محفوفة بما احتوت مرافقها التي يضطر إليها (ويعلمها)

الناس من مرافقها في العادة كمطرح التراب، ومصب الميزاب، ومواضع الطريق، وأما البئر فليس لها حريم معلوم لاختلاف الأرض بالصلابة والرخاوة، وحريمها في الحقيقة ما لا يضر بمائة، ولا يضيق مناخ إبلها، ومرابط مواشيها، وأما إذا أحيي بغير إذن الإمام ممن أوجبنا عليه الاستئذان فالحكم فيه للإمام إن حسن عنده أمر فعله، فإما أبقاه (بيد من أحياه)، وإما أزاله وإما أقطعه، وإما أبقاه للمسلمين وأعطاه قيمته، وهل يعطي قيمته مقلوبًا وهو المشهور لأنه متعد بالإحياء، أو قائمًا حكاه ابن القاسم في وثائقه. فرع: هل للذمي أن يحي في بلاد المسلمين أم لا؟ اختلفت الرواية فيه عن المذهب، فحكي القاضي أبو الحسن بن القصار عن المذهب أنه ليس له ذلك، وقال ابن القاسم: له الإحياء لعموم لفظ الحديث إلا في جزيرة العرب لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا يبقين دينان بأرض العرب) فإن أحيي في جزيرة العرب نزع من يده، وأعطي قيمة ما عمر، وقال مطرف وابن الماجشون له الإحياء في البعيد عن العمران دون القريب، ولا يجوز له الإحياء (في القريب)، وإن أذن له الإمام، ويعطي قيمته، وينزع من يده. قوله: "وليس لحريم البئر حد إلا الاجتهاد"، وهذا كما ذكره،

والمعهود من الشريعة رفع الضرر (فما يعلم أن يضر) بالبئر الأول كذلك الحريم، وهو مختلف باختلاف الأرضي، هذا في آبار (البراري) والفلوات، وأما إذا أراد أن يحفر بئراً في أرض ملكه تضرب ببئر جاره، فهل يمنع من ذلك أم لا؟ حكي القاضي فيه روايتان المنع رفع للضرر، (والجواز) لأنه تصرف في ملكه بما يحتاج إليه. قوله: "ومن حفر بئرًا في ملكه فإن البئر مع الأرض ملك له، وله منع الناس منها": اختلف الفقهاء في منع الماء للناس على ثلاثة أقوال: فقالت طائفة: لا يمنع ولا يباع مطلقًا كان في أرضه مملوكة أم لا؟ وهو مذهب أهل الظاهر، وقوم رأوا أنه مما يتصور ملكه، والمنع منه بالإطلاق، وفرق قوم من الفقهاء بين أن يكون في الأ {ض المملوكة فيملك، أو غير المملوكة فلا يملك، واعتمد الأولون على قوله -صلي الله عليه وسلم- (لا يمنع نفع ولا فضل ماء) وجعله رسول الله -صلي الله عليه وسلم- من الأشياء المشتركة كالحطب والنار، واعتمد من أجاز منعه على أنه كسائر (المتمولات الممتلكة). وتحصيل مذهب مالك في ذلك: أن المياه على ثلاثة أقسام: عام، وخاص، ومتردد بين الخصوص والعموم، فالعام ضربان: الأول: الماء الجاري في الأرض المملوكة المستقر فيها، فهذا لا خلاف في المذهب أنه مملوك لمن جري في ملكه، واستقر في أرضه على صفة الملك لواحد كان أو للجماعة فلمالكه منعه، وتحجير فضله، والاختصاص بجميعه، وليس عليه أن يرسله إلى من تحته، لأنه بدخوله في أرضه وجريانه عليها، واستقراره فيها

صار ملكًا له، ويقتسمه الشركاء في هذه الأرض على حسب أملاكهم، والثاني: الماء الذي طريقة في الأرض المباحة كالماء الذي يسيل من شعاب الجبال وبطون الأودية، وهذا حكمه أن يسقي به الأعلى فالأعلى، إذا كان الأعلى قديمًا، وإن كان محدثًأ فسنذكره، واختلفت الرواية في تحديد السقي، فقال ابن وهب، وابن الماجشون وغيرهم يسقي الأول ويرسل جميع الماء في حائطة حتى يبلغ الماء في الحائط كله كعب من يقومفيه فحينئذ يغلق مدخل الماء ويرسله إلى جاره، وروي زياد بن عبد الرحمن عن مالك: أن الأول يجري الماء في (ساقيته إلى حائطه) قدر ما يكون الماء في الساقية إلى الكعبين حتى يروي حائطه، أو يفني الماء، فإذا روي حائطه أرسله كله، فاعتبر في هذه الرواية ري الحائط، وجعل الكعبين مقدار الماء في الساقية لا في أرض الحائط، وفي المدينة من رواية عيسي عن ابن وهب أن الأول يسقي حتى يروي حائطه، ثم يمسك بعد ري حائطه من الماء ما يبلغ إلى الكعب، فجعل الكعبين في هذه الرواية مقدار الماء المسقي بعد الري، وقال ابن كنانة: إن كان المسقي زرعًا فيمسك الماء حتى يبلغ النعل، وإن كان شجرًا فيمسكه حتى يبلغ الكعبين، فهذه (أربع) روايات واقعة عن مالك، وهذا إذا كان الأعلى قديمًا (لا يسبقه) الأسفل بإحياء وغرس، ثم أراد غيره إحياء ما فوقه، والسبق إلى الماء، فالقديم أحق، ويمنع المحدث من الأحداث إلى علي حسب دولته، فإذا رضي بحطه من الماء مما فضل عن الأقدم، فله ذلك، نص عليه سحنون.

والقسم الثاني: الماء الخاص وهو المصون في الأواني، أو في الآباء الممتلكة بالحر أو بالشراء، فهذا من جملة الأملاك التي يختص بها مالكها ولا يتصرف فيها غيره إلا بإذنه. والقسم الثالث: المتردد بين الخاص والعام، وهو ماء (البئر) المحتقرة في الفيافي والبوادي للماشية، فلا يباع ولا يورث، وحافرها أحق (بقدر كفايته)، وعليه إرسال فضلته وورثه حافرها بمنزلته، والعادة تشهد في مثل هذا، لأن حافره إنما يحفره (لتشرب) ماشيته، ويتصدق بما فضل من مائة على من احتاج من مسافر أو مقيم إلا أن ينص حين الحفر على التمليك التام، ويشهد بذلك فلا سبيل عليه، وإذا وقعت الضرورة وتبينت الحاجة كان المسافر أولى من المقيم بالماء الذي فضل عن صاحبه لإضرار المسافر. وروي ابن وهب عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: (لا يقطع طريق ولا يمنع فضل ماء ولا ابن السبيل على شربه للدلو والرشا والحوض، ويخلي بينه وبين الدلو فيستقي، ولا يلزم الاستقاء له)،وفي الأثر: أن أبناء السبيل اقتتلوا مع أهل الماء وجرحوهم فأهدر عمر -رضي الله عنه- جراحات أهل الماء وأغرمهم جراحات ابن السبيل، وقال: ابن السبيل أولي الماء من الساقي عليه، وهو مقتضي المصلحة والله أعلم. وحكي القاضي قولين فيهما، وإذا أوجبنا على الجار أن يبذل فضل مائة المملوك لزرع جاره الذي خيف عليه الهلاك، هل يقضي عليه ببدل الفضلة بالثمن، أو بغير ثمن قولان مبنيان على اعتبار المصالح، وإنما يقضي عليه لزرع جاره الذي خيف هلاكه عطشًا إذا كان جاره قد زرع على أصل ماء ثم انهارت بئره، فأما إن زرع اتكالاً على فضل ماء جاره فلجاره المنع، إذا لا ضرورة حينئذ.

قوله: "ويستحب لمن سأله جاره أن يغرز خشبة في جداره أن لا يمنعه": قلت: اختلف الفقهاء هل يقضي بهذا على من امتنع منه أم لا؟. فقال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور: يقضي به اعتمادًا على نص حديث أبي هريرة: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتفاكم)، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقضي بها على من أباه اعتمادًا على قوله -صلي الله عليه وسلم- (لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس)، ومن هذا النمط ربيع عبد الرحمن بن عوف وخليج الضحاك بن خليفة ذكر مالك في موطئه أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمه فأبي محمد، فقال له الضحكاك: لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخرًا ولا يضرك، فأبي محمد فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا، فكرر عليه، فامتنع، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك، روي أصبغ عن مالك فقال: لا يؤخذ بقضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة في الخليج، وروي مالك أيضًا في موطئه عنعمر بن يحيي المازني عن أبيه قال: كان في حائط جده ربيع لعبد الرحمن بن عوف فأراد عبد الرحمن أن يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى أرضه، فمنعه صاحب الحائط فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب فقضي له بتحويله، وروي أصبغ عن مالك قال: يؤخذ بقضاء عمر

لعبد الرحمن في تحويل الربيع دون قضائه في الخليج، قلت: لعله فرق بينهما، لأن تحويل الربيع ليس من إحداث طريق لم يكن، ثم ذكر القاضي حكم فتح الكوة. وتحصيل القول في ذلك على مقتضي المذهب: أن لا يمنع من إحداث ما ينتفع به، ولا يضر بجاره، فإن أضرت الكوة بجاره رفع الضرر شرعًا، وأما الجدار المشترك فليس له فتح الكوة فيه إلا بإذن الشريك ثم ذكر أن السقف لصاحب السفل، وعليه إصلاحه ليتمكن صاحب العلو من الانتفاع به تمكن مثله، فإن اختلفا في السقف حكم به لصاحب السفل، (كما ذكرنا: وقال الشافعي: هو مشترك بينهما؛ لأن السقف محمول على ملك صاحب السفل) فكان حائزًا له بملك حامله كالدابة يحمل عليها مالكها فالحامل والمحمول ملك له إلا أن يثبت خلافه، والعرف شاهد في الجدال المتداعي فيه (فمن شهد له به) العرف فهو له بعد يمينه، وقيل بغير يمين بناء على أن العرف كشاهدين، والقمط بسكون الميم جمع قماط، وأصل القماط الخرقة التي يلف بها الصبي. قوله: "وليس لأحد الشريكين في الحائط أن يتصرف فيه إلا بإذن شريكه" وهذا حكم جميع الأملاك المشتركة، وإذا انهدم الحائط المشترك فهل (جبره) عليهما، وهل يجبر علي بنائه من أباه، في المذهب قولان: أحدهما: الجبر لقوله -صلي الله عليه وسلم- (لا ضرر ولا ضررا)،والثاني: نفي الجبر، لأن

جبر المالك على أن يبني ملكه غير معهود، وللقائل أن يقول تصور الجبر ههنا لحق الغير. قوله: "ومن له حق في إجراء (مائة) على سطح غيره فنفقه السح على صاحبه"، وهذا كما ذكره لأن صاحب المسيل له حق في مرور الماء على السطح، فعلي صاحب السطح (تمكينه) من ذلك بحيث يتمكن من منفعته، ويتوصل إلى حقه بخلاف من له شرب في بستان، فاحتاجت ساقيته أو نهره إلى نفقه فهي عليهما جميعًا، لأن موضع الماء لهما والسطح لصاحبه فقط، ولا شيء معه فيه لصاحب المسيل، وقد تقدم الكلام في وجوب طرح المتاع من المركب يخاف عليه الغرق، وذلك من باب التسبب في إحياء النفوس، ولا كلام في وجوبه، ومن هذا المعني أكل المضطر الميتة إذا خاف الموت، وقد تقدم الكلام في كيفية التوزيع بين أهل السلع، وهل الرقيق كالمال أو كالأحرار، وفي ذكر موضع التقويم، ثم ذكر مسألة المركبين يصطدمان ولا ضمان علي واحد منهما، إذا لا يقدر على رد الريح، بخلاف الفارسين يصطدمان فيقتل أحدهما صاحبه فدية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه والله الموفق.

باب الوديعة والعارية

باب الوديعة والعارية قال القاضي -رحمه الله- "باب الوديعة والعارية". الوديعة: استنابة في حفظ المال والأصل فيها الكتاب والسنة والعمل، أما الكتاب فقوله سبحانه: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] أما السنة فقوله -صلي الله عليه وسلم- (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) وجري العمل في الجاهلية عليها، فأقرها الإسلام، وهي أمانة محضة غير مضمونة عند الجمهور، وشد قوم فقالوا: إنها مضمونة (أمر

بردها) اعتمادًا على قوله-صلي الله عليه وسلم- (على كل يد رد ما أخذت) وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، والدليل للجمهور أن الله سبحانه أمر بردها لربها، ولم يأمر بالإشهاد، فالواجب تصديق الأمين في دعوي التلف، والرد عليه، إلا أن يدفع إليه بينة، فاختلف الفقهاء حينئذ، فقال مالك: لا يقبل منه دعوي الرد إلا ببينة، لأن رب المال لم يرض بأمانته إلا على صفة (الشهادة)، فلا يتعدي ذلك، وإلا فكان الإشهاد عبثًا، وقال الشافعي وأبو حنيفة: القول قول المودع في دعوي الرد مع الإشهاد وغيره كالتلف تمحيضًا لحكم الأمانة، وهي رواية معروفة عن ابن القاسم، والمعتمد عليه في دعوي التلف أن القول قوله مع يمينه قبضها ببينة أم لا، لأن يده يد أمانة. قال القاضي أبو محمد: "وسواء كان متهمًا، أو غير متهم" لأن ربها رضي بأمانته واختار المتأخرون من أهل المذهب التسوية في حكم الأمانة بين دعوي التلف، ودعوي الرد، فيقبل قوله فيهما مطلقًا. قوله: "لا تضمن إلا بالتعدي" وهو كما ذكره مثل أن يسافر بها، وقد دفعت إليه في الحضر أو يودعها غيره، أو يجعلها في غير مأمون فهو ضامن إلا أن يودعها غيره ممن ترضي أمانته إذا أراد المودع سفرًا، فهذا مأذون فيه، ولا ضمان عليه في هذه الصورة.

قوله: "والقول قول المودعي في تلفها على الإطلاق" يعني: كان الدفع إليه ببينة أو بغير بينة، متهم أو غير متهم كما بينه في غير هذا الموضع. تكميل: لما كانت الوديعة استنابة المودع على حفظ المال اشترطنا في المودع ما يشترط في الوكيل، فلذلك يجوز له أن يودع الصبي والسفيه والعبد والمرأة إذا رضي بأمانتهم، ولا ضمان على الصبي والسفيه في ذلك إذا أتلف أو ضيع، لأن رب الوديعة رضي بذلك وسلط عليه وكذلك لا ضمان على العبد في رقبته إلا أن يتعدي فيضمن، ويتعلق (ذلك) بذمته، وفي المذهب قول آخر في العبد يودع، فيتعدي أو يستهلك الوديعة أنها جناية في رقبته كسائر جنايته، والأول (المشهور).: قوله: "وليس له أن (يودعها) غيره إلا من ضرورة": قلت: (يجب الضمان في الوديعة بأسباب: الأول: التضييع لها والتفريط في حفظها، ولا خلاف أنه ضامن في هذا المحل، وذلك مثل أن يلقيها في غير مأمون، أو يدل عليها سارقًا، والثاني: أن يودع غيره من غير عذر فهو ضامن، لأن ربها لم يرض إلا بأمانته، فإن فعل، ثم استرجعها لم يضمن بعد ذلك كردهًا إذا تسلف منها، فإن اضطره إلى إيداعها عزمه على السفر جاز له إيداعها لمكن الضرورة، فإن أعطي الوديعة زوجته أو جاريته على جري عادته في ذلك لم يضمن، لأن من عادة الناس والمودع في الحضر يريد السفر، فله أن يودع غيره كما ذكرناه بخلاف المسافر يودع في السفر فليس له أن يودع غيره، لأنه على أمانته قبله لا على أمانة غيره، وكذلك نقل الوديعة من بلد إلى بلد هو في ذلك ضامن لتعديه بالنقل، قال مالك في امرأة ماتت بالإسكندرية فكتب وصيها إلى ورثتها وهم ببلد آخر فلم يأت منهم خبر، فخرج بتركتها إليهم فهلكت في الطريق فهو ضامن، فلو أودع جرار زيت

فنقلها من موضع في داره إلى موضع آخر فيها، فلا ضمان عليه إذا انكسرت، ولو سقط عليها شيء من يده فانكسرت، أو رمي في داره وهو يريد إصابة غيره فأصابها، فانكسرت، ضمنها لأنها جناية، والخطأ والعمد في أموال الناس سواء، وقال أشهب: ولو سقطت من يده فانكسرت فلا ضمان عليه. الثالث: المخالفة في كيفية حفظها مثل: أن يودعه صندوقًا، واشترط عليه أن لا يقفله لما في ذلك من الشهرة بتقفيله، أو بالعكس فهو ضامن بالتعدي والمخالفة، ولو قال له: أقفله بقفل واحد فقفله بقفلين فلا ضمان عليه، وإذا أودعه دراهم فجعلها (في جيب قميصه)، فضاعت، فهل يضمن أم لا؟ قولان عندنا، قال ابن وهب: من أودع وديعة في المسجد فجعلها على نعله فذهبت فلا ضمان عليه ولو اشترط عليه أن يجعلها في جرة فخار فجعلها في جرة من نحاس ضمن، وعلله أصحابنا بوجهين: الأول: أنه شهرها، والثاني: أنه خالف، وقصد إلى ما يقصد سرقته، ولو قال له: أجعلها في نحاس فجعلها في فخار لم يضمن. الرابع: خلط الوديعة بما لا تتميز معه، وهو (ههنا) ضامن أيضًا لتعدية بالخلط، فإن (خلطها بجنسها) المماثل له فلا ضمان عليه لإمكان التمييز بالمكيلة.

والخامس: الانتفاع بها كلبس الثوب، وركوب الدابة (فتهلك) فهو ضامن، واختلف في فروع: الأول: هل يضمن الوديعة بالنسيان أم لا؟ فيه صورتان: الأولى: أن ينساها في موضع فهل يضمنها أم لا؟ قولان، والثانية: أن ينساها من دفعها إليه، ويدعيها رجلان ففيه قولان: أحدهما: أنه يضمن لكل واحد منهما وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، والثاني: أنهما يحلفان، وتقسم بينهما. الفرع الثاني: هل يجوز استسلاف الوديعة أم لا؟ قولان: الكراهة على المشهور، (والجواز) لأشهب إذا كان له مال فيه وفاء، واشهد بذلك. الفرع الثالث: إذا تسلفها ثم ردها بعد الانتفاع بها فهل يضمن أم لا؟ قولان عندنا: أحدهما: لا يبرأ من ذلك، لأنها بالاستسلاف صارت دينًا في ذمته، والثاني: أنه يبرأ، لأنها رجعت إلى حكم الأمانة، وقال (أصبغ): إن ردها بالإشهاد بريء وإلا فلا، وقيل: لا ضمان عليه إلا أن يكون المردود المثل فإن رد العين فلا ضمان عليه. الفرع الرابع: إذا أودع رجلاً وديعة فخانه، ثم أودعه الخائن، فهل يجوز له أن يجحده ويخون من خانه، فيه خمسة أقوال في المذهب: المنع، والكراهة، والإباحة والاستحباب لما فيه من تخليص ذمته عند الله سبحانه، والجواز إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لم يجز له أن يجحد إلا مقدار ما يقع في المحاصة. قوله: "والعارية تمليك منافع العين بغير عوض" وهو فعل خير

ومندوب إليه، والأصل فيها قوله سبحانه: {ويمنعون الماعون} [الماعون:7] (وحثهم) على المنع، فدل على أن المنحة مرغب فيها، وقد استعار رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وقال: (كل معروف صدقة) وقال: (العارية مؤداه) وكل ذلك مبني على قوله تعالي: (وافعلوا الخير) [المؤمنون: 77]. وثبت جوازه عن السلف قولاً وفعلاً حكاه أئمة الآثار، وهي علي قسمين: ما يغاب عليه مما يخفي هلاكه، وما لا يغاب عليه، أما ما لا يغاب عليه فلا ضمان فيه على المستعير عندنا بلا خلاف اعتمادًا على قوله -صلي الله عليه وسلم-: (ليس على المستعير غير المتعدي ضمان)، وأما ما يغاب عليه فلا يخلو أن تقوم البينة على هلاكه أم لا؟ فإن لم تقم البينة على الهلاك وجب الضمان على المستعير لمكان التهمة اعتمادًا على قوله -صلي الله عليه وسلم-: (عارية مؤداه) مضمونة، وإن قامت البينة على الهلاك فهل يسقط الضمان في هذه الصورة أو يثبت، فيه قولان: المشهور سقط الضمان في هذه الصورة أو يثبت، فيه قولان: المشهور سقوط الضمان (مع قيام البينة اعتبارًا بالشهادة والشاذ الضمان) لأن أصله مأخوذ على الضمان، قال مالك (في

كتاب محمد) وما علم اه هلك بغير سببه فلا ضمان عليه كالسوس في الثوب، وقرض الفأر. واختلف المذهب إذا اشترط أحدهما نفي الضمان فيما فيه الضمان أو عكسه، هل يعتبر الشرط أم لا؟ قولان: المشهور اعتبار الشرط، والشاذ اعتبار الأصل وقد قال -صلي الله عليه وسلم- (من ألزم نفسه شيئًا لزمه) فعلي مقتضاه الاعتماد. قوله: "وإن كانت إلى أجل لم يكن للمعير الرجوع فيها إلى انقضاء الأجل": قلت: العارية على قسمين: مؤجلة، ومبهمة، فالمؤجلة (تبقي) إلى انقضاء أجلها سواء كانت عقارًا، أو حيوانًا، أو عروضًا، فإن أعاره عارية مبهمة فهل تحمل إلى أجل المثل أم له الارتجاع في الحال قدمنا فيه قولين، ومن ذلك، أن يعيره أرضًا ليبني فيها، أو يغرسها، فأما قبل فراع المدة المشترطة أو المعتادة فليس له إخراجه، وأما بعد فراغ المدة المشترطة، فهل له إخراجه، وعليه أن يعطيه ما أنفق [وقيمة ما بني فيه قولان عندنا، والمشهور من المذهب أن المدة المعتادة كالمشترطة، وأما بعد فراغ كل واحد من المدتين فله الإخراج، وعليه قيمه البناء والغرس مقلوعًا، فإن أبي رب البناء أو الغرس إلا أن يأخذ عين لبنه وأحجاره وشجره، فله ذلك إلا أن تكون مما لا قيمة له بعد النقض فلا يكون للباني فيه قيمة البتة، واختلف المذهب إذا اختلفا في دعوي الرد، فقال المستعير: رددت، وقال المعير: لم ترد، فالقول قوله عند ابن القاسم في كل ما لا يصدق المستعير في ضياعه، وأما ما يصدق المستعير في ضياعه فالقول في الرد قوله مع يمينه.

كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق

(كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق) قال القاضي رحمه الله تعالي: "كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق": قلت: الغضب وضع اليد العادية، ورفع اليد المالكة على وجه القهر، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} [الشورى:42] وقال تعالي: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] والآيات الدالة على تحريمه كثيرة، وقال -صلي الله عليه وسلم-: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكن هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)، وانعقد الإجماع على تحريم الغصب، وأخذ المال بغير حقه مطلقًا، فإذا ثبت هذا تعين إتباع لفظ القاضي -رحمه الله-: "ومن أتلف مالاً لغيره ظلمًا لزمه بدل ما أتلف" وهذا كما ذكره

إلا أن قوله ظلمًا لا معني له، لأن الغرم واجب عليه على كل حال سواء كان الإتلاف ظلمًا أو تأويلاً أو خطأ، فتقيده بخصوصية الباب لا بخصوصية الحكم، وأطلق القاضي القول في التلف عمومًا فقال: "ومن أتلف" فدخل في عموم لفظه المكلف وغير المكلف، ولا شك أن حكم المكلف ظاهر في الغرامة والعقوبة، أما الغرامة فقد فسرها القاضي، قال علماؤنا: ويعاقبه الإمام على قدر اجتهاده بما يراه من أدب أو سجن إن كان مكلفًا، وأما غير المكلف يؤدب كما يؤدب الصبي في المكتب. واختلف المذهب في الصغير الذي لا يعقل إذا تلف على ثلاثة أقوال: أحدهما: الأموال هدر، والدماء على العاقلة، والثاني: الأموال والدماء هدر كالعجماء، لأنه غير مكلف، والثالث: أن الأموال لازمة في مال، والدماء على عاقلته، وكذلك الجراحة إذا كانت الثلث فصاعدًا، وسواء كان التلف بمباشرة المتلف كالقتل والأكل والإحراق والهدم، أو بتسبيبه مثل: أن يفتح قفصًا فيطير منه طائر، أو يحفر بئرًا في محل (عام) فيهلك فيه هالك، أو يحل دابة من ربطها، فتذهب، أو عبدًا مقيدًا فيهرب، فيضمن في جميع ذلك، واختلف المذهب في فروع من هذا النمط، إذا فتح باب دار فيها دواب، فذهبت فهل يضمن أم لا؟ فيه خلاف عندنا، فقيل: هو ضامن مطلقًا، وقيل: إن كان في الدار أربابها لم يضمن، وإن لم يكونوا فيها ضمن، وقال أشهب: إن كانت الدواب مسرحة ضمنها، وإن كان رب الدار فيها، ثم قسم القاضي البدل قسمين: مثل، وقيمة، فالمثل في المكيل والموزون والمعدود كالبيض

والجوز ونحوه، والقيمة في العروض والحيوان (عندنا خلاف للشافعي وأبي حنيفة حيث أوجبوا في العروض والحيوان) المثل لا القيمة، إلا أن يعدم المثل والمعتمد لنا قوله-صلي الله عليه وسلم- (من أعتق شركًا في عبد قوم عليه قيمة عدل) الحديث. عدل النبي -صلي الله عليه وسلم- عن المثل إلى القيمة بيانًا للواجب، واعتمد الآخرون على مأخذين: الأول: قوله سبحانه: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95] والثاني: قوله -صلي الله عليه وسلم- (قصعة بقصعة) الحديث، وهو ثابت في الصحيح، وجعله أصحابنا من قضايا الأعيان المخصوصة بمحالها، مع أن قضية القصة وقع فيها التراض، وإنما الخلاف في المشاحة والمخالفة، وقد قيل: إن القصعتين للنبي -صلي الله عليه وسلم- لأنه رب البيتين وإنما قال ذلك تطبيبًا للنفوس لا حكمًا جزمًا، وههنا فروع تتعلق بما ذكرناه. الأول: الحلي هل هو من ذوات الأمثال، أومن ذوات القيم فيه قولان عندنا، الثاني: (الغزل من ذوات الأمثال، أو من ذوات القيم، قولان عندنا، والثالث): إذا تعذر المثل في ذوات المثل فقولان: الأول: أنه يصبر حتى يوجد، وليس له إلا ذلك، وهو قول ابن القاسم، وقال أشهب:

هو مخير بين الصبر، أو يأخذه (بالقيمة) الآن. الفرع الأول: إذا كان المغصوب حيوانًا فوجده ربه بيد الغاصب (فله أخذه في كل مكان إذا هو غير محتاج إلى النقل، فإن كان مما يحتاج إلى النقل والتحويل فوجد ربه الغاصب) في غير بلد الغصب لم يكن لربه أن يأخذه إلا بالمثل في مكان الغصب هذا هو المشهور، والثاني: أن ربه مخير بين أخذه العين في المكان الذي وجده فيه أو المثل في مكان الغصب وهو قول أشهب، والثالث: أنه إن كان الموضع بعيدًا فالقول قول الغاصب، وإن كان قريبًا فالقول قول ربه حملاً على الظالم وهو قول أصبغ قال أصبغ: وبيع الطعام المغصوب قبل قبضه جائز كالقرض فلو غصبه طعامًا، واتفقا على أن يأخذ ربه ثمنًا نقدًا جاز، ولو أخذ طعامًا يخالفه لم يجز، لأنه ربا. قوله: "والاعتبار في القيمة في حال الجناية" وهو كما ذكره، لأن الجناية عليه هي المتلفة المقصود منه، فلذلك اعتبرت القيمة يوم الجناية، وقيل يوم الحكم، وقيل: المعتبر أقصي قيمته يوم الغصب إلى يوم التلف. واختلف المذهب فيمن أتلف سلعة وقفت على ثمن معلوم متقدر، هل يضمن المتلف القيمة وهو قول سحنون، أو الثمن الذي توقفت عليه وهو في العتيبة، أو الأكثر منهما قول عيسي بن دينار. قوله: "ثم الجناية ضربان: منها ما يبطل قدرًا من المنفعة دون جلها" إلى آخره وهذا كما ذكره، أما ما لا يفيت المقصود ففيه ما نقص، وأما ما يفيت المقصود فقد اختلف الفقهاء فيه فقال مالك: ربه بالخيار كما ذكره

القاضي، وقال أبو حنيفة والشافعي: الواجب فيما يفيت المقصود ما بين القيمتين، والمعتمد أنه لما أتلف المقصود منه صار في المعني كتلف العين، إذ لا مقصود من الأعيان إلا المنافع. وقسم الشيخ أبو الحسن اللخمي (التعدي إلى قسمين) يسير وكثير، وكلاهما على قسمين مبطل للغرض المقصود، وغير مبطل، فلا يضمن التعدي باليسير الذي لا يبطل الغرض، فإن كان ثوبًا رفاه، وإن كانت قصعة أصلحها، وعليه غرم ما نقصها العيب بعد الإصلاح، وأما اليسير المتلف للغرض فيه قولان قيل: يضمن قيمة الجميع إلا أن يشاء ربه أخذه، وأخذ قيمة النقص، والشاذ أنه ليس عليه إلا قيمة النقص فقط، ويجبر على ذلك من أباه منهما، والكثير الذي لم يتلف المقصود كاليسير المتلف للمقصود يوجب ضمن الجميع إلا أن يشاء ربه أخذ العين، وقيمة النقص فله ذلك. قوله: "إما مشاهدة (وإما) عادة": أشار بالأول إلى قطع يده، أو كسر رجله، والثاني: إلى الركوب الذي يراه للجمال بقطع ذنبه أو أذنيه. قوله: "ثم المغصوب مضمون باليد" وهذا كما ذكره عام في سائر المغصوبات عندنا سواء كانت مما ينقل ويحول أم لا؟ كالعقار، وقال أبو حنيفة: لا يضمن العقار بوضع اليد، وإنما يضمنه الغاصب، بأن يجني عليه بهدم أو فساد، والمعتمد لنا أن الغصب سبب للضمان فلا فرق بين (العقار) وغيره.

قوله: "وهو مضمون بقيمته يوم الغصب" وهذا كما ذكره لأن بالغصب قد تعلق بذمته. قوله: " ثم لا يخلو رده من ثلاثة أحوال": إما أن يرده ناقصًا في بدنهن أو زائدًا فيه، أو على الحال الذي غصبه عليها، فإن رده زائدًا ألزم مالكه أخذه، فإن زاد عنده بسمن أو غيره، ثم ذهبت الزيادة، ورجع إلى حال حين الغصب فلا ضمان على الغاصب عندنا، وقال الشافعي: يرد إرش الزيادة والمعتد لنا أن العين المغصوبة رجعت إلى الصفة التي غصبت عليها، فيسقط عنه الضمان أصله إذا بقي على حاله، لم يزد (عليه) شيء فإن رده ناقصًا، فقد ذكرنا أن النقص على قسمين: يسير، وكثير، قال مالك في رجل أفسد لرجل ثوبًا فإن كان الفساد يسيرًا رأيت أن يرفوه، ثم يغرم ما نقص العيب بعد الفرو، وإن كان كثيرًا أغرمته قيمته يوم أفسده، قال ابن القاسم: فإن قال رب الثوب: لا أسلمه، وكان الفساد كثيرًا، ولكنه اتبعه بما أفسد فذلك له، قال ابن القاسم، ولقد كان مالك دهره يقول لنا في الفساد: يغرم ما نقصه، ولا يقول يسير ولا كثير حتى وقف بعد فقال: هذا القول في الفساد الكثير. تنبيهات: في ثمانية أبي زيد في الفرس الجميل تفقًا عينه، أن عليه (قيمة) ما نقصه العيب، وإن فقأ عينيه معًا ضمن قيمة جميعه إلا أن يشاء ربه أخذ قيمته، ولو ضرب (ضرع) بقرة لا تراد إلا للبن فأفسد ضرعها ضمن قيمتها، واختلف إذا فقأ عينًا، أو قطع يدًا ففي المجموعة عن مالك أنه

يضمنها، وقال ابن القاسم: في العين الواحدة (والإصبع الواحدة) عليه قيمة النقص، وفي كتاب ابن حبيب إن كان صانعًا فعليه قيمة النص، وقد ذكرنا أنه إذا قطع ذنب بغلة القاضي أو من في معناه أو أذنيها، أو رماها فعرجت أنه يضمن جميعه، وعن مالك أنه لا يضمن إلا قيمة النقص فقط، وقيل: يضمن الجميع، إذ فسادا لأذنين بخلاف الذنب، فيضمن فيه قيمة النقص فقط، وقع ذلك في كتاب ابن حبيب لأن العيب في الأذنين أفحش، ولو حلق رأس محرم مكرهًا أطعم عنه لأنه أدخله في ذلك، فإن كان فقيراً افتدي المحرم ورجع على الحالق إذا أيسر، ويغرم الجارح أرش الطيب ولا يرجع به إنه برأ على غير شين، (وقيل: لا شيء على الجارح من أجر الطبيب، وهو على المجروح، فإن بريء على غير شين) لم يكن على الجارح شيء. قوله: " فإن كان من قبل الله تعالي لا يفعل من الغاصب لم يكن للمالك التابع الغاصب بشيء من (قبله) " وهذا كما ذكره، لأن الغاصب كان ضامنًا لها يوم الغصب فحدث العيب من قبل الله سبحانه على أصل مضمون فيبقي على أصله، فإن اختار المالك أخذ العين فقد رضي بعيبها، وإن لم يرض سلمها، ورجع بالقيمة وليس له التمسك وأخذ (إرش العيب)، إذا ليس لغاصب في ذلك أثر، فإن كانت الجناية يفعل من الغاصب فقولان، قال ابن القاسم: ربه بالخيار بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه وما نقصته الجناية، وقال سحنون: المعتبر ما نقصته الجناية يوم الغصب، وقال أشهب: بالخيار بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه ناقصًا، ولا شيء له في

الجناية وهو قول ابن المواز. قوله: "ولا ضمان على الغاصب في زيادة إن طرأ عنده، ثم (تلفت) في بدن أو قيمة"، وهذا تنبيه على خلاف الشافعي، وقد ذكرناه. قوله: "ولا له في رده زيادة قيمة (بتعليم) صنعة، أو حوالة سوق": وهذا هو المشهور، وقال ابن القاسم: إذا غصب ثوبًا فصبغه فربه بالخيار بين أن يأخذ قيمته يوم الغصب، وبين أخذ الثوب، ثم إذا أخذه فهل يدفع للغاصب قيمة الصبغ أم لا؟ قال (أشهب): لا شيء له في حد الصبغ، وقال غيره: يدفع له قيمة الصبغ، وإن نقصه الصبغ، فله أخذ قيمته يوم الغصب، أو أخذه بغير أرش، ولو غصب طيناً فضربه لبنًا رجع عليه بمثل الطين، وإن غصب شاة فذبحها فلربها أخذها مذبوحة، وما نقصها الذبح، ولو ذبحها وشواها ضمن لربها قيمتها، ولو غصب نقرة فصاغها حليًا ضمن مثلها، ولا شيء له غير ذلك على الأشهر، وقال ابن الماجشون: له أخذ العين في ذلك كله لأن الظالم أولى ما حمل ويرجع عليه بما زاده، فعله فيها إذا تبينت الزيادة، ولو غصب زيتًا فخلطه بمثله صار شريكًا بمليكته، وإن خلطه بأدني منه فهو فوت، وعلى الغاصب مثله، واختلف المذهب في حوالة السوق، وفي هذا الباب هل هي فوت أم لا؟ مثل أن تكون قيمته يوم الغصب ألفًا، ثم عاد إلى خمسمائة، والمشهور أنه لا التفات إلى ذلك، وليس له إلا

العين، وذكر ابن شعبان عن ابن وهب وأشهب وعبد الملك، أن علي الغاصب أرفع القيم، وللمغصوب منه أن يأخذه بذلك، إذا هلك، لأن عليه أن يرده كل وقت، قال: وكذلك إن كانت قيمته خمسين، ثم بلغت ألفاً، ثم عادت إلى خمسين فالقيمة عندهم أرفع القيم. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: "يجعله أرفع القيم مع وجود العين أو عدهم، قال: وأري (أن العبد) إن كان عبد قنية فله عبده لا غير، وإن كان للتجارة لزمه أرفع القيم"، وقال مالك: في الغاصب والسارق إذا حبسه عن أسواقه ومنافعه، ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه، وإن كان مستعيرًا، أو متكاريًا ضمن قيمته، قال ابن القاسم: ولولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما أجعل على المتكاري وأضمنه القيمة إذا حبسها عن أسواقها. قوله: "ولا أجره على الغاصب في المدة التي (حبس) فيها العين المغصوبة" وهذا كما ذكره لأنه إنما غصب الرقبة فوجبت (عليه) قيمتها بالغصب داراً فأغلقها، أو أرضًا فبورها، أو دابة فوقفها عليه الإجارة، لأنه منعه ذلك. قوله: "فأما إن انتفع به، أو اغتل ففيه خلاف" وهذا كما ذكره، وفي

المذهب في هذه المسألة خمسة أقوال، فروي أشهب وعلى بن زياد عن مالك أنه يغرم الغلة أي صنف كان المغصوب اعتمادًا على قوله -صلي الله عليه وسلم-: (ليس لعرق ظالم حق) وذكر القاضي أبو الحسن بن القصار عن مالك رواية أنه لا يغرم مطلقًا عكس الرواية الأولى اعتمادًا على قوله -صلي الله عليه وسلم-: (الخراج بالضمان) والرواية الثالثة (أنه) يغرم غله الرباع والغنم والإبل، ولا يغرم غله العبيد والدواب، وهي إحدى روايتي ابن القاسم عن مالك قال (أيضًا): ويغرم ما استغل، ولا يغرم ما استعمل، وقال ابن المعدل: يغرم غله ما لا يسرع إليه كالدور والأرضين، ولا يغرم ما يسرع ذلك إليه، لأن الديار مأمونة فكأنه لم يضمن شيئًا بخلاف غير المأمون فيسقط عنه الكراء فيه من أجل ضمانه له، ومدار المسألة على التردد بين مفهوم الحديثين، والتفريقات استحسانات، قال ابن حبيب: إذا باع الغاصب أو وهب غرم الغلة التي اغتل المشتري والموهوب له، فإن كان الغاصب معسرًا رجع (به) على الموهوب له إن كان حيًا، وعلى وارثه إن كان ميتًا، لم يرجع على المشتري. فرع: إذا حكمنا على الغاصب (برد الغلة) فهل يرجع بما أنفق على العبد والدابة وغيرها من علف، وسقي، وعلاج أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرجع بذلك لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار) والثاني: أنه لا

شيء له لقوله -صلي الله عليه وسلم- (ليس لعرق ظالم حق)، والثالث: أنه إن كان ربه ممن يلي هذه الأمور بنفسه لم يرجع عليه الغاصب بشيء، وإن كان ممن يحتاج فيه إلى استئجار رجع عليه الغاصب فيما تولاه بإجارة المثل، لأنه صون ماله، وكذلك إذا أنفق على ما لا غله له كالصغير الذي لا يبلغ الخدمة، أو الدابة التي لا يمكن ركوبها، فهل يرجع على صاحبها بشيء من النفقة أم لا، قولان. واختلف المذهب أيضًا فيمن غصب خرابًا فأصلحه واغتله هل للمغصوب منه جميع الغلة، أو قدر ما ينوب الأصل قبل الإصلاح قولان عندنا. قوله: "وإذا غصب ساجة وبني عليها لزمه ردها، وإن تلف بناؤه": والساجة: الخشبة ونبه بهذه المسألة على خلاف أبي حنيفة حيث قال: لا يقلع الخشبة ولصاحبها قيمتها لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرر) والمعتمد لنا قوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا يحل ال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) وقوله -صلي الله عليه وسلم- (علي يد رد ما أخذت). قوله: "وإن أدرك المالك الأرض وفيها زرع للغاصب فله قلعة إلا أن يكون وقت الزرع قد فات" وهذا كما ذكره، أما إذا لم يفت أبان الزراعة فلمالك الأرض أن يقول: أنا أزرع أرضي، ولا أخذ منه بدلاً، وأما إذا فات

فصل ومن ابتاع أمة فأولدها

إبان الزراعة ففيها روايتان أحدهما: أن له قلعة لقوله -صلي الله عليه وسلم- (ليس لعرق ظالم حق) والآخر: أن ليس له قلعة، وله على الغاصب كراء الأرض لقوله -صلي الله عليه وسلم- (لا ضرر ولا ضرار). قوله: "وإذا وجد المغصوب بعد أخذ قيمته كان للغاصب إلا أن يكون أخذاه" وهذا كما ذكره لأن القيمة قد أوجبها الحكم وقيل (لربه) الرجوع إلى أخذ العين، وأما إذا أخفاها الغاصب قاصدًا الرفع للقيمة فلا خلاف أن ربه أحق به، ثم ذكر تضمين فاتح القفص، وقد تقدم أن المسبب في هذا كالمباشر، ثم ذكر الخلاف في قيمة ما لا يحل بيعه كالخمر والخنزير، وفيه قولان مشهوران. فصل قال القاضي -رحمه الله-: ومن ابتاع أمة فأولدها، ثم استحقت (فولدها) حر". وهذه المسألة قد اختلف فيها قول مالك، ونزلت به حين استحقت أمولده إبراهيم، وتحصيل القول في ذلك: أن الولد بلا خلاف ليس للمستحق أخذه البتة، لأن الواطئ وطئ بوجه صحيح معتقد الملك فدخل على حرية ولده مستنداً إلى أصل الملك، فلا كلام في ذلك، وهل للمستحق عن الولد قيمة أم لا؟ قولان، عن مالك أحدهما: أن يأخذ قيمته لأنه ولد أمة أخذها

فلما تعذر أخذه شرعًا وجب الانتقال إلى قيمته، والثاني: أنه لا يأخذ قيمته، وهو الذي رجع إليه مالك، واستقر عليه قوله اعتمادًا على ما ذكرناه من أنه مستند إلى أصل الملك، وأنهم ولدوا في ضمان الأب بعد ثبوت حرمة الأم، ووجوب قيمتها عليه، وأما الأم فهل له أخذ عينها أم ليس له إلا قيمتها فيه أيضًا قولان، عن مالك أحدهما: أن له أخذ عينها قياسًا على رد عتقها لأنه غير (مالك) في نفس الأمر حقيقة، والثاني: أنه يأخذ قيمتها، وإليه رجع مالك حين نزلت به (وبه أخذ) ابن كنانة، وابن أبي حازم، وابن دينارن وابن الماجشون، والمغيرة، اعتباراً بولدها لما ذكرناه من مراعاة أصل الملك. وفصل الشيخ أبو الحسن اللخمي فقال: إن كان الأب ممن له قدرة فعليه لمستحقها قيمتها، ويجبر على ذلك من أباه، وإن كان لا قدر له أخذ مستحقها عين الأمة لا قيمتها، وإذا أوجبنا القيمة، فمتي تكون، ثلاثة أقوال: الأول: أنها تجب يوم الحمل، والثاني: أنها تجب يوم الولادة. والثالث: أنها تجب يوم الحكم، واختلف في فروع تتعلق بذلك: الأول: إذا رضي المستحق بأخذ القيمة، وأراد الواطئ تسليمها فهل يجبر الواطئ على دفع القيمة أم لا؟ قولان عندنا: أحدهما: أن الوطء لا يجبر على دفع القيمة وهو قول أشهب، والثاني: أنه يجبر على ذلك، والقول قول المستحق وهو قول ابن القاسم، وفصل الشيخ أبو الحسن اللخمي فقال: إن كان الولد حيًا، وعليه في تسليمها معرة أجبر الأب على دفع القيمة، وإن كان الولد ميتًا أو ممن لا قدر له لم يجبر. الفرع الثاني: إذا استحقت الأمة في هذه الصورة وهي حامل جري فيها ما تقدم من الأقوال، وإن قلنا: إن المستحق أخذ عين الأمة أخرت

حتى تضع حملها فيأخذها حينئذ ويجري في الولد ما تقدم من الخلاف، وإن قلنا: إنه يأخذ قيمتها فقط، وليس له أخذ عينها أخذ قيمتها على ما هي عليه، ولا ينتظر الوضع. الفرع الثالث: إذا ماتت الأم قبل المحاكمة فالصحيح أن القيمة لا تسقط، وتكون على حكم أم الولد من يوم الحمل على أحد الأفول وعلى (القول الآخر) أنها معتبرة يوم الحكم ينبغي سقوطها، وهو تخريج المتأخرين. الفرع الرابع: إذا أوجبنا على الأب قيمة (الأمة) فكان معسرًا اتبعه المستحق قيمتها متي أيسر وهل يلزم الولد أن يدفع للمستحق قيمة نفسه إن كان أبوه معسرًا أم لا؟ قولان عندنا، قال ابن القاسم: يغرم قيمة نفسه، ولا يرجع على الأب إن أيسر، وقال أشهب: لا شيء على الابن، لأن حريته مقتضي الأحكام، وهل يقوم الولد بما له أمر لا يعتبر ماله في القيمة قولان حكاهم الشيخ أبو الحسن، ففي العتيبة عن ابن القاسم يقوم الولد بغير مال، وقال (المغيرة) والمخزومي: يقوم بماله، فإن كانا معسرين اتبع المستحق أولاهما أيسر بقيمة الأمة، قال في الكتاب: وإن كانا مليين فذلك على الأب، ولا يرجع به الأب على الولد، وهذا الذي ذكرناه فيما إذا وطئها بالملك فولدت، ثم حدث الاستحقاق فإن كان الولد من زنا فلا خلاف أنه رقيق، فللمالك أخذه، وأخذ الأم، وإن كان وطئها بنكاح وهو عالم أنها أمة فكذلك أيضًا لأنه بتزوج الأمة دخل على رق الولد، إذا الولد للفراش إجماعًا، فإن غرت الأمة من نفسها وتزوجها على أنها حرة فإذا هي رقيق فولدت فلا خلاف أن الولد حر، لأنه دخل على ذلك، وعليه قيمته لسيد الأمة، وللسيد أخذها، لأن غرورها لا يزيل ملكه عنها، وحكي الشيخ أبو القاسم بن

الجلاب أنه ليس لسيدها إلا قيمتها، وهذا الذي ذكرناه من وجوب قيمة الولد إنما يتصور إذا كان ممن لا يعتق على المستحق، فإن كان الواطئ ابنًا أو أبًا ممن يعتق ولده على المستحق فهل يلزمه قيمة الولد أم لا؟ قولان، الجمهور على أن لا رجوع له بقيمة الولد على الواطئ لأنه إذا وجب عليه عتقه كان أخذ القيمة عنه غير جائز، ويرجع بالصداق على من غره لما في ذلك من التفرقة عليه ولا يرجع بقيمة الولد إذا أخذت منه على من غره، لأن الغرر لم يتعلق بالولد، وإنما يتعلق بالاستمتاع. قوله: ولا يلحق النسب بالغاصب": قلت: وهذا كما ذكره، لأنه زان، وقد تقدم حكمه، ثم ذكر مسألة من بني أرضًا أو غرسنا، ثم جاء مستحقها، وفصل القول في ذلك تفصيلاً حسنًا جارياً على المذهب، فأما الغاصب مخير كما ذكره القاضي بين أن يأمر الغاصب بالقلع، أو يدفع له قيمة ذلك مقلوعًا، لأن عرق الغاصب لا حرمة له، إذا هو عرق ظالم، ولا مقال للغاصب إذا قال أريد عين مالي ولا أريد قيمته، لأن المالك يقول: لا أدعك توعر أرضي بتخريبها وقلع غراساتها فرجح قول المالك على قول الغاصب، وإنما وجبت قيمته مقلوعًا، لأن تبقيته (غير مستحقة) عليه. قوله: "بعد حط أجرة القلع" هو كما ذكره لأن علي الغاصب تسليم الأرض إلى المالك فارغة كما كانت حين الغصب، والمشتري من الغاصب العالم فإن غاصب، فإن كان الباني قد بني أو غرس بوجه شبهة بدأ المستحق بالخيار لكونه أقوي سببًا فيعطي المستحق للباني قيمة بنائه قائمًا بخلاف الغاصب، لأن الغاصب متعد في البناء، وهذا بني بشبهة وإذا بذل القيمة لزم الباني أخذها، لأن الضرر قد زال عنه بأخذ القيمة، فإن أبي الثاني من أخذ القيمة انتقل الخيار للمستحق، فإن أبيا كانا شريكين كما ذكره القاضي.

باب في الحوالة والحمالة

باب في الحوالة والحمالة قال القاضي -رحمه الله- " الحوالة: تحويل الحق من ذمة إلى ذمة (تبرأ بها) الأولى ما لم يكن (غروراً) من (عيب) الثانية" إلى آخره. شرح: الحوالة مستثناه من الدين بالدين، لأن المحيل باع الدين الذي له على المحال عليه بالدين الذي كان عليه، فهي من جملة العقود المستثناة لمكان الضرورة وقصد (المعروف)، وحدها بعضهم فقال: صرف ما حل فيما حل أولم يحل، وإنما اشترطنا حلول الدين المحال به، لأنه إذا لم يحل كانت معارضة خارجة عن باب المعروف إذا لم يرض بالتحويل من ذمة إلى ذمة إلا لمكان التعجيل، والأصل في جوازها ما رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- (مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ومحمله عندنا على الندب، ورواه سفيان الثوري بهذا الإسناد وفيه: (إذا أحيل أحدكم على غني فليستحل) ولا يخلو أن

تنعقد بلفظها الصريح المتفق على مقتضاه، فتلزم علي حكمها، أو بلفظ محتمل دائر بين الحوالة والوكالة مثل أن يقول: خذ الدين الذي لك على الدين الذي لي على فلان ففلس فلان، فقال ابن القاسم: محمله على الوكالة ولرب الدين أن يرجع على غريمه، وله أن يقول: إنما طلبت نيابة عنك، وفي العتيبة فيمن أحال رجلاً بدين على رجل آخر، فقال المحيل: إنما (أحلتك علي) دين لي ليكون ذلك سلفًا عندك، وقال القابض: إنما أخذته عوضًا (عما) كان لي عليك، فالقول قول المحيل، لأن الأصل براءة ذمته من الدين الأصلي إلا ببينة، ومحمل هذا على الوكالة لا على الحوالة، وقال ابن الماجشون: القول قول مدعي الحوالة إذا أدعي من ذلك ما يشبه، وحكي الإمام أبو عبد الله وغيره في هذه الصورة قولين: أحدهما: القول قول (المحيل) والثاني: أن القول قول (المحال) أنه لم يقبض إلا ما استحق. قوله: "يبرأ بها الأول": تنبيه على خلاف أبي حنيفة حيث اوجب للمحال الرجوع على المحيل إذا مات المحال عليه، ر وأفلس، أو جحد الحق. قوله: "ما لم يكن غروراً" تنبيه على مذهب الشافعي، ومذهبنا أنه إذا غره كان له الرجوع مثل أن يحيله على عديم، والمعتمد لنا قوله -صلي الله عليه وسلم-: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) وهذا غير مليء. قوله: "ويعتبر فيها رضي المحيل والمحال دون المحال عليه": قلت:

وهذا مذهب مالك -رحمه الله - وقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة مذاهب، فاعتبر الشافعي رضا الثلاثة: المحيل والمحال والمحال عليه تغليبًا لحكم المعاوضة، واعتبر مالك رضا المحيل والمحال فق، واعتبر داود رضا المحيل والمحال عليه دون المحال، واعتبر الشافعي ما ذكرناه من أنهما معاوضة صحيحة ومعاملة حقيقية فتفتقر إلى الرضا والإيجاب، ومن أنزل المحال عليه من المحال منزلته من المحيل لم يعتبره رضاه، إذا لا حجة له في دفع الحق الذي عليه لمن قبضه منه مطلقًا كائنًا ما كان، واعتمد داود على قوله -صلي الله عليه وسلم-: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) والأمر للوجوب، وشرط علماؤنا في صحة الجواز ثلاثة شروط: الأول: رضا المحيل والمحال كما ذكرناه. والثاني: حلول الدين (المحال به). والثالث: اتفاق الدينين نوعًا وقدرًا ووصفاً. أما الشرط الأول فقد تكلمنا فيه (وأما حلول الدين) فاشترطنا حرزًا من الدين بالدين، فإن لم يكن للمحيل على المحال عليه دين بالدين فإن لم يكن للمحيل علي الحال عليه دين (فأحاله عليه) فأفلس المحال عليه، فهل يرجع المحال أم لا؟ قولان، قال ابن القاسم: يرجع عليه، وقال ابن الماجشون: لا يرجع عليه، وأما اشتراط الاتفاق فبين ليتحقق به المعروف، فإن لم يتفقا خرج إلى باب المعاوضة فيتعلق بهذا الشرط الحوالة في الطعامين، وقد منع من ذلك بعض الفقهاء خارج المذهب مطلقًا، لأنه من

باب بيع الطعام قبل قبضه، وتحصيل القول فيه على مقتضي المذهب أنهما إن كانا من قرض (فالحوالة جائزة، لأن بيع الطعام قبل قبضه جائز إذا كان من قرض) فإذا كان الطعامان من بيع أو احدهما فلا يخلو أن تتفق رؤوس الأموال أم لا؟ فإن اتفقت فهي تولية، وإن اختلفت لم تجز الحوالة على المشهور حلت الآجال أو لم تحل، لأن ذلك من بيع الطعام قبل قبضه، (وهو ممنوع). قوله: "ولا رجوع (فيها) وإن تلف (الحق) إلا بالغرور": وقد قدمنا أنه نبع على مذهب أبي حنيفة القائل: أن له الرجوع عند الموت مفلسًا، أو جحد الحق، والمعتمد لنا قوله -صلي الله عليه وسلم-: (إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع). قوله: "وأما الحمالة فمعناها مشغل ذمة أخرى بالحق" قلت: الحميل والضامن والزعيم، والكفيل (والقبيل) واحد، قال تعالي: {أو تأتي بالله والملائكة قبيلة} [الإٍسراء: 92] والأدين أيضًا، وقال تعالي في الكفيل: {وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} [النحل:91] وقال في الزعيم في الزعيم: {وأنا به زعيم} [يوسف: 72] وقال -صلي الله عليه وسلم- (لا تقوم الساعة حتى يكون زعيم القوم أرذلهم) وقال الشاعر:

فإن زعيم القوم لا يقبل الرشاد ... يكون إمام القوم في الحادثات وقال -صلي الله عليه وسلم- (تكفل الله لمن جاهد في سبيله ولا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ابتغاء مرضاته أن يدخل الجنة أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة)، وقال تعالي في الأدين: {وإن تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] وقال: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم} [الأية] وقال امرؤ القيس: وإني (زعيم) إن رجعت مملكا ... بسير تري منه الفرائق أزورا علي لاحب لا يهتدي لمناره ... إذا سافه النباطي جرجرا والأصل في مشروعية الحمالة قوله سبحانه: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} وقال -صلي الله عليه وسلم-: (الزعيم غارم)، وقال -صلي الله عليه وسلم-: (لا تحل الصدقة إلا لثلاثة) وذكر فيهم: (رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يردها) الحديث خرجه الشيخان البخاري ومسلم، وهي على أربعة أوجه: حمالة بالمال، وحمالة بالوجه، وحمالة بالطلب، وحمالة مجهولة، أما الحمالة بالمال فثابتة، وأجمع العلماء على جوازها ولزومها وشذ قوم وقالوا: (ليست بلازمة) وتشبيهها بالعدة، والدليل على (لزومها) قوله -صلي الله عليه وسلم- (الزعيم غارم)، وأما حمالة الوجه، فقد اختلف الفقهاء فيها فأجازها

الجمهور، لأنها وثيقة كالرهن ومنعها الشافعي في أحد قوليه، ومنعها داود اعتمادًا على قوله سبحانه: {معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدها متعانا عنده} [يوسف: 76] وتأويله الجمهور على أن المعني أنه لا يأخذ بالحق إلا من تعين عليه وهو جار في حمالة الوجه (وحمالة المال وسائر الحقوق، وصف حمالة الوجه) أن يقول: أنا حميل بإحضاره، وأما حمالة الطلب مثل أن يقول: أن حميل بطلبه فيلزمه الطلب جهد استطاعته، فإن عجز عن الطلب لم يلزمه شيء، وكذلك إن غاب المطلوب إلى موضع بعيد، وليس من شأنه السفر إليه لم يلزمه طلبه، ولم يكن عليه شيء، وقال ابن الماجشون: يخرج لطلبه قرب موضعه أم بعد ما لم يتفاحش، قال أصبغ: يطلبه على ميسرة اليومين، وحيث لا مضرة فيه، فإن خرج لطلبه وقال: لم أجده فهل (يكلف) الحميل إثبات وصوله أم لا؟ المنصوص عليه أن القول قول الحميل إذا أشبه، واستقرئ من تكليف الأجير على توصيل الكتاب إثبات الوصول، إثباته هنا خرجه الأشياخ، وفي المبسوط إذا كان قادراً على إحضاره فتركه حتى غاب فهو ضامن، وفي كتاب محمد: إذا لم يعرف موضع الغريم لم يسجن حميل الطلب إلا أن يتهم بأنه (عرف مكانه) فأخفاه، وإن كانت الحمالة مجهولة لزمت، وكان القول قول الحميل فيما يدعي من ذلك. قوله: "ولا تصح إلا بحق يمكن استيفاؤه من الضامن أو (بما) يتضمن ذلك" وهذا كما ذكره أن الحمالة إن تكون بالأموال، أو بما يتعلق بالأموال، ولا تجوز الكفالة بالحدود سواء كانت بحق الله سبحانه، أو بحق

الآدمي عندنا خلافًا لأبي حنيفة وغيره، وأجاز الكفالة في الحدود اعتمادًا على ما جاء في بعض طرق حديث العامرية أن النبي -صلي الله عليه وسلم- (أمرها بالانصراف حتى تضع) وفي بعض طرقه وهو موضع احتجاج الحنفية أنه -صلي الله عليه وسلم- كفلها. تنبيه: الكفالة الممتنعة في الحدود هي أن يتكفل بما يجب على المطلوب، أو يتكفل بوجهه على أنه متى عجز عن إحضاره أخذ ذلك منه كل هذا لا يجوز، وأما الكفالة بطلبه خاصة فجائز في الحدود الواجبة (لحق الآدميين) على أن لم يحضره سقط حق الطالب نص على جوازه على هذه الصفة إسماعيل القاضي، ولا يجوز ذلك في حقوق الله سبحانه، بل الواجب أن يسجن حتى يقام عليه (الحد) إن تعذر تعجيله، وقد ذكرنا أن الحمالة على أربعة أوجه: الأولى: الحمالة بالمال وهي (على ضربين) مطلقة ومقيدة، فالمطلقة أن يقول: أنا حميل بما عليه، والثاني: أن يقول: أنا حميل بما عليه إن غاب أو افتقر (أو مات) وكلا القسمين جائز، ويبدأ في المطلقة بالغريم، وهل للطالب طلب الكفيل مع القدرة على الغريم فيه قولان عن مالك، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: واختلف عن مالك أيضًا إذا اشترط الطالب أن يبتدئ بأيهما شاء، فأجاز ذلك مرة، ومنعه أخرى، فقال: يعمد إلى هذا فيبيع مسكنه وخادمه وصاحبه حاضر مقيم لا أري أن يوفي بهذا

الشرط، وبه أخذ أشهب، وابن كنانة، وابن الماجشون، وبالأول أخذ ابن القاسم ورأي الوفاء بهذا الشرط لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (المسلمون على شروطهم)، وأما الحمالة بالمال المقيد فيجري فيها على مقتضي التقييد بلا خلاف، قال المتأخرون: اشتراط الطالب تبدئة الحميل على ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون للطالب في ذلك منفعة مثل أن يكون الغريم لا يقدر على الوفاء من رباع، والحميل موسر بالعين فله مقتضي شرطه في هذه الصورة لظهور المنفعة. والثاني: أن لا تكون له فيه منفعه أعني الطالب، ولا على الغريم مضرة مثل: أن يكونا موسرين بالعين فهل يوفي بهذا الشريط أم لا؟ قولان حكاهما الشيخ أبو الحسن اللخمي، واختار الابتداء بالغريم. والقسم الثالث: أن يكون على الحميل في ذلك مضرة مثل: أن يكون الغريم موسرًا بالعين، والحميل موسرًا بعرض، أو عقار، فلا يمكن الطالب من بيع عرض (الحميل) أو عقار مع قدرته على أخذ العين (من يد غريمة) وكذلك لو كان في أيديهما عروضًا أو عقار، فليس له أن يعدل إلى الحميل إذا كان ما بأيديهما سواء في إمكان بيعه، ونفاق سوقه. قوله: "وإن يأت به لزمه ما عليه": يريد في حمالة المال، لأنه مقتضاها، واختلف المذهب إذا حل الأجل، وسأل الحميل أن يؤخر رجاء حضور الغريم، فقال مالك وابن القاسم: ذلك له، وقال ابن وهب: يغرم المال، ولم يجعل فيه تلومًا وفي المدينة: إذا كان سفرًا قريبًا اليومين والثلاثة، وما لا يضر بالمحتمل له، وغرم الحميل على قدر ما يراه الإمام، ولو قال الطالب: أخاف أن لا يرجع الحميل إذا سافر كان له أن يأخذ عليه حميلاً. فرع: إذا رفع الغريم نفسه للطالب عن الحمالة فهل يسقط الطلب عن

الحميل أم لا؟ قولان، المشهور أن لا يسقط، إلا أن يسلمه الحميل أو وكيله، وقال ابن عبد الحكم: تسقط الحمالة عن الحميل بإحضار الغريم نفسه للطالب وهو الصحيح، لأنه لا تمكن بذلك من طلبه. قوله: "إلا أن يشترط أنه لا يلزمه إلا إحضاره فقط": قلت: حميل الوجه إذا قال: لست من المال في شيء لم يلزمه منه شيء، إلا أن يمكنه إحضاره فيلزمه لتفريطه غرم المال كمن تعمد إتلاف مال غيره، نص عليه القاضي أبو محمد، فإن تحمل بالوجه، ولم (يتعرض) (لنفي المال) عنه فأحضره موسرًا سقطت الحمالة عنه بلا خلاف، فإن كان الغريم مسجونًا في حق أو تعديًا، بريء الحميل بذلك، وكان إحضاراً، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: لأن ذلك كموته إذا تعدي عليه بالسجن، وكذلك إن أحضره معدمًا اللخمي: لأن ذلك كموته إذا تعدي ليه بالسجن، وكذلك إن أحضره معدمًا فالحمالة ساقطة عن الحميل إذا حضر ذلك في بلد تناله فيه الأحكام. واختلف في مسائل: الأولى: إذا قال: أنا حميل بوجهه ولم يقل: ولست من المال في شيء لزمه إحضاره، فإن لم يحضره فهل يغرم المال أم لا؟ فقال مالك وبان القاسم: يغرم المال إذا لم يحضره، وقال ابن عبد الحكم: لا شيء عليه، لأن الحمالة بعين لم تكن له قدرة على إحضارها، فلم يكن عليه غرم. المسألة الثانية: هل تسقط الحمالة إذا ثبت فقره، المشهور سقوطها، وقال ابن الجهم: لا يبرئه إلا وصوله إلى صاحبه، لأنه تحمل به وقت يساره.

المسألة الثالثة: إذا حكم عليه بالمال فلم يغرم حتى حضر الغريم، فقال ابن الماجشون: قد مضي الحكم بالغرم فلا ينقض، وقال سحنون: لا غرم عليه. المسألة الرابعة: إذا مات الحميل أو الغريم ففيه تفصيل، أما إذا مات الحميل فلا يخلو أن تكون الحمالة بالمال، أو بالوجه، فإذا كانت بالمال، ومات الحميل بعد حلول الأجل تعين طلبه بلا خلاف، وإن مات قبل الأجل ففيه ثلاثة أقوال، ففي المدونة لصاحب الحق: أن يأخذ ذلك من تركته الآن، وفي المبسوط: إذا حلف رباعًا وقال: ورثته هذا دينك في رباع الميت لم يكن ذلك لهم، وعن مالك أيضًا: أنه يوقف ذلك من ماله إلى الأجل، فإن دفع الغريم وإلا أخذ ذلك من الحميل، وفرق ابن نافع بين أن يكون للحميل ما مأمون أم لا؟ فإن كان له مال مأمون وقف (الحق وإلا أخذ الحق)، الآن من تركته، وأما حمالة الوجه يموت الحميل فيها. فقال مالك وابن القاسم: لا تسقط الحمالة، لأن الطلب متعلق (بالذمة، وعن عبد الملك في كتاب محمد تسقط، لأن الطلب متعلق) بعين الحيمل لا بذمته وهو عكس (القول الأول، وإذا فرغنا على أنها لا تسقط، فإن مات بعد حلول الأجل لزم ورثته ما لزمه، وإن مات قبل الأجل أنظر الورثة إلى حلول الأجل، وأما إن مات الغريم فيتعين طلب حميل المال بشرطه، وأما إن كانت الحمالة بالوجه فتسقط بموت الغريم إذا كان موته في البلد قبل الأجل، وبعده، واختلف إذا مات بغير البلد، فقال ابن القاسم في كتاب محمد: هو محمول على اللد وأنه لا يغرم إلا بعد أن يخرج إليه الحميل، فإن بقي من الأجل ما لو تكلف الحميل طلبه خرج ورجع قبل حلول الأجل سقطت عنه

الكفالة قال: وإن قلت لكم غير هذا فاطر حوه، وخذوا بهذا، وحمله ابن حبيب على الوفاء فقال: إذا بقي مال قدم الغريم ثم قدم عند حلول الأجل فلا شيء عليه، وقال أشبه: سقطت الحمالة إذا مات قبل الأجل لأنه قد ظهر أن غيبته لا تضره، وأنه لو كان حاضرًا لأتي الأجل وهو ميت فتسقط الحمالة. قوله: "وتصح في المعلوم والمجهول" وهذا مذهب مالك -رحمه الله-، وخالف في ذلك الشافعي فمنعها بالمجهول، والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله -صلي الله عليه وسلم- (الزعيم غارم)، ولأنه ألزم نفسه شيئًا فلزمه كالنذر المبهم. قوله: "قبل وجوب الحق أو بعده" (وهذا كما ذكره، أما بعد وجوب الحق) فظاهر، وأما قبل وجوبه فمثل أن يقول: دائن فلانًا وأنا ضامن لما تعطيه، فيجوز ذلك ويحمل الإطلاق في ذلك على العوائد دون ما يخرج عنها، نص عليه القاضي أبو محمد. قوله: "وعن الميت والحي": أما عن الحي فلا إشكال فيه، وأما عن الميت فلحديث أبي قتادة في الرجل الذي مات عليه دين فأبي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أن يصلي عليه، فقال أبو قتادة: (صل عليه وعلى دينه) الحديث، خرجه أهل الصحيح، وباقي كلام القاضي في الباب قد تكلمنا على مقتضاه.

باب الوكالة

باب الوكالة قول القاضي -رحمه الله-: "باب الوكالة كل حق جازت فيه النيابة جازت الوكالة (فيه). قلت: الأصل في جواز الوكالة قوله سبحانه: {فابعثوا أحكم بورقكم} الآية [الكهف:19]، وصح أن النبي -صلي الله عليه وسلم- (وكل عروة بن الجعد البارقي ليشتري له شاه لأضحيته، ووكل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- أخاه عقيلاً) وانعقد الإجماع على جوازها، وجري العمل عليها من الطالب والمطلوب الحاضر والغائب ذكرًا كان أو أنثي، ومنع سحنون وغيره من وكالة المطلوب ورآه من باب اللد، ومنه أبو حنيفة الوكالة إلا من الغائب والحاضر مع حضور الخصم وغيبته. قوله: "وهي من العقود الجائزة": يعني إذا كانت على وجه التبرع، ولذلك جاز لوكيل عزل نفسه، فإن قارئها العرض على سبيل الإجارة فهي لازمة من الطرفين، ويجب حينئذ أن يكون العمل معلومًا، وإن خرجت مخرج الجعالة ففي المذهب ثلاثة أقوال: الجواز من الطرفين، واللزوم (منها

واللزوم) من جهة الجعل دون المجهول له قال الإمام أبو عبد الله: الوكيل بالخيار بين أن يقبل الوكالة، أو يمنع، فإن قبلها على الفور عند خطاب الموكل له فلا إشكال في صحة ذلك، وإن لم يقبلها إلا بعد زمان طويل، فيجري على الخلاف في التمليك والتخيير هل لها أن تقضي بعد انفصال المجلس أم لا؟. قوله: "وليس للوكيل أن يتصرف بعد علمه بعزل الموكل له": قلت: لا خلاف في المذهب أن للموكل أن يعزل وكيله في حضرته أو غيبته ما لم يتعلق بوكالته حق الغير مثل: أن ينشب معه في الخصومة، أو يوكله على قضاء دين (عليه)، فليس له العزل في هذه الصورة، وينعزل الوكيل إذا علم بالعزل بلا خلاف، وهل ينعزل قبل بلوغ العلم إليه بالعزل أم لا؟ قولان مبنيان على اختلاف الأصوليين هل يعتبر النسخ من يوم نزوله، أو من يوم بلوغه، وهل ينعزل بموت الموكل أم لا؟ اما إن كان وكيلاً مخصوصًا فلا لخلاف في انعزاله بالموت، الموكل أم لا؟ أما إن كان وكيلاً مخصوصًا فلا خلاف في انعزاله بالموت، وإن كان وكيلاً مفوضًا إليه المشهور أنه ينعزل بالموت، وقال مطرف: هو على وكالة حتى يعزله الورثة، وعلى هذا الاختلاف يقع الخلاف في تصرف الوكيل يعلم موت الموكل أو عزله قبل علمه بذلك هل يحمل على الرد على الإمضاء، قال أبوبكر بن المنذر: يرد تصرفه في هذا إجماعًا من أهل العلم يعني من الجمهور، وإلا فالخلاف قائم عندنا. قوله: "ويجوز إطلاقه الوكالة في البيع" وهذا كما ذكره من أن الوكالة (تجري) على مقتضي لفظ الموكل من إطلاق أو تقييد، ويجري الإطلاق

فيها على مقتضى العوائد، ولا يبيع الوكيل على البيع بدون ما سمي الموكل، فإن باع بدون ذلك لم يلزم الموكل (ذلك) وله الخيار في رد البيع، أو إمضائه، فإن إمضاء أخذ الثمن، وإن فسخه والسلعة قائمة أخذها، وإن كانت فائتة، ولم يسم له ثمنًا (طالبة بقيمتها، وإن سمي له الثمن) فهل له مطالبته بما سماه، أو بالقيمة قولان عندنا، ولو قال الوكيل: أنا أتم ما نقص من الثمن الذي سميت لي فهل يلزم الموكل (البيع) أم لا؟ الرد فيه قولان عندنا، ولو قال له: بع بعشرة فباع بها بعد الإشهار لزم البيع، وإن باع لها بغير إشهار ففيه (قولان) اللزم (ونفيه) وكذلك لو قال: بع بمائة نسيئة فباع بمائة نقدًا، أو قال: اشتر بمائة نقدًا واشتر بمائة نسيئة صح ذلك، ولزم الأشهر قاله الشيخ أبو محمد أبن ابي زيد، قال: وخالفني فيه أبو بكر بن اللباد، ولو قال له: بع بالدنانير باع بالدراهيم، أو بالعكس ففي اللزوم قولان، وكذلك لو قال له: بع بعشرة فباع باثني عشر، فالمشهور لزوم البيع للموكل، لأن ذلك مقتضي المصلحة، والمعتمد في ذلك على حديث عروة بن الجعد البارقي (في شراء الأضحية، وقد رضي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فعله، ودعا له بالبركة) وقد قيل في المدينة: إن للموكل الفسخ في مثل صورة عروة ابن الجعد، واختلف القائلون بأن له الفسخ هل محل خياره في العقد الثانية فقط، أو له الخيار في العقدتين، وهو قول ابن الماجشون، والأول هو المشهور. قوله: "والوكيل مؤتمن فيما بينه وبين موكله" وهذا كما ذكره، لأن

يده يد أمانة فيما بينه وبين، واما ما يقضي من ديونه ونحوه فلا يبرئ منه إلا بالإشهاد جريًا على العادة المتقدمة أن من دفع إلى غير اليد الذي دفعت إليه فلا يبرأ إلا بالإشهاد أصله الوصي، وقيل: لا يضمن إذا كانت (العادة في البلد) ترك الإشهاد، حكاه الإمام أبو عبد الله وغيره.

باب الإقرار

باب الإقرار قال القاضي -رحمه الله-: "باب الإقراء". قسم القاضي -رضي الله عنه- عنه الحقوق على قسمين: حق الله سبحانه، وحق آدمي، فحي الآدمي يلزم بالإقرار، ولا يجوز الرجوع عنه لما له في ذلك من الحق ويجوز الرجوع عن الإقرار في حقوق الله سبحانه لتعاليه عن الأغراض، والأمر كما ذكره، وتفصيل القول في حقوق الله سبحانه: أنه أما أن يرجع إلي شبهه، أو إلى غير شبهه، فإن رجع إلى شبهه فلا خلاف أن رجوعه عن الإقرار جائز، وإن رجع إلى غير شبهه فهل يجوز رجوعه أم لا؟ قولان عندنا والأصل في هذا الباب قول النبي -صلي الله عليه وسلم- في معز: هل رددتموه حين قال: ردوني إلى رسول الله-صلي الله عليه وسلم- في معز: هل رددتموه حين قال: ردوني إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ثم تكلم عن الإقرارات (المجملة)، وهي راجعة إلى مفهوم لسان العرب، منها أن يقر بجمع فيقول: على دراهم، أو دنانير فيلزمه أقل الجمع وهو ثلاثة عند مالك وكافة أصحابه تحكمًا للسان العربي في تفريقهم بين المفرد والمثني والمجموع، وإذا قال له: على دراهم كثيرة، فالمشهور أنه يلزمه بالتعظيم زيادة على ما يلزمه بإطلاق، فقيل: يلزمه ما زاد على الثلاثة، وقيل: تسعة دراهم، قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: وقال بعض شيوخنا الذين درسنا عليهم يلزمه مائتين درهم، وقال أبو حنيفة:

(عشرة دراهم، فإن أقر بمال، ولم يذكر مبلغه فقال بعض أصحابنا: يرجع إلى العشرة قل أو كثر، وقيل) يلزمه ربع، دينار (أو ثلاثة دراهم) أقل نصاب القطع، وقيل: عشرون دينارًا سكه أقل نصاب الزكاة فإن كان من أهل الإبل أو الغنم أو البقر (فأقل) نصابها، فإن وصف فقال: له عندي مال عظيم، فقيل: يرجع في تفسيره إليه كالمفرد غير الموصوف، قاله الشيخ أبوبكر الأبهري، وليس عن مالك فيه نص، وقال ابن المواز: لا يقبل في أقل من نصاب الزكاة، وقيل: نصاب السرقة، وكذلك لو قال لفلان: على شيء فيقبل في تفسيره في أقل مما يتمول، فإن أبي أن يفسر سجن حتى يبين ويحلف على ذلك، ولو قال له: على مائة درهم إلا شيئًا لزمه تسعة وتسعون، ولو قال له: على كذا دراهم، وأو بين المائة والألف، فيجري على الخلاف في المذهب في تعمير الذمة، ولو قال كذا وكذا لاحتمل من إحدى وعشرين إلى تسعة وتسعين، والصحيح أنه إذا فسر نيته بما يحتمله لفظه رجع إلى تفسيره ولزمه الأقل لأنه المقطوع به، واستظهر عليه باليمين في نفي الزائد. قوله: "ويصح استثناء القليل والقليل من الكثير": أما استثناء القليل من الكثير فلا خلاف في جوازه ووقوعه، وأما استثناء الكثير من القليل فاختلف فيه الأصوليون والنحويون والمعتد في جوازه قوله سبحانه: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من أتبعك من الغاوين) [الحجر: 42] وقال سبحانه: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) [ص: 82 - 83] وبالضرورة أن أحد الصنفين (أقل)، "وهم المخلصون" لقوله سبحانه:

{وقليل ما هم} [ص:24] والتطولي فيه، في فن العربية وقد ألف محمد بن الحسن الشيباني فيه كتاباً مستقلاً بنفسه، وذكر أبو بكر السراج في الأصول من ذلك مسائل (جمة). والاستثناء من غير الجنس جائز، واقع لقول النابغة: "إلا أواري" وقد قيل: إن قوله: {إلا إبليس} [البقرة: 34] من الاستثناء المنقطع. قوله: "والتهمة مؤثر في منبع الإقرار" وهذا كما ذكره أن التهمة (تمنع) الإقرار لما في ذلك من إبطال حق الورثة، أو الغرماء، فإذا أقر في المرض لمن يتهم عليه بطل إقراره، وإن كان ممن لا يتهم في إقراره له جاز، مثل: أن يقر لبعض العصبة الأباعد مع وجود أولاد الصلب فالتهمة تبعد في مثل هذا المحل فيقبل إقراره، وفي إقراره للصديق الملاصق روايتان أحدهما: رده، والأخرى: قبوله ويكون في الثلث فمن أنزله منزلة الوصية رده إلى الثلث، ومن اعتبر التهمة، ولاحظ نفس الإقرار، وهو مغاير للوصية ....

وقال أبو حنيفة: لا يقبل إقرار المريض للوارث جملة، وقال الشافعي: يقبل إقراره على كل حال. قوله:"وإذا أقر أحد الأبنين بثالث لم يثبت نسبه وأعطاه ثلث ما في يده": وهذه المسألة من مشهور مسائل الخلاف فقال قوم من أهل العلم: لا يثبت بذلك النسب، ولا يجب الميراث وهو الصحيح من أقوال الشافعي، والقول الثاني: ثبوت النسب والميراث، ومذهب مالك -رضي الله عنه- أن (هذا) الإقرار يتبعض فيثبت به حكم الميراث، ولا يثبت به النسب، والمعتمد لنا أن الخطة إقراره يتضمن) شيئين: أحدهما: على نفسه وهو استحقاق المقر له حظه مما بيده، والثاني: على غيره وهو كونه ابنًا لأبيه، فيقبل إقراره على نفسه، ولا يقبل على غيره، ومن رأي أنه إقرار واحد لا يقبل التبعيض، ولم يتصور عند انفكاك المتلازمين أبطلهما أو أثبتهما، وهذان القولان للشافعية، وإذا أمضينا إقراره في المال على مقتضي المذهب أعطيناه (من يد المقر قدر ما حصل في يده في الزيادة على ميراث اثنين لو ثبت هذا النسب، فإذا أقر بأخ واحد أعطي) نصف ما بيده، وإن اقر باثنين (أعطاهما ثلثي) ما بيده، والأنثى في هذا الإقرار معتبرة بفريضتها في المواريث، وعلى الجملة فضابط مشهور المذهب أنه يعطي المقر له ما كان يجب عليه لو أقر الأخ الثاني أو ثبت النسب وهو مقدار الزيادة على ميراثه لأنه تمام الميراث في يد الابن الآخر، فلا يلزم المقر دفع ما ظلمه به الجاحد، ولو ترك أمًا وأخًا فأقرت بأخ

آخر، فإنها تخرج نصف ما بيدها وهو السدس فيأخذه الأخ المقر له وحده، قال محمد وهو قوله في موطئه، وعليه الجماعة من أصحابنا، وقال في رواية أخرى: يقسمه هو وأخوه والله الموفق.

باب اللقطة والضوال والآباق

باب اللقطة والضوال والآباق قال القاضي - رحمه الله-: "باب اللقطة والضوال". اختلف الفقهاء في حكم التقاط التالف من أموال الناس، فمن أهل العلم من أوجب ذلك، لأنه من حفظ مال المسلم، وقال جماعة من السلف منهم ابن عباس الالتقاط مكروه مطلقًا وبه قال أحمد وغيره من الفقهاء لأمرين: الأول: قوله -صلي الله عليه وسلم-: (ضالة المؤمن حرق النار) ولما يخاف من التقصير في حفظها، وقال أبو حنيفة: الالتقاط أفضل من الترك، وتحصيل المذهب فيه أنه بحسب الأحوال والأزمان، فإن كانت اللقطة بين مأمونين والغمام عدل كره الاقتاط لما في ذلك في الخطر، وإن كانت بين غير مأمونين، (والإمام جائر التقطها) لما يؤمر به من حفظ مال أخيه المسلم، ولعله الذي أشار القاضي إليه بالاستحباب، والأصل في جوازها قوله -صلي الله عليه وسلم- للذي سأله عنها (أعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة) الحديث.

والمقصود من ذلك ماله خطر، وأما التافه اليسير فهل يعرف أم لا؟ (استحب) أشهب تعريفه، وأسقطه غيره وذلك كالسوط والنعل والدرهم، واختلف المذهب في مسائل تتعلق بتعريفها: المسألة الأولى: منها التعريف سنة على الأشهر بعد الاستبراء، وقيل: من يوم الوجود، وقيل: هو بحسب الاجتهاد. المسألة الثانية: العفاص: الخرقة، والوكاء: الخيط، وقيل عكسه، وهل يكتفي بالعلامات أو لا بد من البينة على ذلك قولان. المسألة الثالثة: إذا اعتبرنا العلامات من غير بينة فهل يكفي بالعفاص والوكاء، أو لا بد من معرفة العدد والصفة، قولان، وإذا قلنا: إن العلامة تكفي عن البينة، فهل يكتفي بواحدة من العلامات أم لا بد من معرفة جميعها، واختلفت الروايات في ذلك عن المذهب، وهل يستظهر عليه باليمين مع معرفة العلامات، إذا بيننا على جواز الاكتفاء بها أم لا قولان. قوله: "فإن مضت سنة، ولم يأت من يطلبها فإن شاء الملتقط تركها في يده أمانة": قلت: هو مخير بين ثلاثة أمور أن يتركها تحت يده أمانة، ولا ضمان عليه إن تلفت بغير فعله، أو يتصدق بها، أو يتملكها دينًا في ذمته، فإن جاء ربها غرمها له، وإن تصدق بها فهل يضنها أم لا؟ قولان عندنا، الضمان وهو المشهور نقلاً، ونفيه وهو الظاهر نظرًا لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (وإلا فشأنك بها) وهذا تمليك شرعي.

قوله: "على كراهية (منا لذلك) ": يشير إلى نحو ما قدمناه في كراهية استسلاف الوديعة، وهذا فيما يتصور فيه التعريف، وأما الطعام (الرطب) الذي يفسد بتركه فحكمه ما ذكر أن ملتقطه بالخيار بين أن يتصدق به أو يأكله، ويضمنه إن كانت له قيمة، وقد بين -صلي الله عليه وسلم- حكم ضالة الإبل والغنم فلا يعرض لضالة الإبل، ويأكل ضالة الغنم في الصحراء، ولا يضمن قيمتها، وإن شاء تصدق بها، وقد قيل في المذهب: لا ضمان عليه إذا أكلها، لأنها تمليك شرعي، فإذا وجد ضالة الغنم في قرية أو بقرب العمران لم يلتقط. واختلف المذهب في ضالة البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم فيه ثلاثة أقوال: إلحاقها بالغنم أو بالإبل أو التفرقة، فإن كان لها قرون تدفع بها عن نفسها، فهي في معني الإبل وإلا فهي في معني الغنم، ثم ذكر حكم اللقطة يردها بعد أن أخذها، و (لباب) القول فيه أنه إن أخذها اختباراً لم يضمن، وإن أخذها احتفاظاً ضمن.

كتاب الشفعة والقسمة

كتاب الشفعة والقسمة قال القاضي -رحمه الله-: "ولا شفعة إلا في عقار أو ما يتصل به" قلت: الشفعة مشقة من (الشفع) الذي هو ضد الوتر، لأن الشفيع شفع حظه بالحفظ المستشفع فيه فصار شفعًا بعد أن كان وترًا، وقيل: إنها مشتقة من الشفاعة، لأن فيها توسطًا وعدلاً بين الشركاء عند المشاحة في الأملاك (وقيل: من الزيادة، قال الله تعالي: {من يشع شفاعة حسنة} [النساء: 85] أي: يزيد عملاً صالحًا إلى عمله) وهي قاعدة أنشأتها المصلحة، ودعت إلهيًا الضرورة، وإلا فهي خارجة عن أصول الشرع، لأن فيها جبرًا لمالك على الخروج عن ملكه (دفعًا) لضرر الشركة، قال بعض (أشياخنا) وقيل: إنها معلة برفع ضرر القسمة، فلا تجب فيما لا ينقسم، وأجمع المسلمون على أنها مشروعة، والدليل على ذلك قوله -صلي الله عليه وسلم-: (الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) ولم يختلف العلماء أنها واقعة

في الأرضين كلها مبنية كانت أو غير مبنية، واختلفوا فيما سوي ذلك، والجمهور على أنه لا شفعة فيما عدا العقار اعتمادًا منهم على دليل الخطاب في قوله -صلي الله عليه وسلم- (الشفعة فيما يقسم) فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة). وقسم القاضي محل الشفعة ثلاثة أقسام: عقار، ومتعلق بالعقار كالبئر، وفحل النخل، ومشبه به كالثمار، وكراء الأرض للزرع ونحوه، ودرج في هذا التقسيم أنواعًا مختلفة أما العقار فلا خوف في وجوب الشفعة فيه، واختلف المذهب في مسائل: المسألة الأولى: ما لا ينقسم من العقار إلا قسمة فساد كالحمام والرحي ونحوه، وهل تثبت فيه الشفعة أم لا؟ اختلف فيه عن مالك على قولين: إثبات الشفعة ونفيه، فالإثبات لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (الشفعة في كل شرك) والنفي لقوله -صلي الله عليه وسلم- (لا ضرر ولا ضرار) وقياسًا على العبد والعرض ونحوه مما لا ينقسم، وكذلك الخلاف في جواز قسمته وإن أدي ذلك إلى الفساد، وهل يجبر ليها من أباها أم لا قولان، وحكي بعض أشياخنا في أحجار الرحي ثلاثة أقوال: وجوب الشفعة فيها لابن وهب، ونفي الشفعة مطلقًا، والشفعة في الأسفل لكونه من البنيان دون الأعلى.

المسألة الثانية: اختلف المذهب في الشفعة في الثمار على قولين المشهور وجوب الشفعة وهو قول ابن القاسم، وأشهب كان الأصل لهما أو لم يكن، والشاذ نفي الشفعة قاله المغيرة وابن الماجشون لأنها من قبيل (المنقولات) وهو قول الشافعي، وقال مالك في قوم شركاء في ثمرة إذا كان الأصل لهم، أو كانت النخل في أيديهم مساقاة، أو كانت حبسًا على قوم، وأثمرت فباع أحدهم نصيبه منها فإن شركاءه يأخذون ما باع بالشفعة. المسألة الثالثة: البئر والنخلة الواحدة ونحو ذلك هل فيه الشفعة أم لا فيه القولان الجاريان فيما لا ينقسم من العقار. المسألة الرابعة: في أكرية الدور والمدين وكتابة المكاتب، هل في ذلك الشفعة أم لا فيه قولان في المذهب، وذلك مثل أن تكون الدار بين مالكين فيكري أحدهما نصيبه فشريكه أحق بذلك من الأجنبي، وكذلك صاحب الدين أحق بالدين الذي عليه من الأجنبي، وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (قضى بالشفعة في الدين) والمكاتب أولى بنجومه من المشتري اعتمادًا على قاعدة رفع الضرر. المسألة الخامسة: الأنقاض هل فيها شفعة أم لا. اختلف المذهب في ذلك على قولين إثبات الشفعة ونفيها، قال مالك في قوم بنوا في عرصة مغارة فباع أحدهم نصيبه من النقض فرب الأرض مبدأ فإن شاء أخذ ذلك

بالأقل من القيمة نقضًا، أو الثمن، فإن أبى فلشريكه أخذه بالثمن، وقال أشهب: لا شفعة في ذلك لشريكه، إذا لا ملك له في العرضة، قال: وهو بيع لا يجوز بيعه جميعًا، أو أحدهما لأن رب الأرض له أن يبقيه، ويؤدي قيمته نقضًا، أو يأمره بقلعه، فلم يدر المشتري ما اشترى نقضًا أو قيمته. قوله: «وتجب الشفعة بالخلطة» يعني: خلطة الشريك، ولا خلاف في وجوبها للشريك المخالط لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (الشفعة في كل شرك) واحترز القاضي من مذهب أهل العراق في الشريك المقاسم قال أبو حنيفة (الشفعة مرتبة) فأولى بها الشريك الذي لم يقاسم، ثم الشريك المقاسم، إذا بقيت الشركة في (الطرق) ثم الجار، والمعتمد لنا أنه -صلي الله عليه وسلم- (قضي بالشفعة فيما لا ينقسم بين الشركاء، فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة). قوله: "ولا شفعة في سائر العروض والحيوان والرقيق". تنبيه على مذهب أبن أبي ليلي القائل بوجوب الشفعة في ذلك، وكذلك لا شفعة عندنا في الطعام، ولا في حقوق الأملاك كالممر ومسيل الماء والطريق أي العلو ونحوه كما بينه القاضي بعد. قوله: "وما يعتبر في انتقال المالك الذي تجب (وفيه) الشفعة روايتان": تقرر في هذا للمشفوع عليه، وهو كل ما تجرد ملكه اللازم اختيارًا (بالتجرد بعوض، واحترز بالتجرد) من رجلين اشتريا دارًا معًا فلا شفعة

لأحدهما على صاحبه إذا لم تجد لأحدهما، وقولنا: "اختيارًا" احترازًا من تجدد الملك بالميراث. قال القاضي -رحمه الله-: "فأما الميراث فمجمع علي أن لا شفعة فيه" قلت: وهذا إجماع من الجمهور، وحكي (الطائي) عن مالك أن الشفعة تكون في الميراث وهو شاذ، وفي الشفعة في الهبة والصدقة لوجه الله روايتان الشفعة في ذلك، وإثباتهما فمن اعتبر الضابط الأول الذي ذكرنا وهو العوض أسقط الشفعة، ومن اعتبر دخوله في الملك اختياراً الحق الهبة والصدقة بالبيع والصلح، لتساويها في أنه ملك اختياري، وهبة الثواب بيع من البيوع يأخذ الشفيع فيها بقيمة الثواب أو بمثله إن كان له مثل، فإن أتي به أكثر من القيمة قال ابن القاسم يأخذ بقيمة العوض ما بلغ وقال أشهب ذلك قبل الفوت، وأما بعده فيأخذ بالأقل من قيمة الثواب أو الهبة، واختلف قول مالك في المناقلة: وهي تبديل أرض بأرض فقال ابن القاسم في العتيبة فيها الشفعة، وقال مطرف، وأبن الماجشون لا شفعة في ذلك، ويأخذ الشفعة في الإقالة والتولية والشركة، وتقع الشفعة في البيع الفاسد، إذا فات بالقيمة، وإن كان قائمًا رد. قوله: "وهي على قدر الحصص": وهذا هو المعتمد عليه من المذهب، وعندنا رواية شاذة أنها على عدد الرؤوس سمعناها في المذكرات، ولا تكاد تعرف في المذهب، وهذا صريح مذهب أبي حنيفة والكوفيين، والمعتمد لنا أن الشفعة حق مرتب على حسب الملك، فينبغي

أن توزع على مقدار الأصل كسائر الحقوق المشتركة من الغلاة وغيرها. قوله: "والشريك الأخص أولى من الشريك الأعم": ومعني ذلك أن وجوه الشركة تختلف كذوي السهام أحق من العصبة، ويدخل أهل السهام من العصبة لقوة مرتبتهم، ولا يدخل العصب على ذوي السماع مثل أن يموت رجل ويترك ابنتين وابن عم، فتبيع أحد النبيين حظها، فأختها أحق بالشفعة في حظها من بني عمها، ولو باع أحد من بني العم شفع فيه البنات وابن العم الآخر، ومن ذلك أن يترك الميت جدتين وأخوين لأم وإخوة لأب فأرادت إحدى الجدتين بيع حظها من السدس، فالجدة الأخرى أحق من باقي لشركاء، فإن باعت الجدتان فالشفعة لباقي الورثة، وإن باع أحد من الأخوين للأم شفع في حظه أخوه لأمه، وعلى هذا الأسلوب يتخرج هذا الباب، هذا صريح المذهب، ورواية ابن القاسم عن مالك، وقال أشهب: ولا يدخل أهل السهام على العصبة (ولا العصبة على أهل السهام، وقيل: يدخل السهام على العصبة) ولا ينعكس. قوله: "وتجب الشفعة بمثل العوض (وصفته إن كان من الأثمان أو مما يكال أو يوزن، وبقيمته إن كان من غير ذلك) وقيمة الشقص": وهذا تنويع بحسب الحال فتجب بمثل الثمن فيما له مثل كالمعدود والمكيل والموزون، بالقيمة إن كان الثمن عرضًا أو حيوانًا والقيمة تقوم مقام المثل عند تعذر المثل، ولو صالح بشقص في موضحة، أو منقلة فإنه يأخذ دية، الموضحة أو المنقلة ولو صالح بشقص عن دم عمد شفع الشفيع بقيمة الشقص (وشفع) عن دماء الخطأ بالدية إذ هي الواجبة في الخطأ دون العمد، ومن

ابتاع شقصًا وعروضًا في صفقة فض الثمن على ذلك بالقيمة، فما وجب للشقص شفع به، و (ليس للمشتري فريق الصفقة لأن الشفيع لا يلزمه أن يأخذ ما لا شفعة فيه) ولو اشتري أشقاصًا شفيعها واحد، وأراد الشفيع أن يأخذ شفة في واحد منها، (ويترك بقيمتها) لم يكن له ذلك إلا برضي المشتري، ولوباع شقصًا لرجل وله عدة شفعاء، فأراد بعضهم الأخذ بشفعته في حظه، وسلم سائرها فليس له إلا أن يأخذ الكل أو يدع، ولو كان بعض الشفعاء حاضرًا، وبعضهم غائبًا، فأراد الحاضر أن يأخذ بحظه لم يكن له ذلك، لأن تبعيض الصفقة ضرر (وكذلك إذا تعدد المشتري والشفيع .. فسلم لبعضهم فليس له ذلك، وأجازه أشهب). قوله: "ولا تبطل الشفعة إلا بتركها أو ما يدل على الترك أو يأتي من طول المدة ما يعلم معه أنه تارك"قلت: الشفيع على قسمين: غائب، وحاضر، فالغائب على شفعته أبدًا، ولو طالت غيبته ما طالت، واختلف في الحاضر على خمسة أقوال، الأول: أنه لا حد في بطلان شفعته، والثاني تبطل بانقضاء السنة قاله أشهب، والثالث: أنها تبطل (إذا قاربت السنة كعشرة الشهر ونحوها، والرابع أنها تبطل) إذا ترك القيام بطلبها أكثر من سنة، والخامس أنها تبطل (بعد) الخمس الأعوام لا أقل من ذلك قاله ابن الماجشون: إلا أن يحدث المشتري بناء أو نحوه فتنقطع شفعته في أقل من ذلك، وقال أصبغ: تبطل بعد السنتين والثلاثة، وروي عن أشهب أنه بالغ في التحديد بالسنة حتى قال: إذا غربت الشمس من آخر أيام السنة ولم يقم، فلا شيء له، وقال ابن ميسر: ما قارب السنة فحكمها حكمه، وقال ابن وهب: إذا علم بوقوع الشفعة فسكت فلا شفعة له إلا أن يشهد، وفي العتيبة من رواية

ابن القاسم في شفيع قام بعد شهرين أيحلف قال: لا، وروي عنه فيمن قام بعد ستة أشهر قال: يحلف: وفي كتاب محمد يحلف بعد (سبعة) أشهر أو خمسة، ولا يحلف في شهرين قال ابن عبد الحكم إذا قال الشفيع: لم أعلم بالبيع وهو بالبلد فهو مصدق، ولو بعد أربع سنين، قال محمد: وإن الأربع كثير، ولا يصدق في أكثر منها وروي عن (ابن الماجشون) أن الشفعة للحاضر بعد أربع سنين، ووقع إلى العشرة أعوام، والمختار عند المحققين أنها لا تبطل إلا بالقول أو بالفعل الدالين على الإبطال لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (الشفيع أحق بشفعته) ولم يعلقه بمدة، ولم يفرق بين حاضر وغائب، ولو أضطر المشتري شفيعة إلا الأخذ، أو الترك كان له ذلك، ويتلوم (للمضطر) في ذلك اليومين والثلاثة مما لا يضر بالمشتري، وقيل: لا تأخير البتة، ومجهلة الثمن مع طول الزمان، وموت الشهود يسقط الشفعة. قوله: "ولا تجب إلا بعد تمام البيع واستقراره": نص على بيع البتة احترازًا من بيع الخيار، ولا شفعة فيه حتى يتم البيع عندنا خلافًا لأبي حنيفة حيث قال إن كان الخيار للبائع فلا شفعة فيه، وإن كان للمشتري وجبت فيه الشفعة، وفي معني البيع كل معاوضة. قوله: "وهي (موروثة) كسائر الحقوق": تنبيهًا على مذهب أبي

حنيفة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من ترك مالاً أو حقًا فلورثته) ولأنه خيار لدفع الضرر، فقام فيه الوارث مقام المورث أصله الرد بالعيب. قوله: "وإذا بني المشتري أو غرس لم يكن للشفيع أن يأخذ بالشفعة إلا مع قيمة (البناء) أو الغرس": وهذا تنبيه على خلاف أبي حنيفة، قال: هو متعد في البناء والغرس، ويأخذ الشفيع بالثمن، ويجبر المشتري على نقض البناء والغرس، ويأخذ الشفيع بالثمن، ويجبر المشتري على نقض البناء والغرس إلا أن يكون زرعًا فيترك إلى الحصاد، والدليل لنا أنه تصرف بوجه جائز، فلا سبيل إلى إتلافه بالنقض تفريقًا بينه وبين عرق الظالم. قوله: "وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه": وهذا هو المشهور ومن المذهب فيما إذا اختلف المشتري والشفيع، فالقول قول المشتري مع يمينه إن أتي بما يشبه، لأنه المدعي عليه، وقال أشهب: القول قوله إن أتي بما يشبه من غير يمين، فإن أتي بما لا يشبه قيل: القول قول الشفيع وهو قول ابن القاسم، أو قول المشتري وهو قول أشهب، وإذا أقاما معًا البينة قضي بأعده لما، فإن تساوت بينهما سقطتا على المشهور، وقال أشهب: البينة بينة المشتري لأنها زادت، ولو تنازعا في كون الشفيع شريكًا فالقول قول المشتري فيحلف أنه لا يعرف له شريكًا وإذا أقر (أحد) ببيع الشقص، وأنكر الىخر الشراء حلف أنه لم يشتر وسقطت الشفعة، لأنه عهدة الشفيع على المبتاع.

قوله: "وإذا بيع الشقص بثمن إلى أجل فإن وثق المشتري بالشفيع وإلا أتاه بثقة مليء": وهذا (مذهب) مالك -رحمه الله- وقال غيره لا يأخذ الشفيع بالشفعة إلا أن يعجل الثمن وهو ظلم عليه. قوله: "ويوضع عن الشفيع ما حط (البائع) عن المشتري من الثمن مما يشبه" وهذا مذهب مالك، لأن الشفيع قد حل محل المشتري، وقال الشفاعي: لا يحط عنه شيء البتة، لأنها هبة محضة، والأول أصح تحكيمًا للعادة، وإلحاقًا لذلك بالثمن، وهذا فيما قرب، وأما ما زاد على (المعتاد) فهبة (محققة) وههنا مسائل تتعلق بالشفعة: المسألة الأولى: تثبت الشفعة للشريك، وإن كان كافرًا إذا كان البائع مسلمًا، كان المشتري مسلمًا أو كافرًا، وإن كان الشفيع والمشتري ذميين فلا شفعة، إذا لا محاكمة بينهما، قال أشهب: تجب الشفعة إذا كان في الصفة مسلم من غير تفصيل. المسألة الثانية: الإقالة لا تبطل الشفعة لأنها بيع حادث بعد تقرر ملك المشتري ووجوب الشفعة عليه، ولا خلاف عندنا أن عهده الشفيع على المشتري على المشتري، واختلف المذهب على من تكون العهد بعد الإقالة، فقيل:

على المشتري نظرًا إلى أنها وجبت عليه بالعقد الأول، وقيل: الشفيع مخير بين أن تكون عهدت على البائع تحكيمًا للإقالة، أو على المشتري تحكيمًا للعقد الأول، قال مطرف وابن الماجشون: إن ظهر من حال المتقائلين أنهما قصدًا قطع الشفعة، فالعهدة على المبتاع، وإن ظهر أن الإقالة بقصد صحيح لا يقصد قطع الشفعة فالخيار للشفيع في أن تكون عهدت على أيهما شاء. المسألة الثالثة: إذا تصرف المشتري في الشقص قبل قيام الشفيع ببناء، أو غرس وجب للمشتري علي الشفيع قيمة ما زاد من بناء أو نحوه، فإن أحب الشفيع دفع قيمة ذلك له مع ثمن الشقص وأخذ بالشفعة وإلا ترك، ولا يضمن المشتري للشفيع شيئًا مما حدث في الشقص من هدم، أو حرق، أو قطع، ونحوه، وإلا أن يفعل ذلك قصد الإتلاف عليه، وليس للشفيع شيئًا فيما اغتل المشتري من دار، أو أرض، لقوله -صلي الله عليه وسلم- (الخراج بالضمان). المسألة الرابعة: لو اشتري أرضًا فزرعها، ثم استحق نصفها، فأراد المستحق أن يأخذ نصفها الآخر بالشفعة والزرع لم يطلع ففيه تفصيل، أما النصف المستحق فزرعه للمشتري وعلين كراء الأرض وأما النصف المستحق بالشفعة فزرعه للمتشري، ولا كراء عليه فيه، لأنه كان ضامنًا له، فخراجه له، وروي عن مالك أن الشفيع يأخذ نصف الأرض بنصف الثمن ويدفع قيمة نصف العمل والبذر، ويكون له نصف الزرع حينئذ. المسألة الخامسة: إذا بيع الشقص مراراً فللشفيع أن يأخذ بأي البياعات شاء (وينتقض) وما بعده ولو باع نصف دار، أو نصفًا من شقص بيع خيار، ثم باع النصف الآخر من آخر بيع (بت) فهل تكون الشفعة لمبتاع الخيار أم لمبتاع البت قولان مبنيات على بيع الخيار هل يعد ماضيًا من حين انعقاده أو من حين إمضائه، وفي هذا الأصل خلاف.

المسألة السادسة: هل يلزم إسقاط الشفعة قبل وجوبها أم لا؟ قولان مبنيان على الوفاء بالوعد هل هو لازم أم لا؟ والمشهور أنه إذا وهب شفعته قبل وجوبها لم يلزمه، وإذا أخذ العوض عن ذلك قبل الشراء بطل، ورد العوض وكان على شفعته. المسألة السابعة: إذا باع الحظ الذي يستشفع به فهل له الشفعة أم لا؟ قولان عندنا، وذلك مثل أن يتراخي عن الأخذ بالشفعة حتى يبيع الحظ الذي كان به شريكًا، فاختلف قول مالك، هل له الأخذ بالشفعة لوجوب الحق له قبل البيع أو لا؟ لانتقاء الضرر، وهو قول أشهب، ويبطل الشفعة مساومة الشفيع لمبتاع وطلبه المعاوضة والكراء والقسمة، ولا يجوز بيع الشفعة لغير المبتاع ولا أخذها للبيع، لأن مشروعيتها لرفع (الضرر بالشركة). قال القاضي -رحمه الله- "فصل الأعيان ضربان": القسمة تصرف فيما له كمية بالتفريق قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايبني، والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه: {وإذا حضر القسمة أولوا القربي واليتامي والمساكين} [النساء:8] الآية وقوله سبحانه: {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات: 141]، وقوله: {إذا يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} [آل عمران: 44]، وأما السنة فقوله -صلي الله عليه وسلم-: (كل ملك أدركه قسم الاهلية فهو على قسم الجاهلية، وما أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام)، وقال -عليه السلام-: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وقد قسم الله سبحانه المواريث والغنائم بين أهلها، وأسهم -صلي الله عليه وسلم- بين العبيد (الستة) المعتقين في المرض، والإجماع منعقد على أنها مشروعة، وقسم القاضي الممتلكات قسمين: منها ما ينقسم نوعه دون عينه، ومنها ما ينقسم (نوعه وعينه) فالأول كالثوب، والدابة والعبد والسفينة وما في معني ذلك كالخف

والنعل والباب، وما لا يمكن إفراده إلا بفساد وضرر، وهذا إن لم تنقسم عينه انقسم ثمنه (بالبيع) من الأجنبي، أو بالمزايدة بين الشريكين ويجبر على ذلك من أباه منهما، ولا سبيل إلى قسمة عينه لما في ذلك من الإضرار لشريكة، وإبطال منفعته، وإتلاف ملكه عليه فلا يمكن من ذلك من دعا إليه، وإن رضي بإتلاف ملكه، ويجبر من أبي البيع عليه، لأن في بيع حصته وحده ضرراً (علي شريكه ونقصًا من القيمة وحطًا من حقه فيجبر على البيع في هذه الصورة) كما يجبر على إخراج ملكه بالشفعة رفعًا للضرر في المحلين من حيث إن البقاء على حكم الشركة غير لازم، ومن أراد من الشركاء الانفراد بحصته فذلك له بالوجه الممكن، فإن أمكن بالقسمة وإلا (بيع) إذا لا طريق للانفراد إلا ذلك، وأما ما ينقسم من الأعيان (فإن قسمته) على ثلاثة أضرب: قسمة مهاياة، وقسمة بيع ومراضاة، وقسمة تعديل وتقويم. القسمة الأولى: قسمة المهاياة بالياء، سميت بذلك لأن كل واحد هيأ لصاحبه السكني والانتفاع، ويقال المهاناة بالنون من قولهم هنان الطعام، والمعني صادق على اللفظين، وهذه القسمة على ضربين مهاياة في الأعيان، ومهاياة في الأزمان، أما مهاياة الأعيان فمثل أن يأخذ أحد الشريكين داراً ليسكنها (والآخر دار أخرى يسكنها)، أو أرضًا يزرعها، والآخر أرضًا مثلها، ولا خلاف في أنها جائزة مع التراضي ولا يجبر عليها من أباها عندنا خلافًا لأبي حنيفة، وهذه قسمة الانتفاع لا قسمة الأعيان، وأما مهاياة الأزمان فمثل أن يكون في عين واحدة أزمنة مختلفة كدار يسكنها هذا شهرًا، وهذا شهرًا، أو أرضًا يزرعها هذا سنة، وهذا سنة وهي أيضًا جائزة، مع التراضي منهما، ولا يجبر عليها من أباها.

القسمة الثانية: قسمة البيع مثل أن يكون أحد الشريكين أخذ داراً على أن يأخذ الآخر داراً من غير تقديم، ومحصلوها راجع إلى البيع الذي من شرطه (الرضي) والقبول من الطرفين، وهذه القسمة جائزة في المتفق والمختلف، لجواز البيع فيهما، ولا يجبر عليها أيضًا من أباها بقرعة أو بغير قرعة. القسمة الثالثة: قسمة التقويم والتعديل وهي جائزة في المتفق والمختلف بعد معرفة القيمة وهذه القسمة تمييز حق، وقيل: بيع من البيوع، وقد ذكر القاضي صفة (هذه) القسمة، وهي أن تقسم الفريضة، وتحقق على أقل ساهامها، ثم تقوم الأملاك وتعدل على أقل السهام، وتقع التجزئة بحسب ذلك، فمن حصل له سهم من جهة كانت له، فإن اختلفا بأي الجهات يبدأ في الإسهام عليه أسهم على الجهتين. وصفة القرعة تتصور ببندقة واحدة للإسهام، ثم يرمي إلى الجهات، أو ببندقتين، بندقة للسهم، وبندقة للجهة كما ذكر القاضي -رحمه الله-. فرع: إذا وقعت القسمة في المنافع التي سميناها قسمة مهاياة، واختلف تقدير مدة الانتفاع بحسب اختلاف المقسومات، فأما العقار الذي لا ينقل، ولا يحول فيجوز أن تكون مدة الانتفاع فيه بعيدة وقريبة، وإذا وقعت القسمة للسكني في الدارين أو للزراعة في الأرضين، فإن وقعت القسمة للانتفاع بالغلة والكراء فهل يشترط في ذلك قرب المدة حذرًا من الغرر باختلاف الأكرية في اللازمة المتطاولة، أو يجوز ذلك في المدة اليسيرة والكثيرة، لأن الأعيان باقية على أصل الشركة فيه قولان عندنا، وأمل القسمة فيما ينقل ويحول ويسرع إليه التغيير من الحيوان، فيشترط فيها قرب مدة الانتفاع والاغتلال، ولا يجوز ذلك مع طول المدة للتغير اللاحق المحقق للغرر والمخاطرة. واختلفت الروايات في تقدير المدة اليسيرة فيما ينقل ويتغير، فقيل:

اليوم الواحد فقط، وقيل: الخمسة الأيام، وقيل: الشهر وما دونه، ولا يجوز أكثر من ذلك، والصحيح أن المدة تختلف بحسب اختلاف المقسوم (فإنه من ما يسرع إليه التغير، ومنه ما لا يسرع إليه فيتنزل تقدير المدة على ذلك). قوله: "وإذا أراد بعض الورثة قسمة دور" إلى آخره، حاصل هذه المسألة يرجع إلى الاختلاف في تقدير القسمة فدعا بعضهم إلى القسمة على العدد، ودعا الآخرون إلى التجزئة في كل عين من الأعيان فالقول قول من دعا إلى التجزئة في الأعيان إلا أن تتفق المواضع، أو تتقارب وتتساوي المنافع أو تتقارب فالقول حينئذ قول من دعا إلى القسمة على العدد (وهو صريح مذهب مالك، لأن قسمة العدد) أنفع للفريقين، وأبعد عن الإضرار، وأعود بالصلاح (علي) الجميع، وقال أبو حنيفة والشافعية تقسم كل عين على حدتها مطلقًا، والصحيح ما ذهبنا إليه لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار) ثم ذكر الخلاف في قسمة الرحي والحمام، وقد ذكرنا ما فيه، وجري العمل في الأندلس بقول ابن القاسم في امتناع قسمة ذلك، وإن حصل لكل واحد (ما ينتفع) به انتفاعًا عامًا إلى مدة حكم المنتصر بالله، فأمر بالأخذ بقول مالك فجري الحكم به، وترك قول ابن القاسم، واعتمد مالك وفي ذلك على قوله سبحانه: {قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا} [النساء:7]. تكميل: حكي المتأخرون من أشياخ المذهب في قسمة ما ينقسم إلى ما لا منفعة فيه عن المذهب ستة أقوال:

الأول: قول مالك وابن كنانة أنه يقسم ولو صار لأحدهم مقدار القدم اعتمادًا على قوله سبحانه: {مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا}. والثاني: قول ابن القاسم أنه لا يقسم إلا أن يصير لكم واحد في حظه ما ينتفع به كانتفاعه قبل القسمة من غير مضرة داخله عليه في الانتفاع. والقول الثالث: أنه يجبر على القسمة من أباها إذا دعا إليها صاحب النصيب القليل، ولا يجبر عليها إذا دعا إليها صاحب النصيب الكثير. والقول الرابع: عكس هذا القول. القول الخامس: قال مطرف إن كانت القسمة تبطل المنفعة على جميعهم لم يقسم، وإن صار في حظ بعضهم ما ينتفع به، وفي حط الآخر ما لا ينتفع به أجبروا كلها على القسمة. والقول السادس: قال ابن الماجشون: القول قول من دعا إلى القسمة، إذا صار لكل واحد (منهم) ما ينتفع به وإن كان الانتفاع أقل من انتفاعه حال الشركة، والصحيح أن قسمة ما تؤدي قسمته إلى يطال منفعته إفساد للمال وهو منهي عنه. قوله: "وأجرة القسام على الرؤوس": وهذا تنبيه على مذهب الشافعي القائل إنها على قدر الأنصباء، والصحيح ما ذهب إليه مالك، لأن زيادة السهام، واختلاف المقادير لا يوجب زيادة في فعل (القسام) بل التعب واحد، وفي العتيبة: كره مالك ما جعل للقسام قال ابن حبيب: إنما كرهه إذا كانوا يأخذونه من أموال اليتامي، فأما إن كانت أجرتهم في بيت

المال كأرزاق القضاة ونحوهم فجائز واحتساب ذلك كله لوجه الله العظيم أفضل، ولو طلب القسم أحد الورثة، وأبي غيره فالأجرة على الطالب والآبي سواء، وقال اصبغ: أجرة القسام على قدر الأنصباء كقول الشافعي: وهل يكتفي بقاسم واحد إذا ولاه القاضي، ويجعل ذلك حكمًا أو لا بد من قاسمين قصاعدًا قولان، وأجراه الشيخ أبو إسحاق مجري الشهادة، فلا يكتفي فيه بأقل من قاسمين عدلين، وكان خارجة ومجاهد يقسمان بين الناس بغير أجر، فاستحسنه مالك ومن طلب القسم من أهل السهم الواحد قسم له، ويقسم على أقل السهام (لأن صاحب السهم القليل يحتاج إلى تمييز حقه، فلو لم يقسم على السهام) لم يصل إلى (فرضه) وبقيت مسائل تتعلق بالقسمة: المسألة الأولى: اختلف أصحاب مالك إذا اختلفت الرباع (المتفقة)، تباعدت مواضعها هل تجمع في قسمة واحدة أم لا؟ قوان عندنا، والصحيح أنهما إذا تباعدت جدًا لم تجمع في القسم، وحد البعد ما جاوز ثلاثة أميال. المسألة الثانية: الحوائط المثمرة، والأرض المزروعة إذا قسمت دون ثمارها وزرعها جازت قسمتها فإن أرادوا قسمة الثمرة أو الزرع مع الأصول، فإن بدا صلاحه، وكان ممر يخرص فهل يقسم بينهم بالخرص أم لا؟ قولان الجواز لأنه بيع بعد الطيب والمنع لأنه مزابنة. المسألة الثالثة: يجمع في القسمة الصنف الواحد بعضه إلى بعض، وكذلك ما تقارب من الصنفين كالخز والحرير والقطن والكتان، ولا يجوز

جمع الصنفين المتبانيين بكل حال في قسمة القرعة لما في ذلك من المخاطرة، وتجوز في قسمة التقويم لأنها بيع من البيوع. المسألة الرابعة: الطوارئ على القسمة خمسة أنواع: الأول: الغلط ولا يقبل دعوي مدعي الغلط إلا ببينة إذا كان غلطًا فاحشًا لا (يسمح) بمثله غالبًا، والثاني: طرو وارث أو موصي له أو غريم طالب بدين، أما الوارث إذا طرأ بعد القسمة، ولا يخلو أن تكون التركة عينًا، أو مختلفة الأنواع، فإن كانت عينًا أخذ الوارث الطارئ من كل وارث ما ينوبه، ومضت القسمة، إذ لا فائدة لنقضها، فإن وجد أحدهم معسرًا تبع الطارئ الموسر بلا خلاف، وهل يتبعه بما ينوبه وما ينوب المعسر، ويرجع على المعسر متى أيسر يومًا ما (قولان عندنا) قال ابن القاسم: يتبعه بحظه مما في يده فقط، وخالفه أشهب وابن عبد الحكم وقالا يتبعه بجميع حظه، ويتبعان معًا المعسر وإن كانت التركة عقاراً، أو عروضًا مختلفة مما لا يمكن الوارث الطارئ أن يصل إلى ميراثه إلا بعد نقض القسمة، فله نقضها، فإن أمكن وصوله إلى حقه من غير نقض فهو الصواب، فإن طرأ دين على التركة بعد القسمة فهل تفسخ أم لا؟ أم إذا اتفق الورثة على أداء الدين، فإن القسمة لا تفسخ بلا خلاف فإن دعا بعضهم إلى فسخها، ودعا الآخرون إلى أداء الدين، فالقول قول من دعا إلى الفسخ على المشهور، وقال سحنون: لا تنفسخ القسمة بطرو الدين، وينظر إلى الدين من قيمة (التركة) يوم الحكم، ويرجع فيما بيد كل واحد من الورثة بنسبة ذلك على حكم التجزئة واختلف المذهب في طرو الموصي له (بالثلث) هل هو كطرو المديان أو كطرو الوارث، فقيل: هو كالغريم، لأن الله سبحانه قرن الوصية بالدين، وقال ابن القاسم: إن أوصى له بجزء

شائع من ثلث، أو سدس أو نحوه فهو كالوارث، وإن أوصي له بدنانير، أو طعام مكيل فهو كالمديان، والثالث: ظهور عيب وهو إذا طلع أحد المتقاسمين على عيب، فإن كان المعيب الأكثر رده وبطلت القسمة، فإن رد قيمته أو مثله، وكان كالأصل فيقسم مع المعيب المردودن وإن كان المعيب الأقل رده، ورجع على شريكه بقيمة نصف العيب، واقتسما المعيب، ومضت القسمة، والرابع: الاستحقاق ولا يخلو أن يستحق بعض المال شائعًا أو معينًا، فإن استحق جزءًا شائعًا لم تنتقض القسمة، ويتتبع كل وارث بقدر ما صار إليه من حقه (وإن) استحق بعضًا معينًا، وكان تافهًا رجع بنصف قيمة ذلك دنانير أو دراهم، وإن كان كثيرًا رجع بقدر نصيبه فيما بيد صاحبه؟ والخامس: الغبن، ويرجع بالغبن، الفاحش في قسمة التقويم والتعديل سواء كانت بالمراضاة أو بالقرعة لأنها بيع من البيوع، ولا يرجع به في قسمة المراضاة بغير تقويم لأن مبناها على المكارمة. مسألة: إذا اقتسموا الدار، ولم يذكروا مجاري المياه، ولا مخارج الأنصباء، وخرج الباب أو القناة في سهم أحدهم لم تنفسخ القسمة في قول ابن القاسم، وقضي على من حصل ذلك في سهمه لأصحابه بالدخول، أو الخروج، وصرف الماء إلى القناة القديمة لبقائها على أصل الاشتراك، وقال ابن حبيب: تنفسخ القسمة والأول أشهر تحكيمًا (للعادة)، ثم ذكر إسلام الصغير، والمعتمد عليه عندنا أنه تابع لأبيه في الدين، ولأمه في الحرية والرق، وقال ابن وهب: هو تابع لمن أسلم من أبويه، والدليل (لنا) أنه -صلي الله عليه وسلم- سئل عن أولاد المشركين فقال هم من آبائهم، والنفقة على اللقيط احتسابًا

محض، وليس له أن ينفق عليه على شرط الرجوع سواء أذن له في ذلك الإمام أم لا؟ إذ ليس للإمام أن يلزم ذممهم الديون التي لا تلزمهم وهو حينئذ من فقهاء المسلمين، ونبه القاضي على الإمام تحرزًا من مذهب المخالف القائل أنه يرجع عليه إذا أذن له الإمام، والصحيح أن إذن الإمام لا يغير حكمًا، وميراث اللقيط لبيت المال، إذ لا وارث له، والله الموفق بفضله.

كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها)

كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها) قال القاضي -رحمه الله-: "القصاص واجب في القتل وما دونه من الجراح": الأصل في وجوب القصاص في النفس والجرامات الكتاب والسنة والإجماع, أما الكتاب فقوله سبحانه: {أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} [البقرة: 178] الآية وقوله: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179] , وقوله: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطنا} [الإسراء: 33] , وقوله سبحانه: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] وثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن شاء قتله, وإن شاء عفا وأخذ الدية) وقال -صلى الله عليه وسلم- لأنس بن النضر: (يا أنس كتاب الله القصاص) وانعقد الإجماع على مشروعيته لظهور المصلحة فيه, وحفظ

القاعة به وهي الحياة التي أشار إليها القرآن وقصدتها العرب في أمثالها بقولهم: القتل أنفى للقتل, والقائل الذي يجب القصاص منه وهو العاقل البالغ المختار للقتل المباشر له, والقائل الذي يجب القصاص منه وهو العاقل البالغ المختار للقتل المباشر له, وسنفسر هذه الضوابط بعد. واشترط القاضي رحمه الله في وجوب (القصاص) ثلاثة شروط: أحدهما: أن يكون دم المقتول غير ناقص عن دم القاتل, ويدخل تحت هذا التقييد نوعان: المساواة والأرجح احترازًا من محل الشبهة الواجب فيه تغليظ الدية والثلث أن يكون القتل طارئًا على من حياته معلومة احترازًا من الجنين إذا سقط بضرب أمه فلا قصاص فيه, لأن حياته غير معلومة كما نص عليه القاضي في آخر الفصل, وانظر فيما إذا ضرب رجل رجلاً فأنفذ مقاتله ثم جاء آخر فأجهز عليه, وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة, فقال مالك: يقتل به, الثاني دون الأول, لأن فعل الإزهاق مرتب على فعل الثاني, وقيل: يقتلان جميعًا حكاه أبو الوليد بن رشد رواية عن المذهب, وحكي رواية ثالثة عن المذهب أنه يقتل به الأول ويؤدب به الثاني بناء على أن من أنفذت مقاتله في حكم الميت, (وكذلك) لا يرث, ولا يورث رواه أبو زيد عن ابن القاسم. قوله: "وتكافؤ الدماء يعتبر بأمرين" قلت: هما الحرية والدين, وفسر (الحرمة) بالحرية والرق وهو كما ذكره, وضابط التكافؤ الذي بني عليه راجع إلى تساويهما, أ, رجحان دم المقتول على دم القاتل وأعطى كلامه حصول هذا المعنى وهو (صورة) اشتراط مكافأة دم القاتل لدم المقتول

ونقصان دم القاتل عن دم المقتول عدم الزيادة, فعدم زيادة دو القاتل عن دم المقتول مستلزم للمكافأة, أو النقصان (ففي كلامه) تكرار من حيث إن أول الكلام قد استقل بإفادة مقصده, قال: وتفصيل هذه الجملة أن الحر لا يقتل بالعبد المحض, ولا بمن فيه بقية رق مطلقًا, وهذا (مذهب مالك) الذي لا اختلاف عنه فيه, وبه قال الشافعي, والليث, وأحمد, وأبو ثور اعتمادًا على دليل (خطاب) قوله سبحانه: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة: 178] وقال داود: يقتل الحر بالعبد مطلقًا سواء كان عبد نفسه أو عبد غيره اعتمادًا على (عموم) قوله سبحانه: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} وعلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) الحديث, وفرق أبو حنيفة فقال يقتل بعبد غيره, ولا يقتل بعبد نفسه, ولا حجة له في النظر. (وأجمعوا كلهم) على أن العبد يقتل بالحر, وكذلك الأنقص بالأعلى, والمدبر والمكاتب, والمعتق بعضه والمعتق إلى أجل, وأم الولد كالعبد المحض سواء, بدليل نقصان طلاقهم وحدودهم, ومنع شهادتهم إجراء لهم مجرى العبيد.

قوله: "ولا يقتل مسلم بكافر قصاصًا": وهذا صريح مذهب مالك رحمه الله اعتمادًا على قوله عليه السلام: (لا يقتل مسلم بكافر) واحترز بقوله: (قصاصًا) من أن يقتله غيلة مراعاة على ماله فهل يقتل به أم لا؟ فيه قولان عندنا المشهور أنه يقتل به اعتمادًا على حديث عبد الرحمن بن البيلماني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل رجلاً من أهل القبلة برجل من أهل الذمة قتلة غيلة) ثم نص على أن الرق كله حكم واحد فيقاد لبعضهم من بعض كالمدبر بالمكاتب, والمعتق (بعضه بالعتق) إلى أجل, وكذلك سائر أنواع الكفر لتساوي الجميع في نقض الرق والكفر. فرع: يقتصر الأعلى من الأدنى مثل أن يقتل العبد الحر, أو الكافر المسلم, فإن جرح الكافر المسلم, أو العبد الحر جرحًا يقع فيه القصاص, فهل يقاد به أو يرجع فيه إلى الدية قولان حكاهما القاضي, ومشهور المذهب

التفريق بين النفس والأطراف, فيقع القصاص في النفس دون الأطراف, وانظر الفرق بينهما, ومقتضى الدليل أنهما سواء. قوله: «وإذا صادف القتل تكافؤ الدماءين القاتل والمقتول لم يسقط القصاص بزواله من بعد»: الضمير في قوله: «بزواله» عائد على التكافؤ, لأن دم النصراني مكاف لدم النصراني, فإذا أسلم القاتل زال التكافؤ إلا أن القصاص ثبت قبل زواله, فترتب عليه حكمه, وكذلك إذا أعتق العبد. قوله: «إلا أن يراعى في قتل الأب بابنه أن (يقول) عمدًا محضًا لا شبهة فيه ولا احتمال كإضجاعه وذبحه» قلت: اختلف العلماء هل يقتل الأب بالابن فذهبت طائفة إلى أنه لا يقتل به مطلقًا على أي وجه من وجوه العمد قتله, وهو قوله قول جمهور أهل العلم, وبه قال أشهب, وقال مالك: يقتل به إذا أضجعه وذبحه. واعتمد الجمهور على حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تقام الحدود بالمسجد, ولا يقاد بالولد الوالد) ورأى مالك رحمه الله أن العمد {إنما} يتحقق في مسألة (الإضجاع) ونحوه, وما عداه لا يكون عمدًا لما للأب شرعًا من السلطنة على تأديب ولده, ولما عنده من المحبة الطبيعية المانعة من تعمد القتل غالبًا إلا في قتل تلك الصورة فلما تحقق عنده العمد فيها وقع القصاص كعموم القصاص بين المسلمين, وروى يحيى بن سعيد أن رجلاً من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنًا له بالسيف,

فأصاب ساقه فانبرى جرحه فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فأخبره, فقال له: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك, فلما قدم عليه عمر أخذ تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة, وأربعين خلفة, ثم قال: أين أخو المقتول, فقال: ها أنا ذا, فقال: خذها, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليس لقاتل شيء). فرع: لا اختلاف عندنا أن الأم والأب في ذلك سواء, واختلف المذهب في الجد هل هو كالأب في هذا المعنى أم لا؟ قولان, قال الشيخ أبو الحسن: ويتنزل منزلة الأب أبوه, ومنزلة الأم أمها عند ابن القاسم, ووقف في الجد أبي الأم, الجدة أم الأب, وقال عبد الملك: تغلط في الأجداد والجدات, وقال سحنون: اتفقوا على أنها تغلط في الجد والجدة للأم واختلفوا في الجد للأم, والصحيح أنهم آباء وأمهات لغة وشرعًا. قوله: "وأما الأعداد فإن الجماعة تقتل بالواحد" وهذا صريح مذهب مالك رحمه الله ولا خلاف فيه عندنا نظرًا إلى المصلحة, وتغليبًا لحكمة مشروعية القتل المشار إلى ذلك بقوله سبحانه: {ولكم في القصاص حيوة} وأجمع جمهور الصحابة عليه, وذكر محمد بن المواز أن عمر بن الخطاب قتل سبعة بواحد كان أحدهم عينًا, وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به, وقتل علي بن أبي طالب ثلاثة بواحد, وقال ابن عباس تقتل المائة بالواحد.

قوله: "إلا أن يكون القتل ثبت بقسامة": بناء على المشهور أنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد, وسنذكره بعد, وحكي ابن المنذر وغيره الإجماع على أن الذكر يقتل بالأنثى, ومراده إجماع الجمهور, وإلا فقد صح عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري وغيرهما أنه لا يقتل الذكر بالأنثى اعتمادًا على دليل الخطاب من قوله سبحانه: {والأنثى بالأنثى}. قوله: "والمريض الذي لم يبلغ السياق": وانظر هذا التقييد, ومن قتل مريضًا قتل به فأي معنى للتقييد وقد ذكرنا مسألة من أجهزة على من أنفذت مقاتله. قال القاضي رحمه الله: "وأما قتل العمد المراعى في وجوب القصاص فهو خالف الخطأ" قلت: القتل نوعان: عمد, وخطأ, وقد اختلف أهل العلم في نوع ثالث, وهو شبه العمد, وفيه روايتان عن مالك أحدهما إثباته وهو قول أبي حنيفة, والشافعي, والثاني نفيه, قال في المدونة: شبه العمد باطل لا أعرفه وإنما هو عمد, أو خطأ, وجمع القاضي رضي الله عنه في قيدين: أحدهما أن يقصد القتل, والثاني أن تكون الآلة ممن يقتل غالبًا, والمثقل, هو (كل) ما ليس له حد وهو كالمحدد في وجوب القود عندنا, وقال أبو حنيفة, لا يقاد من المثقل, وعمدتنا حديث اليهودي الذي رضخ رأس الجارية, فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برضخ رأسه.

وألحق القاضي رحمه الله الممسك للقتل بالقتل, وقد صح أن فعل المسبب كفعل المباشر وإذا صح أن عمر بن الخطاب قتل ستة وعينًا, كان الممسك أولى بالقتل من العين, وعجبًا من الشافعي, وأبي حنيفة حيث قالا لا قتل على الممسك. قوله: "فأما إن حصل أحدهما (مع عدم) الآخر مثل أن يقصد الضرب دون القتل" إلى آخره قلت: العمد ما قصد فيه الضرب والقتل معًا, والخطأ ما لم يقصد به واحد منهما, فإن قصد الضرب دون القتل فهو المتوسط بينهما, فإن كان على وجه الغضب والثائرة وجب به القود, وإن كان على وجه اللعب, أو الأدب ففيه قولان: أحدهما: إيجاب القود به, والثاني تغليظًا ... ثم تكلم على حكم الإكراه على القتل وتحصيل القول فيه أن المكره إن كان كالآلة بحيث لا يبقى له كسب ولا اختيار البتة, فلا شيء عليه, وإن كان معه ضرب من الاختيار فهل يقتل الآمر, أو المباشر اختلف الفقهاء فيه, ومشهور المذهب ما ذكره القاضي أن الآمر إن كان ذا سلطان قتلا جميعًا, وإن لم يكن ذا سلطان قتل المباشر دون الآمر, ويعاقب الآمر نحو المحرم يأمر محرمًا أن يقتل صيدًا, فالجزاء على القاتل دون الآمر, قال ابن القاسم: ومن أمسك رجلاً لآخر فقتله, فإن أمسكه وهو يرى أنه يقتله قتلاً به جميعًا, قال غيره كمحرم أمسك صيدًا لمحرم فقتله فعليهما الجزاء, قال ابن القاسم, وإن ظن أنه يضربه كضرب الناس قتل القاتل, وبولغ في عقوبة

الممسك وسجن ولم يقتل. والقول الثاني: أنهما يقتلان جميعًا أحدهما بالمباشرة, والآخر بالسببية, وهو الأشد في النظر اعتمادًا على حديث عمر بن الخطاب في السنة وهذا إجراء, قال ابن القاسم: إذا أمر السيد عبده أو الظالم (يأمر) بعض أعوانه بقتل رجل ظلمًا, فإنه يقتل الآمر (والمأمور) قال ابن القاسم: وأما الأب يأمر ابنه أو المعلم يأمر بعض صبيانه, فإن كان المأمور منهم (غير) محتلم, فالقتل على الآمر, وعلى عاقلة الصبي نصف الدية, وإن كثر الصبيان فالدية على عواقلهم, ومن قال لرجل اقطع يدي أو افقأ عيني, أو عين عبدي, فعلى المأمور العقوبة, ولا غرم عليه في الحر ولا في العبد. ثم تكلم على ما إذا اشترك في القتل مكلف, وغير مكلف, ومذهب مالك أنه يقتل المكلف, ويكون على غير المكلف نصف الدية على العاقلة, لأن عمد الصبي كالخطأ, وهذا إذا تعمد الصبي والمكلف قتله, وقال الشافعي وأبو حنيفة لا قود على المكلف, ويرجع إلى الدية لإمكان (أن يكون) إزهاق الروح عن غير المكلف, فيبطل القود بالشبهة, واعتمد مالك على الاحتياط للدماء والتغليط في صيانتها, فجعل الاشتراك لا يغير الحكم الثابت في حال الانفراد كاشتراكه المكلفين في العمد. فرع: قال ابن القاسم, ولو كانت رمية الصبي خطأ, ورمية المكلف عمدًا فمات منهما جميعًا, فأحب إلى أن تكون الدية عليهما لا أدري من أيهما مات, قال أشهب عن مالك عمد الصبي وخطؤه سيان,

قال غيره: عمد الصبيان والمجانين خطأ على عواقلهم, ولا خلاف عندنا أن السكران كالصاحبي في حكم القتل بنا على لزوم أفاله, ثم تكلم على الشرط الثالث وهو العلم بحياة المقتول, وقد قدمناه. قال القاضي رحمه الله: "فأما ما دون النفس فضربان قطع وجرح" إلى آخره. شرح: ذكر في هذا الفصل الجراحات العشر, وأوصلها بعضهم إلى أحد عشر, وبعضهم إلى ثلاث عشرة, زاد فيها الدامعة واللامة, وقد فسرها القاضي بأسمائها, وأشار إلى اشتقاقها, ومن أهل العلم من قال السمحاق هي البضاعة, وتفريق القاضي أصح إن شاء الله, وتكلم بعد على أحكامها, واشترط في وجوب القود بكل ذلك أربعة شروط, وأشار بقوله: "بكل ذلك" إلى الضربين اللذين ذكر في أول الفصل حيث قال: "وأما من دون النفس فضربان قطع وجرح والجراح ضربان ضرب فيه القصاص, وضرب لا قصاص فيه". الشرط الأول: تكافؤ الدماء, فإن حصل التكافؤ من الطرفين وجب القصاص في محله, فإن لم يحصل فله حالتان إحداهما أن يكون دم الجارح أرجح من دم المجروح, كالحر يقطع يد العبد: أو المسلم يقطع يد الكافر فلا خلاف في انتقاء القصاص في هذه الصورة كانتفائه في النفس, وعليه في العبد ما نقص من قيمته, والحالة الثانية أن يكون دم الجارح أنقص من دم المجروح, كالعبد يقطع يد الحر, والكافر يقطع يد المسلم, فحكي القاضي وغيره في هذه الصورة روايتان: إحداهما: نفى القصاص, لأن المراعي: التكافؤ من الطرفين, ولم يحصل لأن عضو العبد أو الكافر ليس بمكافئ لعضو الحر المسلم, فكان كيد الأشل بيد الصحيح, والثاني: وجوب القصاص اعتبارًا بالنفس

(وههنا) تنبيه لفظي (ومعنوي) يتعلق بكلام القاضي، قد قدمنا عليه (الكلام)، حيث اشترط التكافؤ قبل، وتحصيله أن القاضي اشترط التكافؤ، وذكر قسمين أثبت بمقتضى لفظه التكافؤ فيهما، ونفاه بقوله: "أن يكون دم الجارح مكافئًا لدم المجروح" يفهم منه أن التكافؤ التساوي من الطرفين، لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، وهو أيضًا مقتضى لفظ المتضايفين، فقوله بعد: "ودم المجروح غير مكافئ لدم الجارح" نفى المكافئات التي أثبتها بظاهر لفظه لا بحقيقة قصده. وتضمن هذا القسم الثاني أن دم الفاعل أعلى من دم المفعول به، وإذا عدلنا إلى لفظ المفاعل لأنه أعم من لفظ الجارح هنا. وصور في هذا القسم المثاليين المذكورين، الكافر يقطع يد المسلم، والعبد يقطع يد الحر. ثم قال بعد: "فقي في هذين القسمتين" فأشار بقوله: "في هذين" لما صور في المثال في القسم الثالث فقط، كان الخلاف في محله، وكذلك في المعونة، وكذلك نقله غيره من أشياخ المذهب، ونفي القسم الثالث على هذا التأويل عاريًا عن الحكم، إذ لم يذكر فيه إلا محض التمثيل، وفي هذا تسامح، وإن أشار بقوله "هذين" إلى الصور الأربع التي هي اثنان في الحقيقة المذكورتان في القسمين الثاني والثالث، كان في الكلام نظر، إذ لا خلاف عندنا في القسم الثاني أن الأطراف تابعة للنفس، وكما أنه لا يقتل المسلم بالكافر، فكذلك لا تقطع يد المسلم إذا قطع يد الكافر، ولا يد الحر إذا قطع يد العبد، فكلام القاضي في هذا الموضع فيه تأمل جرت عادتنا بالتنبيه عليه عند المذكرات، وقد بسطه في المعونة وقال (ما نصه): "وإذا جرح الكافر مسلمًا، أو قطع طرفه لم يقتص منه، وكانت له عليه الدية وقيل: يجتهد السلطان في ذلك، ويحتمل على هذه الرواية القود، وإذا جرح العبد حرًا، أو

قطع يده لم يستقد منه ويحتمل على ما قدمناه أن يقاد منه. تكميل: تحصيل القول في التكافؤ إن قتل المكافئ المكافئ فلا إشكال، وكذلك الحكم في الأطراف فإن قتل الكافر المسلم، أو العبد الحر أو قطع طرف من أطرافه لم يقع القصاص عندنا بينهما في النفس ولا في الأطراف اتفاقًا، فإن قتل الكافر المسلم، أو العبد الحر وقع القصاص بينهما في النفس، فيقتل به إجماعًا وهل يقع القصاص بينهما في الأطراف مثل أن يقطع له يد أو رجل أو يفقأ له عينًا فيه قولان كما حكاه القاضي وغيره، ومشهور المذهب في هذه الصورة الفرق بين النفس والأطراف (ليقع القود في النفس) فيرجع في الأطراف إلى الدية، وقد قدمنا أن مقتضى الفقه إلحاق الأطراف بالنفس. قوله: "والثاني أن يكون (الجرح) لا يعظم الخطر فيه ولا يغلب الخوف منه": وهذا أيضًا من شروط الحكم بصحة القصاص أعني تأتي المماثلة، والأصل في ذلك قوله سبحانه: {والجروح قصاص}. قوله: "كالموضحة فما قبلها" يعني: أن القصاص يتصور في الدامية والخارصة والسمحاق والباضعة والمتلاحمة، والملطاة، والموضحة، لتأتي المماثلة، في ذلك غالبًا. قوله: "فإن كان مما يغلب خوفه، ويعظم خطره فلا قصاص (فيه)، وفيه الدية حالة في مال الجاني كالمأمومة والجائفة والمنقلة على خلاف فيها خاصة" قلت: تفصيل هذه الجملة أن المأمومة والجائفة لا أعلم خلافًا في

المذهب أن لا قود فيهما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس في المأمومة ... ولا في المنقلة قود) وهذا نص في الباب مبناه على ما ذكرناه من تعذر المماثلة (واختلفت الرواية عن مالك في المنقلة والهاشمة عمدًا، وهل يقاد منهما أم لا على قولين مبناهما على المماثلة) هل هي محققة فيهما، وروى مالك عن ربيعة أن ابن الزبير أقاد من المنقلة، وكذلك لا قود في كسر الفخذ لما ذكرناه، واختلفت الرواية عن مالك في كسر غير الفخذ هل يقاد منه أم لا؟ قولان مبنيان على ما ذكرناه. وههنا فروع: الأول: الموضحة التي توضح العظم، وتكون في الوجه والرأس، وهل تكون في سائر الجسد أم لا فيه اختلاف، والمعتمد عليه أنها مخصوصة بالوجه والرأس، قال ابن وهب عن مالك الموضحة في الرأس والوجه من اللحي الأعلى فما فوقه، وليس في الأنف موضحة، ولا في اللحي الأسفل، وفيها الاجتهاد، قال ابن القاسم: في الخد الموضحة، وإن كانت في سائر الجسد ففيها حكومة قال غيره معنى الموضحة من جهة اللغة: أما أوضح العظم، وهذا المعنى محقق في كل عضو من أعضاء الجسد، ولا خلاف أن فيها القصاص إن كانت عمدًا، وإن كانت خطأ ففيها نصف عشر الدية لقوله -صلى اله عليه وسلم-: (وفي الموضحة خمس من الإبل).

الفرع الثاني: إذا برئت عن شين، قال مالك: يزاد فيها بقدره، لأنه نقص أحدثته جناية الجاني، وقال أشهب: لا يزاد لها شيء لقوله -صلى اله عليه وسلم-: (وفي الموضحة خمس من الإبل). الفرع الثالث: اختلف المذهب في عقل ما لا قود فيه من الجراح كالمأمومة والجائفة على ثلاث روايات: أحدها أنها على العاقلة، لأن المستحق بها المال فهي كالخطأ، والثانية أنها في مال الجاني، لأن العاقلة إنما حملت الدية للعجز عنها بخلاف الأرواش، والرواية الثالثة أنه يبدأ بمال الجاني، فإن كان فيه وفاه، وإلا كان الباقي على العاقلة. الفرع الرابع: دية الخطأ مؤجلة على العاقلة في ثلاث سنين، واختلفت الرواية في بعض الدية هل تنجم أو لا؟ فقيل عن مالك لا ينجم إلا الدية الكاملة، وروى عنه التنجيم، واختلف عنه في صفة التنجيم في البعض فقيل هو لاجتهاد الإمام، وقيل: النصف والثلثان في السنتين، والثلث في السنة. الفرع الخامس: اختلفت الرواية في دية العمد إذا وقع العفو على الدية، أو على القول بتخيير أولياء الدم هل تكون حالة في مال الجاني أو مؤجلة، فالمشهور أنها حالة في مال الجاني إلا أن يشترط الأجل. وفي كتاب محمد إنها منجمة في ثلاثة سنين كالخطأ. الفرع السادس: الدية المغلظة على الجاني على مشهور المذهب، والقول الثاني: أنها على العاقلة قال عبد الملك: هي حالة، وقال ابن

القاسم: على العاقلة مؤجلة، ثم رجع فقال على الجاني حالة في ملئه وعدمه وهو الصحيح. الفرع السابع: إذا كانت عمدًا، وقصاص كالمسلم يقتل الكافر فهل هي حالة أو مؤجلة فيه قولان في المذهب. قال القاضي -رحمه الله-: "والثالث أن يكون مما (تتأتى) فيه المماثلة": إلى قوله: "ولا يقاد من قطع أو جرح إلا بعد اندماله". شرح: اشتراط المماثلة ثابت لأنه معنى القصاص لغة وشرعًا، إذ مقتضاه أن يحدث عليه مثل ما جنى فإن تعذرت المماثلة تعذر القصاص. قوله: "وذلك يكون بثلاثة (شروط) ": الإشارة بقوله: "وذلك" إلى التعذر الذي هو مصدر دل عليه الفعل. الوجه الأول: إن تعذر المماثلة لمعنى يعود إلى الفعل لعدم إمكان التساوي فيه كالشلل وما يضطرب من الكسر، وذهاب (بعض) السمع، وقطع ما يمنع (بعض) الكلام من اللسان، فلا قصاص في هذا لما ذكرناه من عدم إمكان التساوي. قال أشهب عن مالك فيمن عض إنسانًا في لسانه فقطع منه ما (يمنعه به) الكلام شهرين، ثم تكلم ونقض كلامه قال: أحب إلى أن لا قود فيه، لأني أخاف أن يذهب من كلامه أكثر من ذلك، أو أن يذهب جميع الكلام، وقال في المجموعة القصاص في كل جرح، إلا فيما أجمع العلماء على أنه لا قصاص فيه كالمأمومة والجائفة، وكسر الفخذ، وكسر الصلب، قال ابن المواز: ولا قصاص في عظم العنق والفخذ والصلب وشبه ذلك من المتألف، وفي المجموع عن مالك إن أمكن القود في اللسان ففيه القود إذا كان يستطاع ولا يخاف عليه، قال أشهب: أجمع العلماء على

أن لا قود في المخوف قال: واللسان عندي مخوف، فلا قود فيه، وفي المجموعة والموازية عن مالك من ضرب رجلًا فأشل يده ففيه القود يضربه كما ضربه، فإن شلت يده، وإلا فعقلها في مال الضارب، قال أشهب: ولا قصاص في عظام الصدر لأنه متلف، ورواه ابن المواز، ولابن القاسم قول آخر أنه يسأل عنه أهل المعرفة، ولا قود في رض الأنثيين ولو قطعهما أو أخرجهما عمدًا فعليه القصاص، قال ابن القاسم: لا أدري المعنى في قوله مالك: في رض الأنثيين إلا أني أخاف أن يكون رضهما متلفًا، وكذلك ما علم أنه متلف وقول القاضي: "وما يضطرب من الكسر" يقتضي تنويع الكسر إلى نوعين يتصور القصاص في أحدهما دون الآخر، وهو المضطرب، وقد صح أن عمر بن عبد العزيز أقاد من كسر العظام ما ليس بمتلف، وقال به ابن شهاب وربيعة وغيرهما. قال مالك: في الموازية والمجموعة الأمر المجمع عليه في كسر اليد والرجل القصاص، قال أشهب: وما علمت من منع منه إلا أهل العراق قالوا إذا لا يستوي الكسران، قال أشهب عن مالك في (قصبتي) اليد القصاص إن أستطيع ذلك. قال القاضي أبو محمد في المعونة لا قود في كسر الفخذ وفي غير الفخذ، روايتان مبنيتان على إمكان المماثلة. فرع: مما لا يقاد منه أيضًا لعدم المماثلة اللطمة والضربة بسوط أو عصا، ونتف اللحة (والشارب)، وأشفار العينين وشعر الرأس، وفي المجموعة من نتف لحية رجل، أو شاربه، أو رأسه فعليه العقوبة والسجن، ولا قود فيه، قال ابن القاسم: فيه الأدب، وقال أشهب: فيه القصاص وكذلك قال في أشفار العينين، وإذا قلنا فيه القصاص (فقال أصبغ: فيه

القصاص) بالوزن وعاب ذلك غيره. فرع: إذا وجب القصاص في الجراح وغيرهما فمن الذي يباشره بيده أما في الجراح فلا خلاف أنه ليس للجروح أن يباشره بنفسه ويدعى لذلك من له بصر بالقصاص (وقال مالك) وليس كل أحد يحسن القصاص وأجرته على الذي يقتص منه، وهل لولي المقتول أن يتولى القتل بيده أم لا؟ قولان: المشهور أن له ذلك، وينهى عن التشويه والمثلة، قال أشهب: ليس له ذلك مخافة أن يتعدى ويقطع أعضاءه ويمثل به. قوله: "والثاني يعود إلى فقد المحل كالأعمى يقلع عين البصير": قال الشارح -رضي الله عنه- ولا خلاف في تعذر القود في هذه الصورة، ويرجع إلى الدية اضطرارًا، وكذلك يتعذر في القسم الثالث إذا عفا بعض الأولياء لتعذر تمييز حقه كما ذكره. قوله: "والرابع أن لا يتعقبه قتل المجروح أو غيره" هذا راجع إلى الشروط في وجوب القود وسقط فيه حكم القصاص الأدنى لدخوله تحت القصاص الأعلى كالطهارتين إلا أن يقصد بالجرح التمثيل والتشويه فتجتمع عليه العقوبتان، فيجرح ثم يقتل، ولا خلاف عندنا في هذه الصورة، وسواء قتل المجروح أو غيره، لأن القتل لا يتبعض، وهذا صريح مذهب مالك الذي لا اختلاف فيه فيما أعلم إلا ما وقع في (المدونة) عن مالك أن يجرح ثم يقتل، وهذا الرواية في غير الممثل العابث. وقال الشافعي وأبو حنيفة يتعدد الواجب بتعدد الموجب، فيجرح ثم يقتل تنكيلًا وعقوبة وتوفيه للقصاص مقتضاه، ثم حكى اختلاف المذهب في

لواجب بقتل العمد هل هو القصاص فقط، وهو اختيار أشهب وابن وهب، وبه قال ابن المسيب (ويحيى بن سعيد) وربيعة وغيرهم من السلف، ومقتضى الأحاديث الصحيحة تخيير الولي، قال محمد بن المواز لم يختلف قول مالك أن الجراح بخلاف القتل، فإذا أراد المجروح العفو على أخذ الأرش، لم يجبر الجارح عليه، والفرق بينهما أن الجارح بامتناعه من الأرش يريد استبقاء المال لنفسه، والقائل يريد استبقاء المال لغيره فهو مضار بامتناعه من الدية قال أشهب: وعليه (يدل) مقتضى قوله سبحانه: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. قوله: "ويجب القصاص في الحل والحرم، وقع القتل فيه أو في غيره ولجأ إليه": وهذا مذهب مالك والشافعي خلافًا لأبي حنيفة القائل بأن الحرم محرم، ولا يقتل من لجأ إليه، ولكن يضيق عليه فلا يطمع عنده، ولا يسقى حتى يضطر إلى الخروج منه، وبه قال عمر بن الخطاب، وقال -رضي الله عنه-: (لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما تعرضت إليه) لقوله -عليه السلام-: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس). وهو مقتضى قوله سبحانه: {ومن دخله كان أمنا} [آل عمران: 97]، والصحيح الاعتماد على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (في الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بجزية أو بخربة) على كلتا الروايتين الصحيحتين الواقعتين في الصحيح للبخاري كما قيدناه عن أشياخنا رحمهم الله.

قال القاضي -رحمه الله-: "ولا يقاد من قطع أو جرح إلا بعد اندماله" إلى آخر الفصل. (شرح: ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يقاد من الجرح إلا بعد اندماله). وقال الشافعي: يقاد منه في الحال، والمعتمد لنا ما خرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن جابر بن عبد الله أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستقيد فقال له حتى يبرأ فعجل فاستقاد فعنتت رجله وبرئت رجل المستقاد منه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ليس لك شيء إنك أبيت. وذكر أسد بن موسى في حديث جابر قال: قال رسول الله -صلى اله عليه وسلم-: (يستأنى بالجراحات سنة) وذكر الدارقطني من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقتص من الجرح حتى يبرأ). والعلة في ذلك أنه قد يؤول إلى النفس، قال محمد بن المواز: وروى ذلك عن أبي بكر -رضي الله عنه-، وفي كتاب ابن المواز أنه ينتظر البرء والاندمال من غير توقيت سنة ولا غيرها وهو ظاهر كلام القاضي. وروى ابن وهب وابن القاسم في السن تصفر، والعين تدمع، والشجة والكسر، والظفر يؤخر ذلك كله سنة قياسًا على المعترض، قال أشهب: إن مضت السنة والجرح بحالة عقل مكانه. قال المغيرة: لم أسمع في ذلك توقيتًا، وفرق ابن المواز بين العين وغيرها فاعتبر في العين تمام السنة، وفي غيرها البرء من غير توقيت وإنما قلنا

بوجوب الانتظار إلى الاندمال فترى ما جرح العدوان فلا يخلو أن يبلغ النفس أو ما دونها، وإن بلغ ما دون النفس، وكان عمدًا اقتص من عينه دون سرايته، وإن بلغ النفس وجب القصاص في النفس، ويسقط حكم الجرح كما قدمناه لدخول القصاص (الأدنى تحت الأعلى إلا أن السراية إن كانت في الحال وجب القصاص في النفس بغير قسامة، وإن كانت بعد أيام وجب القصاص بعد القسامة) فيحلف الأولياء أن من جرحه مات، ويقتلونه. هذا حكم السراية في جرح العدوان وأما سراية القصاص، فهل هي مضمونة أم لا؟ اختلف الفقهاء فيها فعندنا، وعند الشافعي أنها غير مضمونة إلا أن يتعمد المقتص العدوان، فتكون سرايته مضمونة، فإن كان المجروح، أو وليه، ففي ماله. وإن كان أجيرًا أمينًا من أهل البصر كانت من باب غلط الطبيب والخاتن، وقال أبو حنيفة سراية القصاص مضمونة والدليل لنا أنه قصاص استحق عليه لسبب كان منه فلم يضمن أصله القطع في السرقة. وههنا فروع: الأول: إذا أخطأ متولي القصاص فزاد، أو نقص غير قاصد للعدوان هل يلزمه حكم الزيادة أم لا اختلف المذهب فيه بناء على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ والمعتمد عليه في المذهب ما رواه أبو زيد عن ابن القاسم أنه إذا بلغ ذلك ثلث الدية فعلى العاقلة، وإن قصر ففي ماله فإن نقص لم يكرر القصاص، وفي الموازية والعتبية من رواية أصبغ عن ابن القاسم إن علم النقص قبل أن ينبت اللحم، ويندمل الجرح، أتم ذلك، وإن طال الأمر فلا شيء عليه فيه لا اتهام ولا دية، وقال غيره: إن كان يسيرًا فلا يقاد، ولو كان بحضرة ذلك، وإن كان كثيرًا اقتص له منه تمام حقه قبل البرء، فإن طال فله ما بينهما من الدية، قال مالك: إن برئ المستقاد منه ومثل بمجروح أو برئت

جراحه على عيب أو نقص أو عقل, فإن المستفاد منه لا يكسر ثانية, وبعقل له بقدر ما نقص قال وأنه أمر مختلف فيه, وهذا أحب ما فيه إلي. فرع: لو شجه موضحة عمدًا فأذهب العقل أو السمع فدية العقل أو السمع في مال الجاني قاله ابن القاسم وأشهب: وفي الموازية عن أشهب دية العقل ففيها ديتان دية الخطأ في ماله ودية السراية على العاقلة. قوله: "والمماثلة في القصاص معتبرة في ثلاثة أشياء أحدها في صفة الفعل": وهذا والذي بعده متفق على اعتباره, ومعنى الأول أن الجناية إن كانت جرحًا كان القصاص كذلك, وإن كانت قطعًا فكذلك اعتبار بالمحل مثل أن يفقأ عينه اليمنى, وليس للجاني العين اليمنى, فللمجني عليه دية عينه, لتعذر القصاص لتعذر محله قاله مالك فتعلقت الجناية (البدنية) بالمال لتعذر تعلقها بالبدن, ومن (هذه الأسولة) الأعور يفقأ عين الصحيح عمدًا فالصحيح (أن المجني عليه) بالخيار بين القود أو الدية, إذا كانت الباقية مثل المفقوءة في كونها يمنى أو يسرى, قال ابن المواز, اختلف الناس في ذلك, فقال ابن القاسم وعبد الملك وأكثر أصحابنا ما ذكرنا من تخيير المجني عليه بين القصاص ونصف الدية, وقضى به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ويحيى بن سعيد وغيرهم, وإليه رجع مالك وروى ابن القاسم وعيسى بن دينار عن مالك ليس المجني عليه إلا القصاص, وروى ابن حبيب أن مالكًا رجع إلى هذا, فإن كانت عينه الباقية يمنى وفقأ يسرى عين الصحيح, فقال ابن المواز رجع أصحابنا على أن لا قصاص, وغنم له نصف الدية. قوله: "والثالث فيما يستوفي به القصاص": وهو الآلة وهذه المسألة مشهورة الخلاف, فقال (فريق) من العلماء لا قود إلا بحديدة, وهو قول

أبي حنيفة, وقال مالك: المرء مقتول بما (به) قتل ولكل واحد سلف من الصحابة والتابعين, والعمدة لنا الكتاب والسنة, أما لكتاب فقوله سبحانه: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] وأما السنة فحديث (العرنيين) الذين قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا) وحديث اليهودي الذي رضخ جارية من الأنصار على أوضاح لها, فرضخ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه خرجه والذي قبله البخاري. وههنا فروع: الأول: من قتل بالنار هل يقتل بها أم لا؟ اختلف المذهب فيه, والمشهور عن مالك أنه يقتل بالنار وروى ابن المواز (أنه لا يقتل بالنار من قتل) بها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) وروى أن علياً رضى الله عنه أتى بزنادقة فحرقهم بالنار فسمع بذلك عبد الله بن عباس فقال: اما لو كنت لما حرقتهم بالنار لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يعذبوا بالنار) ولقتلتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه) ورفع إلى مالك أن يهوديًا سب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأملى على بعض طلبته أن يكتب: يقتل ولا يستتاب فكتب طالبه من قبل رأيه: ويحرق بالنار, ثم عرضه على مالك فاستصوبه.

فصل والواجب بالقتل وما دونه من الجراح ثلاثة أشياء

ولو غرقه في الماء غرق, فإن كان ممن إذا كتف لم يغرق وثقل بشيء ينزله إلى القعر حتى يموت, واختلف إذا قتله بالسهم هل يقاد منه بالسهم, وكذلك إذا قتله (بالرمي) بالحجارة فالمشهور أنه يقتل بالسهم, وبالحجارة, وقال ابن الماجشون هو من التعذيب فلا يقتل بذلك ولكن بالسيف. قوله: "إلا (في) موضعين" أحدهما: أن يكون معصية كاللواط, ولا خلاف بين المسلمين في امتناع المماثلة في هذه الصورة. والثاني: أن تكون الآلة معذبة كالعصا والسكين الكالة, وفي هذا القسم خلاف ففي المجموعة عن مالك من قتل بعصا قتل بها, قال ابن القاسم: يضرب بالعصا حتى يمو, قال غيره يؤمر بالاجتهاد في الضرب, ولا يقتل بالتطويل عليه والتعذيب. قوله: " (إلى) ما هو أوحى": أي أسرع في الإزهاق, ثم ذكر القاضي أن الزمان والحال معتبران في مواضع الضرورة كالمريض والحامل وشدة البرد, والدليل عليه تأخيره -صلى الله عليه وسلم- المرجومة إلى الوضع كما ثبت في الصحيح. فصل قال القاضي رحمه الله:"والواجب بالقتل وما دونه من الجراح ثلاثة أشياء": ذكر في هذا الفصل موجبات القتل والجراح, وحصرها في ثلاثة: القصاص, والدية, والحكومة وعفو الولي وهو معلوم الجواز فالقصاص بالعمد المحض, ومواضع الدية أربعة كما ذكره القاضي الخطأ المحض والعمد المحض إذا تعذر القود فيه بعفو الأولياء, ومثل فعل الأب بابنه

إذا حذفه فقتله كما فعل قتادة المدلجي حيث حذف ابنه بالسيف فأصاب ساقه فبرئ جرحه فمات. وقد تقدم ذكره. وهذا إذا زعم الوالد أنه أراد تأديبه, وأشبه دعواه فتلزمه الدية المغلظة. قال القاضي رحمه الله: "ويلحق بذلك شبه العمد عند من أثبته" قلت: وهو ما قصد به الضرب دون القتل, والرابع فما لا قود فيه من جراح العمد, فالمتالف الذي يخشى السراية من القصاص فيها, وأما ما لا قود فيه من قتل العمد فهو الكافر يقتله المسلم لعدم التكافؤ كما ذكرناه وكلام القاضي في هذا الفصل ظاهر لا إشكال فيه. قوله: "والدية ثلاثة أنواع إبل وذهب وفضة": وهذا تنبيه على خلاف الشافعي إنه أنكر دية الذهب والورق, وجعل على أهل الذهب والورق قيمة إبل الدية, والمذهب ما ذكرناه. قوله: "ويؤخذ كل نوع منها من أهله الذي يكون (غالب) أموالهم لا يؤخذ (سوى هذه) " ونبه بقوله: "لا يؤخذ غير ذلك" على مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن القائلين أنه يؤخذ من أهل البقر ماءتا بقرة, ومن الغنم ألف شاة, ومن أهل الحلل مائة حلة يمانية. وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم بذلك. ثم ذكر أن الديات على ثلاثة أقسام: مخمسة وهي دية الخطأ ففي النفس مائة من الإبل خمس بنات مخاض, وخمس بنات لبون, وخمس بني لبون, وخمس حقاق, وخمس جداع. ودية العمد المحض أربعة ينقص عن الخطأ بنو لون. ودية شبه العمد مثلثة: ثلاثون حقة, وثلاثون جذعة, وأربعون خلفة حوامل في بطونها أولادها. ثم ذكر الخلاف هل تغلط الدية على أهل الذهب والورق أم لا؟ والصحيح أن التغليظ شرع فلا يثبت إلا حيث أثبته الشارع, وهو في قضية المدلجي في الإبل بالسن فقط. والقول الثاني: أن التغليظ في المذهب

والورق, وهذا جنوح إلى مذهب الشافعي القائل إن الدية على أهل الذهب والورق هي قيمة المائة من الإبل بلغت ما بلغت. وثانيهما: أن ينظر ما بين دية الخطأ والتغليظ فيجعل جزءًا زائدًا على دية الذهب والورق. قوله: " (تغليظ) في الجراح كالقتل إذ كان مما فيه القود" يريد إذا كان (الجرح) مما فيه القود, فاسم كان عائد على الجرح, وذلك أن الجراح كما قدمناه على قسمين: قسم فيه القصاص وهو الذي تغليظ فيه الدية, وقسم لا قصاص فيه, ولا تغليظ وصفة التغليظ أن ينظر الواجب في الجرح, فإذ كان ثلث الدية أو (غيرها) أخذ ذلك المجروح على صفة (دية) التغليظ مثلثة, فالتغليظ فيها بالسن كما كان في الدية الكاملة. قوله: "وتحمل العاقلة دية الخطأ": وهذا كما ذكره, وإما ذلك رفقا بالجاني لما كان فعله خطأ ولا تحمل دية العمد ولا اعتراف به ولا الصلح. (فرع: لو أقر بالقتل خطا ففيه روايتان, إحداهما: لا شيء عليه, ولا على العاقلة, والثانية: أنها عليه لا على العاقلة, إلا أن ترضى العاقلة). فرع: لا تحمل العاقلة من دية الجراح إلا الثلث فصاعدًا, وما قصد عن الثلث فهو في مال الجاني لأنه في حيز القليل, وقال أبو حنيفة: تحمل العاقلة من الدية ما بلغ نصف العشر فصاعدًا, وقال الشافعي: تحمل

العاقلة قليل الدية وكثيرها, ولأجل هذا الخلاف نبه القاضي عليه. قوله: " والاعتبار بثلث دية المجروح وقيل غيره": هذا فرع مختلف فيه عندنا, فروى أشهب عن مالك في المجموعة والعتبية أنه ينظر إلى دية المجني عليه أو الجاني, فإذا بلغت الجناية ثلث دية أحدهما حملته العاقلة, وقال ابن القاسم, قال ابن كنانة لمالك الذي كنا نعرف من قوله أن الاعتبار في ذلك بدية المجروح, فأنكر ذلك مالك, وحكى القاضي وغيره أن مشهور المذهب اعتبار ثلث دية الجاني لا المجني عليه وهو الأظهر من مذهب ابن القاسم وقوله القاضي, وقيل: غيره إشارة إلى ما ذكرناه من الخلاف. قوله: "والعاقلة العصبة الأقرب فالأقرب": وهذا كما ذكره, ولا حد لعددهم, ولا لعدد (ما) يؤخذ منهم, وإنما في الديوان من كل مائة درهم دهم, ونصف العطاء, والمعتبر في ذلك يوم قسمة الدية لا يوم الجناية على الملئ بقدره, وعلى المعسر بقدره, وههنا فروع: الأول: هل يعقل أهل البدو مع أهل الحضر لأنه لا يستقيم أن يكون في دية واحدة إبل وعين وقاله ابن القاسم وقال أشهب, وابن وهب, وعبد الملك, يشتركون جميعًا في الدية, ويضم القبائل بعضها إلى بعض في الدية, ولا يعقل أهل مصر أهل الشام, ولا أهل الشام مع أهل مصر, وفي كتاب ابن سحنون عن أبيه ويضم عقل إفريقية بعضهم إلى بعض من طرابلس إلى طبنة

وهي على الأحرار البالغين المياسر, قال ابن الماجشون: لا شيء على المعدم, قال ابن القاسم, ولا على المديان وقال أصبغ: يعقل السفيه مع العاقلة, وقاله ابن القاسم: في العتبية, ويعقل المولي الأعلى المولى الأسفل وهل يعقل المولى الأسفل المولى الأعلى فيه روايتان في المذهب, واختلف هل يؤدي الجاني مع العاقلة, قال في المجموعة وغيرها هو في العاقلة, قال بعض الأشياخ: وهذا استحسان وليس بقياس, وقال في غيرها لا يدخل معهم, ولا يدخل النساء والصبيان والمجانين في العقل, قاله مالك: قال الأشياخ: خمسة أصناف يعقل عنهم ولا يعقلون الصبيان والمجانين والنساء والفقراء والمديان وإذا مات بعض العصبة بعد توزيع الدية عليهم, قال سحنون: إذا قسمت صارت كدين ثابت (على الميت, فتؤدي من ماله, وقال أصبغ: الجميع على باقي العاقلة قال ابن الماجشون: إذا مات أو أفلس بعد التوزيع فهو دين ثابت) عليه, وإذا كان بعض العاقلة أهل عمود, وبعضهم أهل ورق وذهب كان الأقل تبع للأكثر. قوله: "واختلف في جراح العمد الذي لا قود فيها": وفي مثل فعل الأب بابنه فقيل: في مال الجاني حالة, وقيل: على العاقلة حالة, وقدمنا الكلام فيه. قوله: "ومن قتل نفسه فدمه هدر": هو مذهب مالك, وقال الأوزاعي وابن حنبل: إن جنى على نفسه خطأ فالدية على العاقلة يدفعونها إلى ورثته. والصحيح أن الجاني على نفسه لا يحمل عنه أحد. وههنا فروع: الأول: إذا وضع سيفًا بطريق أو غيره يريد قتل رجل بعينه فعطب فيه

فصل والدية تختلف باختلاف حرمة المقتول ودينه

غيره فهو خطأ والدية فيه على العاقلة, لأنه لم يقصد قتل هذا الهالك, وإنما جعله لغيره قاله ابن القاسم, ولو مات به المجهول له قتل به هكذا النص عن ابن القاسم. فرع: لو وقع رجل فجذب غيره فماتا فعلى عاقلة الجاذب الدية لأنه خطأ, ولو سقط من فوق دابة أو حائط على رجل فقتله فهو خطأ فيه الدية قاله أشهب: في الموازية والمجموعة, ولو انكسرت سن الساقط وسن المسقوط عليه, قال ابن المواز: قال أصحابنا على الساقط دية سن المسقوط عليه, ولا شيء على المسقوط عليه, وقضى بهش ريح, وقال ربيعة على كل واحد منهما ما أصاب به الآخر. فرع: لو دفع رجل رجلاً فوقع المدفوع على آخر فقتله, فعلى الدافع العقل دون المدفوع, وفي الموازية فيمن مر بجزارٍ يقطع لحمًا فدفعه دافع فسقط فوقعت يده تحت فأس الجزار فقطع أصابعه, فعقل ذلك على الدافع, وقيل: على عاقلة الجزار, ويرجع على عاقلة الدافع. فرع: لو سقط ابنه من يده فمات لم يلزمه شيء, ولو سقط شيء من يده على ابنه أو على ابن غيره (فمات) فهو خطأ على العاقلة. فصل قال القاضي -رحمه الله-: "فصل والدية تختلف باختلاف حرمة المقتول ودينه" إلى آخر الفصل. شرح: هذا الفصل ظاهر واختلاف الديات تابع لاختلاف الدين والحرمة, فدية المسلم الذكر كما قدمناه مائة من الإبل على أهل الإبل, وألف دينار شرعية على أهل الذهب, واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق, ولا

اختلاف في ذلك عندنا عملًا على حديث عمرو بن حزم، وقضى به عمر بن الخطاب، وهذا المقدار من الدينار اليوسفية الدينار الصغار الجارية في دولة الموحدين التي صرفها ستة عشر درهما للدينار الواحد ألف دينار ذهبًا وسبعمائة دينار وسبعة دنانير، ومن الورق بالدراهم الموحدية إحدى وعشرون ألف درهم وستمائة درهم، ونصاب القطع والنكاح أيضًا بها خمسة دراهم وخمسان، ونصاب الزكاة من ذلك أيضًا ستة وثلاثون دينارًا، ويزيد الدرهم الشرعي على هذه الدرهم الواحدي أربعة أخماس وقال أبو حنيفة قدر الدية من الورق على أهل الورق عشرة ألف درهم، والحجة قائمة عليه بما رويناه عن عمر بن الخطاب، ودية المرأة نصف دية الرجل، وتعامل الرجل في جراحها إلى ثلث ديته، فإذا عظمت مصيبتها قل إرشها برجوعها إلى دية نفسها على مقتضى السنة، ودية الكتابي عندنا كدية المرأة وإناثهم على النصف من ذكورهم وقال أبو حنيفة: دية الكتابي والمجوسي كدية المسلم، وحكم عمر بن الخطاب حجة عليه، وتأثير النقص فيه بالكفر، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، والمعتمد عليه في توقيت دية الموضحة والمنقلة والمأمونة والجائفة على السنة الصحيحة، وقضى الخلفاء بذلك، ففي الموضحة نصف عشر الدية، وفي المنقلة عشر ونصف عشر، وفي المأمونة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية وفسر الشيخ أبو بكر الأبهري والقاضي وغيرهما الحكومة

فصل: وتجب بالجناية على العبد قيمته لا دية

بأن يقوم المجروح عبدًا صحيحًا، ثم يقوم معيبًا فما نقص فعلى الجارح مثله من ديته. والألية: اللحم المجتمع في العجز. والفصل ظاهر، حظ الطالب حفظه، وتفهم كلام القاضي فيه فهو بين، وعين الأعور كعيني الصحيح ففيها الدية الكاملة عندنا، وبه قضى عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعمر بن عبد العزيز، وابن عباس وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وربيعة، وابن شهاب وهو قول جميع أصحاب مالك، وبيان القاضي نقص السمع ونقص البصر ظاهر إن شاء اله. فصل قال القاضي -رحمه الله-: "فصل: وتجب بالجناية على العبد قيمته لا دية": وهذا كما ذكره، لأن العبد عندنا مال من الأموال في هذا المحمل، فالقيمة فيه كالدية في الحر وقيمة ما نقصته الجناية في الجراحات كأرش جراحات (الحر إلا في الشجاج الأربعة فيها من القيمة بحساب ما فيها من الدية، ثم ذكر حكم جناية) العبد وهو مسترق بالجناية لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (العبد فيما جنى) ولسيده إن اشترقه المجني عليه أن يفتديه بأرش الجناية إن أحب تغليبًا لحكم المالك.

وتضمين السائق، والقائد، والراكب من باب أن فاعل السبب كفاعل المسبب وهى قاعدة معلومة شرعًا. وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: (جرح العجماء جبار والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس). (قال مالك) وتفسير الجبار أنه لا (شيء) فيه. قال القاضي -رحمه الله-: ((والحكم بالقسامة واجب)). شرح: الأصل في القسامة ما رواه مالك في موطئه عن العلاء بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن حثمة أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصه خرجا إلى خيبر من جهد أصحابهم الحديث بكامله، وهو ثابت فى الصحيح، وقد اختلف أهل العلم في مفهوم هذا الحديث فذهب طائفة كبيرة من أهل العلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم في هذه القضية بشيء، وإنما لاطفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وسايسهم وأراهم كيف (لا) يجرى الحكم بالقسامة على مقتضي القواعد، لن يمين المدعين على ما لم يحضروه غموس، وقبول إيمان الكفار مردود، وإلى هذا جنح أبو حنيفة ومن قال بقوله من أهل العراق، وجمهور العلماء على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم بقوله: (إما أن

يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب)، وروى أبو قلابة أن نفرا من الأنصار تحدثوا فخرج رجل منهم بين أيديهم، فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم، وذكر (حكاية) القسامة، قال (مالك): والقسامة سنة لا رأي لأحد فيها، وكانت في الجاهلية فأقرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام، وقال مالك وما ذكر الله في شأن البقرة ضرب القتيل ببعضها فحيي، فأخبر بمن قتله، دليل أنه يقسم من قول الميت. قال الشيخ أبو محمد فإن قيل: إن ذلك آية قيل: الآية حياته، فإذا صار حيا لم يكن كلامه آية قال المصنف عفا الله عنه: وفي حديث الجارية التي (رضخ) اليهودي رأسها أنها أشارت برأسها إليه، فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (فرضخ) رأسه، وفي بعض طرقه من زيادة العدل الصحيحة المقبولة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى به فأقر، قال مالك: وقد فرق الله سبحانه بين الدماء وغيرها تعظيمًا لحرمة الدماء. قوله: ((ففي العمد القود، وفي الخطا الدية) وهذا كما ذكره، وذكر

أن الحكم بها مشروط بشروط، وهذه الشروط السبعة التي ذكر القاضي عليها تتفرع مسائل القسامة. الشرط الأول: أن يدعى الدم على رجل بعينه بلوث يرجح الدعوة على بينة على المدعى عليه ولا بالإقرار، فإن قامت عليه البينة، أو أقر بالقتل فالقود واجب بغير قسامة. والثاني: أن يكون المقتول حرًا مسلمًا، فإن كان عبدًا أو ذميًا فلا قسامة فيه، لأن العبد مال، وكذلك إذا كان كافرًا، لأن المسلم لا يقتل بالكافر، وإن كانا ذميين فالمشهور أنه لا يحكم بينهما بالقسامة، وإن تحاكموا إلينا، لأن سنة القسامة إنما كانت في حر مسلم فلا تتعدى محلها وقال عبد العزيز بن أبى سلمة لأهل القسامة فيقسم الذمي على الذمي إن تحاكموا إلينا، وأباه مالك وأصحابه، وروى ابن حبيب قال كان ابن القاسم: يقول في النصراني يقول دمي عند فلان المسلم أن ولاته يحلفون ويستحقون الدية، وذكره عن مالك، وأنكر ذلك مطرف، وابن الماجشون ولم يعرفاه لمالك، ولا أحد من علمائهم، وإنما قال مالك: إن أقام شاهدًا واحدًا على قتله حلف ولاته يمينًا واحدة، وأخذوا الدية في مال القاتل في العمد، ومن العاقلة في الخطأ، وقال ابن نافع: لا تحمل العاقلة ديته لأنها تستحق في هذه الصورة بيمين واحدة، ولا تحمل العاقلة ما يستحق بيمين واحدة، ولم يذكر القاضي البلوغ شرطًا، وذكره غيره من أشياخ المتقدمين، لأن الصبي لا حكم لقوله، ولا يقبل دعواه، قال محمد بن المواز: قال بعض العلماء: يقسم من قول الصبي وأباه مالك وأصحابه، قال بن القاسم: والصبي قي هذا بخلاف المسخوط والمرأة لأن الصبي لو أقام شاهدًا عليه حلفوا معه واستحقوا، وفي المجموعة عن أشهب قول كل واحد على نفسه أوجب من دعواه على حقه لم يحلف معه، ولو أقام المسخوط أو المرأة أو النصراني أو العبد شاهدًا على غيره، فإذا لم يقبل

إقرار الصبي على نفسه بقتل، أو جرح فدعواه في ذلك على غيره أبعد قال سحنون: ومن قال يقسم مع قول الصبي لزمه أن يقول يقسم مع قول النصراني، وروى مطرف عن مالك لا يقسم مع قول الصبي إلا أن يكون قد راهق وأبصر وعرف فليقسم على قوله، وعده بعض شيوخ الصقليين خلافًا، واختار أنه لا يقسم على قوله كما لا يحلف مع شاهده حتى يبلغ والخلاف في (أحكام) المراهق مشهور هل حكمه حكم الصبي، أو حكم البالغ بناء على أن ما قارب الشيء هل يعطى حكمه أم لا؟ قال محمد: وتقبل القسامة مع الحر المسلم البالغ ذكرًا كان أو أنثى عدلًا كان او مسخوطًا، ولأنه لطخ لا شهادة، قال ابن المواز ومن لم يقبل قول المقتول حتى يكون عدلًا أخطأ ويلزمه أن لا يقسم مع قول المرأة، لأنها غير تامة الشهادة. الشرط الثالث: أن يكون في قتل فإن كان في جرح فلا قسامة فيه، وهذا كما ذكره فلا قسامة في جرح، ولا في عبد، ولا في أمة وفيمن جد قتيلًا في محله. وروى أبو حنيفة أن وجود القتيل في المحلة لوث إذا كان به (أثر) اعتمادًا على حديث حويصة. والرابع: أن يكون مع الأولياء لوث، وهذا كما ذكره. وإنما اعتبرنا اللوث، لأنه سبب (مرجع للدعوى) مع الأيمان، وذكر القاضي أن اللوث أنواع: أحدهما: الشاهد الواحد العدل على معاينة القتل، والثاني: الشاهدة غير العدل (أو العدل) على قرينة تدل على القتل مثل أن يراه بقربه وهو

يتشحط في دمه وعليه آثار الدم (ونحو ذلك) والثالث: شهادة الجماعة غير العدول. والرابع قول المقتول دمي عند فلان عمدًا، وفي كونه لوثًا في دعوى الخطأ روايتان. والخامس: شهادة النساء والعبيد. قال الشيخ أبو إسحاق: القسامة تجب بوجوه أربعة: الأول: قول المقتول دمي عند فلان عمدًا. والثاني: أن يشهد على الضرب، أو الجرح شاهدان مرضيان، ثم يقيم المضروب أو المجروح أيامًا بعد ذلك، ثم يموت. والثالث: أن يشهد شاهد واحد مرضي أن فلانًا قتل فلانًا على غير وجه الغيلة، فإن شهد عدل على أنه قتله غيلة، قال ابن القاسم: لا يقسم مع شهادته، ولا يقبل في هذا إلا شاهدان، وقال يحي بن عمر: يقسم معه وهو الصواب، لأن اللوث حاصل، ولا فرق في المعنى بين الغيلة وغيرها. الرابع: أن يشهد أهل البدو على قتله فيقسم الأولياء (معهم قتلهم) وروى ابن حبيب عن مطرف عن مالك أن من اللوث اللفيف من السواد والنساء والصبيان يحضرون ذلك مثل الرجلين، والنفر غير العدول، وقال ابن عبد الحكم ومن اللوث أن يوجد القاتل حدى المقتول، وعليه أثر القتل، ولم ير حين قتله، وذكر القاضي أبو محمد في المعونة من أصحابنا من يجعل شهادة العبيد والصبيان لوثًا وحكى أبضًا خلاف المذهب في الفئتين

ينفصلان عن قتيل على روايتين إحداهما أن وجوده بين الصفين لوث فيقسم الورثة على من شاءوا أو يقتلونه. والثاني أنه ليس بلوث وديته عليهما إن كان من غيرهما، وإن كان من أحد الفئتين فديته على الفئة المنازعة لها. قال القاضي أبو الحسن بن القصار: القسامة تصح بأحد ستة أوجه منها قول المقتول: قتلنى فلان عمدًا، ومنها الشاهد الواحد على معاينة القتل سواء أنفذ مقاتله أو ضربه، ثم عاش بعد الضرب، ثم مات، ومنها اللطخ إذا وجد بقرب المقتول، وعليه آثار القتل، ومنها السماع المستفيض، ومنها الجماعة في السوق العظيم، ومنها أن يكون الضرب بآله لا تقتل غالبًا بحضرة البينة، ثم يموت في الحال، ومنها أن يكون الضرب من جماعة، فلم يعلم الذي مات من ضربه. قال في الموازية والمدونة يقسم مع الشاهد العدل، ولا يقسم مع شهادة المسخوط والنساء والعبيد والصبيان، قال: وإنما يقسم مع الشاهد العدل، وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب، وابن عبد الحكم، وروى عن أشهب أن اللوث الشاهد الواحد، وإن لم يكن عدلًا، قيل: أفترى شهادة المرأة من ذلك قال: نعم، وليس شهادة (العبيد) من ذلك، وبه أخذ أشهب، قال مطرف عن مالك ومن اللوث الذي تكون به القسامة اللفيف من السواد والنساء والصبيان وغير العدول يحضرون ذلك، ومن روى عنه أن اللوث الشاهد العدل وحده فقدوهم وإنما كان يسأل هل الشاهد العدل لوث فيقول نعم، واللوث ما أخبرتك، وقد حكم به عندنا، وقال ابن القاسم، وأصبغ مثل قول مطرف، قال ابن المواز: وإنما كان يقسم مع شهادة الواحد على معاينة القتل بعد أن يثبت معاينة جسد القتيل ويشهدون على قتله، ويجهلون قاتله كما عرف موت عبد الله بن سهيل، قال محمد: وأما شهادة العبد والصبي والذمي فلم يختلف فهي قول مالك وأصحابه أنه ليس بلوث، قال ابن القاسم: ويقسم مع شهادة امرأتين مرضيتين، ويقتل بذلك، وقال ربيعة

ويحي بن سعيد: شهادة المرأة لطخ يوجب القسامة، وكذلك العبيد والصبيان قال ربيعة ويحي بن سعيدة شهادة اليهودي والنصراني والمجوسي إذا حضروا القتل لوث، قال محمد في المجموعة وهذا لا يقوله مالك: ولا أحد من أصحابه، قال عبد الملك: إذا شهد شاهد واحد على قول القتيل فلان قتلني أقسم الأولياء مع شهادته، وقال غيره لا يجوز على قول الميت إلا شاهدان مرضيان، قال ابن القاسم: وإذا شهد شاهد واحد قول المقتول دمي عند فلان، وشهد شاهد (آخر) أنه قتله ولم تلفق الشهادتان ولا بد من القسام. قال القاضي أبو الوليد الباجي: ويكتفي بقول المقتول دمي عند فلان ضرب ولا جرح ولا وصف ضرب ولا غيره، ورواه ابن حبيب عن مالك، قال الشيخ أبو الحسن: إن قال قتلني عمدًا ولا جراح به فأحسن ذلك أن لا يقسم، هذا يقتضي اشتراط الإبان وحكاه عن مالك، وكذلك لو قال سقاني سمًا أو سكرانًا فإنه يقتل به بقدر ما يرى الإمام قيد أو لم يتقيد، وكذلك لو شهد شاهد أن فلانًا سقى فلانًا سمًا فمات ففيه القسامة. وقد قتل اليهودية التي سمت الشاة، وإن لم تعتد على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد اعتدت على بشر بن البراء بن معرور وقتلته، قال ابن القاسم: ولو ادعى على أورع

أهل بلده فإنه يقسم الأولياء ويقتلون، وقال ابن عبد الحكم: لا يقسم في هذا لأنه ادعى ما لا يشبه وهذا هو الصواب. قوله: ((وفي كون ذلك لوثًا في الخطأ روايتان)): والمشهور إنه لوث اعتبارًا لقبول قوله في العمد، والقول الثاني: أنه ليس بلوث، لأن حرمة المال دون حرمة النفس فيتهم على أنه يريد إغناء ولده. قوله: ((والخامس أن يتفق الأولياء على ثبوت القتل)): هذا خامس شروط الحكم بالقسامة وفي هذا الشرط فروع: الأول: إذا قال المقتول قتلني خطأ، وقال: الورثة عمدًا أبطل الدم، فلا دية ولا قصاص، لأن الميت أبطل القصاص بقوله خطأ والورثة أبطلوا الدية بدعوى العمد، وكذلك لو قال المقتول قتلني عمدًا، وقال الأولياء خطأ فلا قصاص ولا دية أيضًا، لأن المقتول قد نفى الدية: والأولياء قد نفوا القصاص فدمه هدر. فرع: إذا قال المقتول قتلني ولم يبين صفة القتل، وقال الأولياء لا علم لنا، بطل الدم، إذا لم يعلموا هل حقهم في (النفس، أو المال) فإن أطلق المقتول قوله فقال: قتلني ولم يبين، واتفق الورثة على العمد، أو على الخطأ أقسموا على ما عينوا، واستحقوا القود في العمد، والدية في الخطأ، فإن اختلفوا فقال بعضهم: خطأ، وقال بعضهم عمدًا بطل القود، وأقسموا على الدية، إذ لم يتبعض الدم، وهذا إذا تساووا، فإن اجتمع أكثرهم على العمد فقال ابن القاسم: أحب إلي أن لا يقسموا (إلا على) الخطأ، ووقف عن

العمد، وقال في موضع آخر يكشف عن حالة المقتول وجراحاته وموضعه وحالة القاتل وما كان بينهما من العداوة فيستدل بذلك ويقسمون، فقد يعلم العمد من تكرار الضرب وكون المدعى عليه من أهل الشر معاديًا للمقتول ممن يليق به العمد، وإذا بنينا على المشهور أنهم يقسمون على الخطأ. فاختلف المذهب في فروع: الأول: هل تكون الدية كلها على العاقلة إعمالا لحكم الخطأ، أو يكون نصيب مدعي العمد في مال الجاني، إذ العاقلة لا تحمل العمد فيه روايتان: فرع: لو قال بعضهم عمدًا وقال بعضهم لا علم لنا، بطل الدم وردت الأيمان على المدعى عليهم. فرع: لو قال بعضهم خطأ، وبعضهم قال: لا علم لنا ففيه روايتان: فقيل يقسم مدعو الخطأ ويستحقون انصباءهم من الدية، وقيل: لا يقسمون، وترد الأيمان على المدعى عليهم وهو اختيار الشيخ أبي بكر الأبهري، فإن نكلوا عن اليمين فلا شيء لهم، ولا الآخرين، وهذا إذا استوت منزلتهم فكانوا بنين أو إخوة، فإن اختلفت منزلتهم مثل أن تقول الابنة خطأ والعصبة عمدًا فدمه هدر لا قود ولا دية، لأنه (ثبت) في العمد للعصبة (القود) ولم يثبت بمخالفة الابنة لهم، وفي الخطأ للابنة، ولم تثبت الدية لمخالفة العصبة لها، ويرجع اليمين على المدعى عليه (وإن قال العصبة خطأ، وقال النسوة عمدًا أقسم العصبة على نصيبهم من الدية) قال محمد: إذا ادعى جميع العصبة أنه عمدًا لم ينظر قول النساء. فرع: متى بطل الدم بنكل أو اختلاف ردت الأيمان على المدعى عليه. قوله: ((والسادس في العمد أن تكون ولاة الدم اثنان فصاعدًا)): وهذا

كما ذكره أنه لا يقسم في العمد أقل من اثنين بخلاف الخطأ، لأنه مال، وفي العمد دم. فأقيمت أيمان الأولياء في العمد مع اللوث مقام البينة، وهو كما أن الشاهد الواحد لا يكفي في الحقوق، فكذلك الولي الواحد في العمد، وقد عرض -صلى الله عليه وسلم- الأيمان على الجماعة، فقال: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم والجماعة اثنان فصاعدًا، وللولي الواحد الاستعانة بالعصبة، وإن لم يكن لهم حق في الدم كالعمومة مع الابن، لأن ذلك من باب النصرة والموالاة كولاية النكاح لا من باب المواريث، ولهذا كان الأيمان على عدد الرؤوس، إذ ليس طريقها (التوارث) قال ابن القاسم: كان يمين الولي من ناحية الشهادة، وقد جعل الله اليمين في اللعان مقام الشاهد الواحد، قال عبد الملك: ألا ترى أنه لا يحلف النساء في العمد، إذ لا يشهدن فيه، وهذا هو الشرط (السابع) الذي ذكره القاضي. قوله: ((وإذا حصل اللوث بدئ بأولياء الدم)): وهذا ما ذكره، لأنه بدأ بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال أبو حنيفة يبدأ المدعى عليهم طرد للقاعدة في باب الدعوة، والصحيح ابتداء تبدئة المدعين. واختلف المذهب إذا كان الأولياء أكثر من خمسين هل يكتفى بالخمسين أم لا؟ قولان عندنا، والمشهور الاكتفاء، لأن هذا العدد هو المنصوص عليه، والشاذ أن يحلف كل واحد منهم يمينًا واحدة أن له حقًا في الدم، أو الدية، ولا يستحق حقه إلا بيمينه. ثم ذكر القاضي أن للأولياء الاستعانة بمن يحلف معهم من عصبة

ليخففوا عنهم في الإيمان، وإن لم يكن للعصبة مدخل في الدم. وههنا فروع: الأول: إذا كان الأولياء أكثر من خمسين فقد قدمنا الخلاف هل يقتصر على خمسين أم لا؟ فإن كانوا خمسين فأرادوا أن يحلف رجلان منهم خمسين يمينًا وهم في العقد سواء، ففي المجموعة عن مالك لا يجزئهم ذلك، وهو كالنكول، وفي الموازية عن ابن القاسم إن ذلك يجزء وينوب عن من بقى. الفرع الثاني: قال أشهب: إذا كانوا ثلاثين حلفوا يمينًا يمينًا، ثم حلف منهم (عشرون) عشرين يمينًا. الفرع الثالث: قال (أشهب) إذا استعان الأولياء بالعصبة حلف الأولياء مع العصبة ما ينوبهم من الأيمان، فإذا حلف المعينون أكثر من الأولياء لم يجز ذلك. وكان كالنكول من الأولياء. قوله: ((ونكول المستعان بهم غير مؤثر)): وهذا كما ذكره بخلاف نكول بعض ولاة الدم، فإذا أنك الولي لم يكن للعينين من العصبة القسامة ولا المطالبة بالدم، إذ لا حق لهم في الدم، وإنما استعين بهم من باب النصرة، وإذا نكل المعين فللولي القسامة. واختلف المذهب إذا نكل بعض الأولياء وكانوا عصبة فهل يقسم الباقون على حظهم من الدية أو ترد الأعيان على المدعى عليهم قولان: حكاهما القاضي، والأول أصح في النظر، لأنه حق مالي يمكن فيه التبعيض فإذا سقط

أحدهما حظه لم يسقط حظ الآخر إلا بإسقاطه فإن كان الأولياء بنين أو إخوة، فنكل بعضهم، فإن الأيمان ترد على المدعى عليهم وليس لمن بقى أن يحلف هكذا حكى القاضي أبو الوليد عن المذهب وظاهر كلام القاضي إجراء الخلاف في صورة نكول بعض الأولياء مطلقًا من غير اعتبار الذي حكاه أبو الوليد وإذا حكمنا في هذه الصورة برد اليمين على المدعى عليه، فنكل ففيه قولان حكاهما القاضي أحدهما: أن الدية عليه في ماله كاعترافه، والعاقلة لا تحمل الاعتراف، والثاني: أنه يحبس حتى يحلف، فإن طال حبسه خلى سبيله، لأنها يمين الاستظهار، ألا ترى أن الورثة أضعفوا سبيلهم ودعواهم بنكولهم عن السبب المرجح للدعوى، فلم يثبت طلبهم بدعواهم حكم محقق، ولما كان الدم حق الورثة كان لهم التصرف فيه بالطلب والإسقاط على عوض الدية، أو ما وقع الصلح عليه، وههنا فروع تتعلق بهذا الأصل. الأول: إذا كان الأولياء أولاد أو إخوة (فعفا بعضهم سقط الدم بلا خلاف، وكان لمن لم يعف حظه من الدية، وإن كانوا عصبة ففيه روايتان إحداهما أنهم كالأولاد والإخوة) والثاني أن الأيمان ترد على المدعى عليهم. الفرع الثاني: اختلف في النساء هل لهن مدخل في الدم أم لا؟ فعن مالك في ذلك روايتان الإدخال ونفيه، وجه الإدخال قياس حق القصاص على حق الميراث، ولقوله -صلى الله عليه وسلم- (من له قتيل فأهله بين خيرين إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وأخذوا الدية) ووجه نفي إدخالهن أن ولاية

الدم مستحقة بالدفاع والنصرة، وهو مسلوب من النساء، والأول أصح، وإذا قلنا بدخولهن في ذلك فهل يدخلن في القود والعفو أو إنما يدخلن في العفو فقط قولان من مالك ويتفرع في هذا إذا اختلف أولياء المقتول فدعا بعضهم إلى القود، وبعضهم إلى العفو وفيه ثلاث روايات في المذهب أحدهما أن القود قول من دعا إلى القول لأنه الأصل في قتل العمد، والثاني: أن القول قول من دعا إلى العفو، لأنه أحب إلى الله تعالى. والثالث: أن القول قول الذكور من البنين أو العصبة دون النساء لأنهم بالنصرة أولى، وبطلب الدم أحرى، وفي الموازية عن مالك إذا اجتمع أب (وإخوة) فالأب أولى، من الإخوة، ولا قول للإخوة معه، قال ابن ابن المواز: أجمع مالك وأصحابه على أن الأب بعد (الولد الذكر) أولى من جميع من ترك الميت من إخوة وأم وغيرهم (لا اختلاف) فيه. واختلفت الرواية مع الجد والإخوة، فقال أشهب: الإخوة أولى منه بالعفو أو القود، لأنهم أقعد، وقال ابن القاسم: هو واحد من الإخوة، والإخوة الأشقاء أولى من الإخوة للأب، وليس للإخوة لوم في العفو عن الدم ولا للزوج، وكذلك لو اجتمعت بنات وعصبة فعفت بنت واحدة، وواحد من العصبة، فالمشهور أن ذلك جائز على من بقى وهو قول ابن القاسم، وقال أشهب: لا يجوز العفو إلا باجتماع البنات والعصبة ولا حق للأم (في الابن في عفو ولا قود، وإن انفردت الأم فهل لها مدخل في ذلك أم لا؟ فروى ابن حبيب: ليس الأم) ولاية في دم العمد، إلا أن يصير مالًا وروى عيسى عن ابن القاسم ومطرف عن مالك أن لها ولاية في الدم فهي أولى

من العصبة وفي المجموعة في أم، وأخ، وعصبة لا عفو للأم دونها وفي الموازية أن البنات أولى من الأم، والأم أولى بالدم من الأخوات. فرع: قد ذكرنا اختلاف المذهب هل للنساء مدخل في الدم أم لا، واظهر فائدته في فرع: الأول: إذا عفا الذكور من الأولاد فهل يسقط حق البنات من الدية أم لا؟ قولان منصوصان أحدهما: أنه يسقط حق البنات من الدية بناء على أن النساء تبع لا حق لهن في الدم، وكذلك يسقط حق الأخوات إذا عفا الإخوة، وروى أشهب عن مالك أنه (إنما يسقط حق) العافي وحده، وحظ غيره من الدية باق، لأن الدم قد استحال مالًا. وتحصيل هذا الضابط أن كان الأولياء كلهم ذكورًا ففيه ما قدمناه، وإن كانوا كلهم إناثًا أو فيهم الذكور والإناث لم يسقط حق الباقي، لأنه عفا بعد أن استحال الدم مالًا، ولو عفا الولي، ثم قال: إنما عفوت على الدية لا عفوًا مطلقًا، فالقول إلا أن تكذبه قرائن الأحوال ويحلف أنه ما أراد ترك الدية، ويأخذ حقه فيها، قاله مالك وابن القاسم. قوله: ((ولا يقسم في العمد إلا على واحد)): وهذا هو المشهور من المذهب أنه لا يقسم في العمد إلا على واحد بخلاف الخطأ، فافترق العمد

والخطأ في هذا القسم في نوعين: أحدهما: أن الخطأ يقسم الولي الواحد فيه، (لأنه مال واجب على العاقلة كالديون الثابتة بخلاف العمد، فإنه دم فلا يحلف فيه أقل من اثنين، الثاني أن الخطأ يقسم الواحد فيه) على الجماعة، فتحمل الدية على عواقلهم، ولا يقسم في العمد الأعلى واحد فيقتلونه هذا قول ابن القاسم، وأنكره سحنون، وسوى في هذا بين العمد والخطأ، وقال يقسمون على جميعهم، فيقتلون، وفي الخطأ، فتحمل الدية على عواقلهم، وبه قال الشافعي وغيره قياسًا على قتل الجماعة بالواحد إذا ثبت الدم بإقرار، أو بينه، وقال أشهب: لهم أن يقسموا على الجماعة، ولا يقتلون إلا واحدًا ممن أدخلوا في قسامتهم، وقال في كتاب محمد يقسمون على واحد من أيهم شاءوا، لا يقسمون على جميعهم، يقتلون واحدًا: ويقولون إذا قسموا على واحد من الجماعة لقد مات من ضربه، ولا يقولون من ضربتهم، واعتمد ابن القاسم على قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث: الجاريتين يقسم خمسون منكم على رجل منهم الحديث. قال في المجموعة ولم يعلم قط قسامة كانت إلا على واحد، وههنا فروع تتعلق بما قدمناه. الأول: لو ضربه رجلان أحدهما عمدًا والآخر خطأ فمات لم يقتل ضارب العمد بالشك. وقال أشهب: يقسمون على أيهما شاءوا فيقتلون في العمد وتحمل العاقلة، ولو مات من ضربات خطأ وقال الأولياء لا ندري من أيهما مات سقطت الدية، لأنه حمل بالشك، وقيل: يقضي على عاقلة الضاربين وهو أصح. قوله: ((ويضرب من بقي مائة ويحبس سنة)): وهذا كما ذكره قياسًا

على قاتل العمد إذا عفا عنه (الأولياء بجامع حكمة الردع والتأديب المطلوب تحصيله شرعًا، قال في الموازية إذا عفا عنه) من له حق العفو بقى حق الله تعالى نظرًا إلى أن الزاجر قد اشتمل على حقين حق الله، وحق الآدمي فإذا أسقط الآدمي حقه بقى حق الله تعالى، قال في المجموعة سواء بجب الدم ببينة أو إقرار، أو قسامة، قال مالك: إذا تعلقت القسامة بجماعة فقتل واحد منهم بالقسامة، فإن سائلاهم يضرب كل واحد مائة، ويسجن سنة، لأن الأولياء قد ملكوا قتل كل واحد بالقسامة، فإذا تركوا قتله بالقسامة (إلى) غيره كان عفوا، (وإن) نكل ولاة الدم عن القسامة، وردت الأيمان على المدعى عليهم فحلفوا برئوا، قال ابن المواز: وعلى المدعى عليهم الجلد والسجن، وحكاه القاضي أبو الوليد، قال عبد الملك: إذا حلف المدعى عليه خمسين يمينًا برئ من الجلد والسجن. فرع: إذا كان المقتول كافرًا كتابيًا، أو مجوسيًا، أو عيدًا للقاتل أو لغيره فعلى القاتل جلد مائة وسجن سنة، قال ابن القاسم، وأشهب، ومطرف، وابن عبد الحكم، وغيرهم قال عبد الملك إنما ذلك في المسلم عبدًا كان أو حرًا، قال أصبغ: إذا قتل السيد عبده لزمه الجلد والسجن، قال محمد: إذا قتلت أم الولد سيدها فعليها الجلد والحبس يعني إذا عفا عن دمها، قال أشهب: إذا قتل العبد فلم يقتل فليجلد ويسجن، قال أصبغ: على العبد والأمة الجلد دون السجن قياسًا على التغريب في الزنا، إذا هو ساقط في العبد، والأمة والمرأة، واختلفت الرواية بأيهما يبدأ ففي الموازية عن أشهب ذلك واسع إنشاء بالجلد أو بالسجن، وفي العتبية أنه يبدأ بالجلد، لأن في (تأخيره) تعريض لإبطاله لاحتمال أن يموت في أثناء السنة. قال القاضي -رحمه الله-: ((وتقسم الدية بين الورثة)) إلى أخر الفصل.

(قلت) وهذا كما ذكره لأن الدية مال موروث، فيستوي فيه جميع الورثة، وروى الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كب إلى أبيه أن يورث امرأة أشيم من دية زوجها) وقد اختلف الفقهاء في توريث القائل، ومذهب مالك أن قاتل العمد لا يورث مطلقًا، وقاتل الخطأ يرث من المال دون الدية، ثم تكلم على دية الجنين، والأصل في ذلك ما رواه مالك في موطئه من حديث أبي هريرة أم امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينًا ميتًا فقضى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغرة عبد أو وليدة) وفي مرسل ابن المسيب فقال: الذي قضى عليه كيف أغرم ما لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل)) ومثل ذلك بطل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما هو من إخوان الكهان) فإذا ثبت هذا فالنظر في ذلك في فروع: الأول: (متى تجب الغرة) وعندنا أنها تجب إذا خرج ميتًا وهي حية، فإن ماتت، ثم خرج الجنين ميتًا فقد اختلف العلماء فيه، وفي مذهب مالك قولان: المشهور أنه لا شيء في الجنين وفي الأم الدية، أو القود إن كان الضرب عمدًا، وبه قال جمهور أصحاب مالك، وقال ابن شهاب، والليث،

والشافعي: فيه الغرة وبه قال أشهب. الفرع الثاني: إذا بنينا على المشهور أنه لا تجب فيه الغرة إذا خرج بعد موتها، فخرج بعضه وهي حية ثم ماتت فحكى الشيخ أبو إسحاق وغيره وجوب الغرة فيه روايتين مبنيتين على مراعاة ابتداء الخروج أو تمامه. الفرع الثالث: الجنين الذي تجب فيه الغرة ما (علم) النساء أنه ولد كانت فيه الروح أو لم تكن كان (مخلقا) أو لم يكن. الفرع الرابع: إذا كانا توأمين أو أكثر فهل يكتفي بغرة واحدة أم لا؟ قولان أحدهما الاكتفاء بغرة واحدة وفي العتبية فيهما غرتان من سماع أشهب، وفي المجموعة نحوه، وسواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى. الفرع الخامس: الغرة موروثة على كتاب الله سبحانه، وعليه جمهور أصحاب مالك ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وابن الماجشون، ومطرف، وابن عبد الحكم وأصبغ، وابن أبى حازم، وقال المغير والمخزمي هي للأبوين خاصة فإن لم يكن إلا أحدهما فهي له، وقال ربيعة: للأم خاصة لأنها كعضو من أعضائها، والصحيح أنها دية، فهي موروثة عن كتاب الله سبحانه كسائر الديات. الفرع السادس: قال مالك: القيمة في الغرة (حسنة) وليست كالسنة المجمع عليها، وإذا بذل غرة قيمتها خمسون دينارًا أو ستمائة درهم قبلت

منه، وإن كان أقل لم تؤخذ إلا أن يشاء أهلها وذلك عشر دية أمه، ولم يذكر الإبل في ذلك في حق أهل الإبل قال ابن القاسم: لا مدخل للإبل في ذلك، وإن كان من أهل الإبل، وروى أبو زيد عن ابن القاسم يؤخذ فيها أهل الإبل. قال أشهب: لا يؤخذ من أهل البادية (فيها إبل) قال مالك: الغرة من الحمران أحب إلي من السودان إلا أن يغلوا فهو أوسط السودان، قال عيسى بن دينار القاتل مخير بين أن يعطي غرة عبد أو وليدة قيمتها خمسون دينارًا أو ستمائة درهم، أو يعطي الدنانير والدراهم. الفرع السابع: إذا طرحته حيًا، ثم مات، وكان الضرب خطأ ففيه الدية على العاقلة، وإن كان الضرب عمدًا، فقد اختلف قوله مالك فيه، فالمشهور من قوله أنه لا قود فيه، قال أشهب: عمده خطأ لأنه بالضرب لأمه غير قاصد إلى قتله، وفي المجموعة عن ابن القاسم إذا تعمد (الجنين) بضرب البطن أو الظهر أو موضع يرى أنه أصاب به الجنين قاصدًا ففيه القود بالقسامة، فإن ضرب رأسها، أو يدها، أو رجلها ففيه الدية بالقسامة في مال الضارب قاله ابن القاسم، وقال أشهب على العاقلة. الفرع الثامن: إذا ضرب امرأته فألقت جنينًا ميتًا ففيه (الغرة) كما ذكرناه، فإذا استهل صارخًا ثم مات وجبت فيه الدية كما ذكرنا في الأجنبي، وهل تغلظ لا؟ قولان في هذه الصورة المشهور أنها مغلظة، وقال أشهب لا تغلظ. الفرع التاسع: تعلم حياة الجنين بالاستهلال والبكاء والصراخ، واختلف في التثاؤب والعطاس، والحركة، والبول، والحدث حكاه القاضي أبو الوليد

الباجي، وقسم القاضي الأجنة خمسة أقسام وهي ظاهرة أولها جنين حرة مسلمة فيه عشر دية أمه كما ذكرناه. والثاني جنين كتابية حرة من زوج مسلم، وهو كالأول سواء كان زجها حرًا، أو عبدًا. والثالث: جنين الكافرة من الكافر فهو معتبر بديتها. والرابع: جنين الأمة من سيدها الحر المسلم فهو كالأول. والخامس: جنين الأمة من غير سيدها، ففيه عشر قيمة أمه. وقال ابن وهب: في كتاب محمد فيه ما نقصها، لأنه كعضو من أعضائها. قال القاضي -رحمه الله-: ((فصل وتجب الكفارة في قتل الخطأ دون غيره): وهذا كما ذكره، والدليل على وجوبها في قتل الخطأ قوله سبحانه:} ومن قتل مؤمنًا خطًأ فتحرير رقبة مؤمنة {الآية وهل تجب في قتل العمد أم لا جمهور العلماء على أنها مخصوصة بالخطأ، وقال الشافعي: هي واجبة في العمد من باب الأولى والأحرى وعندنا أنها أعظم من أن يكفر كيمين الغموس. قوله: ((إذا كان المقتول مؤمنًا حرًا)): احترازًا من الكافر والعبد، وأوجبها الشافعي في قتل العبد، وأوجبها غيره في قتل الكافر، والدليل التعلق بالنص، وأما العبد فإنه مال.

فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد

قوله: ((كان القتل بانفراد، أو بالاشتراك)) يعني: إذا قتل جماعة رجلًا مؤمنًا خطأ فعلى كل واحد منهم كفارة عندنا، وقال بعض العلماء: تجزئ عن الجميع كفارة واحدة لقوله تعالى:} ومن قتل مؤمنًا خطًأ {فعم الاشتراك والانفراد وهذه الصفة عتق أو صيام لا إطعام فيها، وقد تقدم الكلام في شروط الرقبة، وأن من شروطها أن تكون (مؤمنة) سليمة من العيوب ليس فيها شرك ولا عقد حرية. قال القاضي -رحمه الله-: ((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد)) قلت: اتفق العلماء على أن الردة محبطة للعمل بنفسها، لكن اختلف الناس، والمذهب هل تبطل الأعمال بنفس الردة، وهو الذي حكاه القاضي عن المذهب أو بشرط الوفاة عليها، ومن مذهب مالك فيه قولان: مشهورهما ما حكاه. فمن اعتمد على قوله تعالى:} لئن أشركت ليحبطن عملك {قال بالمشهور، ومن اعتمد على قوله تعالى:} ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر {الآية فشرط الوفاة على الكفر في إحباط العمل، وتظهر فائدة هذا الخلاف فيما تركه من الصلوات في حال كفره هل يلزمه قضاؤه إذا عاد إلى الإسلام وهل يبطل حجة وطلاقه الثلاث أم لا؟ وكل هذه المسائل قد اختلف العلماء فيها ومذهب مالك أنه لا يقضي ما ترك من الصلوات في حال ردته إذا عاد إلى الإسلام لقوله سبحانه:} قل للذين كفروا إن ينتهوا {الآية، وقال الشافعي: يقضي ذلك اعتمادًا على استمرار الخطاب الأول ويلزمه إعادة الحج، وحجته الأولى غير مجزئة عن حجة الفريضة لرجوعه إلى الإسلام، ويبطل طلاقه الثلاث عند ابن القاسم، وعند غيره لا يبطل وحكمه أن يستتاب خلافًا لقوم

من أهل العلم اعتمادًا على حديث عمر حين بلغه أن مرتدًا قتل قبل الاستتابة، قال: اللهم إني لم أحضر، ولم أمر ولم أرض إذ بلغني فإن تاب قبلت توبته)) لقوله سبحانه:} قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم {الآية ولقوله سبحانه:} وهو الذي يقبل التوبة عن عباده {الآية، ومن العلماء من قال: لا يستتاب ولا تقبل توبته إن تاب، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه) وهذا حكم مطلق، وهل تدخل المرأة إذا ارتد في عمومه أم لا؟ اختلف الفقهاء فيه، فقال الجمهور أنها داخلة تعلقًا بظاهر العلوم، وقال أبو حنيفة: إذا ارتدت المرأة لم تقتل اعتبارًا من الأنوثة العاصمة من القتل لنهيه -صلى الله عليه وسلم-: (عن قتل النساء والصبيان) فخلاف خصوصية المحل، وإذا قيل: لم يورث لأنه كافر والمسلم لا يرث كافرًا فماله فيء لجماعة المسلمين. وقال أبو حنيفة يورث عنه ما كسب قبل ردته، وهل يكون ماله فيئا بنفس الردة، أو بعد القتل فيه خلاف مشهور أنه (يتوقف) على القتل لا على الكفر، وإذا انتقل الكافر من كفر إلى كفر لم يقتل إذ ليس بمرتد شرعًا بناء على أن الكفر كله ملة واحدة عندنا خلافًا للشافعي، ولا خلاف عندنا أن الزنديق يقتل وهو الذي يظهر الإسلام ويعتقد الكفر، وكان يسمى منافقًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تقبل توبته إذ لا يعلم صحتها، وقال الشافعي: تقبل توبته

كما قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- (إسلام) المنافقين، وحكى الشيخ أبو الوليد وغيره عن ابن عبد الحكم وأصبغ أن الزنديق يستتاب. ثم ذك حكم الساحر، وقد اتفق أهل السنة على أنه حق، وله حقيقة في نفسه وتأثير في الأديان وأحوال النفس كالحب والبغض خلافًا لمن أنكره، وقال قوم: ليس له حقيقة، وقد جاء بذكره الكتاب والسنة الصحيحة، قال الله العظيم:} وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت {الآية إلى قوله:} وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر {وهاروت وماروت بدل من الملكين لا مضاف إلى بابل، لأن ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخل عليه الألف واللام انجر وغلظ فيه الشيخ أبو عبد الله الكناني (القابسي) الأصولي فأعربه مضافًا، وغلظ فيه أبو الحسن بنخروف النحوي (ولم يرجع إليه، لأنه كان

ضعيف البضاعة في علم العربية، وكان ابن خروف يقرأ عليه الإرشاد لأبي المعالي وهو يقرأ على ابن خروف النحو) فجرى بينهما هذا الوضع.] سمعت ذلك من الأستاذ أبي عبد الله بن هشام النحوي وشارح الإيضاح عفا الله عنا أجمعين [. وفي قوله:} فلا تكفر {تأويلان، وقيل المعنى، فلا تكفر بتعليمه، وقيل: (بعلمه) لا بتعليمه، وقد سحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (بنات أسد ابن أعصم) فكان يخيل إليه أن فعل الشيء ولم يفعل في مشط، ومشاطه تحت رعوفه في بئر ذروان خرجه مسلم والبخاري وغيرهما من أئمة الدين. وأجمع العلماء على أن الإجارة عليه حرام وعمل ما يبطله والإجارة عليه جائز، قال ابن المسيب لأنهم إنما يريدون الإصلاح قال ابن المسيب: فأما ما ينفع، فلم ينه عنه، وأجمع العلماء على أنه إن عمله، وقتل

به، فإنه يقتل به، فإن عمله ولم يقتل به فهل يقتل أم لا الجمهور من العلماء على أنه يقتل بعمله سواء قتل به أم لا هذا إذا كان الساحر مظهرًا للإسلام، لأن الله سبحانه سماه كفرا لاعتقاده أن ذلك من فعله، وأنه قادر عليه، ومذهب أهل الحق أن الله سبحانه هو المنفرد بالقدرة عليه، فإن كان الساحر ذميًا فهل يقتل أم لا؟ اختلفت الرواية فيه عن مالك فروى ابن سحنون عن أبيه أنه يقتل أضربه أم لا إلا أن يسلم، وقال مالك: لا يقتل إلا أن يدخل سحره ضررًا على المسلمين فيكون ناقضًا للعهد، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل أسد بن الأعصم ولا بناته. وههنا فروع: الأول: هل يستتاب الساحر أم لا؟ المشهور أنه لا يستتاب قاله مالك، وقال ابن عبد الحكم وأصبغ: الزنديق والساحر يستتبان، فإن تابا وإلا قتلا، وبه قال الشافعي. فرع: إذا لم يباشر السحر بنفسه، ولكنه ذهب لمن يعلمه له لم يقتل ويؤدب (أدبًا شديدًا) نص عليه محمد ابن المواز. فرع: إذا سحر العبد والأمة سيدها وثبت ذلك عند السيد قطعًا، فقال أصبغ ليس لسيده قتله، ولا يلي قتله إلا السلطان، وروى أن حفصة أم المؤمنين قتلت جارية لها سحرتها. فرع: إذا قتل الزنديق، أو المرتد، أو الساحر فهل على قاتلهم شيئًا أم لا؟ قال ابن المواز: لا شيء على قاتل الزنديق من دية ولا قصاص على عاقلة المرتد. واختلف في الدية، وقال ابن القاسم: عليه دية أهل الدين الذي ارتد إليه، وقال مرة أخرى في المرتد ديته دية المجوسي في العمد والخطأ. وقال

سحنون: لا دية له في عمد أو خطأ، وكذلك اختلف إذا قطع له عضو هل يكون فيه أرش أم لا؟ بناءً على قتله هل فيه الدية أم لا؟ لأنه مستحق للقتل شرعًا، وقال محمد أيضًا: فيمن قطع يمين سارق وخطأ لا دية عليه، وفي موضع آخر عن ابن القاسم عليه ديتها حكاه الشيخ أبو الحسن وغيره من الأشياخ. فرع: إذا قتل الساحر بسحره فماله لبيت (المال) ولا يصلى عليه إذا كان مجاهرًا به، وإن كان مستترًا به فقال ابن عبد الحكم، وأصبغ إذا قتل فماله لورثته من المسلمين، ولا أمرهم بالصلاة عليه فإن فعلوا فهم أعلم. (قال المؤلف -رحمه الله-) مقتضى قتله كفرًا أن ماله فيء مطلقًا سواءً كان مستترًا أو مجاهرًا والله أعلم. ثم تكلم على حكم الفيئة الباغية وهم عصاة متأولون كمقاتلة عثمان ومقاتلة علي يوم صفين ويوم الجمل، ولا يخرجهم القتال بالتأويل إلى حد الكفر فيغسل قتلاهم، ويصلي عليهم، ولا يتبعون بما استهلكوا من (الأموال إذا تابوا، ولم يطالب أحد من المبغاة المقاتلين لعلي -رضي الله عنه- في صفين بما استهلكوا من) نفوس وأموال، وقد أجمع أهل الحل والعقد على أن فئة معاوية بغاة ظلمة بالتأويل ثم ذكر (حكم) المحارب، والأصل (فيه) الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:} إنما جزاء اللذين يحاربون الله ورسوله {الآية واختلف في سبب نزولها، والصحيح أنها نزلت في (العرنيين) كما خرجه البخاري ومسلم، وقيل: نزلت في قوم من أهل

الذمة نقضوا العهد، وقيل: نزلت في قاطع الطريق وقيل: نزلت في الكفار، وفيها دليل على وجوب إقامة الحدود، (وعلى أنها لا تكفر الذنوب بانتفاء الطلب بها عند الله سبحانه، وهو معارض) لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الحدود كفارة لأهلها) ولقوله -صلى الله عليه وسلم- في عبادة بن الصامت: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى بذلك فأجره على الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه فبايعناه على ذلك). وقد اختلف العلماء في المفهوم من هذه الآية في مسائل الأول: هل هذه الحدود على الترتيب أو على التخيير في مذهب مالك في ذلك قولان أحدهما أن ذلك على التخيير رواه سحنون عن ابن القاسم عن مالك وصرف ذلك إلى اجتهاد الإمام ونظره، وعليه جمهور العلماء ما لم يقتل فإن قتل فلا خلاف أنه يقتل لا خيار للإمام في في غيره حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي عن المذهب، والثاني أنه على الترتيب، فلا يقتل من لم يقتل ولا يصلب ولا يقطع فإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يقطع ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع، والذي يقتضيه كلام العرب أن الإمام مخير لأنه مقتضى ((أو)) ويجوز أن تكون للتنويع، وبه تعلق الشافعي -رضي الله عنه- وكان من أئمة اللسان. المسألة الثانية: الحدود النصوص عليها في الآية أربعة بمقتضى النص

وعجبًا لمن أسقط منها ما هو منها، وزاد فيها ما ليس منها، وهل هذا إلا إحادث شرع ولا يجوز إلا للمعصوم. الحد الأول: القتل، وحقيقته واحدة، فإن قيل: ما معنى المبالغة فيه، قلت: هو نظير ما ذكره سيبويه وحكاه عن العرب: أنهم يقولون: إبل مغلطة، ولا يقولون بعير مغلط، والغلاط وشم في النعق، وهو تكثير بحسب المال لا بحسب الصفة في نفسها، ولذلك يقولون في الواحد مغلط. والثاني: الصلب، وقد اختلف (الفقهاء) في معناه فروى (أشهب) أنه يصلب حيًا، ثم يترك حتى يموت جوعًا، ومن العلماء من فسره بأنه يصلب بعد القتل، ومنهم من فسره بأنه يصلب، ثم يطعن بالرمح طعنًا فهل يصلب وهو حي أو ميت فيه من الخلاف ما ذكرناه، فرواية ابن القاسم وابن حبيب عن مالك أنه يصلب حيًا، ثم يقتله بطعنة، ورواية غيره أنه يصلبه بعد قتله في الأرض، وبه قال الشافعي. واختلف المذهب إذا صلب فروى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه يتركه على الخشبة حتى تفنى الخشبة، ويأكله الكلاب، ولا يمكن أهله من إنزاله ردعًا وتهديدًا. وقال أصبغ وغيره: (ينزله) ويصلى عليه، ويدفن (قال سحنون): إذا صلبه الإمام أنزل من تلك الساعة، ودفع إلى أوليائه فيغسلوه ويصلوا عليه.

فرع: إذا بنينا على انه ينزل (لأهله) من الخشبة ليغسلوه ويصلوا عليه (فيفعلوا ذلك) ورأى الإمام إعادته إلى الخشبة، فقال سحنون للإمام: أن يعيده إلى الخشبة، وروى عنه ابنه محمد أنه لا يعاد إليها بعد الصلاة عليه وبه أجابني حين سألته عن ذلك، ولو حبسه الإمام ليقتله فمات في السجن أو قتل فهل يصلب أم لا؟ الرواية أنه إن مات في السجن حتف أنفه فإنه لا يصلب، وإن قتل فيه أو قتله الإمام فليصلبه. الحد الثالث: تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وعندنا أن للإمام القطع سواء أخذ نصابًا، أو أقل من ذلك، لأن ما لا يعتبر فيه الحرز لا يعتبر فيه النصاب. وقال الشافعي: لا تقطع يد المحارب فيما دون النصاب وههنا فروع: الأول: القطع من الكوعين والكعبين كالقطع في السرقة، واختلفوا هل يتأتى القطع على الكوعين والكعبين، أم لا؟ قولان. والثاني: إذا كان مقطوع اليمنى أو كانت شلاء. فقال ابن القاسم: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى. وقال أشهب: تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى. ومبنها على تحقيق المخالفة، فابن القاسم حققها حسًا، وأشهب أثبتها معنى، لأن اليد اليسرى هي منه اليمنى في المعنى لقيام المنافع. الحد الرابع: النفي في الأرض، وهو رابع الحدود الثلاثة بمقتضى القرآن، وعجبًا ممن أسقطه ولم يره في الآية حدًا، وإنما رآه حالاً للمحارب لا حكمًا له، حكاه القاضي أبو الوليد الباجي وغيره عن ابن الماجشون وغيره. قال القاضي أبو الوليد: قال ابن الماجشون: ليس عندنا النفي الذي

ذكره الله -عز وجل- أن ينفى من قرية إلى قرية فيسجن بها، ونما قول الله تعالى:} أو ينفوا في الأرض {معناه: أن يطلبوا فيختفوا وأنتم تطلبوهم لتقام عليهم العقوبة، فإذا ظفر بهم فلا بد من أحد العقوبات الثلاث: القتل، أو الصلب، أو القطع وهو في ذلك مخير. قال (وهكذا قال) المغيرة وابن دينار، قال ابن حبيب: وقاله (ابن شهاب) وبه أقول. قال القاضي أبو محمد، وبه قال الشافعي قال الشيخ أبو الحسن: قال ابن الماجشون: هو الطلب لهم فيكون فرارهم واختفاؤهم ممن يطلبهم هو نفيهم. قال المصنف عفا الله عنه: وهذا الكلام بعيد عن التحقيق وخارج عن كلام العرب، والمقطوع بصحته من اللسان أن النفي حد معطوف على الحدود الثلاثة التي قبله. وههنا فروع: الأول: الصحيح من مقتضى الكلام أن النفي حد معطوف على الثلاثة الحدود وهو إخراجهم من بلدهم وحبسهم في البلد التي يغربون إليه حتى تظهر توبتهم. قال أصبغ: ويكتب إلى عامل البلد الذي غرب إليه بذلك ولا نفي على العبيد لحق السادات، وقال مالك مرة: النفي أن يضربه ويطيل سجنه، ولا يخرجه (وقال: النفي حبسه ببلده حتى تظهر توبته وهو قول أبي حنيفة، والقول الأول أسعد) بظاهر القرآن. قال المؤلف عفا الله عنه: هذه الحدود الأربعة في المحاربين هي التي ذكر الله سبحانه، فمن أسقط النفي فقد أبطل النص، ومن زاد عليها الضرب فقد استدرك على الله سبحانه:} وما كان ربك نسيا {. وروى مطرف عن مالك إذا استحق المحارب عند الإمام النفي فيجلده. قال غيره: يسجنه ببلده حتى تظهر توبته.

قال أشهب: وإن وجده مع النفي لضعيف، ولو قاله قائل: لم أعبه. قال ابن القاسم: يأخذ بأيسر ذلك وهو الجلد والنفي. قال ابن القاسم: وليس بجلده حد إلا الاجتهاد من الإمام فمقتضى هذه الرواية إثبات الجلد حدًا خامسًا، والآية لا تقتضيه البتة. فرع: اختلف المذهب في المرأة إذا حاربت. والصحيح أن حدها القطع، أو القتل من غير صلب، لأنها عورة، واختلف في نفيها، فإن قلنا: إن النفي السجن (نفيت)، وإن قلنا: إنه التغريب سقط إلا مع الولي أو الجماعة المأمونة. تنبيه: إذا رأى الإمام أن يسلم المحارب إلى أولياء مقتوله فعفوا عنه. قال أشهب: ينقض ذلك ويقتل ولا عفو لهم فيه. وقال ابن القاسم: هم حكم قد نفذ فالعفو ماض ولا ينقض عليهم، ولا سبيل إلى قتله، والأول أصح. قوله: "ويسقط عنه - إن جاء تائبًا قبل القدرة عليه - (حقوق) الله تعالى ويؤخذ بحقوق الآدميين" وهو كما ذكره لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم *} [المائدة: 34]. وفي العتبية عن أشهب: إذا تاب المحارب وقد كان زنى أو سرق، وفي حرابته لم يوضع ذلك عنه، وإنما تسقط عنه حدود الحرابة دون سائر الحدود، وصفة توبة المحارب أن يختلف إلى المسجد ويعرف جيرانه ذلك منه، ويظهر منه (فعل) الخير والندم على ما فات وإن لم يأت السلطان. قال ابن وهب وابن عبد الحكم: توبة المحارب أن يأتي السلطان تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله -عز وجل-. قال ابن الماجشون: إن لم تكن توبته إلا أن يأتي السلطان، ويقول له: جئتك تائبًا لم ينفعه ذلك حتى تعرف توبته قبل مجيئه.

قوله: "ولا يراعى تكافؤ الدماء فيها" وهذا كما ذكره، لأنه ليس قتل قصاص، واعتبر الشافعي تكافؤ الدماء، ثم ذكر صفة المحارب، وسوى بين المحارب في المصر والبدو وهو صريح مذهب مالك -رحمه الله-. وقال أبو حنيفة: لا يكون محاربًا إلا في الصحراء والبرية عن البلد. وبه قال ابن الماجشون قال عبد الملك: لا يكونوا محاربين في القرية يريد بذلك القرية كلها، والدليل لنا ظاهر الآية. ومقتضاها العموم في المدينة والصحراء. قوله: "ولا عفو في الحرابة لولي الدم" قد قدمنا الخلاف فيه، والصحيح كما ذكره القاضي، لأنه حق الله سبحانه ولمن طلبه أن يدافعه، وإن قتل اللص فشر قتيل وإن قتل المطلوب فخير قتيل لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من قتل دون ماله فهو شهيد). قال أشهب: جهاد اللصوص جهاد من أفضل الجهاد، قال مالك في أعراب قطعوا الطريق جهادهم أفضل من جهاد الروم. واختلف المذهب في فرعين من هذا الباب: الأول: هل يناشد المطلوب اللص الله تعالى أم لا؟ فعن مالك أنه يناشده الله ثلاثًا، فإن عاجله قتله، قال: يدعوه ليبادر إلى قتله، لأنه قد استحق حق الحرابة لخروجه. الفرع الثاني: إذا طلب اللص الشيء اليسير من المال، هل يعطى أم لا؟

المشهور أنه يعطاه، ولا يقاتل. وفي العتيبة وغيرها: لا يعطى اللص شيئًا، وإن قل وليقاتل فذلك أقطع لطعمهم، واختلف في فروع تتعلق بالمحارب. الأول: ليس للإمام أن يؤمن المحارب إذا طلب الأمان بخلاف المشرك، لأن المشرك يقر على دينه، والمحارب فإنه لا يقر على حرابته، فإن أمنه الإمام فنزل على حكم الأمان، وقد كان امتنع من النزول قتله. قال ابن المواز: اختلف في ذلك فقيل: يتم له الأمان، وقيل: لا يتم له ذلك، ويؤخذ بحقوق الله سبحانه وسواء أمنه السلطان أو غيره. الفرع الثاني: لو أن محاربين أخذوا مالًا واقتسموه فتاب أحدهم، وقد كان في حين حرابته أخذ حظ من المال فهل يغرم التائب جميع المال، لأن بعضهم تقوى ببعض أو إنما يغرم منه ما أخذ فقط قولان وبالأول قال ابن القاسم، وبالثاني قال ابن عبد الحكم وهو الصحيح. الفرع الثالث: ما وجد بأيدي اللصوص فادعوا أنه لهم فهو لهم حتى يقيم مدعية البينة؛ قاله أشهب. الفرع الرابع: إذا طالب اللص ففر من الطلب فهل يتبع أم لا؟ قال أصبغ عن ابن القاسم: إن كان قتل أحدًا فليتبع، وإن لم يقتل أحدًا فما أحب أن يتبع وفرارهم كالتوبة. قال سحنون: يتبعون ولو يلغوا (نكس) العماد. الفرع الخامس: إذا ارتد المحارب ولحق بدار الكفر (يقاتلنا) معهم، ثم أسر استتابه الإمام، فإن تاب سقط عنه القتل بالردة، وأخذه بأحكام الحرابة في حقوق الله وحقوق الآدميين. الفرع السادس: قال مالك في الذين يسقون الناس السيكران هم

محاربون، وقال فيمن لقى رجلًا فسأله (طعامًا) فأبى فكتفه، وأخذ منه طعامه وثيابه يشبه المحارب يضرب وينفي، وكذلك من غتال رجلًا أو صبيًا فأدخله بيته فقتله، وأخذ منه متاعًا فهو محارب. قوله: "وللرجل أن يدفع عن نفسه ما يصول عليه من إنسان أو بهيمة" وهذا كما ذكره، لقوله سبحانه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]. قوله: "ولا ضمان عليه فيما يؤول إليه أمره" قلت: لأنه متصرف بالإذن، واختلف المذهب في المغضوض (إذا خرج إصبعه فكسر إحدى ثنيتي العاض وفيه قولان: أحدهما: ما قضى به -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: لا شيء على المعضوض) لتعدي العاض بالعض، وأن المعضوض مأذون له في الدفع عن نفسه فلا شيء عليه، وإن آل دفعه عن نفسه إلى قتل العاض، وروى أن امرأة خرجت تحتطب فأتبعها رجل فراودها عن نفسها فرمته بحجر فقتلته فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: قتيل الله لا تؤدى أبدًا وأهدر دمه. ثم ذكر في خطأ الطبيب الحاذق روايتان: إحداهما: أنه مضمون لأنه كالقتل خطأ، والثاني: أنه لا يضمن لأنه تولد عن فعل مباح، وقد تقرر الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ وكذلك الخاتن والمؤدب إذا لم يجاوز الأدب المأذون فيه، فما كان من هذه الجنايات دون الثلث فعلى الجاني، وما زاد فعلى العاقلة، وتضمين حافرا البئر إذا كان متعديًا، وممسك الكلب العقور، وموقف الدابة حيث لا يجوز له إيقافها ظاهر من باب أن فاعل السبب كفاعل المسبب، ويضمن أهل المواشي ما أفسدته بالليل دون النهار اعتمادًا على قضاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وذلك أن ناقة للبراء دخلت حائطًا فأفسدته

فرفع ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقضى على أرباب الأموال حفظها بالنهار، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل. والله الموفق بفضله.

كتاب الحدود

كتاب الحدود قال القاضي -رحمه الله-: "الزنا موجب للحد" إلى آخر الفصل. شرح: الزنا شرعًا هو: إيلاج الذكر في فرج آدمية إيلاجًا محرمًا بالأصل" احترازًا من الإيلاج في فرج الحائض فإنه محرم بالسبب العارض، وقد ثبت بالتواتر من دين النبي -صلى الله عليه وسلم- تحريم الزنا بقواطع الكتاب، وصحيح الأخبار، وإجماع الخاص من الأمة والعام، والحد فيه مشروع قولًا وعملًا قال الله سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد مائة جلدة} [النور: 2] وقال تعالى: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفهن الموت} الآية [النساء: 15] (وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند نزول هذه الآية: خذوا عني (فقد جعل الله لهن سبيلًا) فالبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم وقد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلك- ماعز، والعامرية واليهودي واليهودية لما تحاكما إليه فقال لهم: ما تجدون في التوراة فحرفوا وجحدوا الحق على عوائدهم

المعلومة فأقام -صلى الله عليه وسلم- عليهما الحد. وإن لم يرض الزانيان بذلك، وهذا حجة على من يقول: إن (الأساقف) من أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا في ذلك فإنه لا يحكم (بينهم) حتى يرضى الزانيان وقع ذلك من رواية عيسى عن ابن القاسم في (المدينة) وغيرها والصحيح أنهم إذا تحاكما إلينا، فالإمام مخير عملًا بمقتضى قوله تعالى: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] فإن اختار الحكم حكم بينهم رضي الزانيان أو كرها إذا رضي أساقفهم وعلمائهم بحكم المسلمين. قوله: "والحد (في الزنا) نوعان: جلد ورجم" هذا (رد علي) من لا عبرة به ممن أنكر الرجم، كيف وقد أقامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المبلغ عن الله -عز وجل-. قوله: "والجلد (نوعان) منفرد بنفسه ومضموم إليه غيره": إشارة إلى التغريب ونوعه أيضًا إلى تمام ونقصان إشارة إلى حد الحر والعبد، وحد المحصن الرجم حتى يموت ولا يجلد قبله، وهذا تنبيه على خلاف علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ومن قال بقوله من الصحابة، فقد صح عن علي -رضي الله عنه- أنه جلد شراحة الهمدانية ورجمها، جلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة،

وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال به من الفقهاء عدد كثير كالحسن البصري وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم واعتمد الجمهور على أنه -صلى الله عليه وسلم-، (رجم ماعز والغامدية والعسيف واليهود ولم يجلدهم). ثم ذكر أن شروط الإحصان ستة: الشرط الأول: البلوغ، وهذا كما ذكره لقوله -صلى الله عليه وسلم-، (رفع القلم عن ثلاث، فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق) ولا خلاف بين المسلمين أن الاحتلام والحيض والسن علامات (على) البلوغ واختلفت الرواية إذا أنبت ولم يحتلم فقال مالك: يحد وإن يحتلم إذا أنبت، واستحب ابن القاسم أن لا يحد، واحتج مالك بأنه -صلى الله عليه وسلم- (أمر بقتل من جرت عليه المواسي) وقتل من بني قريظة المقاتلة، وسبى الذرية، وقتل من الصبيان ما أنبت، أعطى له حكم الرجال. وتحصيل القول في هذا الشرط: أنهما إن كانا كبيرين فلا إشكال في وجوب الحد بشروطه، وإن كانا صغيرين فلا حد عليهم، وإن زنا صغير ببالغة

كبيرة عوقبا ولم يحدا، وإن زنا كبير بصغيرة لم تستطع الرجل (عوقب فإن كانت تستطيع الرجال فهو زنا وعليها الحد، قال الشيخ أبو الوليد: ولو أصاب صغيرة لا تستطيع الرجال) وجب عليه الحد. قال ابن القاسم: وإن كانت (بنت) خمس سنين. وقال أشهب وابن عبد الحكم: لا يحد. واختلف المذهب إن زنا ببهيمة ففي كتاب الرضاع عن مالك أنه يحد، لأن وطأها حرام، وقال ابن شعبان: لا يحد. الشرط الثاني: من شروط الإحصان العقل، واشتراطه ثابت، لأن المجنون غير مكلف إجماعًا. الشرط الثالث: الإسلام ولم يشترطه الشافعي قال مالك: ولا حد على النصراني إذا زنا ويعاقب إذا أعلن ذلك، وقال المغيرة: يحد حد البكر، لأنه غير محصن، وقد ذكرنا أنه -صلى الله عليه وسلم- رجم اليهودين عملًا على حكم التوراة، لأن الرجم ثابت فيها فحكم -صلى الله عليه وسلم- عليهما لما رضي الأسقاف بحكمه الذي هو حكم التوراة، وإنما شرطنا الإسلام في الإحصان، لأن (الإحصان) مشروع لفضيلة المحصن على البكر، ولا فضيلة مع الكفر، ولأن أنكحة الكفار فاسدة فلا يتصور منهم الإحصان، وكذلك الحرية لأن حد العبد على الشطر، والرجم لا يتشطر، وهو الشرط الربع. الشرط الخامس: التزويج الصحيح احترازًا من النكاح الفاسد، لأن النكاح الفاسد لا يتناوله اسم الإحصان شرعًا، وقد انعقد الإجماع على أن الإحصان لا يحصل بنفس العقد (إذ لا يحصل بنفس العقد) العفاف وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (الثيب

بالثيب جلد مائة والرجم) والثيوبة (تقتضي) الوطء لا بنفس العقد. قوله: " (وليس) من شرطه أن يجتمع الإحصان من الطرفين" وهذا كما ذكره لأنه شرط في محله، فحيث وجد، ترتب عليه حكمه فلا يشترط في إحصان، أحدهما: إحصان، الآخر: عندنا خلافًا لأبي حنيفة ولو زنا مجنون بعاقلة، أو عاقل بمجنونة حد العاقل منهما، وكذلك الكافر يزني بكافرة فالحد على المسلم منهما، وهو نقض للعهد فيقتل، لأن الكافر إذا نقض العهد قتل. واختلف المذهب إذا زنى بكافرة في دار الحرب هل يقام عليه الحد وهو الصحيح أم لا؟ خوفًا من الارتداد واللحوق ببلد الكفر قولان عندنا والمشهور ما ذكرناه. قوله: "وأما الجلد الكامل وهو مائة جلدة" بانفرادها "فحد الزاني البكر": وهذا النوع جبر على مقتضى المذهب في التنويع، وقد اختلف الفقهاء في تغريب الزاني على ثلاثة مذاهب. أنكره أبو حنيفة مطلقًا، لأنه زيادة على النص، وهو عنده نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد باطل، فالزيادة باطلة، وأثبته الشافعي مطلقًا حتى في العبد والمرأة وخصه مالك في الحر الذكر تغليبًا لحق السيد، ومراعاة لنقص المرأة، إذ لا تسافر شرعًا إلا ومعها ذو محرم، وتكليف ذي محرمها ذلك إضرار به، وفي كتاب ابن المواز: أن عمر بن الخطاب غرب امرأة إلى مصر، وفي الموطأ أنه غرب عبدًا. ونفى

عمر بن عبد العزيز محاربًا من مصر إلى شعب، وأمر أن يعقد في أعناقهم الحديد. ونفى عمر بن الخطاب من المدينة إلى البصرة وإلى فدك وغير ذلك، فقال ابن القاسم: وأسوان عندنا، ودونها منتفي إذا حبس فيها، ونص القاضي على أنه إذا غرب حبس في البلد الذي يغرب إليه سنة، وهو كما ذكره، واختار بعض شيوخ المذهب أن يضيق عليه إذا سجن، وأن لا يدخل عليه أهله إلا غبًا، نصوا على هذا في المحارب، والزاني عندي مثله بجامع حكم الردع. ثم ذكر القاضي أن حد العبد والأمة خمسون على الشطر من حد الحر لقوله سبحناه: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] هذا نص في (الإماء) والذكور من العبيد كالأيامى لاجتماعها في النص بالرق الذي هو موجب للتشطير. قال القاضي -رحمه الله-: "والأسباب التي بها يثبت الزنا ثلاثة" إلى قوله: "ولا حد على الزاني بجارية ابنه". شرح: الأسباب المتفق عليها شيئان: الإقرار، والبينة (وظهور الحمل)، فأما ظهور الحمل فقد خالف فيه أبو حنيفة والشافعي، والصحيح أن ظهور الحمل من حرة غير طارئة لا يعلم لها نكاح، أو أمة لا يعلم لها زوج وسيدها منكر لوطئها كالاعتراف. قال محمد: وأجرى عمر بن الخطاب الحمل إذا لم يعلم أنه من نكاح أو ملك مجرى البينة أو الاعتراف ونحوه، عن عثمان وعلي وابن عباس وغيرهم، وقد رأى بعض شيوخنا أنه إجماع سكوتي، إذ لا مخالفة لهؤلاء من الصحابة. قال عمر بن الخطاب: الرجم في كتاب الله على من زنى حق إذا كانت البينة أو الاعتراف أو

الحمل، ويكتفى من الإقرار (بالمرة الواحدة إذا أقام على ذلك، ولم يرجع عنه، واشترط أبو حنيفة وأصحابه تعدد الإقرار) أربع مرات في أربعة مجالس أخذا بظاهر حديث ماعز، والغامدية، ويعارضه قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث العسيف: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يشترط عددًا فهذا يبين أنه -صلى الله عليه وسلم-: (إنما أراد الستر على ماعز وعلى الغامدية، ولم يعتبر تعدد الإقرارات وكثرتها، فإن رجع على إقراره إما أن يرجع إلى شبهة فلا خلاف في قبول رجوه، وإما أن يرجع إلى شبهة ففيه قولان، المشهور أن رجوعه هاهنا مقبول أيضًا وهو مذهب المدونة. وروى أشهب وعبد الملك عن مالك أنه لا يقبل رجوعه إلا لأمر يعذر به وهو قول أبي حنيفة والشافعي. قال محمد بن المواز: إذا رجع إلى وجه مثل أن يقول: وطئت امرأتي حائضًا فظننت أنه زنى فذلك عذر، وكذلك إذا قال: وطئت في نكاح فاسد أو أدخلت على غير امرأتي فوطئتها وأنا لا أعلم، أو رأيت امرأة على فراشي فظننت أنها امرأتي فوطئتها، أو وطئت جارية مشرعة ونحو ذلك مما يذهب على العامة، فإنه يعذر بذلك كله، لأنه شبهة ظاهره (مقبولة درءًا للحد)، وقد

صح عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة وغيرهم أن رجوعه إلى غير شبهة مقبول درءًا للحد، وسواء كان رجوعه قبل إقامة الحد عليه، أو بعد ذلك. وروى أشهب عن مالك إذا رجع بعد إقامة أكثر الحد لم يقبل رجوعه، والأول أصح، لأن التوبة مقبولة في كل حين وزمان، قال: وكذلك كل حق هو لله تعالى بخلاف ما للناس وهاهنا فروع مختلف فيها وهو: إذا أقر بالزنا، ثم رجع عن ذلك فلم يحد فقذفه رجل بالزنا فهل يحد القاذف اعتبارًا بالرجوع وهو قول أشهب أو لا يحد اعتبارًا بالإقرار، وهو قول ابن القاسم. قوله: "وأما البينة فشهادة أربعة رجال عدول يشهدون مجتمعين": هذه الشهادة التامة في هذا الباب هي التي اجتمعت فيها الأوصاف التي ذكرها القاضي، فإن جاءوا مفترقين فالمشهور من المذهب أنهم قذفه. وحكي القاضي أبو محمد بن عبد الملك والشافعي أن يحكم بشهادتهم مجتمعين ومفترقين، وفي النوادر عن ابن القاسم: لا ينبغي للإمام أن ينتظر القاذف، ومن شهد معه إذا لم تتم شهادتهم، فإن جهل القاذف فجاء اليوم بشاهد أو بشاهدين، وقال: أتى ببقيتهم بعد ذلك حتى تتم أربعة مفترقين، فإنه تقبل شهادتهم، ويحد الزاني. قال محمد: لو أتى رجل إلى الإمام فقال: أشهد

أن فلانًا زنا فيرجأ إلى أن يأتي بأربعة شهداء، فإنه صار خصمًا فإن ذكر أربعة حضور أو قربت غيبتهم يوثق، وكلف أن يبعث إليهم، وإن ادعى بينة بعيدة حد، ثم إن جاء بهم حبطت عنه جرحة القذف. مسألة الزوايا هي مسألة مشهورة عند الخلافين وهي: إذا شهد أربعة على رجل أنه زنا في بيت وكل واحد من الشهود يقول: إنه رآه في زاوية غير الزاوية التي يقول الآخر مع اتفاق المجلس، والجمهور على أن الحد ساقط عنه، لأنه اختلاف وتهاتر وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة بوجوب الحد وهو خروج عن المقصود في باب الحدود. وقال ابن حبيب: إذا اختلفت البينة قال بعضهم: زنا بها في غرفة، وقال بعضهم: في سفل، وقال بعضهم: في سفل، وقال بعضهم: (متكئة)، وقال بعضهم: مستقلية، وقال بعضهم: يوم كذا، وقال بعضهم: ليلة كذا بطلت الشهادة، ولا تلفيق في هذه الشهادة، وقال ابن الماجشون: إذا اختلفوا في الأيام والمواطن لفقت الشهادة ولم تبطل. فرع: هل يجوز أن أن يكون الشهود على الزنا هم الطالبون القائمون بطلب الحد أم لا؟ أجازه مطرف وابن الماجشون، وفي العتيبة: إذا تعلقوا به وأتوا به إلى السلطان، لم تجز شهادتهم وهم قذفة. فرع: إذا وصفوا فقالوا جميعًا: رأينا الفرج في الفرج كالمردود في المكحلة فهي شهادة ماضية فإن لم يصفوا فهل تصح شهادتهم أم لا؟ قولان، والصحيح أنها تصح منهم إذا كانوا علماء وإن كانوا جهلًا فلابد من الوصف. ولو وصف الزنا ثلاثة، وقال الرابع بين فخذيها حد الثلاثة حد القذف، وهل

يعاقب الرابع أم لا؟ قولان. فقيل: عليه العقوبة، وقيل: لا عقوبة عليه. وقال أشهب: عليه الحد، ولو وصف اثنان الزنا، وشهد اثنان بالخلة والملاصقة والنفس العالي، فهي شهادة غير عاملة، وهي قضية المغيرة مع أبي بكرة وأصحابه. فرع: المقر بالزنى لا تلزم مطالبته بحكاية الفعل وصفته بخلاف الشهود إلا أن يتم المقر مغفلة، أو جهل كما فعل -صلى الله عليه وسلم- مع ماعز. فرع: لو رجع واحد منهم عن الشهادة ففيه تفصيل إما أن يرجع قبل الحكم بها أو بعد الحكم بها، وقبل إقامة الحد أو بعد إقامة الحد، فإن رجعوا أو واحد منهم قبل الحكم فهم قذفة، ولا حد على المشهور عليه، وإن رجعوا بعد الحكم بها، وقبل إقامة الحد فهل يرجم المشهود عليه أو يجلد إن كان بكرًا أم لا؟ قولان لابن القاسم، (وتفرقة) لأشهب، القول الأول: أن الحد يقام ويضمن الشهود الدية في أموالهم إذا رجم، فإن كان الحد جلدًا أقيم وعوقب الشهود الدية في أموالهم إذا رجم، فإن كان الحد جلدًا أقيم وعوقب الشهود إلا أن يعذرا في الرجوع، وهذا بناء على أنه حكم مضى، فلا ينقض، والقول الثاني: لابن القاسم: أنه لا يحد؛ أي لا يجلد ولا يرجم لأن رجوعهم شبهة يدرأ بها الحد. وقال أشهب: يقام عليه الحد الأدنى التغريب إذا كان بكرًا، ولا يرجم) إن كان ثيبًا، وكذلك لا يقطع في السرقة ولا يغرم الدية فيما يكون فيه القصاص فأمضى في هذا القول الحد الأدنى دون الحد الأعلى، وهذا ضعيف لأن طريقها الشهادة، وقد بطلت بالرجوع عنها، ولا فرق بين جلد أو رجم، فإن رجعوا بعد إقامة الحد لم يكن رجوعًا، واختلف الرواية فيما يلزمهم، فقال: ابن القاسم: يضمنون الدية

في العمد والخطأ. وقال أشهب: إن أقروا بتعمد الكذب قتلوا لأنهم قتلوا عمدًا بشهادتهم فهو قصاص متعين، وإذا كان الحد ضربًا فاعترفوا بالزور فهل يضرب كل واحد (من) الأربعة جميع الحد الذي أقيم على المشهود عليه، أو يتوزع جميعه على الأربعة فيضرب كل واحد منهم خمسة وعشرون سوطًا قولان. وههنا (فرعان): الأول: إذا كان الشهود على الزنا خمسة فرجع واحد منهم، فهل يحد الراجع أم لا؟ قولان، والصواب: أن يحد لأنه قاذف، فإن رجع بعد الحكم وإقامة الحد فلا شيء عليه من الدية، لأن الحكم مستقل دون شهادته، فإن كانوا أربعة ورجع واحد منهم بعد الحد فاختلف في قدر ما يغرمه من الدية هل ربعها أو جميعها بناء على ما ذكرناه من توزيع الحد، فإن كان واحد من الأربعة مسخوطًا، وعلم ذلك بعد الرجم فهل يمضي الحكم أو ينقض قولان: قال ابن القاسم: ينقض الحكم، وعلى الثلاثة دية المرجوم، وقال عبد الملك وأشهب: يمضي الحكم ولا ينقض، وكذلك (العبد) والنصراني والمولى عليه وولد الزنا، لأن هؤلاء ليسوا من (أهل الشهادة). قال ابن القاسم: إن تبين بعد الرجم أن (أحد) الشهود (عبد) فهو من خطأ الإمام والدية على عاقلته، وإن علم الشهود الذين شهدوا معه أنه عبد فالدية عليهم، ولا شيء على العبد. قال ابن سحنون: وقيل: لا شيء على الإمام إلا أن

يعلموه أنه عبد، وأن شهادتهم لا تجوز فعليه الدية، لأن النظر في البينة والكشف عنها إلى الإمام. وقال أبو مصعب: إذا علم العبد وحده أن شهادته لا تجوز، ولم تعلم البينة بذلك فالدية عليهم أرباعًا. فرع: تجوز الشهادة على الشهادة في الزنا، وهل يشترط في شهود النقل أن يكونوا أربعة على كل واحد أو يكتفي بشهادة اثنين على كل واحد فيه قولان في المذهب، والصحيح أن النقل فرع عن الأصل فيلزم فيه ما يلزم في الأصل. ثم ذكر أن ظهور الحمل أحد الأسباب الثلاثة التي بها يثبت الزنا، وقد قدمنا الخلاف فيه. قوله: " (ويقام) الحد على المشهور عليه (حين تتم الشهادة عليه) تاب أو لم يتب": "وهذا تنبيه على مذهب الشافعي القائل بأنه إذا تاب سقط الحد عنه اعتمادًا على قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ماعز حين ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فراره حين مسته الحجارة وقال: فهلا تركتموه) قال أبو داود: (لعله أن يتوب الله عليه). ثم ذكر تأخير الجلد للعوارض الموجبة له وهي ثلاثة: المرض، والحمل، والزمان وقد تقدم.

قال القاضي -رحمه الله-: "ولا حد على الزاني بجارية ابنه" إلى آخر الباب. شرح: ثبت في الشريعة درء الحدود بالشبهات، ولذلك قلنا: لا يحد الوالد إذا زنى بأمة ابنه لأن له فيها شبهة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أنت ومالك لأبيك) فللأب شبهة في مال ابنه شرعًا ويحد الابن إذا زنا بأمة والده، إذ له أن يتزوج أمه أبيه، وليس للأب أن يتزوج أمة ابنه، وكذلك إذا وطئ جارية له فيها (شرك) لاختلاط ملكه بملك شريكه، ويلحق به الولد لشبهة الملك، ولو يختلف قول مالك أنها إن حملت (منه) قوم عليه نصيب شريكه، فإن لم تحمل فهل يقوم عليه نصيب الشريك أم لا؟ قولان عندنا أحدهما: أن سقوط الحد عنه مؤذن بتمليك نصيب الشريك بالتقويم تخفيفًا لوقوع الشبهة فيجب التقويم على حال، والثاني: أنه لا يقوم اعتبارًا بإباحة غيره، وكذلك إذا وجد امرأة على فراشه فظن أنها زوجته فوطئها فلا حد عليه عندنا خلافًا لأبي حنيفة، فإنه أوجب عليه الحد في ليلة (الزفاف) خاصة. ثم ذكر استكراه امرأة على الزنا، وصور فيه أربع صور: الصورة الأولى: أن يستكره حرة فعليه الحد لا عليها، وعليه صداق المثل من باب قيم المتلفات خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: لا شيء عليه سوى الحد، فإن كان المستكره عبدًا فهو جان وسيده بالخيار بين أن يسلمه في جنايته أو يفيده بصداق المثل. الصورة الثانية: أن يكون أمة فعليه ما نقصه الوطء لأنها مال.

الصورة الثالثة: أن يكون النصراني حرة مسلمة فهو نقض عهد، فيقتل، وينبغي أن تجب عليه قيمة البضع، لأنه من باب (المتلفات) والغرامات. الصورة الرابعة: أن يكره نصراني أمة مسلمة فلعيه ما نقص من قيمتها، ولا يقتل لأنها جناية على مال، فلا يكون ناقضًا للعهد بالجناية على المال على الأصح. ثم ذكر أن للسيد إقامة الحد على رقيقه إذا زنى أو شرب خمرًا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أقيموا الحدود على أرقائكم) ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) وليس له إقامة حد السرقة عليه، لأنه مثله فيصير ذريعة إلى نفي (العتق) المثلة وحكي الشيخ أبو الحسن عن المذهب أن للسيد إقامة الحد على عبده إن كان جلدًا، ولا يقيم عليه حد السرقة ولا القتل ولا القصاص ولا الحرابة فإن فعل وأقام البينة على صحة ذلك لم يكن عليه شيء، وإلا عتق عليه بالمثلة. وقال أبو حنيفة: إقامة الحدود إلى الإمام لا للسيد. فإذا بينا على المذهب فكانت أمة ذات زوج حر أو عبد لغيره فليس له إقامة الحد عليها، لأن ذلك إبطال لمنفعة الزوج وفراشه، وعليه أن يرفع إلى الإمام

فرع: إذا قلنا بأن له إقامة الحدود فهل يكتفي بعلمه ذلك ويقوم مقام الإقرار أو لابد من الشهادة قولان. وفي الموطأ أن عبد الله بن عمر بعث عبدًا له قد سرق هو أبق إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده، فأبى سعيد أنه يقطع يده وقال: لا يقطع الآبق إذا سرق، فقال له عبد الله بن عمر: في أي كتاب وجدت هذا؟ ثم أمر به عبد الله بن عمر فقطعت يده. قوله: "وينبغي للإمام إحضار طائفة من المؤمنين الحد" وهذا كما ذكره لقوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) قال ابن القاسم: ويحضر السيد لجلد عبده أربعة نفر عدول، لأن العبد قد يعتق يومًا ما فيشهد بين الناس فيخير من شهد عليه بما ترد به شهادته، فإن كانوا ثلاثة والسيد رابعهم لم يحده، وليرفع إلى الإمام. وقال عطاء وغيره: الطائفة اثنان، وقيل: ثلاثة، وعن ابن عباس: (هي أربعة إلى أربعين رجلًا من المؤمنين)، قال الحسن: عشرة، وقال مجاهد: الواحد فما فوق، واختار الزمخشري أنها الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي صفة غالبة كأنه الجماعة المحافة حول (الشيء) ثم ذكر

حكم اللواط، وقد انعقد إجماع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على تحريمه، وقال الله سبحانه: {لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها} الآية [الأعراف: 80]. وقال: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة} [الإسراء: 32] فدل على أن اللواط أشد من الزنا، لأنهم أتوا ما لم يأت أحد ممن سبقهم بها ولأنه إتيان من لا يستباح بوجه خلاف الزنا فإن المرأة تستباح بالنكاح. واختلفوا في مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في الحد الواجب فيه بناء على أنه هل يسمى في اللغة زنى أم لا؟ ومبنى المسألة على القياس في اللغة، والأصح امتناعه، ومذاهب الفقه فيه ثلاثة أقوال، فقال قوم: حكمه الرجم مطلقًا أحصنا أم لا؟ اعتمادًا على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اقتلوا الفاعل والمفعول به). قال مالك: لم نزل نسمع من العلماء أنهم يرجمان أحصنا أم لا. قال ربيعة: الرجم عقوبة أنزلها الله سبحانه بقوم لوط، وبذلك حكم أبو بكر الصديق وكتب به إلى خالد بن الوليد بعد مشاورة خير القرون وكان أشدهم فيه علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وقال الشافعي: هو كالزنا فيفرق بين الثيب والبكر، وقال أبو حنيفة: ليس فيه حد، وإنما فيه التعزير، وصح عن أبي بكر الصديق أنه كتب أن يحرقوا بالنار، وفعل ذلك ابن الزبير وهشان بن عبد الملك. قال ابن حبيب: فمن أخذ بهذا لم يخطئ، والرجم هو الذي جاء

عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال ابن شهاب ومالك: عليه العمل. المسألة الثانية: إذا كانا عبدين رجما أيضًا. وقال أشهب: يجلد العبدان خمسين خمسين، ويؤدب الكافران. المسألة الثالثة: إذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها فحكم ذلك حكم الزنا رجم المحصن وجلد البكر وتغريبه؛ قال ابن المواز، ورواه ابن حبيب عن ابن الماجشون، وقال القاضي أبو الحسن بن القصار حكم ذلك حكم اللواط (يرجمان) مطلقًا. المسألة الرابعة: الشهادة على اللواط كالشهادة على الزنا، وقال أبو حنيفة: (بشهادة) شاهدين. المسألة الخامسة: اختلفوا في المرأتين تتساحقان، ففي العتيبة عن ابن القاسم ليس في ذلك حد وهو اجتهاد الإمام. قال ابن شهاب: سمعت رجلًا من أهل العلم يقولون تجلدان مائة. وقال أصبغ: تجلدان (خمسين خمسين) ونبه القاضي على خلاف الشافعي في حده، وخلاف أبي حنيفة في طريق توبته. وأما واطئ البهيمة فعليه الأدب الاجتهادي. وقال ابن شعبان: يحد، ولا يقتل هو ولا البهيمة خلافًا لمن قال به استنادًا

لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها) وهو منكر الإسناد. فروع تتعلق بهذا الباب: المسألة الأولى: هل يحفر للمرجوم أم لا؟ قال مالك: لا يحفر للمرجوم مطلقًا، وما سمعت أحدًا ممن مضى يوجب ذلك. وقال ابن وهب ذلك للإمام، وقال أصبغ: أحب إلي أن يحفر له، وقال بعض الأشياخ: لا يحفر للمقر، لأنه إن هرب ترك، ويحفر للمشهود عليه لأنه إن هرب لم يترك. حكاه الإمام أبو عبد الله وغيره عن ابن شعبان، وقال الشافعي: يحفر للمرأة، والدليل لنا أن ماعز فر، ولو كان في حفرة لما فر وحفر -صلى الله عليه وسلم- للعامرية إلى صدرها، وفي حديث اليهوديين: فرأيت رجلًا يجنأ عليها يقيها الحجارة. قال أشهب: فإن حفر له فأحب إلي أن تخلى يداه، وكذلك لا يربط المرجوم لأنه -عليه السلام- لم يربط ماعز بنت مالك الأسلمي. المسألة الثانية: هل يرجم قاعدًا أو قائمًا الجمهور على أنهما يرجمان

قاعدين، وقال بعض أهل العلم: يقام الرجل، لأنه أبلغ في الألم الرادع. المسألة الثالثة: قال مالك: يسأل الإمام الزاني هل هو بكر أو ثيب ويقبل قوله أنه بكر إلا أن تقوم البينة أنه ثيب، وقيل: لا يسأله حتى يكشف عنه، فإن وجد من ذلك علمًا وإلا سأله وقبل قوله دون يمين. قال ابن المواز: وهذا أحب إلينا. المسألة الرابعة: الضرب في الحدود كلها سواء بسوط بين سوطين اعتمادًا على أنه الثابت عملًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو حنيفة: الضرب في الزنا أشد منه في القذف وشرب الخمر، ويجرد الرجل في الحدود كلها. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يرد في القذف، ولا تجرد المرأة وليترك عليها ما يسترها، فلا يقيها الضرب والجلد في الظهر وما يقربه، ولا يعرف مالك الإعطاء، ويكون الجلاد عدلًا، ولا يضع سوطًا فوق سوط. قال ابن شعبان: يعطى كل عضو حقه من الضرب إلا الوجه والفرج. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يضرب في الأعضاء كلها إلا الوجه والرأس والفرج. المسألة الخامسة: روى ابن المواز عن ربيعة في العبد يستكره الحرة يجلد ويباع لغير أرضها لتبعد عنها معرته. مسائل تتعلق بالإكراه على الزنا، فقد تقرر أن المرأة إذا أكرهت فلا حد عليها، والد على الواطئ المكره، فإن كانت هي المكرهة للرجل حدث، وهل عليه حد أم لا؟ قولان في المذهب؛ حكاهما الشيخ أبو الحسن وغيره، فإن أكرها جميعًا فلا حد على المرأة، واختلف في الرجل هل يحد أم لا؟ قولان عندنا مبنيان على الإكراه، هل يتحقق في حق الرجل

وهو الظاهر أم لا؟ لأنه لا ينعظ إلا مريدًا ملتذًا فإنه ضرب من الاختيار؛ قاله الشيخ أبو الحسن، وفيه نظر لأنه من لوازم الطبع البشري فليس داخلًا تحت الاختيار. فرع: إذا أكره على الزنا ففعله مكرهًا سقط عنه الحد، ووجب عليه صداق المثل، وانظر هل يرتفع بالإكراه الحكم فيما بينه وبين الله أم لا؟ الظاهر ارتفاعه لانتفاء الاختيار فهو غير فاعل حقيقة لسلب الاختيار. وحكى الشيخ أبو الحسن اللخمي نصًا أنه إثم وإن أكره لأنه لم يكن له أن يفعل، وإن هدد بالقتل، وهذا فيه نظر، إذ لا معنى للإكراه حينئذ. مسألة: اختلفت الرواية في مَن قرب إسلامه فزنى، وزعم أنه لم يعلم بتحريم الزنا فقال في «المدونة»: يحد ولا يعذر أحد بهذا. وقال أصبغ وغيره: لا حد عليه، وكذلك إذا أسلم بدار الحرب وترك صلوات لم يعلم بفرضها، فالصحيح أنه يقضيها، وقيل: لا قضاء عليه. مسألة: إذا ثبتت الشهادة على الزنا فقال: أنا بكر صدق كما ذكرنا، لأن الأصل البكارة، فإن قال: أنا عبد فكذلك أيضًا، ويقام عليه حد العبد قال الشيخ أبو الحسن: فإن قال: أنا عبد وله زوجة لم يصدق ورجم، لأنه يتهم أن يرق نفسه لينجو من القتل، وهذا فيه نظر، فإنه إذا قبل قوله لم تكن له زوجة فينبغي أن يقبل من وجودها لتطرق الاحتمال في المحلين. مسألة: إذا شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجع جميعهم حد شهود الزنا دون شهود الإحصان. واختلف في الدية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها على الشهود بالزنا خاصة وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها على الجميع أسداسًا وهو قول أشهب وعبد الملك. والثالث: أنها مشطرة (نصفها على شهود الإحصان) ونصفها على شهود الزنا، لأن جميعهم قتلوه.

[فصل في القذف] قال القاضي -رحمه الله-: "فصل القذف موجب للحد" إلى آخره. شرح: قد تقرر في الشريعة، وعلم من دين الأمة صيانة النفوس والأعراض والفروج والأموال وتواصلت على التحفظ بها الأنبياء، واتفقت (عليه) الشرائع، وقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأعراض (ثلث الدين) في الحديث الصحيح الثابت المتفق على صحة في حجة الوداع حيث قال: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) خرجه أهل الصحيح، واتفق عليه أئمة السنة وهو مؤكد (أحكام) الكتاب وصريح الوحي في قوله سبحانه: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} الآية [النور: 4] وقال: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} الآية [النور: 23]. وانعقد الإجماع على تحريمه، وفي الصحيح إن آية القذف لما نزلت قرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فقال عاصم بن عدي الأنصاري: (جعلني الله فداك) (إن وجد رجل مع امرأته رجلًا فأخبر جلد ثمانين وردت شهادته أبدًا، وإن ضربه بالسيف قتل وإن

سكت سكت على غيظ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء، فقد قضى الرجل حاجته ومضى اللهم افتح وخرج فاستقبله هلال بن أمية، أو عويمر فقال: ما وراءك؟ فقال: شر، وجدت على بطن امرأتي خولة بنت عاصم شريك بن سحماء، فقال: هذا والله سؤال ما أسرع ما يثبت به فرجعا، فأخبر عاصم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلم خولة فقالت: لا أدري الغيرة أدركته أم بخلًا على الطعام، وكان شريك نزيلهم وقال هلال: لقد رأيته على بطنها، فنزلت آية اللعان ولا عن بينهما)، فقد تقدم معناه في كتاب اللعان، وقد ضرب عمر الذين شهدوا على المغيرة الزنا إذ لم تتم شهادتهم، واختلفت الآثار في قذفة عائشة الذين رموها بالإفك وهو: حمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، ومسطح بن ثابت، وزيد بن رفاعة، وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ومن ساعدهم هل حدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد نزول البراءة من السماء أم لا؟ وهو خلاف معلوم مشهور ذكره أهل (السير) والأخبار. وقال الإمام أبو القاسم الزمخشري في التفسير وهو من أئمة الشرع واللسان: ولقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أبي بن سلول وحسان ومسطحًا وقعد صفوان بن المعطل الذي قذف بالإفك بعائشة لحسان فضربه ضربة بالسيف فكف بصره وقيل: إنه المراد بقوله: {والذي تولى كبره} [النور: 11] والصحيح أنه عبد الله بن أبي سلول. قال أصبغ: وقد جلد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين خاضوا في أمر عائشة كل واحد منهم حدًا واحدًا، ولو كان على ما قاله المخالف يجلد كل واحد منهم حدين: حد عن عائشة، وحد عن صفوان حكاه ابن يونس في جامعه، والشيخ أبو الحسن في تبصرته. واشترط القاضي أبو محمد في وجوب

الحد بالقذف تسعة شروط: اثنان في القاذف وخمسة في المقذوف، واثنان في الشيء المقذوف به، وفي هذه الشروط تدخل (جل) مسائل القذف. فأما الشرطان في القاذف: العقل والبلوغ، احترازًا من المجنون والصبي، ولا حد على القاذف المجنون الذي لا يفيق أصلًا منذ بلوغه، لأن الحد مشروع لرفع المعرة، ولا تتعلق بالمجنون، فإن أفاق أحيانًا فإن قاذفه يحد وكذلك يحد هو في نفسه إذا كان قاذفًا أو مقذوفًا، وكذلك الصبية التي لم تبلغ ولا تطيق الوطء لا حد عليه سواء كان قاذفًا أو مقذوفًا، وكذلك الصبية التي لم تبلغ ولا تطيق الوطء لا حد على قاذفها، فإن كانت ممن تطيق الوطء ولم تبلغ المحيط فهل يحد قاذفها، لأنها مثلها يوطأ أم لا حد عليه. قولان. المشهور عن مالك أن قاذفه يحد إذا كان مثلها يوطأ، وإن لم تبلغ لأن ذلك عار يلحقها ويرغب في تزويجها بخلاف الصبي، وإن كان مثله يطأ ولم يبلغ. قال ابن القاسم، وابن عبد الحكم: لا حد على قاذفه، قال محمد: ومن قال لمجنونة في حال جنونها: يا زانية فعليه الحد إلا أن تكون أصابها الجنون من صغرها إلى كبرها لم تفق، ولا حد عليه، ولا يلحقها اسم الزنا؟ قال مالك: ولا يحد الصبي والصبية في زنى أو غيره حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية، وإن تأخر حتى يبلغا سنًا لا يبلغه أحد إلا احتلم، والذي اختاره الشيخ أبو الحسن اللخمي في الجارية يوطأ مثلها، وإن لم تبلغ المحيض أن يحد قاذفها، لأن المعرة تتعلق بها بخلاف الصبي كما ذكرناه، ولا حد عليها حينئذ إن قذفت غيرها، ولم يعتبر الشافعي وأبو حنيفة إطاقة الوطء، وإنما (اعتبرا) المحيض، فلا حد عندهما على من قذف الصبية المطيقة للوطء غير البالغ

وهو نحو ما رواه ابن الجهم وابن عبد الحكم، والمعتمد عليه من المذهب ما ذكرناه، وإنما اشترطنا الإسلام لأن عرض الكافر منهوك لا حرمة له شرعًا، وإن كان الفاسق المسلم لم يحد قاذفه وهو أعظم حرمة من الكافر، فالكافر أولى، وإنما شرطنا الحرية (بناء) على ما ذهب إليه مالك وجمهور أهل العلم خلافًا لمن أوجب الحد على قاذف العبد. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لأن حرمته ناقصة بالرق الذي هو من آثار الكفر، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من قذف مملوكه وهو بريء جلده يوم القيامة) ولم يتعرض -صلى الله عليه وسلم- لوجوب الحد عليه في الدنيا. وهاهنا فروع: إذا قذف كبيرًا بما كان منه في حال صغره أو رقه هل يحد اعتبارًا بالحال أم لا؟ اعتبارًا بزمان الكفر والصغر والرق فيه ثلاثة أقوال في المذهب، المشهور أنه يحد سواء أثبتت ما قاله أم لا وهو قول ابن القاسم، والثاني: أنه لا يحد إلا أن يقول ذلك في مشاتمه فيحد إلا أن يثبت ذلك بالبينة. وقال عبد الملك: إن أثبت ذلك لم يحد، وإلا فعليه الحد، وقول ابن القاسم: أن عليه الحد، وإن ثبت ذلك ضعيف في القياس (لأن إثبات ذلك بالشهادة يرفع عنه حكم القذف). الفرع الثاني: يجلد القاذف ثمانين إن كان المقذوف حرًا مسلمًا، كان القاذف مسلمًا، أو كافرًا كتابيًا إذ المقصود انتهاك حرمة المسلم، واختلفت الرواية عن مالك في الحربي إذا قذف مسلمًا فقال ابن القاسم: يحد، وقال أشهب: لا حد (عليه)، والأول أصوب، لأن المقصود حفظ حرمة المسلم.

الفرع الثالث: إذا قال لها زنيت وأنت مستكرهة لم يحد عند ابن القاسم، وقال محمد سحنون: يحد لأنه يريد التعريض. الفرع الرابع: إذا قال لمن هو مجنون يفيق أحياناً زنيت وأنت مجنون فعلى قول ابن القاسم: يحد، أثبت ذلك أم لا؟ وعلى قول عبد الملك: لا حد عليه إذا أثبت ذلك، وعلى قول أشهب: إن قاله في حال المشاتمة حد إلا أن يثبت ذلك، وإن قاله في غير المشاتمة فلا حد عليه (فرعه تخريجاً) الشيخ أبو حسن اللخمي. الفرع الخامس: إذا مات عن عبد موصى بعتقه فقذف قبل النظر في الوصية فهل يحد قاذفه أم لا، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحد اعتبارًا بحكم المئال في حريته. والثاني: أنه لا يحد حتى يحكم بعتقه. والثالث: التفرقة بين أن يكون مال الميت مأمونًا فيحد قاذفه، لأنه (في حكم) الحر المحقق، أو غير مأمون فلا حد على قاذفه إلا بعد الحكم بعتقه، وهذا إذا قال لعبده: (إذا مت) فأنت حر (فإن قال: أعتقوا عبدي) بعد موتي فقذفه رجل فلا حد على قاذفه قولًا واحدًا حكاه الإمام أبو عبد الله لأن عتقه إنما يتحقق بعد عتق الورثة أو الموصى به، بخلاف أن يقول: إذا مت فأنت حر هذا أقرب إلى العتق المحقق، لأنه من باب الشرط والمشروط. الفرع السادس: إذا مات الحر عن أمة حاملة منه فقذفها هل يحد أم لا؟ قولان. قال محمد: لا حد عليه حتى تضع لإمكان أن يكون ريحًا ينفش وقال غيره: عليه الحد إذا كان حملها ظاهرًا بناء على الأغلب. الفرع السابع: لا يجب الحد إلا أن يكون المقذوف متمكنًا من الوطء، لأن المجبوب ومن جرى مجراه لا يتأتى منه الوطء فلم تلحقه معرة بالقذف كالصبي والحصور والمحبوب، وأما العنين فيحد قاذفه لأنه قد ذكره. قال الشيخ أبو الحسن: المجبوب جب قبل بلوغه لا حد على قاذفه الذي إذ

لا معرة تلحقه، فإن جب بعد بلوغه حد قاذفه. ضابط كلي: ثمانية لا حد على قاذفهم: الصبي، والمجنون الذي لا يفيق، والعبد والكافر والزاني والحصور الذي لا آلة له، والمجبوب والصغيرة التي لا تطيق الوطء. وأما الشرط الخامس: وهو عفة المقذوف فلأنه مقتضى النص لأن الله سبحانه قال: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} والإحصان وإن كان مشركًا فالمراد به العفاف، والآية وإن كانت خاصة السبب لأنها نزلت في شأن عائشة فهي عامة إلى يوم القيامة. قال الزمخشري: "الغافلات" السليمات النفوس النقيات القلوب اللائي ليس فيهن دهاء ولا مكر، لأنهن لم يختبرن الأمور ولم يريد قط الأحوال فلا يفطن لم تفطن له المجربات العارفات. وأنشد: بلهاء تطلعني على أسرارها ... ولقد لهوت بطفلة ميالة وكذلك البله من الرجال لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أكثر أهل الجنة البله) وههنا سؤال يتعلق بالآية، وذلك إذا كان المراد بالآية عائشة فكيف قيل المحصنات بصيغة الجمع، وأجاب عنه أئمتنا بوجهين: أحدهما: أن المراد بهن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فعظم الله شأنهن، وأثبت هذا الوعيد العظيم لقاذفهن. والثاني: المراد به عائشة وبناتها إلى يوم القيامة، لأنها أم المؤمنين، ولقد غلظ الله سبحانه في حديث عائشة وأنزل من القوارع المشحونة ما أنزل على طرق مختلفة وأسباب (متباينة) كل واحد منها كاف في بابه ولو لم ينزل فيها إلا هذه الآية التي كلها على مقتضاها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعًا وتوعدهم بالعذاب العظيم، وأخبر بأن ألسنتهم وأيديهم

وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذين هم أهله ومستحقوه حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين. وعن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة وكان يسأل عن تفسير القرآن حتى سئل عن هذه الآية (المنزلة) في شأن عائشة -رضي الله عنها-، فقال: من أذنب ذنبًا فتاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذا منه مبالغة وتعظيمًا لأمر الإفك. قوله: "وأما ما يراعى في الشيء المقذوف به فهو أن يكون المقذوف بوطء يلزم به الحد وهو الزنا واللواط" لا غير ذلك، والثاني: أن ينفى نسبة عن أبيه فإن قذفه بسرقة أو قتل أو شرب خمر، فعليه التعزيز دون الحد. واستنبط العلماء ذلك من مسلكين: أحدهما: الإجماع. والثاني: أن الله سبحانه شرط في تخلصه من القذف، أن يأتي بأربعة شهداء ولم يعلم في الشريعة اشتراط هذا العدد إلا في الزنا واللواط، ولو رماه بالوطء فيما دون الفرج، فقال ابن القاسم: يحد لأن ذلك من التعريض، وقال أشهب: لا حد عليه حكاها القاضي أبو محمد. ثم اللفظ الصادر من القاذف إما أن يكون نصًا في القذف أم لا؟ فإن كان نصًا ترتب الحد بلا خلاف وإن كان من باب دلالة الفحو أو التعريض (فسيجيء) حكم التعريض (ونحن نتبع فروع هذا الأصل فنقول: إن صرح بالقذف أو عرض به حد كما سنذكره في التعريض) فإن كان اللفظ محتملًا عوقب بعد أن يحلف أنه ما أراد قذفًا، فإن نكل في هذه الصورة عن اليمين

فهل يحد أم لا بناء على أنه هل هو كالمال (فيحد أو) بخلاف المال فلا يحد قولان في المذهب؛ حكاها الشيخ أبو الحسن وغيره، وإن شتمه بما لا يحتمل القذف عوقب أيضًا لأنه من باب الضرر والأداء للمسلم هذا في الأجنبي (وسيجيء) حكم التعريض في المحتمل. فرع: لا خلاف أنه إن قال (له): يا زان، أو رماه بالوطء فعليه حد القذفه، وإن قذفه ببهيمة أدب أدبًا وجيهًا، ولا يحد، إذ لا يحد من أتى بهيمة وكل ما لا يقام فيه الحد فليس على من رمى رجلًا بذلك حد الفرية. فرع: إذا قال له: يا زان، وعلم المقذوف من نفسه ذلك كان له أن يطلب حده، ويقوم به، لأن الله سبحانه أمر بالستر. فرع: لو قال له: يا مخنث، فرفعه إلى الإمام حلف أنه لم يرد قذفه، وأدب هذا ظاهر (الرواية) عن ابن القاسم، وقال غيره: هذا إذا كان في كلامه أو في عمله أو في يديه توضيع وتأنيث وإلا حد ولم يحلف. فرع: قال أشهب: إذا قال لرجل: يا مؤاجر، فعليه الحد. وقال ابن المواز: أن لا حد عليه إلا أن يقول له: يا مؤاجر بارت إجارتك في مشاتمه، فعليه الحد، فاعتبر قرينه المشاتمة. فرع: قال يحيى بن عمر: ومن قال لزوجته وغيرها: يا قحباء فعليه الحد. فرع: قال ابن الماجشون: من قال لرجل: يا مأبون، وهو رجل في كلامه تأنيث يضرب الكبر ويلعب في الأعراس، ويغني ويتهم بذلك، فعليه الحد إلا أن يثبت ذلك عليه.

فرع: لو قال لرجل: يا قران. قال ابن القاسم في كتاب محمد بن المواز: يجلد لزوجته إن طلبته، لأنه قذفها دونه. وقال في غير كتاب ابن المواز: يحد ولم بذكر زوجته. وقال يحيى بن عمر: يجلد عشرين سوطًا ولا حد فيه، قال علي: إن قال له: يا قران (جلد) إن كانت له زوجته أو أخت أو جارية وإلا عوقب. وإن كانت له زوجتان فعفت إحداهما وقامت الأخرى، فقال: أردت التي عفت حلف أنه أرادها (ولم يحد) فإن نكل حد. فرع: ومن قال لرجل: يا أحمق، فقال: أحمقنا ابن الزانية حد. ومن قال لأعزب: يا زوج الزانية، فلا حد عليه. وإن قاله للمتزوج فعليه الحد. وإن قال له: يا فاجر بفلانة حد، إلا أنه تكون له بينة على أمر ما صنعه بها من الفجور. قال مالك: وإن قال له: يا فاسق يا فاجر، نكل. وإن قال: يا خبيث، حلف أنه لم يرد قذفًا، فإن نكل نكل ولم يحد. وقال أشهب: إن لكل حد، وقاله محمد، وابن الماجشون، وقيل: هو في النساء أشر منه في الرجال، وأشهب سوى بين المرأة والرجل، وقال: إن نكل عن اليمين حد فيها، وكذلك إن قال له: يا ابن الخبيثة والخبيث أشر من الفاسق لقوله تعالى في اللواط: {ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث} [الأنبياء: 74]. ولو قال: جامعت فلانة حرامًا حد، إلا أن يقيم البينة أنه تزوجها (تزويجًا فاسدًا ولو قال ذلك في نفسه لم يصدق، ولو قال: كنت تزوجتها) حد، إن كان مشاتمة، (ولو) قال بين (أنجادها) فهو تعريض يوجب الحد. وقال أشهب: لا حد عليه لأن عمر بن الخطاب حد زياد الذي قال: رأيته بيم فخذيها. ولو قال: زنت يدك أو عينك أو فمك، فقال ابن القاسم: عليه الحد

لأنه تعريض. وقال أشهب: لا حد عليه. وقو قال لرجل: يا محدودًا في الزنا، حد له إلا أن يثبت ذلك عليه، وإن قال: (يا شارب) الخمر، نكل ولم يحد، ومن قال لامرأته: يا زانية، فقالت له: زنيت معك. (وقال أصبغ) لكل واحد منهما حد على صاحبه (لأن كل واحد منهما قذف صاحبه). قال ابن القاسم: تحد المرأة للقذف، والزنا إلا أن ترجع على الزنا ولا حد عليه في قذفها لأنها صدقته. قال أشهب لها أن تقول: إنما قلت ذلك على وجه المجازية ولم أرد قذفًا ولا إقرارًا فالحد (على الرجل) للقذف ولا حد عليها. ولو قال لرجل: يا زان، فقال له: أنت أزنى مني، فعليهما الحد. وإن قال له: يا ابن الزانية، فقال له: لعن الله ابن الزانية. فقال أصبغ: هو تعريض يحد له. وقال ابن القاسم: يحلف الثاني ما أراد قذفًا ولا حد عليه، فإن نكل سحن، وقيل: يحد إن نكل، ولو قال لجماعة: من ركب منكم دابتي أو لبس ثوبي فهو ابن لزانية، فإن كان قد يفعل ذلك أحدهم حد له (وإن أراد) من يفعل ذلك في المستقبل ففعله أحدهم فلا حد عليه وهو شتم، وكذلك كل ما لا يجوز فعله إلا بإذنه، فأما الأمر العام مثل: أن يقول: كل من دخل المسجد أو الحمام فهو زان فعليه الحد دخل (أحد) أم لا؟ أراد الماضي أو المستقبل أم لا؟ فإنه يحد ساعتين ولو طلب بحق حجده فقال له الطالب: فلان وفلان يشهدان عليك، فقال: من يشهد علي منهما فهو ابن الزانية، فشهدوا عليه أو أحدهما فعليه الحد، ولو قيل له: ذكر عنك أنك فعلت كذا وكذا فقال: من ذكر (ذلك) عني فهو ابن الزانية فعليه الحد، ولو ذكر شيئًا

سوى الفاحشة نكل بقدر المقول فيه والقائل: (فمن عرف منه الأدنى زيد في عقوبته سيما إن قال ذلك لرجل فاضل، فإن كان القائل) من أماثل الناس وكانت منه فلتة كانت عقوبته أخف. قال مالك: "يتجافى السلطان عن ذي المروءة. قال مالك في كتاب محمد، ومن قذف رجلًا بالزنى فجاء باثنين يشهدان أن القاضي ضرب هذا المقذوف في الزنى بشهادة أربعة، قال: (لا يتجافى) ذلك القاذف، ويحد هو الشهود إذا كانوا أقل من أربعة، وفي هذا نظر لأنهما لم يقولا له: يا زان، إنما شهدا على حكم، فالظاهر على أن لا حد عليهما، وفي وجوب الحد بعد شهادتهما على القاذف نظر لصحة سقوطه عنه لقيام الشهادة. قال مالك: ومن قال لرجل: يا شارب الخمر، أو يا خائن، أو يا آكل الربا، أو يا حمار، أو يا ابن الحمار، أو يا ثور، أو يا خنزير، فعليه النكال. وقال أشهب: إذا قال له: يا حمار، فعليه الحد. حكاه الشيخ أبو الوليد. فأما الشرط الثاني في الشيء المقذوف به وهو نفى نسب المقذوف عن أبيه فقط، وهو أيضًا موجب للحد بلا خلاف، وذلك لأن فيه معرة على المقذوف، وعلى أبويه، وقيد بالأب فقط تحرزًا من الأم، لأنه لو نفاه عن (أبيه حد ولو نفاه عن) أمه لم يحد لأن لحوقه بأمه مشاهد (ظاهر) إذا الولادة مما يدرك بالعيان، وتقوم عليها الشهادة القاطعة فنافيه عن أمه كاذب ولا يلحقه بالكذب في ذلك معرفة بخلاف أن ينفيه عن أبيه، لأن لحوق نسبه بأبيه حكم لا حسي فنافي النسب عن أبيه لا يعلم صدقه من كذبه فيلحق المقذوف بذلك معرة، ونافي نسبه عن أمه يعلم كذبه، إذ الولادة- كما ذكرنا- تدرك بالعيان هذا الذي اعتمد عليه علماؤنا في الفرق بين (نفي النسب

عن أبيه، او أمه)، قال بعض العلماء: إنه مقتضى قوله تعالى: {ادعوهم لإبائهم هو أقسط عن الله} الآية [الأحزاب: 5]. قال الإمام أبو عبد الله: اختلف في الوجه الذي يوجب الحد على قاطع النسب فقال: لأن الأم زنت به وألحقته بهذا الأب، وقيل: لأن الأب زنى مع غير هذه الذي تقول: إنها ولدته، وقيل: لأن ذلك زنى من غير هذين وإنما أتت به ولم تلده. فرع: إذا قطع نسب رجل (حد) مسلم حد له كان أبوه حرًا، أو عبدًا كافرًا، أو مسلمًا، لا اعتبار في ذلك بالولد دون الأبوين للحوق المعرة به. الضابط الكلي في هذا أنهم- أعني الولد والأبوين- إما أن يكونوا كلهم أحرارًا أو كلهم مماليك، أو بعضهم، وبعضهم، فإن كانوا كلهم مماليك أو كفارًا- فلا حد- على القاذف كما لو قذفهم بالزنا أو باللواط، وإن كانوا كلهم أحرارًا فلا إشكال في وجوب الحد، وإن كان الولد مسلمًا حرًا وجب الحد من غير اعتبار بحال الأبوين، وإن كان الأبوان حرين مسلمين دون الابن حد لقذف الأم، وإن عفت فلا مقال للأب، ولا للابن كالأب، وإن كانت الأم وحدها حرة حد بقذفها، ولها العفو وهو أبين لمن نأمله. فرع: إذا قال لرجل: ما لك أصل ولا فصل. ففي العتبية قال مالك: لا حد فيها، لأنه نفى الشرف. وقال أصبغ: عليه الحد ورآه نفيًا للنسب وقيل: إن كان من العرب ففيه الحد وإلا فلا. فرع: لو قال له: يا ابن منزلة الركبان، ففي الواضحة أنه يحد. وكذلك لو قال: يا ابن ذات الراية، لأن المرأة في الجاهلية كانت تنزل الركبان وتجعل على بابها راية، وذلك فعل (البغاة).

فرع: إذا نفى مجهولًا عن نسبه لم يحد إذ لا يثبت للمجهولين ما ادعوه من الأنساب. رواه محمد بن المواز. فرع: لو قال في جماعة: أحدكم زان، لم يحد، إذ لم يعرف (من أراد)، وإن قال به جميعهم فقد قيل: لا حد عليه. حكاه الباجي، إذ لم تتعلق المعرة بواحد معين وهو الظاهر. فرع: إذا قال لابن أمة أو كتابية: يا ابن الزانية، فلا حد عليه لأنه قذف لأمه. لو قال له: يا ابن الزانية، ففيه الحد لأنه قطع لنسبه، حكاه القاضي أبو محمد. فرع: إذا قال: يا منبوذ، فعليه الحد، لأنه عرض بنفي نسبه. فرع: إذا قال لرجل: لا أبا لك. ففي الموازية عن مالك: "لا شيء عليه إلا أن يريد النفي (لأنه مما يقوله الناس في حال الرضا، قال غيره: إن قاله على وجه المشاتمة والغضب فهو أشد فيحلف أنه ما أراد النفي)، فإن حلف خلي وإن نكل نكل". فرع: لو قال له: أنت ابن فلان ونسبه إلى عمه أو خاله، أو زوج أمه حد. وقال أشهب: لا حد عليه إلا أن يكون في مشاتمة وهذا صواب، لأن العم قد يسمى أبًا قال الله العظيم: {نعبد إلهك وإله ءآبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] فجعل العم أبًا.

فرع: لو قال له: يا ابن اليهودي أو النصراني أو الأقطع أو الخياط، حد، إلا أن يكون (ذلك) في آبائه. قال مالك: إلا أن يكون من العرب أو من الموالي. وقال ابن وهب عن مالك: أنه يحد له إن قاله لعربي أو مولى، ولو قال له: يا ابن زينب وليس في امهاته من اسمها زينب حد له، لأنه قذف أباه وحمله على غيره أمه. ولو قال لولد قرشبة: يا ابن البريرية فلا شيء عليه، إذ ليس في الأم نفي. وقال مطرف: (يحد) لأنه حمل أباه على غير أمه، ومن نسب رجلًا إلى غير أبيه أو جده فعليه الحد، وإن لم يكن على وجه المشاتمة. وقال أشهب: لا يحد إلا أن يقوله على وجه المشاتمة ولو نسبة إلى جده في مشاتمة لم يحد، لأن الجد أب. وقال أشهب: يحد إذا اتهم الجد بأمه. وفروع هذا الباب كثيرة ولم يتعرض القاضي لنفي رجل من ولائه. ونص في المعونة وغيرها على أنه إذا نفى رجل من ولائه فهو كنفيه إياه من نسبه لقوله -عليه السلام-: (الولاء لحمة كلحمة النسب) فإذا وجب الحد في نفي النسب، وجب في (نفي) الولاء. وقال بعض شيوخنا: هذا فيه نظر، ويجب أن لا يثبت الحد في نفي الولاء لأنه معلوم بالعتاقة، وهي ثابتة بالحس كما في ولد الأم عن أمه (ولعل الذي عدل) عليه القاضي بأن العتاقة وإن كانت معلومة بالمشاهدة فهو متوقفة على ثبوت الملك وهو مما يثبت حكمًا لا مشاهدة.

قوله: "ويلزم (الحد) بالتعريض الذي يفهم منه القذف" وهذا كما ذكره وهو صريح مذهب مالك، وخالفه فيه الشافعي وأبو حنيفة قالا: لا حد في التعريض، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك إجماع أهل اللسان العربي على أن التعريض يقوم مقام الصريح وضعًا، وقد جلد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من الخلفاء في التعريض، وقد قال تعالى في التعريض حاكيًا من قوم شعيب: {إنك لأنت الحليم الرشيد} [هود: 87]. وإذا كان التعريض في (عرف) اللغة ومعهود التخاطب يقوم مقام التصريح وجب الحد به. قال بعض علماؤنا: لا عذر للشافعي في إسقاط الحد في التعريض، لأنه عربي فصيح ثابت القدم في علم اللسان، فرب تعريض وإبهام أفصح من صريح الكلام. وإذا أجرينا التعريض مجرى التصريح كان ذلك عامًا في كل معرض. وروى عن مالك أنه لا يحد الأب في التعريض إلا أن يصرح، لأن عند الأب من الشفقة وصلة النسب ما ليس عند الأجنبي. وروى الأصبغ عن مالك أنه لا يجلد الأب إذا قذف ابنه (لا في تعريض ولا في صريح، والمعتمد عليه من مذهب مالك وأصحابه أن الأب يجلد لقذف ابنه) إذا طلب ابنه في التصريح، وفي التعريض خلاف وتسقط عدالة الابن بذلك إذا طلبه لقوله تعالى: {فلا تقل لهمآ أفٍ} [الإسراء: 23]. ورواه ابن المواز عن مالك. وكذلك اختلف المذهب في التعريض من الزوج هل هو كالتعريض من الأجنبي أم لا؟ وفيه قولان عندنا. قال ابن الماجشون: من قال في المشاتمة إنك لعفيف الفرج حد، قال ابن القاسم ولو قال فعلت بفلانة في أعكافها، أو

بين فخذيها حد، لأنه تعريض وقال أشهب: لا يحد ومن قال لرجل يا بن العفيفة، قال ابن وهب: بلغني عن مالك أنه يحلف ما أراد القذف، ويعاقب، وقال أصبغ إن قاله على وجه المشاتمة حد، وههنا مسائل تتعلق بالعفو عن الحد في الصريح والتعريض والمعتمد عليه من القول في ذلك أن قول مالك قد اختلف في حد القذف هل حق الله تعالى، وبه قال أبو حنيفة، أو حق الآدمي، وبه قال الشافعي وعن مالك الروايتان المشهور عنه أنه حق الآدمي، فكان الواجب على مقتضاه (جواز) العفو عنه بلغ الإمام أم لم يبلغ على مقتضى القول (الآخر) أنه حق الله فالعفو (عنه) غير جائز أيضًا بلغ أم لا؟ إلا أن المشهور عنه أن إن بلغ الإمام لم يجز العفو إلا أن يريد المقذوف سترًا على نفسه، وإن لم يبلغ جاز العفو مطلقًا، قال الشيخ أبو الوليد في منتقاه: "اختلف قول مالك في غير الأب. ففي المدونة: كان مالك يجيز العفو بعد أن بلغ الإمام، قال في كتاب ابن المواز وإن لم يرد سترًا قال: ثم رجع مالك فلم يجزه بعد البلوغ، إلا أن يريد سترًا، وأما قبل البلوغ فالعفو جائز. رواه ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم، وقول أشهب: ليس بلازم، وله القيام به متى شاء إلا أن يريد سترًا. قال مالك: مثل أن يكون قد ضرب الحد قديمًا فيخاف أن يظهر ذلك عليه. قال أصبغ: إن عفا وقال: أردت سترًا لم يقبل منه بعد البلوغ، ويكشف الإمام عن ذلك، فإن خاف الإمام أن يثبت ذلك أجاز عفوه. وقال ابن الماجشون: يقبل قوله: إن قال: أردت سترًا ولا يكشف الإمام عن ذلك. فرع: قال الشيخ أبو إسحاق التونسي في تعليقاته وإذا بلغ الإمام أو

الشرط أو الحرس لم يجز العفو فيه، لا فانظر كيف أنزل الشرط، والحرس منزلة الإمام، وكذلك حكاه القاضي أبو الوليد. فرع: إذا عفا عنه، ثم قام فليس له ذلك عند ابن القاسم، وذلك له عند أشهب بناء على أنه حق لله سبحانه. قال الشيخ أبو إسحاق في تعليقاته: يجب على هذا أن يقوم به غير المقذوف، لأنه حق لله سبحانه. ووقع لابن القاسم إذا قذف رجل رجلًا عند الإمام بحضرة عدول أقام عليه الحد، وتأوله محمد أن ذلك بعد القيام المقذوف به، والعفو في النكال والتعزيز جائز بخلاف الحد. فرع: في العتبية عن أشهب عن مالك: لا يجوز لقاذف أن يعطي المقذوف دينارًا على أن يعفو عنه بناء على أنه حق لله سبحانه، وعلى قول مالك حق للمقذوف، فله أن يأخذ عليه كما له أن يأخذ على إسقاط الشفعة، وللمرأة أن تأخذ على إسقاط حقها من القسم ونحو ذلك. فرع: للمقذوف أن يكتب كتابًا أنه متى شاء قام بطلب الحد. قال مالك: وأنا أكرهه، وذلك إذا كان قبل البلوغ. فرع: لو أقام بينة على قاذفه عند الإمام، ثم أكذبهم، وأكذب نفسه. ففي الموازية لا يقبل منه ويحد القاذف (لأنه كالعفو، ولو صدقه القاذف، فأقر على نفسه بالزنى، قال أصبغ: إن ثبت على إقراره جلد للزنى، ولم يحد القاذف) وإن رجع عن إقراره بعذر درئ عنه الحد أعني القاذف. قال ابن حبيب: وهذا أحب إلي ما لم يثبت أنه أراد بإقراره إسقاط الحد عن القاذف فيسقط إقراره. قوله: "وحد القذف مختلف بالحرية والرق" وهذا كما ذكره وهو صريح

مذهب مالك وجميع أصحابه أن حد العبد في القذف أربعون، لأنه على الشطر من الحر. روى مالك في موطئه أن عمر بن عبد العزيز جلد عبدًا في فرية ثمانين. قال أبو الزناد: فسألت عن ذلك عبد الله بن عامر فقال: أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جرا فما أدركت أحدًا جلد عبدًا في فرية أكثر من أربعين. والذمي كالمسلم قياسًا، ولا يكون الذمي أحسن حالًا من المسلم. قوله: "والحدود كلها سواء في الإيجاع والصفة" وهذا كما ذكره، وحكم ذلك أن يكون وسطًا بين القوة واللين اعتماد على ما رواه مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتى برجل اعترف على نفسه بالزنا فأتى بسوط لم يقطع ثمرته، فقال: دون هذا، ثم أوتي بآخر مكسور فقال فوق هذا) وخرج أبو داود عن أبي بن سهل بن حنين عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني فعاد جلده على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك فقال: استفتوا لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفخست عظامه ما هو إلا جلدة على عظم، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربونه بها حصول واحدة).

واختلف المحدثون في (صحة) إسناد هذا الحديث، كما اختلف الفقهاء في الأخذ بمقتضاه. فأخذ به الشافعي وعضده بقوله سبحانه في قضية أيوب عليه السلام: {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44] وأباه علماؤنا كافة إلا قليل منهم. وذكر الزمخشري في تفسير القرآن، وهو من فحول العلماء في ليط الجلد المنصوص عليه في الوحي: "أشار إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز اللحم" رفقًا من الله سبحانه بخلقه ورحمة. قلت: كما أن في قوله -صلى الله عليه وسلم- لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء أربعة، وإلا حد في ظهرك فقال: يا رسول الله إني لا أرجو أن ينزل الله ما يبرئ ظهري) خرجه الشيخان. ففي لفظ: "الظهر" إشعار بأنه لا يتعدى في الحدود إلى غيره من الأعضاء كما ذكرناه عن مالك، وكذلك في التعزيز (والضرب فيما خف أمره من التعزيز) على ثيابه وعلى رأسه حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي وغيره. قوله: "وما كان منها من جنس واحد وسببه واحد تداخل (وأجزى) واحد عن جميعه": وهذا كما ذكره لأنها إذا كانت (بسبب واحد) كتكرار الإيلاج والاجتراع جرعة بعد جرعة، والأحداث المكررة قبل الطهارة، فيترتب عن جميعه حكم واحد في هذه الصور كلها، ومن أهل العلم من رأى أنه

إذا قذف جماعة بكلمة واحدة، فعليه حد لكل واحد منهم، وقضية الإفك ترد عليهم، ولو كان الأمر كما قاله المخالف لحد -صلى الله عليه وسلم- حدين حد لعائشة وحد لصفوان، فإن اختلفت الأسباب لم تتداخل الحدود، واستوفى جميعها كالزنى والشرب والقذف (إلا أن يكون أحدهما فرعًا عن الآخر كالشرب والقذف) فإن الصحابة لما اختلفوا في تقدير حد الشرب قالوا: نرى أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر افترى، فيجلد جلد المفتري. فإن كانت الحدود أجناسًا مختلفة كالزنى وشرب الخمر والقطع استوفى الحدان إلا أن يكون فيها قتل، فإن ما دونه يدخل فيه القذف، فإن قذف حد، ثم قتل، لأن المعرة اللاحقة للمقذوف لا نزول بقتله في حق غيره واختلف في فروع من هذا النمط وهو إذا قذف فحد فلم يكمل الحد حتى قذف ثانية رجلا آخر: هل يبتدئ الحد الثاني أم لا؟ ثلاثة أقوال: الابتداء، والإتمام للأول والثاني، والفرق بين أن يذهب من الحد الثاني اليسير كالأسواط العشرة فما دونها فيتمادى، ويجزئه عنهما، أو الكثير فيبتدئ للثاني حدًا ثانيًا وعلى قول أشهب: إذا ذهب من الحد اليسير، وما يقرب منه استؤنف لها، فكان ما بقي من الحد الأول لهما، ويتم للمقذوف الثاني بقية حده وحده، وإذا لم يبق من حق الأول إلا اليسير كمل الحد الأول وابتدئ للثاني. وعند ابن القاسم متى مضى شيء من الحد للأول (استؤنف حد القذف للثاني الحد لهما، ولا يحتسب بما مضى من الحد الأول) وهذه كلها اختيارات مذهبية. قال ابن القاسم: ومن اجتمع عليه قصاص في بدنه وحدود لله برئ بما هو لله، لأنه أكد إذ لا عفو فيه، وإن سرق وزنى وهو محصن رجم، ولم يقطع، لأن القطع يدخل في القتل. قوله: "ومن سب النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل": وهذا كما ذكره ولا خلاف بين الأمة فيه، لأن ذلك أعم على ارتداده. قال الله العظيم: {فلا وربك لا يؤمنون حتى

يحكموك فيما شجر بينهم} الآية [النساء: 65] فجعل اعتقاد إصابته في الحكم شرطًا في الأيمان. وخرج أبو عبد الرحمن النسائي عن أبي هريرة قال: (مررت عن أبي بكر وهو متغيظ على رجل من أصحابه فقلت: يا خليفة رسول الله، من هذا الذي تغيظ عليه، فقال: ولم تسأل؟ قلت: أضرب عنقه؟ قال: فوالله لأذهب كلمتي غضبه، ثم قال: ما كانت لأحد بعد محمد -صلى الله عليه وسلم-. وروى أبو داود من حديث عكرمة عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا ينزجر، قال: فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلًا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى تعد بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول في بطنها فاتكأت عليه حتى قتلتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا اشهدوا أن دمها هدر) ولعله -صلى الله عليه وسلم- علم بالوحي صحة قول الأعمى، فلذلك أهدر دمها. فرع: إذا وجب قتل من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- فهل يستتاب أم لا؟ سمعت أشياخنا يحكون فيه قولين: المشهور أنه لا يستتاب، وإذا كانت توبة القاذف لغيره لا يسقط عنه حد القذف ففي قذفه -صلى الله عليه وسلم- أولى، والشاذ أنها تقبل، لأنها ردة، والمرتد يستتاب. واختلف قول مالك في الكافر: إذا تاب بالإسلام من

سبه -صلى الله عليه وسلم- هل يسقط عنه سبه أم لا؟. فمن قبل إسلامه، وأسقط ما قبله اعتمد على قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] وعلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الإسلام يجب ما قبله) ولأن ذلك ليس أعظم من كفره، والكفر ممحو بالإسلام ومن لم يقبل إسلامه فلتعظم حرمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما من سب الله تعالى فحكمه أن يقتل، وهل يستتاب أم لا؟ سمعت الأشياخ يحكون فيه قولين: أشهرهما: أن توبته مقبولة، وفرقوا بينهما، ولم يزل ذلك يجري في المذاكرات، وكذلك من تنقص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو استهزأ بحديثه، وضحك عند سماعه شيئًا منه استخفافًا به، أو قال: إن إزاره وسخ فإنه يقتل ولا يستتاب.

كتاب القطع

كتاب القطع قال القاضي -رحمه الله-: "ويجب القطع (في السرقة) باجتياع أوصاف" إلى آخر الفصل. السرقة: أخذ المال من حرز. والدليل على صيانة المال هو بعينه الدليل على صيانة الأعراض، وقد تقدم ذكره، والدليل على وجوب القطع في السرقة قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] قدره سيبويه فيما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة وجعل: {فاقطعوا أيديهما} جملة ثانية، وجعل الفراء وغيره مبتدأ، وجملة الأمر خبر عنه، وقرئ بالنصب من باب الاشتغال وثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا

يقطع السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا قطع إلا فيما بلغ ثمن المجن) وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده). قال البخاري: قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون الذي منها ما يساوي ثلاثة دراهم. قال ابن قتيبة: الحبل حبل السفينة، وهو خطأ، وإنما مخرجه على المبالغة والله

أعلم. وروى أبو داود في سننه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قطع يد رجل سرق ترسًا من صفة النساء قيمته ثلاثة دراهم، وقاطع عثمان في أترجة واشترط في السارق أن يكون بالغًا عاقلًا لقوله -عز وجل- {جزاء بما كسبا}) والجزاء لا يترتب إلا على فعل مكلف، وأن يكون غير ملك للمسروق منه تحرزًا من العبد يسرق من مال سيده، (وكذلك المدبر والمكاتب وأم الولد لا يقطع واحد من هؤلاء إذا سرق من مال سيده اعتمادًا على ما روى أن عمر بن الخطاب رفع إليه عبد سرق من مال سيده)، فقال: عبدكم سرق متاعكم فلا قطع عليه ولأن القطع مشروع لصيانة الأموال وقطع يد العبد إذا سرق من مال سيده إتلاف لماله، ولأن القطع متعلق بالضمان، فإذا لم يضمن العبد ما أهلك من مال سيده لم يقطع في سرقته. وروى أبو مصعب عن مالك أن العبد يقطع إذا سرق من مال سيده من موضع حجبه منه، ثم اشترط في المسروق أن يكون نصابًا أو ما قيمته نصابًا، وهو كما ذكره، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه خلافًا لمن أوجب القطع في سرقة القليل والكثير تعلقًا بعموم الآية. وظاهر حديث عائشة أن ثمن المجن الذي قطع فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربع دينار (وعن ابن عباس ثمنه عشرة دراهم، وعن أنس بن مالك: ثمنه دينار).

قوله: "لا ملك فيه للسارق ولا شبهة ملك" احترازًا من (الأبوين) والعبد من مال سيده. قوله: "وكل واحد من الصنفين أصل في نفسه": يعني أنه لا يعتبر أحدهما بالآخر، وإنما يتعلق الحكم بعينه لا بقيمته، فإن كان عرضًا قوم بغالب نقد البلد، فإن كان مما يباع بالذهب والفضة فبلغ نصابًا من أحدهما قطع. وفي المدونة: إنما يقوم بالدراهم فحمله الشيخ أبو بكر الأبهري على أنه غالب نقدهم. قال مالك: ولو سرق دهنًا فتدهن به في حرزه فإن كانت قيمته بعد أن تلف ربع دينار قطع، وكذلك الشاة يذبحها، ويخرج بها، فإن كانت قيمتها بعد الخروج بها ربع دينار قطع فاعتبر في هذا التقويم بالذهب، واختلف في فروع من ذلك: الأول: إذا أخرج نصاب السرقة في مرات كثيرة، فقال مالك: لا يقطع حتى يخرج ذلك في مرة واحدة وبه قال ابن القاسم، وقال مرة أخرى: بقطع لأنها سرقة واحدة. فرع: إذا أخذ نصابًا من حرزين لرجل واحد ففيه قولان: القطع ونفيه بناء على درء الحد بالشبهة، ولو سرق ذلك من حرز واحد لرجلين لقطع، وقيل: لا قطع عليه وهو أشبه. فرع: إذا اختلفت القيم في (قيمة) السرقة فقومت بالنصاب وما دونه فقيل: لا قطع درءًا للحد بالشبهة. وفي المدونة: أنه يقطع، والأول وقع في مختصر الوقار وهو الصواب. فرع: إذا سرق ثلاثة دراهم ينقص كل درهم ثلاث حبات، وهي تجوز يجواز الوازنة لم يقطع فإن كان حبتان من كل واحد درهم قطع وترك القطع

أشبه درءًا للحد (بالشبهة). فرع: لو سرق زيتًا وقعت فيه فأرة فقال في كتاب ابن المواز: يقطع إذا كان يساوي لو بيع على البيان ثلاثة دراهم. وقال في غيره: لا يقطع بناء على أنه نجس لا ينتفع به أصلًا ولا قطع في جلد الميتة غير المدبوغ. واختلف في الجلد المدبوغ فقال أشهب: يقطع سارقه، وقيل: لا يقطع إلا أن تكون قيمة الدبغ ثلاثة دراهم فصاعدًا، وقيل: لا يقطع مطلقًا بناء على عدم الانتفاع بالميتة، وكذلك إذا سرق صليبًا أو تمثالًا، أو مزمارًا، أو عودًا، فإن كانت قيمته مكسورًا نصابًا قطع وإلا فلا. واختلف في سرقة الكلب المانع من اتخاذه على قولين، قيل: يقطع، وقيل: لا يقطع، وفي سرقة لحم الأضحية وجلدها خلاف، قيل: يقطع، وقيل: لا، إذ لا يجوز بيعها في فلس ولا غيره، ولا تورث مالًا، وإنما تورث لتوكل، وكذلك الحر الصغير. قال مالك: يقطع سارقه. وقال عبد الملك: لا قطع على سارقه إذ ليس بمال. وروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ذكر أن رجلًا يسرق الصبيان فأمر بقطعه) وكذلك العبد الكبير الأعجمي، أو الصغير من العبيد الذي لا يعقل. فرع: قال في الموازية: يقطع في كل شيء حتى في الماء إذا أحرز لوضوء أو شرب أو غيره كذلك (الرمان) والياسمين والحطب والتين وسائر المباحات الأصلية. وقال أبو حنيفة: لا قطع فيما كان مباحًا كالماء والصيد والحشيش ونحوه. قوله: "وذلك حين السرقة": يعني أن القيمة وقت السرقة لا وقت القطع،

واعتبرها أبو حنيفة: وقت القطع. (وفائدة ذلك إذا اختلفت القيم). قوله: "وكذلك ملك المسروق منه": يعني أنه إذا لم يقطع السارق حتى ملك المسروق منه السرقة فالقطع واجب اعتبارًا بيوم السرقة ولو اعتبرنا يوم الحكم بالقطع لما قطع، إذ لم يحكم بالقطع إلا بعد أن ملكه فانتقال الملك بعد السرقة لا يؤثر عندنا في إسقاط القطع كما لو وهبه لأجنبي. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب، فالمعتمد عليه من مذهب مالك وأصحابه ما ذكرناه، أن ذلك غير مؤثر في سقوط القطع. وقال أبو حنيفة: ذلك يسقط القطع عنه. وفرق قوم بين أن يكون ذلك قبل الترافع فيسقط عنه القطع أو بعده فلا يسقط (عنه) والأصل في هذا أن صفوان بن أمية نام في المسجد وتوسد رداءه فجاءه سارق فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقطع يده، فقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فهلا قبل أن تأتيني به) وإنما أمر به -صلى الله عليه وسلم- لأن صاحبه قد كان حرزًا له. قوله: "ولا يقطع الأبوان في سرقتهما من مال ولدهما": لما لهما في ذلك من الشبهة بالنفقة، ولما عليه من وجوب برهما. (واختلف المذهب في الابن إذا سرق من مال أبيه) ومشهور المذهب القطع. وروى ابن خويز منداد عن ابن وهب وأشهب أنه لا قطع على الابن إذا سرق من مال أبيه ولا حد عليه إذا زنى بجارية له والأب في هذا بخلاف الأم، إذ لا شبهة للابن في

مال أمه فيحد إذا زنى بجاريتها، ويقطع إذا سرق من مالها، إذ لا نفقة عليها، واختلف المذهب في الجد هل هو كالأب أم لا؟ قال أشهب: يقطع الجد والجدة إذا سرقا من مال حفيدها (ولا يقطع الأب). وقال ابن القاسم: الجد كالأب ولا يقطع أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه من موضع لم يحجبه عنه، فإن سرق من موضع حجبه عند قطع، وكذلك الضيف، وحكى الخلاف في السرقة من الغنم، وهو المشهور بناء على مراعاة الشبهة. قوله: "ويقطع في سرقة جميع المتمولات" إلى آخره. قد ذكرنا ذلك، وفي سرقة المصحف خلافًا لأبي حنيفة والصحيح الذي عليه الجمهور أنه مال، ولعله من أبي حنيفة بناء على أنه لا يجوز بيعه عنده، ثم اشترط الحرز في وجوب القطع، ونبه على خلاف من لم يشترطه، والدليل لنا على اشتراطه قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولا قطع في ثمر معلق إلا إذا أواه الجرين فذلك حرزه، ولا في حريسة جبل) ثم ذكر القبر وهل هو حرز أم لا؟ والظاهر أنه حرز فلذلك قلنا: إن النباش يقطع. وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، لأن

الكفن مال متروك بمضيعة، وقيل: لأنه مال لا مالك له، لأن الميت لا يملك والورثة قد سقط ملكهم عنه. ثم ذكر صفة الحرز وجعله على حكم العادة فما يكون مثله حرزًا في العادة قطع السارق منه إذا أخرجه من الحرز، فإن لم يخرجه فليس بسارق، وكذلك إذا أتلفه في الحرز. واختلف في تابوت الصيرفي يسرقه سارق بعد قيامه. فقال عبد الملك: لا يقطع. وقال محمد: يقطع، والدار غير المشتركة التي يسكنها صاحبها بخلاف الدار المشتركة كالفنادق ونحوها فلا قطع عليه في الدار المشتركة حتى يخرج منها، والحرز في الفناديق البيوت، فإذا أخرج السرقة من البيت قطع، وإن لم يخرج بها من باب الفندق كان السارق من أهل الدار، أو من غير أهلها. وقال سحنون: هذا في أصل الفندق، وأن كان أجنبيًا فأخرجهما من البيت لم يقطع حتى يخرجهما من باب الفندق أو الدار، والأول أصح، واختلف في السارق من المسجد ومن الحمام ونحوه، واختلف إذا كانوا جماعة فرفعوه على رأس أحدهم هل تقطع الجماعة أو الخارج به وحده قولان، وكذلك أحدهما في الدار، والآخر على السطح فرمى الذي في أسفل الدار للذي في الأعلى، والصحيح أنهما يقطعان. فرع: قال سحنون: إذا كانت حصر المسجد مخيطة بعضها إلى بعض قطع سارقها، وإلا فلا، قيل: يقطع سابقها مطلقًا، وقيل: لا قطع عليه، وقيل: إن سرق نهارًا قطع، وإن سرق ليلًا لم يقطع، وكذلك واقع في المذهب. قوله: "ولا قطع على مختلس ولا مسلب ولا مكابر ولا غاصب ولا مستعير جحد": هذا هو مذهب جمهور الفقهاء، وقال قوم من الفقهاء: إن المستعير إذا جحد قطع اعتمادًا على حديث المخزومية: (التي كانت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تستعير الحلي فأمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تقطع يدها) الحديث صحيح متفق على إثبات إسناده ولعله خاص بها وفي بعض طرقه:

(أنها سرقت). قال أبو محمد: الذي قال: سرقت أكثر من الذي قال: استعارت. وفي صحيح مسلم ما يدل على أنها سارقة لا جاحدة، ثم ذكر محل القطع، وأول ما يقطع منه يده اليمنى، ثم الرجل اليسرى في الثانية، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى هكذا من خلاف على حكم المحارب. واختلف المذهب إذا لم تكن له اليمنى أو كانت شلاء فقيل: يقطع يده اليسرى، وقيل: بل رجله اليسرى، والقطع عندنا من الكوع خلافًا لمن رآى أنه من الأصابع وتغالى قوم وقالوا: هو من الإبط، ولم يصح عن أحد من الصحابة العمل عليه. وقال أبو حنيفة: لا يقطع في الثالثة ولا في الرابعة اعتمادًا على قوله سبحانه: {فاقطعوا أيديهما} ولم يذكر الرجلين، والمعتمد عليه عندنا عمل الصحابة، فقد صح ما قلنا به عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وشذ قوم من أهل العلم إنه إن سرق في الخامسة قتل اعتمادًا على حديث ضعيف الإسناد غير معمول به عند العلماء الثقات. فرع: إذا قطع وجب عليه الغرم عندنا إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا فهل يتبع بقيمة السرقة دينًا في الذمة أم لا؟ قال ملك: لا يتبع بها. وقال الشافعي: يتبع بها، وهو مروي عن مالك وهو الأصح لأن القطع الذي هو حق لله لا يسقط الغرم الذي هو حق الآدمي، واتفقوا على أنه يردهما مع قيام

عينيها، وقال قوم من أهل العلم: لا غرم على السارق، لأن الله سبحانه قال: {فاقطعوا أيديهما} ولم يذكر غير ذلك وهو خطأ، لأنه وإن لم يذكره في هذه الآية فقد قرره في أصول الشريعة، إذ لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه. قال أبو حنيفة: المالك بالخيار في السارق إن شاء أغرمه (ولم يقطعه)، وإن شاء قطعه ولم يغرمه، وهذا هذيان منه.

كتاب العتق والولاء وما يتصل (به)

كتاب العتق والولاء وما يتصل (به) قال القاضي: -رحمه الله- "ولا يجوز تبعيض العتق ابتداء" إلى آخره. شرح: العتق من أعمال البر، وخصال الخير قال -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة: (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه). وفي حديث مسلم عن ابي ذر قال: (قلت: يا رسول الله أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا) الحديث. وههنا تنبيهان يتعلقان بلفظ هذا الحديث. الأول: إذا كان الكافر أغلى ثمنًا هل هو أفضل أم المسلم. قال مالك: عتق الكافر في هذه الصورة أفضل، وقال عنه: عتق المسلم أفضل. التنبيه الثاني: إذا كان المعتق ناقص بعض الأعضاء لم يستنقذ من النار ما قابل العضو الناقص، لأنه يصح أن يتألم بعض الجسد دون بعض لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود) ويحتمل أن يكون مخرج

الحديث على الأغلب والتنبيه على الفضيلة فيستنقذ الجميع على هذا، سيما إذا لم يكن عتق الأنقص مقصودًا وهو على قسمين (منجز ومؤجل) وكلاهما لازم (بالعقد) وفي كليهما أجر. قال الإمام أبو بكر بن المنذر: وقد انعقد الإجماع على أن للمعتق حرمة ليست لغيره من الصدقة بدليل أنه إذا أعتق جزءًا من العبد كمل عليه لحرمة العتق، ولو تصدق بجزء من عرض أو عقار لم يجبر على التكميل، والدليل على وجوب التكميل ما رواه ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق). وذكر ابن الطلاع في أقضيته (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سجن رجلًا أعتق شركًا له في عبد فاوجب عليه استكمال عتقه، قال في الحديث حتى باع عليه غنيمة له) (لأن له أن يبتدئ بعتق الجزء ويجبر على التكميل. وقوله: "لا يجوز تبعيض العتق" يعطي أنه لا يجوز ابتداء). وتجوز القاضي -رحمه الله- بقوله: "ولا يجوز تبعيض العتق ابتداء": وإنما أراد أنه لا يجوز الاقتصار عليه، بل يجب عليه التكميل على شرطه. وروى النسائي عن ابن عمر وجابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أعتق

عبدًا له فيه شرك وله وفاء فهو حرّ ويضمن نصيب شركائه). قوله: "ومن بعض العتق باختياره أو بسببه": أما اختياره له فظاهر، وأما بسببه فهو أن يشتري جزءًا ممن يعتق عليه بالقرابة أو يقبله بهبة أو صدقة أو نكاح فيجبر على التكميل في هذه (المواطن) وكذلك إذا أوصى له به، أو أخذه صلحًا عن رش جناية أو دعوى أو اشتراه وكيله وهو لا يعلم وقيد بالاختيار تحرزًا من الميراث، فإنه إذا ملك جزءًا من العبد بالميراث لم يلزم تكميله، ولا يلتفت إلى قول العبد لا أريد التكميل ولا لإباية الشرك من قبض القيمة إلا أن يرضى بتعجيل عتق حصته فله ذلك، لأن العتق حق له ليس للعبد فيه حق، واشترط في وجوب التكميل عليه شرطين: أحدهما: اليسر بالقيمة لقوله - صلى الله عليه وسلم - (فكان له مال) وهذا الشرط راجع إلى القسم الثاني، وهو إذا كان الباقي ملكًا لغيره، وأما إذا كان الباقي ملكًا له، فلا يشترط اليسر عليه في التكميل، والآخر بقاء ملكه احترازًا من أن يموت السيد أو العبد قبل التكميل أو التقديم، إذ لا يقوم ميت ولا على ميت، وكذلك التكميل، وهذا (ينبني) على الخلاف في هذا العتق هل هو بالحكم، أو بالسراية، وأظهر الروايتين افتقاره إلى الحكم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (قوم عليه قيمة عدل) الحديث. فيفهم منه أن عتق الباقي بعد التقويم ولا يكون عتيقًا بنفس عتق الشقص، وقيل: إنه عتق بالسراية، والمعنى أنه بنفس عتق الشقص يسري العتق إلى بقية، وفيه قوله ثالث: أنه عتق بالسراية إن كان جميعه له، فإن كان بين الشركاء افتقر إلى الحكم. وتظهر فائدة هذا الخلاف إذا مات أو قتل أو جرح أو قذف أو زنى قبل الحكم بالتكميل هل يكون حكمه حكم الأحرار، أو حكم العبيد ويحتمل أن يكون الشرط الثاني وهو بقاء احترازًا من أن (يبادر) الثاني إلى عتق نصيبه عادلاً عن التقويم، فلا يقوم على الأول.

قوله: "وقيل في هذا يلزم في الثلاثة": يريد أن التقويم لازم كان العبد نصرانيًا أو مسلمًا كان للمسلمين أو لمسلم ونصراني أعتقه المسلم أو النصراني فالحكم فيه التقويم، إلا أن يكون بين النصرانيين فلا يعرض لهما، إذا كان العبد نصرانيًا، فإن كان مسلمًا لزم فيه ما يلزم بين المسلمين على المشهور. وقال في المختصر الكبير: لا قيمة على المعتق. قوله: "في ثلاثة": إشارة إلى ما إذا كان العبد المسلم بين نصرانيين فهو في وجوب التقويم عليه كالتكميل، ويمكن أن يكون قوله إشارة إلى الصورة التي ذكرها ابن الجلاب وهي إذا كان العبد بين ثلاثة فاعتق اثنان نصيبهما في صفقة واحدة فكان أحدهما مليًا، والآخر معدمًا، فقيل: القيمة كلها على الموسر. وقال عبد الملك: بقدر نصيبه خاصة، وإذا كانا موسرين فقيمة نصيب الثالث عليهما، وهل هي على قدر الأنصباء كالشفعة، أو على عدد الرؤوس قولان، وهذا اللفظ من مشكلات التلقين لم نزل ننبّه عليه في المذاكرات، والله أعلم بمقصود القاضي فيه ولا خلاف عندنا أنه إذا اختار الشريك العتق في بقية حصته أن له ذلك إذا عجل العتق، وليس له الرجوع إلى التقويم، لأنه أسقط حقه عن شريكه، وإن اختار التقويم فصل له أن يرجع إلى العتق أم لا؟ قولن: أحدهما: أن ذلك له، وليس لشريكه في ذلك مقال. والثاني: أنه ليس له ذلك، لأن من حق شريكه أن يقول: أردت استكمال الأجر والاختصاص بالولاء. فرع: إذا كان المعتق موسرًا فحكمه ما ذكرناه من وجوب التقويم عليه (وإن كان معسرًا ففي وجوب التقويم عليه) إذا رضي شريكه باتباعه قولان، والظاهر أنه ليس له على المعسر ذلك، لأن الشرع إنما أوجب عليه التقويم مع اليسر دون العسر.

فرع: إذا كان معسرًا فأعتق نصيبه فلم يحاكمه حتى أيسر هل يقوم عليه اعتبار بالحال أم لا تقويم عليه اعتبارًا بزمان العتق قولان، ويقوم على أنه عبد لا عتق فيه، لأن العتق في بعضه عيب، وهو الذي أدخله على شريكه، ألا ترى أن بيع الجملة أثمن لشريكه. فرع: إذا أعتق جزءًا فأدعى العسر، وسئل عن حاله فذكر الشهود أنهم لا (يعلمون) له مالاً أحلف عن ذلك وترك. قال ابن الماجشون: هكذا سمعت أصحابنا يقولون. وقال سحنون: جميع أصحابنا على ذلك إلا اليمين، فإنه لا يستحلف، ولعله جار على الخلاف في إيمان التهم. قوله: "إلا أن يبذل الشريك إعتاق نصيبه": يريد إعتاقه عاجلاً، فإنه كان الأول موسرًا أو أعتق الثاني نصيبه إلى أجل قولان: أحدهما: أنه يبتل على الثاني تغليبًا لحرمة العتق، لأنه قد سقط حقه عن الأول في التقويم بعد وله إلى العتق. والثاني: بالخيار بين القيمة على الأول أو تبتيل العتق وهو قول ابن القاسم. قوله: "وإن كان مريضًا قوم عليه نصيب الشريك في ثلثه" وهذا كما ذكره لأن حكم الثلث بعد الوفاة حكم جميع المال في الحياة، وانظر إذا أعتق في الصحة فلم يقوم عليه نصيب شريكه حتى مرض هل يستكمل عليه بقيمته أم لا؟ قولان عندنا. أحدهما: أنه لا يستكمل عليه، لأنه بمنزلة الهبة من الصحيح يفرط فيها الموهوب له حتى مرض الواهب فلا شيء له إلا أن يصح، وإن مات بطلت. والثاني: أنه يستكمل عليه باقية، (وهو في رأس المال إن حمله أو في الثلث) قولان عندنا. أحدهما: أنه يستكمل في الثلث اعتبارًا بحال المرض. وعن مالك من رواية بعض أصحابه أنه يعتق باقية في رأس

ماله إن حمله. قال ابن الماجشون: وإذا أعتق المريض حصته بتلا فلا (تقويم عليه) حتى ينظر أيصح أم يموت، فإن صح قوم عليه جميعه، إن مات لم يقوم سواء حمله الثلث أم لا؟ لأن التقويم إنما يمضي فيما يفضي إلى الحرية، وهذه وصية يردها الدين إلا أن تكون أمواله مأمونة فيقوم حينئذ ويعجل عتقه قبل الموت. قوله: "وإذا بعض العتق عدة شركاء في لفظ متفق (أزمانه) قوم باقيه على عدد رؤوسهم": وهذا كما ذكره لتساويهم في الملك، وإدخال الضرر ولو كانوا شركاء ثلاثة أعتق أحدهم نصيبه، ثم أعتق الآخر نصيبه، والأمول موسر قَوَّمه الثالث على الأول، لأنه الذي ابتدأ بالضرر، إلا أن يرضى الثاني بأن يقوم الثالث عليه، فله ذلك، ولا مقال للأول (وإذا كان الأول موسرًا فهل يستكمل على الثاني نصيب الثالث أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور أنه لا يستتم على الثاني) إذا لم يحدث الفساد. وقال ابن نافع: يقوم على الثاني لأنه أول بالنسبة إلى الثالث. واختلف في فروع من (هذا الأسلوب) وهو إذا اختلف أنصباء الشركاء، فأعتق اثنان ووجوب التقويم للثالث فهل يقوم عليهم على قدر الأنصباء، أو على عدد الرؤوس قولان. المشهور على قدر الأنصباء كالشفعة وإجارة الموثق، وكنس المراحيض وغير ذلك، والشاذ أنه على عدد الرؤوس، رواه ابن الماجشون، وهو الذي عوّل عليه القاضي حيث قال: "قوم باقيه على عدد رؤوسهم" يريد القيمة بين الشركاء المعتقين. وحكى في المعونة وشرح الرسالة وغيرهما القولين (ونص) بأنها على قدر الأنصباء، وأما

من رأى ذلك على عدد الرؤوس فلتساويهم في الجناية بالتبعيض، والضرر لا يختلف بكثرة التبعيض وقلته. قوله: "وإذا أعتق المريض المحجور عليه عبيدًا له هم جميع ماله أقرع بينهم بعد موته": والأصل في هذا أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه، ولا مال له غيرهم فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة). وقد بيّن النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه القضية: (لقد هممت أن لا أصلي عليه). وفي مصنف عبد الرزاق وأحكام ابن الطلاع: (لو أدركته ما دفن مع المسلمين) ومحمله على التغليظ كما أدخل من اللبس. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقال مالك وأصحابه بالعتق بالقرعة، والمعنى أنه يعتق منهم الثلث بالقرعة، ولا يعتق من كل واحد ثلثه. وقال أبو حنيفة: القرعة باطلة، ويعتق من كل واحد ثلثه، ويستسعى في قيمة نفسه، فإذا أداه إلى الورثة عتق جميعه، وهذا منه إحداث شرع (ومخالفة للنص) فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرع وهو لا يقرع، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أعتق اثنين كاملين على الانفراد، وهو قائل يعتق ثلث كل واحد من الستة لا يعتق (اثنين)، وهو أوجب الاستسعاء، وهو غير مذكور في هذا الحديث. وإنما حكمنا بالقرعة، إذ لا مزية لبعضهم على بعض فوجب تمييز المعتق عن سواه، وليس إلى ذلك طريق إلا القرعة. وههنا نظر وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حكم بالقرعة في عتق المريض الذي حكمه حكم الوصية، فهل العتق المبتل كالوصية أم لا؟ قولان. المشهور أن العتق المبتل والوصية سواء. وقال أصبغ وغيره: بعتق (في المبتل) ثلثهم بالحصاص، لأن القرعة خطر

فتجوز حيث جازت، وليس ذلك إلا في الوصية. وههنا فروع: إذا قال عشرة من عبيدي أحرار وهم خمسون. ففي العتق: البتل (يعتق) أيهم شاء. واختلف المذهب في الوصية بذلك على خمس روايات عن مالك وأصحابه: الرواية الأولى: أنه يعتق خمسهم بالسهم والتقويم، خرج الخمس خمسة أو اثنا عشرة. والرواية الثانية: أنه إن خرج أكثر من عشرة عتقًا، وإن خرج أقل من عشرة ضرب بالسهم على الباقين حتى يكمل العدد عشرة ما لم يتجاوز ثلث الميت. وقال أشهب: ذلك أوسع أن يعتق منهم بالسهم أو بالحصص، وقال المغيرة: يعتق خمسهم بالحصاص، إذا كان العتق من الميت، وأن أوصى ورثته أن يعتقوا عنه فهم بالخيار في عتق من شاؤوا. ولو قال: ثلثا عبيدي أحرار أقرع بينهم، وإن قال: ثلث كل واحد منهم حر لم يقع بينهم، لأن كل واحد منهم قد دخله عتق الجزء وهو معنى قول القاضي: "إن نسب الجزاء إلى جميعهم أقرع بينهم وإن نسبه إلى كل واحد عتق ذلك القدر بغير قرعة". قال القاضي - رحمه الله -: "ومن مثل بعبده مثلة (ظاهرة قاصدًا لذلك عتق (عليه) " إلى آخره. شرح: العتق بالمثلة ثابتة عندنا، وأنكره الشافعي وأبو حنيفة وقالا: لا عتق بالمثلة، والسنّة ترد عليها لما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان لزنباع عبدًا يسمى: سندرًا أو ابن سند فوجده يقبل جارية فأخذه فجبه وجذع أنفه، فأعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: 0 من مثل بعبده أو أحرقه بالنار فهو حر، وهو مولى لله ولرسوله). وصح أن عمر بن الخطاب أعتق جارية

أحمَى سيدها رصفًا وأقعدها عليه، فاحترق فرجها. واختلف المذهب في عشر مسائل (تتعلق بالمعتق بالمثلة). المسألة الأولى: هل يفتقر إلى حكم أم لا؟ قولان. ثمرتهما إذا مات العبد قبل الحكم بالعتق فالمشهور أن سيده يرثه بالولاء. وقال أشهب: لا يرثه وماله لورثته إن كانوا أحرارًا، وإلا كان ولاؤه لسيده. المسألة الثانية: المثلة الموجبة للعتق كما ذكره القاضي أن تكون ظاهرة مقصودة، وإن كانت خطأ أو عمدًا على وجه المداواة أو شبه عمد مثل أن يحذفه بسيف فيزيل عينه فلا عتق عليه في ذلك لأن شفعة الإنسان على ماله هي الأغلب. واختلف إذا ضرب رأسه فنزل الماء في عينه. فقال سحنون: لا يعتق عليه بذلك، وقال غيره: يعتق بناء على أنها (هل) تلتحق بباب العمد أو ببال الخطأ. المسألة الثالثة: السفيه والمديان والعبد هل يعتق عليهم بالمثلة، لأنه تفويت قولان في المذهب. المسألة الرابعة: المرأة ذات الزوج يعتق عليها بالمثلة، ولا قول للزوج في ذلك، لأنه عتق أوجبه الحكم، قال غيره: (يمضي) منه قدر ما يحمله الثلث. المسألة الخامسة: إذا قال العبد: عمدًا، وقال سيده: خطأ في ذلك، قولان عن سحنون، قال مرة: القول قول العبد ثم رجع، وقال: القول قول السيد وهو الصواب للاحتمال.

المسألة السادسة: إذا وشم وجهه بإبرة ومداد وكتب فيه: آبق. قال ابن القاسم: يعتق، وقال أشهب: لا يعتق. المسألة السابعة: إذا حلق رأس أمته أو لحية عبده، ولم يكونا من الوحش هل يعتقان أم لا؟ قولان. قال ابن الماجشون: يعتقان، ورآه مثلة في الجارية الرائعة، والعبد التاجر، وأباه مطرف. المسألة الثامنة: لا خلاف أنه إذا فعل ما لا يوجب العتق، لأنه ليس بمثلة، فعليه التعزير، (وإن مثل به، وعتق عليه فهل عليه التعزير) بالضرب والسجن ونحو ذلك على حسب اختلاف أحوال الناس فيه خلاف، والأصح أن ذلك عليه الاجتهاد. المسألة التاسعة: إذا مثل بزوجته طلقت عليه ووجب عليه القصاص، وهذا نص الرواية، واختار الأشياخ أنه يكتفي بالقصاص، إذا رآى الحاكم فيه زجرًا له ومنعًا من أن يعود، وإلا طلق عليه. المسألة العاشرة: قال مالك في امرأة عضت لحم جارية لها عضًا شديد حتى أثرت فيه أثرًا بيّنًا أنها تباع عليها ولا تعتق. قال الأشياخ: إنما ذلك إذا لم تقطع شيئًا من لحمها، فإن قطعت شيئًا عتقت عليها، وإن ضرب عبده مائتي سوط حتى سقط لحمه عتق لأنه مثلة، وأما عتق الحمل فإنه تبع لأمه فلأنه كالجزء منها. ثم ذكر أن عتق الصغير والمجنون والسفيه والمديان (والراهن) لا يجوز. وهذا كما ذكره. أما الصغير والمجنون فلأنهما غير مكلفين، وأما السفيه فلأن الحجر عليه لصيانة ماله، فلو أمضينا عتقه لم يكن للحجر معنى. واختلاف المذهب في عتق السفيه أو ولده هل يمضي لأنها معتقة بالولد

حقيقة، فلم يبق له رق ولا ملك في الرقبة، أو لا يجوز، لأن تفويت المنفعة كتفويت الرقبة، وإذا قلنا: إن عتقه لأم ولده جائز، فهل يتبعها مالها أم لا؟ (فيه قولان) في المذهب. وكذلك المال يتبع العبد في العتق إلا أن يستثنى السيد ذلك ولا يتبعه في البيع. قال القاضي أبو محمد: لم يختلف قول مالك في هذين الأصلين، واختلف قوله في الوصية به وهبته والصدقة وإسلامه في الجناية هل يتبعه ماله أم لا؟ ثم تكلم على عتق ذوي الأرحام وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه). واختلف الفقهاء فيمن يعتق بالقرابة على ثلاثة أحوال: الأول: وهو المشهور أنه لا يعتق عليه إلا عمود النسب والإخوة. والثاني: عمود النسب فقط دون الإخوة، ورواه ابن خويز منداد عن مالك. والثالث: يعتق عليه ذوو الأرحام ما كانوا، وبه قال الليث وأبو سلمة وابن وهب، وقال تعالى في الأبوين: {فلا تقل لهما أُف} [الإسراء: 23] وذلك يناقض اسرقاقهما وتملكهما. وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا} الآية، على قوله: {إلا ءاتي الرحمن عبدًا} [طه: 88 - 93] فنفى أن يكون الولد عبدًا، واختلف في فروع تتعلق بهذا الأصل. الأول: هل يفتقر عتق الأقارب إلى حكم أم لا؟ ثلاثة أقوال: الأول: يعتق بنفس الشراء سواء في جميعها. والثاني: يفتقر إلى الحكم. والثالث: في العمودين بغير حكم، وفيمن عداهم بالحكم. المسألة الثانية إذا بنينا على أنه مفتقر إلى الحكم هل له أن ينتزع ما

فصل "والولاء للمعتق إذا كان عنه"

لهم قبل الحكم عليه، بالعتق أم لا؟ قولان. فعن ابن نافع في المعتق إلى أجل للسيد أن ينتزع ماله، وإن قرب الأجل. المسألة الثالثة: هل العتق إذا كان الشراء بتًا، فإن اشترى من يعتق عليه من القرابة على الخيار هل يقع العتق بنفس الشراء أو حتى يختار قولان مشهوران مبناهما على أصلين: الأول: هل عقد الخيار على الحل حتى ينعقد أو على العقد حتى يَنْحَلّ. الأصل الثاني: من ملك أن يملك هل يعد مالكًا أم لا؟. قال ابن حبيب: استحسن إذا كان الخيار للمشتري أن يعتق، والصحيح أنه غير مملوك بنفس عقد الخيار بل بالإمضاء. فعنده يتحقق الملك فيتبعه العتق. المسألة الرابعة: إذا اشترى أباه بيعًا فاسدًا فهل يهتق عليه أم لا؟ قال ابن القاسم: يعتق عليه حين اشتراه. قال الأشياخ: محمولة على أن البيع مختلف في فساده فيمضي العتق تغليبًا لحرمته، وإن كان مجمعًا على فساده، فإنه لا يعتق إذ لا ينتقل الملك شرعًا. المسألة الخامسة: إذا اشترى الأب لولده الصغير من يعتق عليه جاهلاً عتق على الولد، ولا غرم على الأب، فإن كان عالمًا بلا حكم عتق عليه، وغرم له الأب الثمن. واختلف المذهب إذا كان عالمًا بذلك، وجهل الحكم هل يغرم له الثمن أم لا؟ قولان عندنا، والغرم أصوب. فصل "والولاء للمعتق إذا كان عنه". شرح: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من ادعى إلى غير أبيه أو إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والناس أجمعين) (ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وعن هبته)،

وقال في حديث بريرة: (فإن الولاء لمن أعتق). روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (الولاء لحمة كلحمة النسب لا يُباع ولا يُوهب). ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أعتق عبده عن نفسه فولاؤه له، فإن أعتقه عن غيره فالولاء للمعتق عنه لأنه المعتق حقيقته، وأما إذا كان بإذنه فلا إشكال في ذلك، وإن كان بغير إذنه قد ملكه إياه بشرط العتق عنه، فلا عتق إلا بعد الملك فكأنه هو المعتق في الحقيقة. ونبّه القاضي بقوله: "بإذنه أو بغير إذنه" على خلاف الشافعي وأبي حنيفة حيث قالا: إن الولاء للمعتق عنه إذا كان بإذنه، وغفلاً عن ملاحظة التمليك المستتبع بالعتق، ولا خلاف أنه إذا كان وكيلاً فالولاء للموكل، لأن يد الوكيل عارية محضة، ولو اشترى رقبة من زكاته فأعتقها عن المسلمين، فالولاء لهم فلو أعتق عبده عن المسلمين، أو قال: أنت سائبة عن المسلمين، فقال مالك من رواية ابن نافع وابن الماجشون: الولاء للمعتق دون المسلمين. قال مالك: "لا يعتق أحد سائبة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع الولاء وعن هبته) وكذلك رواه ابن القاسم عنه، فإن فعل فالولاء فعل فالولاء لهم. قوله: "ولا يحل بيع الولاء ولا هبته": أما بيعه فلأنه غرر ظاهر وقمار بين، لأنه يدفع عنه ثمنًا محققًا ولا يدري أيحصل له شيء أم لا؟ وأما هبته ففيه تفصيل، والظَاهر إجراؤه مجرى النسب أن الهبة والبيع لا يتصور واحد منهما فيه كما لا يتصور في النسب.

واختلفت الرواية إذا وهب منه ما يقع في حياته هي يجوز أم لا؟ وفيه قولان عندنا، كالخلاف فيمن وهب ما يرثه من أبيه أو غيره، وكذلك إذا وهب ذلك في مرض المولى، والمشهور في هذه الصورة الجراز، والشاذ المنع، والمعتمد عليه نظير المنع. قوله: "وهو لعصبة المعتق الذكور (دون الإناث) ": وهذا مذهب مالك، وجميع فقهاء الأمصار أن النساء لا يرثن من الولاء إذا ما أعتق (أو أعتق م أعتقن). قال شريح: الولاء موروث لجميع الورثة من الرجال والنساء على كتاب الله كسائر المواريث وهو قول حسن من طريق الفقه إجراء له مجرى النسب لولا أنه معارض (بالإجماع من الصحابة) فإن الأئمة من أهل النقل نقلوا إجماع الصحابة على أنه للذكور دون الإناث. قوله: "وأولاهم به الابن ثم ابنه" إلى آخره. هذا في الولاء مخالف لحكم النسب، ألا ترى أن الأب لا يستحق شيئًا من الولاء مع وجود الابن وابن الابن، وليس كذلك في الميراث والابن أولى، ثم بنه وإن سفل ثم أبو المعتق، ثم الإخوة، ثم بنوهم، ثم الجد، ثم بنوه وهم الأعمام، ثم بنوهم على حسب قوة التعصيب فيختص به من قوى تعصيبه دون غيره، وتعصيب البنوة أولى من تعصيب الأبوة. قال القاضي أبو محمد في المعونة لأن تعصيب الأبوة يشوبها الرحم، والأخوة مقدمون على الجد عندنا في هذا الباب، قال الشافعي وأبو حنيفة الجد أولى. قوله: "ويستحق الولاء بالكبر" بضم الكاف، وفي بعض الروايات بالكبر على وزن الصغر والمعنى أنه لا يصل إلى البطن الثاني إلا بانقراض

الذي قبله). قوله: "ولا ولاء بموالات ولا على منبوذ" إلى آخره. وهذا كما ذكره هو الذي استقر عليه جمهور فقهاء الإسلام، ولا ولاء للعبد فيما يعتقه، والولاء لسيده، كان العتق بإذن سيده أو بغير إذنه، واختلف قول مالك إذا أعتق العبد عبده بغير إذن سيده فعلم السيد فلم يجزه ولا ردّه حتى عتق العبد ففي كتاب محمد الولاء للعبد، وقال ابن الماجشون: الولاء للسيد. فرع: (اختلف) إذا قال السيد لعبده: أخذ مني عشر سنين، وأنت حر فأعتق قبل انقضاء السنين. قال ابن القاسم: الولاء للعبد. وقال ابن نافع: الولاء للسيد وهو أقيس، وولاء من أعتقه المدبر وأم الولد للسيد لأنهما رقيق، ولا يرجع الولاء إليهما، ولا لمن فيه عقد حرية إلا لمكاتب وحده، لأن المكاتب إنما كاتب على ماله وولده، والولاء من ماله، وحقوق عتقه، فإذا أعتق العبد (بإذن سيده أو بغير إذن السيد فالولاء للسيد كما ذكرنا، فإن أذن له السيد في العتق) أو أذن (لمدبره)، وأم ولده لم يرجع الولاء إليهم، وكذلك المكاتب ما لم يعتق، فإن عتق المكاتب عاد الولاء له لما ذكرناه من أن للسيد انتزاع ماله، وهو ممنوع من انتزاع مال مكاتبه، فإذا أذن لعبده في العتق، وهو ليس من أهل الولاء في تلك الحال كان السيد كأنه هو الذي أعتقه حقيقة (كان له الولاء). قوله: "وكذلك المسلم يعتق الكافر": هذا تنبيه على خلاف الشافعي لأنه يقول: إذا أعتق المسلم (نصرانيًا) فمات النصراني قبل أن يسلم فولاؤه

لسيده. (وتحصيل المذهب في ذلك أنه إن أسلم النصراني فولاؤه لسيده) وإن لم يسلم فلا ولاء له، لأن الإرث بالولاء كالإرث بالنسب، ولا توارث بين مسلم وكافر. قوله: "وجر الولاء ثابت": وهذا هو مذهب كافة أهل العلم إلا ما يحكى عن رافع بن خديج ومن تبعه من السلف. روى مالك (أن الزبير بن العوام مر بفتية فسأل عنهم فقال: هم موالي رافع بن خديج وأبوهم عبد لحذيفة، فاشترى الزبير أباهم فأعتقه ليجربه الولاء، وقال لهم: انتسبوا إليّ فأنا مولاكم، وقال رافع: بل هم موالي، أنا أعتقت أمهم، فاختصما إلى عثمان بن عفان فقضى بالولاء للزبير (ويجر الولاء الأب والجد، لأن النسب يرجع إلى الجد كما يرجع إلى الأب، وقد مثل القاضي الصورتين (فتأمل كلامه في ذلك يتبين لك معناه إن شاء الله، وصورة ذلك: أن يتزوج عبد معتقة لقوم فيولدها فولاء الولد لموالي الأم ما دام الأب رقًا، فإن عتق أبوه جر ولاء) ولده إلى معتقه، فإن كان للأب أب عبد فعتق قبل ابنه جر ولاء: ولد ابنه إلى من أعتقه ما دام ابنه رقًا، فإن عتق الابن جر الابن ولاء

ولده إلى مواليه، وانتقل عن موالي الجد، فهاتان صورتان ظهر فيهما جر الولاء من الأب والجد، وكان الطلبة يسألون عن هذا الموضع، ويستفهمون معناه، والأمر فيه بين على المتأمل إن شاء الله. قوله: "ولا يكون جر الولاء فيمن مسّه رق" ومثله القاضي في المعونة فقال: "مثل أن يتزوح عبد أمته فتحمل ثم تعتق، فإن الولد يكون حرًا بحرية أمه، وهو حمل وولاؤه لموالي أمه وهم مواليه، لأن عتقه ثبت من جهتهم، فإن عتق العبد لم يجر ولاء الولد، لأن ولاءه قد ثبت لمن أعتق أمه، فلا يجوز نقله كالنسب، ثم تكلم على ولد الملاعنة، فإن كانت عربية فلا ولاء على ولدها. إذ هي حرة محضة لا سبيل إلى سريان الرق إليها، وإن كان معتقه فولاء ولدها لموالي أمه، لأن نسبه قد انقطع عن أبيه، فإذا أكذب الأب نفسه وجب عليه الحد، وعاد الولاء (إليه أو) إلى مواليه. قوله: "ولا ولاء لا مرأة إلا في ثلاثة مواضع" وهذا كما ذكره، وهو مذهب جمهور العلماء من الإسلام أن لا ولاء لا مرأة، وهذه المواضع الثلاثة ظاهرة أولها: ولاء من باشرت عتقه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الولاء لمن أعتق). والثاني: ما يعتقه معتقها مثل أن تعتق عبدًا فيعتق هذا العبد عبدًا ويموت الموت المعتق الأول فولاء الثاني لها، لأنه كان لمعتقها الذي مات فانجره السيد إليها. والصورة الثالثة: أن يتزوج عبدها أمة فيولد له ولد، ثم تعتقه أو يتزوج بعد عتقه فيكون لها الولاء إما ابتداء وإما جرًا. وهذا من المواضع المشكلة التي جرت العادة في المذكرات بالكلام فيه، وتبين مفهومه، وذلك أنه إذا تزوج

فصل "الكتابة جائزة ولا يجبر السيد عليها إن طلبها العبد"

عبدها أمة لغيره فتلد ولدًا جرت الأمة ولاء الولد (لمواليها ما دام الأب) رقًا، فإن أعتق والده قبل عتق الولد كان ولاء لسادات العبد ابتداء، فإن أعتق الولد قبل عتق الوالد، كان ولاء الولد لموالي الأم، فإن عتق بعد ذلك الولد، ثم مات الوالد جر والده لمواليه، فكان الولاء لها جرًا. فصل "الكتابة جائزة ولا يجبر السيد عليها إن طلبها العبد". شرح: الأصل في الكتابة قول الله - عز وجل -: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33]. أمر السادات بمكاتبة عبيدهم بشرط أن يعملوا فيهم خيرًا. وقد اختلف الفقهاء في أصلين: الأول: في مقتضى هذا الأمر. والثاني: في تعين الخبر المشار إليه في الآية. أما الأمر فالجمهور أنه على الندب والاستحباب، وقيل: مقتضاه الإباحة والتخيير. وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم إذا سئل عن ذلك يقولون قول الله - عز وجل -: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] وقوله: {فإذا قضيت الصلوة فانتشروا} الآية: {الجمعة: 10}، وهذا يدل على أنه محمول على الإباحة. وحكى ابن القصار أنها مستحبة، ولا شك أنها خارجة عن قواعد الشرع، فإن فيها بيع الملك بالملك، لأن العبد ماله المحقق والمترقب ملك لسيده، وإنما يجعلها ابن القصار وغيره من أشياخنا من قسم المستحبات ولأنها من ناحية العتق وقسمها بعض أشياخنا إلى أقسام مندوب إليها ومباحة ومكروهة وممنوعة، وذلك راجع إلى حال العبد في الدين والقدرة على الكسب من وجه مرضي أو مكروه، وقد يجب في بعض المواضع بحسب

القرائن على تقرر في الشريعة من رعاية المصالح، وأما الخبر الموجود قيدًا في الآية، فقيل: هو القدرة على الكسب؛ قاله مالك وقيل: هو الدين (وقيل: هو المال) وقيل: هما جميًعا، وهو الصواب. وأجاز مالك كتابة من لا حرفة له من الرجال، ولا تجوز مكاتبة الأمة التي لا تحسن الصناعة لما يخاف من استسعائها بفرجها، ولا يجبر عليها السيد عندنا خلافًا لداود وأهل الظاهر اعتمادًا على ظاهر الأمر، وإذا طلبها السيد، وأبي العبد فهل يجبر على ذلك أم لا؟ قولان في المذهب، الأصح أن السيد يجبره على ذلك بمثابة إخراجه أو أكثر يسيرًا، فإن كاتبه على ما يعلم أنه لا يقدر عليه فلا جبر في هذه الصورة بلا خلاف، وتجوز بالقليل والكثير إذا تراضيا عليه، وتجوز الكتابة بالغر مثل: أن يكاتبه على بعير له شارد أو عبد آبق، أو ثمرة لم يبد صلاحها، لأن له انتزاع ذلك من غير كتابة، وكرهه أشهب، فإن نزل مضى، ويجوز أن يكاتب عبده على أن يطلب لسيده عبد الآبق أو بعيره الشارد، أو يغرس له كذا وكذا شجرة فإذا بلغت كذا فهو عتيق، وقد قيل: إنه إذا كاتبه على غرس كذا شجرة يغرسها له أن ذلك عدة للعتق لا كتابة. وفائدة الفرق أن ذلك يسقط بالفلس والموت إن جعلناه عدة، ويفسخ إذا رهنه الدين، وابن ميسر يرى أن هذا ليس بكتابة، والجمهور على أنه على حقيقة الكتابة، ولو كاتبه على وصفاء جاز، وكانت العادة في ذلك مع عدم الشرط كالشرط في النكاح، على شوار بيت. قوله: "ولا تكون إلا منجمة أو مؤجلة": المنجمة هي التي تقسط على أنجم ثلاثة فصاعدًا، والمؤجلة التي ضرب لحلول جميعها أجل، واختلف في الحالة هي تسمى كتابة أم لا؟ والمتقدمون يسمونها قطاعة.

قال القاضي أبو محمد: ليس عن مالك نص في الكتابة الحالة، ومحققو أصحابنا يقولون: إنها جائزة خلافًا للشفافعي. قوله: "ويرق بالعجز عن بعضه قلّ أو كثر": لما روى مرفوعًا وموقوفًا: (المكاتب عبد ما بقى عليه درهم) وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعتمد عليه ما ذكرناه. قوله: "ويستحب للسيد وضع شيء من آخرها": وهذا كأنه من باب الإعانة على الحرية. قال الله سبحانه: {وءاتوهم من؟؟ الله الذي ءاتكم} [النور: 33] وذلك ندب واستحباب. وقال الشافعي: هو على جهة الإيجاب وحاصل القول في ذلك: أن الأمر بالكتابة والإيتاء، قد اختلف العلماء في مقتضاهما قيل: هما محمولان على الندب، وقيل: على الإيجاب، وقال الشافعي: الأصل غير واجب، والفرع واجب. قوله: "وللمكاتب تعجيلها (ويعتق لوقته) وليس للسيد الامتناع عليه" لأن الأجل حق للعبد، فإذا أراد إسقاطه لم يمنع، ولو شرط عليه السيد مع الكتابة خدمة أو سفر فعجل المكاتب فهل يسقط عنه ما اشترط عليه

أم لا؟ قولان. الإسقاط ونفيه بناء على أنه تبع فهل يعطي حكم نفسه أو حكم متبوعه، وفي هذا الأصل خلاف، وبيع (رقبة) المكاتب إبطال للكتابة، فلذلك لا يجوز كما نص عليه القاضي - رحمه الله - وبيع كتابته جائز، واشترط في بيع الكتابة من غيره تعجيل العوض فرارًا من الكالئ بالكالئ، وإنما منع منه بيع النجم الواحد من الكتابة لقوة الغرر فيه فكان القصد إلى نجم واحد نوعًا من (الخطر والغرر) وفي بيع الجزء منها خلاف المنع والجواز، فوجه المنع أن المكاتب يؤدي كتابته لدائنين مختلفين أحدهما إلى سيده بعقد كتابته، والآخر إلى مبتاع الجزء، ووجه الجزء اعتباره بسائر المبيعات. قال القاضي - رحمه الله - "وإذا أعتق المكاتب تبعه ماله وولده الذين حدثوا من أمته بعد كتابته" إلى آخر الباب. شرح: أما مال المكاتب فالأمر فيه ظاهر لأنه إنما كاتب على ذلك، إذ منه ومن غيره يرجو الأداء ويدخل أولاده الذين حدثوا في الكتابة (بعد العقد)، ويدخل من قبلهم بالشرط. قوله: "وإذا مات المكاتب عن ولد معه في كتابته إما بشرط أو بمقتضى العقد لم تنفسخ الكتابة بموته" وهذا مذهب مالك، وقال الشافعي: تنفسخ، والدليل لنا: أن عقد الكتابة قد تضمن إلزام السيد نفسه عتق المكاتب وولده الداخلون معه في العقد على شرط أداء المال، فليس للسيد سبيل إلى فسخ العقد كما لم يكن ذلك في حق العبد نفسه. قوله: "وتؤدي الكتابة حالة" وهذا لأنها من جملة الديون المؤجلة تحل بموت المديان.

قوله: "ثم لهم ما بقي إرثًا دون ولده الأحرار، والذين لم يدخلوا معه في الكتابة" وهذا (في نظر) لأن الأبوة واحدة في الجميع فوجب أن يكون الأداء موجبًا لحريته، فحينئذ يرثه أولاده كلهم إلا أنه إنما قصر الميراث على هؤلاء لأنهم الذين دخلوا معه في عقد الكتابة، والذين خلصوه بالأداء من الرق فكأنه استحقاق مال لا ميراث، وقيل: لأنهم مساوون له في الخدمة. قوله: "وإن كانوا صغارًا أدى عنهم إن كان في المال وفاء، وإلا تجر به وأدى على نجومه، ومقتضى ما تقدم حلوله بموت المكاتب مطلقًا، ولا فرق بين أن يكونوا صغارًا أو كبارًا، وكذلك التجارة به، لأن من حق السيد أن يقول: قد حلت لي الكتابة فإن أدّى بعضهم بعض الكتابة لم يعتق ولا يعتقون إلا بأداء جميع المال، لأنها كتابة واحدة، ويلزم كل واحد منهم بقدر قوته في السعي، وما (يطيقه) وقال عبد الملك في الحاوي: إنما بعض الكتابة على عدد رؤوسهم لا على قدر طاقتهم، وكذلك إن أدّى بعضهم عن سائرهم ورجع عليهم على عدد رؤوسهم وليس للسيد أن يبتدئ إعتقاق واحد من الأولاد ممن فيه فضل السعي، لأن في ذلك تعجيز للباقين لتقويتهم بسعيه معهم، واختلاف المذهب إذا كان مع المكاتب في كتابته من قرابته إخوة أو غيرهم هل يرثون منه أم لا؟ روايتان: إحداهما: أنهم يرثونه كالولد، لأنهم مساوون له في المال والخدمة. والثاني: أنه لا يرثه إلا ولده دون كل أقاربه لأنهم يدخلون معه في المكاتبة بعد عقدها بخلاف سائر القرابة. قوله: "ويجوز الجمع بين عدة عبيد في كتابة واحدة" وهذا كما ذكره.

واختلف في كيفية الفض عليهم، ففي كتاب ابن المواز تفض عليهم الكتابة على عدد رؤوسهم، وقال ابن الماجشون: على قدر القوة والداء وقيم الرقاب، وفي المدونة وغيرها على قدر قوتهم عليها، ولم يذكر قيمة الرقاب. قوله: "وبعضهم حملاء عن بعض" وهذا كما ذكره وهو مقتضي الجمع بينهم في عقد واحد اقتضاه شرط أم لا؟ وإذ مات أحدهم لم يحط عن الباقين شيئًا. واختار الشيخ أبو الحسن على مقتضى القياس أن يحط عن الباقين ما ينوبه لأن كل واحد منهم اشترى نفسه بما ينوبه من الكتابة، فمن مات منهم فإنما مات وهو رقيق، ولو عجز بعضهم، وأدّى الباقون في الكتابة ففي صفة تراجعهم خلاف. قال ابن الماجشون ومطرف ذلك على قدر طاقتهم يوم عتقوا لا يوم عقد الكتابة. وقال أشهب: على قدر القيمة يوم الكتابة، وهل يجوز أن يجمع عبدن لمالكين في كتابة واحدة، المشهور أنه لا يجوز، لأنه كجمع السلعتين لرجلين، وهو ممتنع، ويختلف إذا نزل هل تمضي الكتابة وتحط عليهما أو تفسخ ما لم يؤديا نجمًا أو صدرًا من الكتابة، ولو كان في المكاتبين صغيرًا لا يقدر على السعي حتى تنقضي الكتابة لم يرجع عليه بشيء، ولو (قوى) على الكسب بعد مضي بعض الكتابة كلف السعي وألزم من ذلك ما ينوبه من يوم الحكم عليه، وقيل: من يوم الكتابة. قوله: "وليس للعبد تعجيز نفسه مع قدرته على الأداء" وهذا كما ذكره، لأنه رجوع إلى الرق وترك للعتق، وكذلك ليس للسيد تعجيزه، لأنه عتق على صفة، ولو رضيا جميعً، فقد اختلف فيه قول مالك، فأجازه مرة، وقال

أخرى: إن كان للعبد مال ظاهر (لم يجز، وقال سحنون: ليس له ذلك، وإن لم يكن له مال ظاهر) إلا عند السلطان، قال محمد: إن كان صانعًا ولا مال له، جاز ذلك وإذا فرعنا على أن لا يجوز فوقع ذلك، ولم يفسخ حتى فات العبد ببيع، فقيل: البيع فوت، وقيل: ليس بفوت، ويرد إلا أن (يعتقه المشتري). قوله: "وإذا أوصى السيد لمكاتبه بكتابته كلها وضع في الثلث الأقل من قيمتها أو قيمة رقبته فإن حمل الثلث ذلك وإلا فبقدر ما يحمله". وهذا كما ذكره لأن السيد لا يملك من المكاتب سوى كتابته، فإن قومنا الكتابة فلأنها التي يملك السيد من المكاتب، وإن قومنا الرقبة لكونها أقل من الكتابة، فلأن المكاتب لو عجز لعادت رقبته رقًا لاحتمال أن تكون قيمة الكتابة أقل أو أكثر عدلنا إلى الأقل منهما ولا اعتراض في ذلك للورثة، ولو وضع عنه بعض الكتابة ولم يحمله الثلث جعلنا في الثلث الأقل مما أوصى له به أو قدر ما قابله من الرقبة على نحو ما تقدم. قوله: "وليس للمكاتب أن يتصرف في ماله بإتلاف ولا غيره إلا بما يؤدي إلى مصلحته" وهذا كما ذكره، لأنه مال السيد حقيقة، وإنما يتحقق للعبد بالأداء، وله أن يزوج بناته على ابتغاء الفضل، ولا ينكح ولا يسافر إلا بإذن سيده، وأجاز ابن القاسم للمكاتب السفر القريب، ومنعه مالك، واختار الشيخ أبو الحسن أنه إن كان شأنه السفر قبل الكتابة، ومنه معيشته فليس لسيده إذا كان السيد عالمًا به، واختلف فيما كتمه العبد عن سيده. فقال مالك للعبد، وقال يحيى بن سلام في تفسير القرآن هو لسيده. قال الشيخ أبو الحسن:

فصل "والتدبير إيجاب وإلزام"

وهذا أحسن إن كان بحيث إن السيد لو علم به لانتزعه، وإن كان يسيرًا تافهًا، فهو للعبد، ثم ذكر أن حال المكاتب في حدوده وجراحه وشهادته وطلاقه حال العبد، وهو كما ذكره، لأنه غير محقق المعتق، فالأصل الملك إلا أن يثبت ارتفاعه بالأداء وقد ذكرنا أنه أحرز ماله، فلذلك لا ينتزعه منه سيده. فصل "والتدبير إيجاب وإلزام". قال في كتاب العين: دبرت المملوك: أوجبت عتقه، يعني: إذا أدبرت عن الدنيا فهو من الإدبار الذي هو ضد الإقبال، وهو من ناحية العتق، والترغيب فيه كالتغريب في العتق، ولا يخلو أن يصرح بالتدبير أو بالوصية، أو يكون اللفظ محتملاً، فإن صرح بالتدبير مضى على حكم التدبير وسنته. قال مالك: التدبير واجب، والوصية بعتق عبده إن شاء رجع فيها، وإن شاء لم يرجع، فإن نص على الوصية فله الرجوع متى شاء، فإن أتى بلفظ مجمل مثل: أن يوصي بعتقه وهو صحيح. فقال ابن القاسم: له الرجوع. وقال أشهب: لا يرجع ومبناه هل هو تدبير أو وصية، ولو كانت وصية بالعتق في مرض أو عند سفر فهي وصية، له الرجوع فيها، وكذلك إذا قال: أنت حر بعد موتي هل محمله على التدبير أو على الوصية قولان حكاهما القاضي. قوله: "ولا يجوز بيع المدبر ولا إبطال تدبيره" وهذا مذهب مالك الذي لا خلاف فيه عنه، وأجاز الشافعي بيع المدبر، واعتمد على ما

ثبت في صحيح مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (باع مدبرًا في الدين). قال النسائي: كان صاحبه محتاجًا وعليه دين، ولم يكن له مال غيره فبلغ ذلك الصبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (من يشتريه مني). واعتمد مالك أن هذه قضية في عين، وقضاء الأعيان لا يعم، وقد قال تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ولأن عتقه معلق بموت سيده، فكان كأم الولد، ولما كان من ناحية العتق وقد يؤول إليه وجب تكميل تبعيضه كالعتق وأحكامه أحكام العبيد فلذلك كان لسيده انتزاع ماله، وأن يؤاجره ويستخدمه، ويطا الأمة المدبرة وخدمة منافع متملكة كرقبته فتتعلق بها جنايته كما تتعلق بالرقاب، ومسائل هذا الباب كثيرة، وولد المدبرة الحادث بعد عقد التدبير بمنزليتها، وإذا لم يحمله ثلث المريض خرج منه ما حمله الثلث، وقد قال قوم من أهل العلم: أنه يخرج من رأس المال منهم أهل الحديث، وإذا أسلم مدبر النصراني خورج عليه فدفع خراجه، ولم يبع عليه، وانتظر موته، فيعتق من ثلثه أو ما حمل الثلث منه، وإذا قتل أو جرح فقيمته وأرش جرحه لسيده، إذ هو عبد له، ولو جنى المدبر لم يجز إسلام رقبته في الجناية، لأن في ذلك إبطالاً لعتقه، بل تسلم خدمته كما ذكرناه وجنايته بعد حريته متعلقة بذمته ومقاطعته بمال على تعجيل عتقه جائزة لأنه من تبتيل العتق وتنجيزه. قال القاضي - رحمه الله -: "حمل الأمة من سيدها يوجب لها به حرمة تمنع من بيعها" وهذا الذي ذكره هو بيع أمهات الأولاد، وقد اختلف السلف فيه قديمًا وحديثًا والخلاف فيه بين الصحابة شهير جدًا، والمعتمد عليه من مذاهب الصحابة، وأكثر السلف من الأئمة امتناع بيع أمهات الأولاد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في مارية لما ولدت منه إبراهيم: (أعتقها وولدها). وفي حديث أبي سعيد الخدري أنهم أصابوا سبايا، فاشتدت عليهم العزبة، فأرادوا الوطء والعزل، ثم قالوا: كيف نعزل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا فسألوه عن ذلك فقال: ما عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلا وهي كائية)،

(ولو) أن الحمل مبطل للثمن، ومانع من البيع لم يقرهم على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال عمر بن الخطاب: (خالطت لحومنا لحومهن ودماؤنا دماءهن، فقال عيدة السلماني لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين قال: كنت أرى مع أبي بكر وعمر أن لا تباع أمهات الأولاد، وأنا الآن أرى أن تابع فقال له عبيدة: يا أمير المؤمنين رأيك مع أبي بكر وعمر أحبّ إلينا مع رأيك وحدك وقد قال جابر بن عبد الله: إن أم الولد كانت تباع ثم نسخ ذلك، ولا فرق بين بيعها وهبتها، وإجارتها في حياة ولدها وموته سواء كمن خلقته أم لا؟ كان له مال غيرها أم لا؟ كان عليه دين أم لا؟ على ما سيجئ. قوله: "وعتقها عن سبب موجب العتق": يعني: ع تقها في كفارة ظهار أو قتل، وأما تنجيز عتقها فلا كلام في جوازه، لأنه إسقاط المنفعة المستبقاة، وإلا فالعتق مستحق بالولادة، ولسيدها الاستمتاع بها والاستخدام اليسير، ويتبعها مالها إذا عتقت بعد موت سيدها، وله انتزاعه في حياته كما كان له ذلك في كل من له فيه عقد حرية إلا المكاتب والمعتق إلى أجل إذا قرب الأجل على خلاف فيه، وفي إجباره إياها على التزويج روايتان، وقد قدمنا ذلك في كل من فيه عقد حرية. وأجاز الشافعي وأصحابه لسيدها أن يؤاجرها وهو خلاف ما عليه الجمهور، ولحصول الحرمة بالمولد، قال عمر بن الخطاب: له الاستمتاع بها على ما عاش.

قوله: "ولا يرعى وضع ولد كامل الخلقة بل ما استحل عن النطفة إلى علقة أو مضغة" وهذا (لا اختلاف) فيه في المذهب. واعتبر الشافعي التخطيط، والصحيح أن حرمة الولد (تامة) بالحمل اعتبارًا بالمعنى الذي أشار إليه عمر بن الخطاب في قوله: (خالطت لحومنا لحومهن، ودماؤنا دماءهن) وإذا ملكها بعد الحمل وقبل الوضع فهل تكون له أم ولد بذلك أم لا؟ روايتان حكاهما القاضي. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أيما أمة حملة من سيدها فهي حرة). فلا فرق على هذا بين أن تحمل منه بعد الملك أو قبله، وأجاز مالك للكاتب بيع أم ولده في الدين يرهنه، وأجاز له بيعها في غير الدين، وهذا يدل على أنه لا يثبت لأم ولده حرمة أمهات الأولاد، وفي أم ولد المدبر روايتان هل يثبت لها العتق بموته. إذا أعتق، وإذا جنت فسيدها بالخيار بين فكاكها بالأقل من الأرش أو قيمتها ولا يجوز تسليمها لما فيها من عقد الحرية الصحيح.

كتاب الأقضية والشهادات

كتاب الأقضية والشهادات الأصل في القضاء بين الناس الكتاب والسنّة والإجماع. أما الكتاب فقوله سبحانه: {يداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق} الآية [ص: 26] وقوله سبحانه: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} [النساء: 105]. وقوله سبحانه: {يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء: 135]. وقال سبحانه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء: 65]. وقال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58]. وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين) إشارة إلى عظم الخطر في خطة القضاء وبعدا لتخلص منها. وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر يا أبا ذر: (إني أراك ضعيفًا، وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم). قال علماؤنا: لا يتولى القضاء من علم منه الرغبة فيه والحرص عليه لأنه غير معان ولا مؤيد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنا لا نستعمل على عملنا هذا من أراده أو حرص عليه)، وقال لعبد الرحمن سمرة: (لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من مسألة وكلت إليه، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) خرّجه الشيخان البخاري ومسلم. وخرّج الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتغى

القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده). وفصّل علماء الشافعية الأمر في طلب القضاء تفصيلاً حسنًا جاريًا على مقتضى الفقه، فقالوا: إن كان طالب القضاء ليس من أهل الاجتهاد والعدالة كان تعرضه له محظورًا، وصار بالطلب له محظورًا وإن كان من أهله فله أحوال: أحدهما: أن يكون القضاء في غير مستحقه، إما لنقص (علمه) أو لظهور جوره فيجب أن يحبطه دفعًا لمن لا يستحقه فهذا سائغ لما تضمنه من منكر، ثم ينظر فإن كان أكثر قصده إزالة غير المستحق كان مأجورًا، فإن كان أكثرها اختصاصه بالنظر فيه كان مباحًا. والحالة الثانية: أن يكون القضاء في مستحقه وهو من أهله، ويريد أن يعزله عنه، إما لعداوة بينهما أو ليجربه إلى نفسه نفعًا، فهذا الطلب محظور عليه، وهو مجروح لتعرضه له. والحالة الثالثة: أن لا يكون في القضاء ناظر فينظر حاله فيطلبه لهذه الخطة، فإن كان لحاجته إلى رزق القضاء وخراجه مستحق في بيت الحال كان مباحًا وإن كان لرغبة في إقامته وخوفًا من أن يليه غير المستحق له، كان طلبه له مستحقًا، فإن قصد بطلبه المباهاة والمنزلة، فلأصحاب الشافعي فيه قولان الكراهية، والجواز، الكراهة لقوله سبحانه: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو في الأرض ولا فسادًا} [القصص: 83]. والجواز اعتمادًا على قوله تعالى حاكيًا عن يوسف - عليه السلام -: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 55]. واشترط العلماء (في القاضي شروط) منها ما هو على الإيجاب، ومنها ما هو على وجه الندب والاستحباب. قال القاضي: "ولا يستقضي إلا فقيه من أهل الاجتهاد لا عامي مقلد" وهذا كما ذكره .. أما كونه فقيهًا فاحترازًا من العامي، ولا يجوز أن يكون

القاضي عاميًا عندنا خلافًا لأبي حنيفة، والمعتمد لنا قوله سبحانه: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105] وذلك لا يتصور إلا أهل الاجتهاد، وقال سبحانه: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص: 26] والعامي لا يعرف الحق من الباطل، فلذلك أوجبنا أن يكون فقيهًا واشترط القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، وقد اختلف فقهاؤنا هل اشتراط كونه من أهل الاجتهاد واجب أو مستحب، والذي عوّل عليه القاضي في كتبه كلها أنه شرط وجوب. قال في شرح الرسالة والمعونة وغيرهما: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد عارفًا بالكتاب والسنّة وطريق الاجتهاد وترتيب الأدلة وكيفية النظر فيها، وتخريج الفروع عن الأصول، وهل يجوز له أن يقلد غيره في نازلة أم لا؟ أما إن ضاق الوقت عن الاجتهاد، ولم يجد سبيلاً إليه فيتعين عليه تقليد الأعلم، وإن كان في فسحة من النظر، ومهلة يمكنه فيها الاجتهاد، ولم يخف فوات الحادثة فهل يجوز له تقليد غيره أم لا؟ فيه تردد وخلاف، والأصح جوازه اعتمادًا على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كان بعضهم يقلد بعضًا حيث لا يمكنهم الاجتهاد، (وقد قال معاذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث بعثه إلى اليمن: أجتهد رأيي). وهذا يدل على بطلان ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن العامي يجوز أن يكون قاضيًا، ويقلد غيره. قال مالك في كتاب ابن حبيب: لا أرى خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، فإن اجتمع منها خصلتان ولي القضاء العلم والورع. قال ابن حبيب: فإن لم يكن العلم فالعقل، فبالعقل يسأل، وبالورع يعف. قال سحنون: فإن كان فقيرًا أغنى من بيت المال، وشروط القضاء وآدابه كثيرة مذكورة في الدواوين الكبيرة.

قوله: "ولا يكون الحاكم عبدًا ولا امرأة": أما العبد فلنقصه بخساسة الرق الذي هو من آثار الكفر ولا خلاف في ذلك بين العلماء، وأما المرأة (فللعلماء في كونها حاكمًا ثلاثة مذاهب، فأجاز الطبري كونها قاضية في كل شيء، ومنعه مالك وجماعة أصحابه في كل شيء، وأجاز أبو حنيفة قضاءها فيما تجاوز فيه شهادتها فقط. وروى نحوه عن مالك، الدليل لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ناقصات عقل ودين) الحديث. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أخروهن حيث أخرهن الله)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولأنها ولاية لفصل الأحكام، وتنفيذ القضايا، فلا يجوز كالإمامة الكبرى، وأما الطبري فرأى أن الغرض من الحاكم تنفيذ الأحكام، (وسماع) البيانات (والقضاء) بين الخصوم، وذلك متأت من المرأة كتأتيه من الرجل، ويلزمه عليه جواز ولايتها الإمامة الكبرى، إلا أن المقصود منها حوزة (البيضة) وحماية الحوزة والندب عن الأمة وجباية الخراج، وحفظ أموال المسلمين وصرفها في وجوبها، وذلك قد يتأتى من المرأة والعبد، وبهذا انقض القاضي

أبو بكر بن الطيب علي أبي الفرج بن ظرارة في مجلس الخلافة ببغداد. قوله: "وينبغي للحاكم أن يجلس في المسجد" وهذا تنبيه على خلاف الشافعي لأنه كره جلوس القاضي في المسجد تنزيهًا له عن الخصومة ودخول أجلاف الناس إليه. قال مالك في المدونة القضاء في المسجد من الأمر القديم، وفي كتاب ابن حبيب: كان قد مضى من القضاة لا يجلسون إلا في رحاب المسجد خارجًا، إما في موضع الجنائز، أو في رحبة القضاء. قال مالك: وإني لاستحب ذلك في الأمصار من غير تضييق ليصل إليه اليهود والنصارى والحائض والضعيف، وحيث ما جلس القاضي فهو جائز، وقال أشهب: لا بأس أن يقضي في منزله، وحيث أحب والمستحب عند متأخري أشياخنا أن لا يقضي في المسجد لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (جنبوا مساجدكم برفع أصواتكم وخصوماتكم) ويجلس وقتًا معينًا من النهار يعلمه أهل الخصومات ليأتوا إليه فيه، ولا يجلس للقضاء في أيام الأعياء، وقال محمد بن عبد الحكم: ولا في يوم التروية ويوم عرفة، وكذلك يرخص له في ترك الجلوس يوم (الطين) والوحل إلا في ضرورة. وينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في المجلس، والإقبال عليهما إذا كانوا بين يديه، فإن

كان أحد الخصمين ذميًا فهل يرجح المسلم عليه في المجلس أم لا؟ قولان: أحدهما: أن المسلم يتقدمه في المجلس بالشيء اليسير، وفي كتاب ابن حبيب يسوي بينهما (وإن كان أحدهما ذميًا). وحكى الإمام أبو عبد الله، قال: أخبرني شيخي عبد الحميد الصائغ، قال: كانت في بني إسرائيل عجائب منها إذا مات الحاكم فيهم تركوه في بيت، فإذا افتقدوه من الغدو، وجدوا أمارة تدل على حال، فمات قاض من قضاتهم ففعلوا به ذلك، فلما أصبح دخل عليه أخوه، فرأى ذباب تدخل من إحدى أذنيه، وتخرج من الأخرى فأرعب لذلك، فلما نام رآه في المنام فسأله عن ذلك، فقال: يا أخي تحاكم إلي خصمان فأصغيت إلى أحدهما أكثر من الآخر فعاقبني الله بما تراه. واختلف الفقهاء في جلوس أهل العلم معه، فقال ابن المواز: لا (أحب أن) يقضي إلا بحضرة أهل العلم ومشاورتهم وهو قول أشهب، وكان عثمان بن عفان إذا جلس للقضاء أحضر أربعين من الصحابة، ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه، ومنع ذلك مطرف وابن الماجشون قالا: ولكن إذا ارتفع عن مجلس القضاء استشارهم لأنه قد يكون حضورهم سببًا لحصن يدركه، ولا يجلس إلا بمحضر عدول السماع إقرار الخصوم، ويفرد النساء عن الرجال بالخصومة، ويجعل لهن وقت لا يخالطهن فيه الرجال. قوله: "ولا يحكم بعلمه في شيء من الأشياء لا فيما علمه قبل ولايته ولا بعدها لا في مجلسه ولا غيره". وهذا الأصل قد اختلف فيه المذهب اختلافًا مشهورًا والمعتمد عليه من مذهب مالك أنه لا يقضي بعلمه في شيء من الأشياء على الإطلاق، إلا في التزكية والجرحة، فيقبل شهادة من علمه

(عدلاً من غير حاجة إلى تزكية، ويرى شهادة من علمه) فاسقًا وعكسه الشافعي، فقال: يقضي بعلمه في كل شيء، وقال عبد الملك، يحكم بعلمه فيما علمه في مجلس حكمه مثل: أن يعترف الخصم بمحضرة، ثم ينر ولا يقضي فيما عدا ذلك وهو قول سحنون والدليل لنا من أوجه: الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم بعلمه في المنافقين بل امتنع من قتلهم مع علمه بكفرهم، إذ لم يعلم الناس كفرهم كعلمه، ولذلك قال: (أيتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه). والدليل الثاني: ما أخرجه أهل الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بعث أبا جهم مصدقًا فلاح رجلان فشجهما فأتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلبان منه القصاص فبذل لهما مالاً يرضيا به) فقال: إني أخطب الناس، فذكر لهم ذلك، أفرضيتهما؟ فقالا: نعم فخطب الناس فقال أرضيتما؟ فقالا: لا، وقد كان ذكر قصتهما، وأنهما رضيا بهما المهاجرون فمنعهما النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم نزل فراودوهما فرضيا ثم صعد المنبر، فقال: أرضيتما؟ قالا: نعم.

والدليل الثالث: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحوها أسمع) الحديث. والدليل الرابع: قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث هلال بن أمية لما لاعن زوجته إن جاءت به على نعت كذا، فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك (فجاءت به على النعت المكروه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها) فقد علم -صلى الله عليه وسلم- (أنها زنت لإخباره أنها إن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك) ثم لم يحكم بالحد لعدم البينة، وعند المخالف يجب أن يرجمها إذا علم بذلك. فإذا بنينا على المشهور عندنا أنه لا يحكم بعلمه لا في مجلسه ولا غيره فسمع إقراره الخصم في مجلسه فإنه يرفع ذلك إلى من هو فوقه، وهل يرفع إلى من هو تحته أم لا؟ قولان في المذهب. وفي كتاب محمد عن مالك لا تقبل شهادة القاضي فيما أقر به الخصم عنده في حين المحاكمة، وإنما يرفع شهادته فيما عنده في غير مجلس الحكم، وأما في مجلس الحكم فلا تقبل فيه شهادته، ولا يرفع إلى غيره. قال الشيخ أبو الحسن: وأما ما كان من العلم قبل أن يجلس الخصمان للحكومة جاز أن يرفع شهادته، واختلف في قبول شهادته فيما أقر به عنده في (غير) المحاكمة، ورأى أن تقبل إذا لم يكن

حكم، كما تقبل في العبد يشهد بشهادة، فلم ترد حتى عتق أنه (ينفذها) وتقبل منه، فإن حكم بعلمه لم يرد حكمه لاختلاف أهل العلم فيه. ثم ذكر أن التزكية لا تقبل إلا من اثنين عالمين بطرقها عارفين بأحكامها، وصفة تزكيتها أن يقولا: إن فلانًا عدل رضا، فإن اقتصر على أحد اللفظين أجزى، وكذلك إذا أتيا بما يتضمن ذلك ويدل عليه، قال مالك: ولو قالا هو من أهل الخير أو فيه خير، كانت تزكية من (العالم) بها. قوله: "وإذا نسي (الحاكم) حكمًا حكم به، فإن شهد به عنده عدلان (نفذ) بشهادتهما"، وكذلك عندنا إذا أنكر أن يكون حكم به فشهد رجلان على حكمه به، ثبت الحكم بشهادتهما، وهذا تنبيه على خلاف الشافعي وأبي حنيفة حيث قالا: إن لم يذكر حكمه لم تنفع شهادة الشهود شيئًا، وإن ساغ له الحكم على الشهادة فيما يشهد به الشاهدان فكذلك حكمه لأنها شهادة فيها حق لمن شهد بالحكم له ففيها حق للغير فيلزم إمضاؤها، ولو وجد حكمًا في ديوانه بخطه، ولم يذكر أنه حكم به لم يجز له الحكم به إلا أن يشهد به عنده شاهدان، وقال ابن أبي ليلى: يحكم بخطه في الديوان لأنه كالشهادة وهو فقه سديد، بناء على العمل بالشهادة على الخط، ولو أنكر المحكمة عليه أن يكون خاصمًا عند ذلك القاضي، وقال القاضي: كنت خاصمت وأعذرت إليه، ولم تأت بحجة فحكمت عليك، ففي كتاب ابن حبيب عن أصبغ: القول قول القاضي. وحكى الشيخ أبو القاسم بن

الجلاب أنه لا يقبل قول القاضي إلى ببينة. قال الشيخ أبو الحسن: وهو شبه في قضاة اليوم. ولو قال القاضي: شهدت عليه البينة وحكمت عليك بشهادتهم، فأنكرت البينة ذلك، ففي العتبية عن ابن القاسم يرجع الأمر إلى السلطان، فإن كان القاضي عدلاً لم ينقض قضاءه (وقال سحنون): ولا يرجع على الشهود بشيء. وفي كتاب محمد: إذا شهد رجلان فحكم القاضي بشهادتهما على رجل بمائة دينار، ثم أنكر الشاهدان، قالا: إنما شهدنا بمائة للآخر غير المحكوم عليه، والقاضي على يقين أن الشهادة كانت على ما حكم، قال: فعلى القاضي أن يغرم المائة للمحكمة عليه، لأن الشهود شهدوا بخلاف قوله: "ولا يجوز للقاضي أن يرجع على المشهود له" لأنه يقول حكمت بحق، فإن قال القاضي: أنا أشك أو وهمت نقض الحكم، ورجع إلى ما تقوله البينة، وإن أنكر الحاكم والمحكوم عليه الحكم، وقال: ما حكمت بهذا فشهدت البينة للمحكوم له أنه كان حكم له به، فإن الحكم يمضي، وعلى الحاكم أن ينفذ ما تضمنه الحاكم. قوله: "ولا يحلف المدعى عليه بمجرد (دعوى المدعي) دون أن ينظم إليها سبب يقويها": وهذا الذي يسميه علماؤنا اعتبار الخلطة والمقصود وجود سبب ما يطرق الدعوى، ويصحح تعلقها خلافًا للشافعي وأبي حنيفة حيث قالا: أنه يحلف بالدعوى على أي وجه كان واختلف القائلون باشتراط زيادة على نفس الدعوى هل يشترط أن تكون الدعوى مما يشبه مثلها

على المدعى عليه بشبهة تقوم على ذلك، ودليل يختلف باختلاف المدعى عليه، وقيل: لا بد من اشتراط المعاملة بينهما، والمبايعة بالنقد مرارًا أو (بالنسيئة) مرة واحدة، إذا كانت الدعوى في مال، وصح اشتراط الخلطة عن جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وإنما اعتبرها مالك، ومن قال بقوله من أهل المدينة من باب حماية الذرائع ورعاية المصالح، إذ لولا اعتبرها لما شاء أحد من أهل الرذالة أن يؤذي أحد من أهل الديانة والحلم والأمانة إلا آذاه بنفس الدعوى الفاجرة، وفي ذلك إضرار بالناس (وتطرق) لإيذائهم، فإذا قوي السبب، وقامت الظنة، غلب على الظن إمكان ما يدعيه المدعي. قال علماؤنا لا خلطة بينهم: التجار في السفينة، وفي الأسواق والرجل الغريب يدخل بلدة فيدعي أنه أودع عند رجل مالاً، والسارق، والسمسار. واختلف بماذا تثبت الخلطة، فقال ابن كنانة: (تثبت الخلطة) بشاهد واحدة أو امرأة، قال محمد: إن أقام شاهدًا حلف معه المدعي، لم يحلف المدعى عليه، والذي اختاره الأشياخ أن الشاهد الواحد تثبت به الخلطة، وكذلك تثبت بالمرأة الواحدة العدالة (لأن المراد إثبات لطخ للدعوى، وذلك يحصل بالمرأة الواحدة) وبالشاهد الواحد، قال الشيخ أبو الحسن: المراد في بيوعات النقد، وفي الدعوى في المبيعات والصناع والودائع والغضب والتعدي والجرح دعوى الشبهة لا المبيعات. قال بعض المالكية: الاجتماع في المسجد خلطة. قوله: "وإذا حكم المتداعيان بينهما رجلاً (ارتضياه) جاز حكمه

عليهما": التحكيم في الأموال وما في معناها جائز عندنا لازم لمن ألزمه ببينة وافق حكم قاضي البلد، أو خالفه. وقال أبو حنيفة: لا يلزم الخصمين منه إلا ما وافق حكم قاضي البلد، وجعله الشافعي في أحد قولية فتيا لا حكمًا، وكذلك إذا كان المحكم عدلاً من أهل الاجتهاد، أو عاميًا مسترشدًا بالعلماء، فإن كان عاميًا فحكم، ولم يسترشد فهو جور مردود، وإن وافق (يلزمهما ما حكم به عليهما إن وافق) مذهب إمامهما، فإن كانا مالكيين فحكم بينهما بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة، أو شافعيين فحكم بمذهب مالك أو أبي حنيفة لم يلزمهما ذلك، ويشترط فيه أن يكون مجتهدًا بحيث لا يخرج باجتهاده عن مذهب إمامها. قال سحنون: لا ينبغي التحكيم في لعان، ولا في إقامة حد، وإما ذلك لقضاة الأمصار العظام. قال أصبغ: ولا تحكيم في قصاص ولا طلاق ولا عتاق ولا نسب ولا ولاء، وهذه الأشياء للإمام. واختلف المذهب إذا حكمًا عبدًا أو امرأة أو مسخوطًا من لا يجوز قضاؤه، ففي كتاب بن حبيب عن مطرف لا يجوز حكم أحد من هؤلاء، وإن حكم أحدهما بصواب لم يلزم، وأجازه أصبغ في جميعهم المرأة والعبد والصبي (والمسخوط إذا كان الصبي يعقل وأجازة أشهب في كتاب ابن سحنون في جميعهم إلا الصبي). وأجازه ابن الماجشون في جميعهم إلا في المرأة والعبد، ولا يجوز تحكيم النصراني ولا المجنون ولا (المبرسم). قوله: "وافق حكم قاضي (البلد)، أو خالفه" تنبيهًا على خلاف أبي حنيفة.

قوله: "ويحكم على الغائب (ويسمع) البينة عليه" وهذا تنبيه على خلاف أبي حنيفة الذي لا يقول بالحكم على الغائب، ومذهب مالك الحكم عليه في كل شيء إلا في الرباع ففيها خلاف، فقيل: يحكم عليه فيه كسائر الممتلكات، واستحسن مرة التوقف عن الحكم فيها لأن مأمونة لا يخاف عليها. والدليل لنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهند زوج أبي سفيان: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) الحديث. وقال عمر بن الخطاب في أسيفع حاضرًا، وقد انعقد الإجماع على جواز الحكم على العاقلة بوجوب دية الخطأ عليهم، وإن كانوا غائبين، وقول أبي حنيفة أنه يسمع البينة عليه، ولا يحكم عليه لا معنى له، إذ لا فائدة لسماع البينة إلا ليحكم بمقتضاها، والعمل بموجبها، ثم ذكر كتاب القاضي إلى القاضي وثبوت الحق عند المكتوب إليه، أو عند من أقيم مقامه، وذلك حكم أوجبته الضرورة لإنفاذ الحقوق والتحرز من ضياعها، ولا تنفع الشهادة على خط القاضي في بلد آخر، ولا بد من إقامة شهادة عادلة عنده أن ذلك كتاب القاضي إليه، وإن شهدا عليه بالحكم فهو أبلغ فهما طريقان، أما الشهادة عنده بأنه كتاب القاضي أشهدهم به من لفظه لا من كتابه، وأما الشهادة بتفصيل مضمونه فهو أثبت من الأول وألزم المنصوب مقام القاضي الأول، إذا مات الأول أو عزل أن يحكم بما في كتاب، وإن لم يكن له، وهذا تنبيه على خلاف أبي حنيفة القائل بأنه لا يجوز للثاني أن يحكم بما فيه وهذا ضعيف لأن القاضي إما أن يكتب بأنه قد حكم، ويلزم كل من ثبت عنده من الحكام تنفيذه، أو بكتب بما ثبت عنده فيجري ذلك مجرى

الشهادة، فتنتقل الشهادة عنه كما تنقل عن الشهود الغائبين أو المرضى ونحوهم. قوله: "وحكم الحاكم ينفذ في الظاهر ولا يحيل الباطن على ما هو عليه" وهذا مذهب مالك والشافعي وجمهور الفقهاء، وشذ أبو حنيفة فقال: إنه يتعلق بالظاهر والباطن، والدليل لنا عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إننا معاشر الأنبياء إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)، وقد ارتكب أبو حنيفة في هذه المسألة (مرتقى صعبًا، واجترى فيها على هتك الشريعة، وإفساد الملة) وقد تعرض الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في الطعن عليه فيه، والترتيب لقوله وتزييف رأيه في كتاب الحيل من جامعه الصحيح. وصور أبو حنيفة على هذا الأصل الفاسد فروعًا فاسدة فقال: إذا ادعى رجل على أجنبية أنها زوجته، وأقام على ذلك شاهدين بزور شهدا بالزوجية، وحكم الحاكم بشهادتهما فيجوز له عنده أن يطأها وتصير له زوجة عند الله تعالى، وعندنا أنها محرمة عليه مع علمه وهو زان، وفي وجوب الحد عليه نظر، وكذلك لو ادعت المرأة على زوجها أنه طلقها ثلاثًا، وشهد بذلك شاهدي زور، وحكم بشهادتهما الحاكم، فيجوز له أن تتزوج غيره، ولا يجوز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو يسلم أن زوجها لم يطلقها إلى غير ذلك من فروعه الفاسدة في هذا الأصل المبنية على الهوى البعيدة عن الحق بالإطلاق، وله في ذلك تفصيل ننزه كتابنا عن ذكره. وهذه المسألة من أكثر معايبه، وأذم مساوئه.

قوله: "ولا تقبل شهادة غير العدول، ولا يكفي ظاهر الإسلام من العدالة" وهذا لا خلاف فيه لقول الله -عز وجل-: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2] وقوله سبحانه: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. وقال عمر بن الخطاب: (لا يؤمر أحد في الإسلام بغير العدول)، وظاهر الإسلام شرط من شروط العدالة، والشاهد على ثلاثة أقسام: معلوم العدالة فتقبل شهادته، ومعلوم الجرحة فلا يقبل قوله، ومستور (الحال) فهل يحمل على العدالة، أو على الجرحة فيه خلاف بين أهل العلم، ومذهب مالك أن شهادته غير مقبولة واكتفى أبو حنيفة وغيره في ذلك بنفس الإسلام، وشرط العدالة أن يكون الشاهد بالغًا عاقلاً احترازًا من الصبيان والمجانين وشهادة الصبيان جائزة فيما بينهم، على ما سيجيئ. قوله: "حرًا": احترازًا من العبد وهي مردودة عندنا خلافًا لداود بن علي، والدليل لنا قوله سبحانه: {ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2] وهذا خطاب للأحرار، ولأن الرق نقص يمنع من قبول القول قاسيًا على الأرجح. وقولنا: "مسلمًا": احترازًا من الكافر وهي مردود مطلقًا، وقال أبو حنيفة: هي مقبولة على غير أهل ملتهم في السفر، والمعتمد له قوله تعالى: {أو آخران من غيركم} الآية [المائدة: 106]. وسببها معلوم في حديث تميم الداري. وأما قولنا: "ثقة أمينًا" فهو خصوصية العدل الذي يتميز بها عن غيره، وقد قال العلماء في صفة العدل: هو المجتنب للكبائر كلها وأكثر الصغائر. قال ابن الخطيب: العدالة هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعها حتى تحصل الثقة بصدقة. قال الماوردي: أوصاف

العدل أن يكون صادق المحبة (ظاهر الأمانة) عفيفًا عن المحارم، متوقيًا للمآثم، بعيدًا عن الريب، مأمونًا في الرضا والغضب، مستعملاً للمروءة في دينه ودنياه، ثم ذكر الأمور العارضة للعدل المانعة من قبول الشهادة وحصرها في التهمة الموجبة لاضطراب النفس باتهامه من صدق خبره، وذلك كشهادة الابن لأبويه، والأبوين له، وهي مردودة للتهمة، وكذلك الأجداد والجدات، وهذا الذي ذكر فيه تفصيل وخلاف، وأما شهادة الأب لولده على أجنبي فمردودة بلا خلاف عندنا، وأما شهادته لأحد ولديه على الآخر، إذا لم يعلم كيف منزلتهما عنده ففيه خلاف الجواز والمنع من باب التهمة لأمكن أن تكون شهادته لأقربهما منه رأفة، ولذلك لا تجوز شهادته كصغير أو كبير، ولا السفيه على رشيد لأنه يتهم في بقاء المال تحت يده، وتجوز للكبير على الصغير وللرشيد على السفيه، إلا أن تقوم في ذلك ظنة واختلف إذا كانا صغيرين، أو كبيرين، أو سفيهين، أو صغير رشيد، وسفيه كبير، وتجوز للعاق على البار، ولا تجوز شهادته للبار على العاق لاتهامه، ومنع سحنون من ذلك كله جملة من غير تفصيل، وهو ظاهر كلام القاضي، وأجاز ذلك داود وأهل الظاهر مع ثبوت العدالة بناء على أن العدل لا يتهم. والدليل على خلاف ما قالوه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين) والظنة ههنا معلومة إذا شهد لابنه على أجنبي، وأما شهادته لأحدهما على الآخر ففيها خلاف مشهور. ففي كتاب محمد: لا تجوم شهادته لأحد أبويه على الآخر، إلا أن يكون مبرزًا، ويكون الشيء يسيرًا. وقال ابن نافع: شهادته لأحدهما على الآخر جائزة إلا أن يكون الابن في ولاء الأب، ولو شهد على أبيه بطلاق أمه، فإن كانت الأم منكرة لذلك جازت شهادته، لأنها شهادة عليهما وإن كانت الأم هي القائمة

بالشهادة، منعها أشهب وأجازها ابن القاسم جملة من غير تفصيل، ولو شهدا بطلاق غير أمهما، إما أن تكون أمهما حية أو ميتة، فإن كانت ميتة جازت شهادتهما على الأب لانتفاء التهمة، وإن كانت تحية وهي القائمة بشهادة ولديها على أبيهما، فمنع ابن القاسم من قبول شهادتهما وردها بالتهمة، وأجازها أصبغ، واختلف في شهادة الأخ لأخيه على أقوال فقيل: جائزة مطلقًا، وقيل: مردودة مطلقًا، وقيل: تجوز في الأموال مطلقًا، وقيل: تجوز في اليسير من الأموال، وقيل: تجوز فيما لا تدركه فيه العصبية (والغضب) ولا تجوز فيما يقع فيه ذلك، وقبل: تجوز شهادته له إلا فيما فيه شرف له، أو في نفيه عنه معرة، وقيل: تجوز شهادته إن كان مبرزًا وإلا فلا. قال أصبغ: لا تجوز شهادته أن فلانًا قذفه لأنه يدفع بها معرة واختلف في شهادته له في جراح الخطأ لأنها مال، والصحيح جوازها، وكذلك اختلف في شهادته له في جراح العمد، فالمعروف من المذهب المنع لأنها مما تدركه في مثلها الحمية، وأجازها أشهب في العتبية، وفي كتاب محمد: تجوز شهادته أن فلانًا قتل أخاه إذا كان الولي والوارث غيره. قال أصبغ: وفيه اختلاف وهذا أحب إلينا وكذلك اختلف هل يجوز تعديه لأخيه أم لا؟ والمنع أصوب حفظًا للشهادة، وطريقًا (إلى التهمة). واختلف في شهادة الأصهار، ففي العتبية عن ابن القاسم: لا تجوز شهادة الرجل لزوج ابنته ولا لزوجة ولده. وقال في كتاب ابن سحنون: ولا تجوز شهادة الرجل لربيبته، ولا لزوجة ولده إلا في الشيء اليسير التافه، وأجازها سحنون (لهؤلاء) وكذلك شهادة الصديق لصديقه إذا كان لا يناله معروفه ولا صلته. قال مالك: شهادته له جائزة. وقال ابن كنانة: تجوز في اليسير دون الكثير وذلك كله من باب رد شهادة العدل بالتهمة، وكذلك لا

تجوز شهادته على عدوه في حطام الدنيا. قال سحنون: إن كانت العداوة غضبًا فيه فجرمه وفقه جازت الشهادة، وأجاز أبو حنيفة شهادة العدو على عدوه وكذلك المتهاجران إذا سلم عليه ولم يكلمه لم تجز الشهادة، واختلف إذا اصطلح لمتهاجران، فقال محمد: الشهادة جائزة. وقال مطرف وابن الماجشون: إن كانت الشهادة بحدثان الصلح لم تجز، وإن طال جازت. وقال ابن القاسم في أربعة أتوا متعلقين برجل فشهدوا عليه بالزنا لم تجز شهادتهم، لأنهم خصماؤه. وفي كتاب ابن حبيب: شهادتهم جائزة، واختلف أيضًا في شهادة الرجل على ابن عدوه بمال أو بما لا يلحق الأب منه معرة، فأجازها محمد، وإن كان الأب (حيًا إلا من) في ولاء أبيه، وقال: ترد سواء كان الأب حيًا أو ميتًا. قال ابن القاسم: لا تجوز إذا كانت عدوًا لأب الصبي، وشهد بعد موته، ولو كان مثل شريح وسليمان بن القاسم ولا تجوز شهادة الوصي ليتيمه، وفي شهادته عليهم روايتان: الرد، والقبول، ولا تجوز شهادة أحد الزوجين للآخر عندنا، وأجاز ذلك الشافعي، ولو شهد لزوجته وهي أمة بأن مولاها أعتقها فردت شهادته، فلها أن تختار لنفسها على مقتضى إقرار الزوج، وليس له إصابتها، واختلف إذا أرادت البقاء على الزوجية هل له إصابتها لأنها أسقطت حقها، أو يمنع منها ليلاً يرق الولد فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو الحسن، كذلك لا تجوز شهادة الأجير أن يستأجره إلا أن يكون مبرزًا في العدالة إذا كان الأجير في نفقته وإن لم يكن في نفقته جازت شهادته له، وسواء كانت النفقة بالتطور أو من الإجارة،

واختلف في شهادة الزاني إذا تاب من الزنا هل تجوز اعتبارًا بالتوبة، أو لا تجوز تغليبًا للتهمة، وكذلك صاحب كبيرة إذا تاب عنها هل تقبل شهادته فيها أم لا؟ والصحيح القبول لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك} [النور: 5] وهذا الاستثناء رجع لكل ما تقدم من حقوق الله سبحانه، ووقع لسحنون في رجل جنى على رجل فاقتص من الجاني أنه لا تجوز شهادة المقتص منه مثل ذلك الجرح؛ حكاه الشيخ أبو الحسن. قوله: "والثالث شهادة البدوي للقروي أو عليه في الحقوق" التي يمكن التوثق بها في الحاضرة. وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فأجاز الشافعي وأبو حنيفة شهادة البدوي للقروي، وعليه في سائر الحقوق والأموال والحدود وكل شيء له أو عليه، وأجازها مالك في الأموال ومنعهما في الحقوق التي جرت العادة بالتوثق فيها في الحاضر كالوثائق والصدقات والأحباس، ونحو ذلك، فهذا لا تجوز شهادة أهل البادية فيه، إذ العادة جرت أن مثل هذا يشهد به في الحاضرة لأن الناس لا يتركون التوثق في الأحباس والصدقات والوصايا بإشهاد جيرانهم، وأهل بلدهم ولا يستشهدون أهل البوادي إلى لريبة. قال الشيخ أبو الحسن: إلا أن تعلم بينهم خلطة أو يكون جميعهم في سفر، وتجوز شهادة البدوي بين الحضريين في القذف والجرح والقتل. قوله: "ومثله أن يشهد الفاسق أو الصبي أو العبد أو الكافر بشهادة في حال النقص فردت، ثم (يبلغ) الصبي، (ويعتق) العبد ويسلم الكافر

وتحسن حالة الفاسق بالتوبة" وهذا راجع إلى القسم الثالث الراجع إلى الحال، وبطلت فيه شهادة هؤلاء للتهمة أن يكونوا إنما شهدوا الآن بها ليزول عنهم عار ردها أو لا؟ ثم ذكر تبغيض الشهادة، وصور فيه صورتين: إحداهما: أن تجتمع في الشهادة ما فيه تهمة، وما لا تهمة فيه مثل أن يشهد بحق واحد لابنه ولأجنبي أو لنفسه ولأجنبي فلا تقبل في الجميع، ومن (هذا الأسلوب) أن يشهد بوصية له فيها شيء، فإن كان الذي له فيها مما له بال، وقد ردت الشهادة كلها، وإن كان يسيرًا لا بال له، ففيها ثلاث روايات: أحدهما: قبول الشهادة في الجميع، والثانية: ردها في الجميع، والثالثة: قبولها في غير ماله وردها في مالهن وهذا مبني على تبعيض الشهادة. قال أصبغ في العتبية في رجلين شهدا على وصية، شهد كل واحد منهما لصاحبه، فإن كانت في كتاب واحد بطلت الشهادة، فإن كانت بغير كتاب جازت، وحلف كل واحد مع شهادة الآخر. قال في المبسوط: إذا شهد الموصى له جازة شهادته لغيره ويحلفون معه ويستحقون، وإن شهد معه آخر جازت

شهادتهما لأهل الوصايا، وحلف مع الشاهد الآخر، وستحق يسيرًا كان أو كثيرًا. قال مالك: فيمن شهد في ذلك حق له فيه شيء لم يجز له ولا لغيره، قال في المجموعة: لأن أحدهما لا يأخذ منه شيئًا إلا إذا دخل عليه صاحبه، ولو اقتسما (قبل الشهادة جازة شهادته) قال أشياخنا: إذا قال الشاهد أعلم أن شهادتي فيما يصيبني (لا تجوز) وإنما أقصد بأداء الشهادة لأجنبي، وذكرت ما أوصى لي به لأؤدي المجلس حسبما كان لا لأنها تنفعني كان ذلك أبين أن لا ترد لأجنبي في يسير أو كثير. والصورة الثانية: أن تجمع الشهادة ما يختلف جنسه في قبول الشهادة فيه مثل: أن يشهد النساء بوصية فيها مال أو عتق أو يشهدن بطلاق (وعتق)، فتقبل شهادتهن في المال والدين دون العتق والطلاق. قوله: "والمراعي في (ذلك) أن يشهد المزكي بأنه عدل رضا" قد قدمنا أن هذين اللفظين مأخوذان من كتاب الله -عز وجل-: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282] وفي قوله: {ذوي عدلٍ منكم} [الطلاق: 2] فإن عبر بلفظ يقتضي ذلك، ففي الاقتصار عليه (خلاف). قال القاضي: ولا يكفي من ذلك أن يقول: لا أعلم له زلة ولا خزية ولا أعلم إلا خيرًا، وإني أرضى به لي وعلي. قال أبو إسحاق: يجزي على هاتين اللفظتين ما في معناهما مثل أن يقول: هو من أهل الخير وهو من أهل الفضل ونحوه. ومن اشتهر بالصلاح والدين قبلت شهادته من غير تزكية ولو عدله رجلان وجرحه آخران ففيه روايتان، قيل: يؤخذ بأعدلهما، والتجريح بالعدالة لا بالعدد، وقيل: بالعدد، وليس عليه عمل، وقيل: يؤخذ بالجرح لأنه يخفى ولا يظهر. وحكى الخلاف في قبول الجرح المجمل والذي اختاره المحققون من

أشياخنا أن التجريح المجمل لا يصح إلا من العلم، فلا بد من تفسير الجرح، والتجريح يقع بترك الواجبات أو فعل الكبائر إلا الغيبة إلا أن تتكرر، وقيل: لا يجرح بها، وغن تكررت. واختلف المذهب هل يشترط في التجريح اتفاق المجروحين على سبب واحد بجرح، واشترطه سحنون في كتاب ابنه، ولم يشترطه مرة أخرى مثل: أن يكون كل واحد منهما شهد بسبب مجرح فيقول أحدهما: شارب خمر، ويقول الآخر: عامل بالربا، فهذا تجريح صحيح على أحد القولين، وباطل على القول الثاني إلا أن يتفقا على السبب الواحد، ويجرح الشاهد بترك الجهة إذا توفرت شروطها الشرعية وإلا فلا، وهل بالمرة الواحد أو بثلاث مرات فيه خلاف بين الأشياخ، ويجرح المليء بمطل غريمه بحث واجب له عليه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مطل الغني ظلم) وهل ذلك بالمرة الواحدة، أو حتى يتكرر ذلك منه، فيه خلاف بين أشياخنا. قال سحنون: ومن كان قادرًا على الحج بماله يحج فهو مجروح، إذا طال زمان تركه مع صحة بدنه واتصال فوره منذ عشرين سنة إلى ستين سنة، وقيل: لا تقبل شهادته، قيل له: وإن كان بالأندلس قال: وإن كان بالأندلس ولا يجرح الشاهد (بعداوة) في الدين إلا من هو أعدل منه بخلاف العداوة (وقال أحمد بن سعيد ويجرح في العداوة) من لا تقبل شهادته إلى بتعديل، لأن الذنوب تخفى ولا يطلع عليها العدول، وإذا شاء المشهود عليه التمكين من الطعن في الشاهد العدل المبرز مكنه القاضي من ذلك قاله سحنون. قال أصبغ: لا يمكن من الجرح بالإسفاه عليه، وأما بالعداوة يمكن. حكى القولين أبو إسحاق في تعليقه، وحكى الشيخ أبو الحسن عن مطرف أنه يمكن إذا جرح

من هو مثله أو فوقه أو دونه بالإسفاه والعداوة إذا كان عارفًا بوجوه التجريح. قال ابن الماجشون: يجرح (بمن فوقه، ومثله) ولا يجرح بمن هو دونه إلا في العداوة، وأما بالإسفاه فلا، وقد ذكر أنه لا يجرح بعداوة الدين، فلهذا جازت شهادة المسلم على الكافر والعدل على الفاسق بلا خلاف، ثم ذكر أن القيام بتحمل الشهادة فرض على الكفاية، لأنها من مصالح الدنيا، ومن أشد المعاش، قال سبحانه: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282] وقد اختلف العلماء في معناه، فقيل: المراد به وقت التحمل، وقيل: وقت الأداء وهو الصحيح، قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282] وقد يتعين فرض الكفاية في بعض الحال، والشهادة من هذا القبيل، وكما منع الله الشاهدين من الإباء، فكذلك منع صاحب الحق من المضار. قال تعالى: {ولا يضار كاتبٌ ولا شهيدٌ} [البقرة: 282]. قال القاضي: "وتحمل الشهادة من أفضل البر" لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المادة: 2]. ولما يتعلق بذلك من حفظ أموال الناس وحقوقهم وحقوق الله سبحانه. قال الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض} [البقرة: 251] قال (سفيان بن عيينة) هو ما يدفع الله تعالى بالشهود من التجامد والتظالم، ولذلك يروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أكرموا الشهود فإن الله يستخرج بهم الحق، ويدفع بهم الباطل)، قال الإمام جمال الدين

أبو الفرج بن الجوزي هذا حديث منكر الإسناد رواته كذابون، وكذلك أداؤها هو فرض كفاية كتحملها، وقد يتعين حيث تتعين الشهادة، وقد قال سبحانه: {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق: 2]. وانعقد إجماع الأمة على أن أخذ العوض على تحملها وأدائها حرام. اللهم إلا أن يكون في موضع تلزم بالمشي إليه مشقة وكلفة فيريد الخصم الإتيان بالشهود لتحمل الشهادة، فهذا جائز على كراهة، ولم يزل أهل العلم، والفضل (يأنفون) عنه إلا أن يكون في ذلك كتاب وثيقة أو تسجيل حكم، فجاز أخذ الإجارة على الكتب لا على الشهادة، (والتأنف) عن ذلك طريق أهل الفضل وشأن ذوي المروءات، واتخاذ ذلك مكتسبًا وحرفة طريق أهل الرذالة والجهالة على هذا الأمر قديمًا وحديثًا، وقد كان خارجة (ومجاهد) يقسمان بين الناس بغير شيء والله الموفق للصواب. قال القاضي -رحمه الله-: "والبينات تختلف باختلاف الحقوق المشهود بها من التوسعة والتضييق". جمع في هذا الفصل أحكامًا كثيرة وأنواعًا مختلفة، وفصل القول في جميعها بعد أن أجملها في أربعة أقسام (شاهد) ويمين وكتاب قاض، ومعنى يقتضيه شاهد الحال، وانظر مراده في هذا القسم الرابع فهو مما جرت العادة بالتنبيه عليه، ولعله إشارة إلى المرأة تتعلق بالرجل وهي تدمي تدعي ليه أنه استكرهها، وقد بلغت من فضيحة نفسها إلى حال تشهد العادة بصدقها غالبًا، وأن المدعى عليه من يليق به ذلك والمرأة من الستر بحيث لا تفعل

ذلك بنفسها، وإدخاله اليمين، والمعنى الذي يقتضيه شاهد الحال مع (البينة) فيه نظر؛ إلا أن يريد أن ذلك طريق بإثبات الحق كالبينة، وفصل ذلك إلى ستة عشر قسمًا. الأول: أربعة شهود وذلك مخصوص بالزنا واللواط، ونفصل القول في ذلك، فأما على رؤية الزنا واللواط فلا يكفي في ذلك عدول يرون الفرج في الفرج كالمردود في المكحلة كما تقدم، وأما الشهادة على الشهادة، وعلى كتاب الحاكم فهل يفتقر في ذلك إلى أربعة، أو يكتفي باثنين فيه قولان في المذهب قد قدماهما قبل أحدهما أنه يكتفي بشهادة اثنين على كل واحد من الأربعة لأنه نقل لا شهادة على الزنا، والثاني: أنه لا يكتفي إلا بأربعة على كل واحد من الأربعة، فعلى هذا لا يثبت الحكم بإقامة الحد إلا بستة عشر شاهدًا وهذا رحمة من الله لخلقه، وظاهر كلام القاضي أنه لا يكتفي في ذلك باثنين لأنه أدرج الشهادة على الشهادة، وعلى كتاب القاضي به تحت الشهادة على رؤيته. قوله: "وأما الرجلان فلحقوق الأبدان التي يطلع الرجال عليها غالبًا": يعني كالزنى والقذف والقتل والجراح والنكاح والرجعة والطلاق والعتاق، ورؤية الأهلة وأحسن من قوله أن يقال: الشاهدان العدلان لسائر الأحكام البدنية والمالية من حقوق الله سبحانه، وحقوق الآدميين ولا لمعنى لاقتصاره هنا على ذكر حقوق الأبدان إلا من حيث إن الرجال يختصون بها لا يشاركهم النساء فيها، فأراد ذكر ما وقع الاختصاص به، ولو ذكر الحقوق المالية لدخل فيها النساء. وأما الرجل والمرأتان والشاهد الواحد واليمين والشاهد والنكول، فكل ذلك مخصوص بالأموال، وما يكون المقصود منه المال، لأن الله سبحانه إنما ذكر شهادتين في الأموال، وقد اختلف قول مالك في جراح العمد هل يجب القود فيها بالشاهد واليمين أم لا (فعنه) في ذلك روايتان مبنيتان على أن الواجب به التخيير أو القود. وقول القاضي: "ففي

الأموال وحقوقها" أما الشهادة (على المال) فظاهرة كالشهادة بالقراض والسلف والملك وغير ذلك، وأما حقوقها فكالشهادة بالبيع والإجارة والرهن والشفعة ونحوه. قوله: "وفي حقوقها المتعلقة (بالأبدان) خلاف": إشارة إلى أن الشهادة على الوكالة بطلب مال وعلى إسناد الوصية التي ليس فيها إلا المال، وقد اختلف المذهب في قبول الشاهد والمرأتين في هذا القسم، فقال ابن القاسم وأبو وهب: يقبل في ذلك شاهد وامرأتان. وقال أشهب وعبد الملك: لا يقبل في ذلك إلا رجلان ولا يقبل فيه الرجل والمرأتان لأن الوكالة فعل بدن، وإذا لم يقبل فيه الشاهد واليمين فكذلك الرجل والمرأتان، لأن أحدهما لا يقبل إلا حيث يقبل الآخر، وذكر أن الشاهد، ونكول كالشاهد واليمين، ومراده أنه كما يحكم بالشاهد ويمين المدعي كذلك يحكم الشاهد ونكول المدعى عليه خلافًا للشافعي. قوله: "وقد بينا الخلاف في الشاهد والنكول": انظر أين بين ذلك فلم يقع له ذكر. قوله: "وأما المرأتان بانفرادهما ففي عيوب النساء والولادة": هذا يبين قوله في أول الفصل ثم هي بعد ذلك على ثلاثة أضرب: منها منفرد بنفسه يريد كشهادة الرجال والنساء في العيوب ومنها ما يختلف أنواعه فينفرد بعضه، ولا ينفرد سائره، وهذا كشهادة المرأتين في الرضاع، فلا ينفرد ذلك (في الرضاع) حتى ينضم إليه الظهور والانتشار على مقتضى ما فسره في أثناء كلامه على أحد القولين فيه وينفرد في عيوب الفرج والولادة ونحو ذلك مما لا يطلع عليه الرجال وحكم المرأتين والنكول حكم الشاهد واليمين (معنى ذلك

أنه يحكم بشهادة المرأتين مع نكول المدعى عليه في الأموال وحقوقها كما يحكم بالشاهد واليمين) في الأموال وحقوقها فكذلك يحكم (بشهادة المرأتين) بنكول المدعى عليه مع رد اليمين على المدعي. وقال أبو حنيفة: إذا نكل المدعى عليه كررت عليه الأيمان ثلاثًا، فإن نكل أخرى غرم من غير يمين المدعي. واختلف قول الحنفية إذا كان ذلك في قتل عمد أو جراحة فلهم فيه قولان: أحدهما: أنه يحبس أبدًا حتى يحلف أو يعترف، وهو الذي اعتمد عليه أبو حنيفة، والآخر: أنه يحكم عليه بالدية، وعليه اعتمد صاحبه أبو يوسف: وأما يمين المدعي مع قوة السبب فله أمثلة منها يمين المشتري للسلعة إذا اختلف هو والبائع في مقدار الثمن، وكان المشتري قد قبض السعة فقوى جانبه ورجع سببه بالقبض، وكذلك اختلاف لزوجين في قبض الصداق، فالقول قول الزوج بعد الدخول لأنه قبض السلعة، فإن لم يدخل فالقول قول المرأة لأن سلعتها بيدها، وذلك من باب تحكيم العرق والشهادة بمقتضى العادة، ثم ذكر شهادة الصبيان، وذكر بقبولها تسعة شروط: أن يكونوا ممن يعقل الشهادة، وأن يكونوا أحرارًا ذكورًا محكومًا لهم بالإسلام وأن يكن المشهود به جرحًا أو قتلاً، وأن يكون ذلك بينهم خاصة، وأن يكونوا اثنين فأكثر، وأن تكون شهادتهم قبل تفرقهم، وأن لا يختلفوا، هذا أقصى الشروط التي ذكرها القاضي، وأعلم أن شهادة النساء والصبيان خارجة عن الأصل، أما النساء في غير الأموال فلأن الله تعالى إنما ذكر شهادتهن في الأموال فأجيزت في الولادة والاستهلال من باب الضرورة، وكذلك القول في شهادة الصبيان كالقول في شهادة النساء، أما شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والاستهلال وعيوب الفرج والسقط والحيض، والرضاع، قال أصبغ: وما تحت الثياب، وذلك كله على وجه الضرورة. قال الشيخ أبو الحسن: شهادة النساء في الولد على ثلاثة أوجه

على (نفس) الولادة وعلى الاستهلال وعلى (المولود)، أما شهادتهن على الولادة فلا يخلو أن يكون الولد موجودًا (أم لا، فإن كان موجودًا جازت شهادتهن عليه، لأن وجوده يصدقهن، فيشهدن أن هذه ولدته، واختلف إذا لم يكن الولد موجودًا) فأجازها ابن القاسم، ومنعها ربيعة وسحنون، قال الشيخ أبو الحسن: ورأى شهادتهن لا تقبل إذا لم يكن الولد موجودًا إذا كانت المناكرة بقرب الولادة، لأنه يقدر على إظهار الولد، وإن كان مقبورًا أو طال الأمد، وتعذر الكشف عليه قبلت شهادتهن وإلا لم تقبل، وكذلك تقبل شهادتهن على الاستهلال، واختلف إذا شهدتا أنه ذكر هل تقبل شهادتهن أم لا. وقال أشهب: لا تجوز شهادتهن على أنه ذكر، لأن هذا مما يمكن أن يراه الرجال، وقال أصبغ: إن فات أمره بالدفن، وطال مكثه، قبلت شهادتهن على ذلك، وإلا لم تقبل ولا فرق بين أن يستحق ميراثه بيت المال أو غيره من الورثة، وقد فرق بينهما، والصواب أنه سواء، وتقبل شهادة النساء في عيوب الفرج، واختلف إذا كان العيب في غير الفرج فقيل: ينقر الثوب ليراه الرجال، وقيل: يرجع فيه إلى شهادة النساء، وهل تقبل في ذلك المرأة الواحدة لأنه كالحكم أم لا بد من امرأتين فيه خلاف في المذهب، واختلف في شهادة النساء فيما بينهن في العرس والحمام والمأتم في القتل والجراح هل تقبل أم لا؟ ومبنى الخلاف على ما ذكرناه من اعتبار الضرورات في مثل هذه الحال، فتجوز شهادة المرأتين وإن لم تكونا عدلين، لأن هذه مواطن لا يحضرها العدول، وإن عدل منهما اثنان اقتصر بشهادتهم في القتل من غير قسامة وفي الجراح بغير يمين، لأن شهادة اثنتين فيما لا يحضره الرجال كشهادة رجلين، وأما شهادة الصبيان، فقد اختلفت الرواية فيها، وقال محمد بن عبد الحكم: لا تجوز شهادتهم فيما بينهم، لا في جراح ولا في قتل، لأن الله سبحانه، إنما أجاز شهادة أهل العدل والرضا والمشهور جواز

شهادة الصبيان فيما بينهم (للضرورة، وإذا بنينا على المشهور من جواز شهادة الصبيان فيما بينهم) فقد اختلف المذهب في مسائل تتعلق بذلك. المسألة الأولى: من لم يحضر من الصبيان معهم في المعترك هل تجوز شهادتهم بينهم أم لا؟ فيه قولان: الجواز والمنع، وصورة المسألة: أن لا يكون الصبيان المشهود منهم ولكنهم (مروا بهم) وهم يلعبون في المعترك. قال مالك: تجوز فيما بينهم في المعترك الذي يكون بينهم، وقال ابن مزين: تجوز شهادتهم كانوا معهم في المعترك أم لا؟ المسألة الثانية: الإناث هل يشهدن فيه أم لا؟ قال محمد: لا تجوز شهادة الإناث، وإن كان ذلك فيما بينهن، وأجازها عبد الملك وغيره في الذكور والإناث. المسألة الثالثة: هل يشهدن في القتل كما تجوز شهادتهن في الجراح أم لا؟ فيه قولان: المشهور جوازها في القتل والجراح، والشاذ أنها لا تجوز إلا في الجراح فقط. المسألة الرابعة: إذا شهد كبار عدول بمعاينتهم بخلاف ما شهد به الأصاغر. قال عبد الملك: تسقط شهادة الصغار بشهادة الكبار. وقال غيره: لا تسقط، وهي متعارضة فيقع الترجيح. المسألة الخامسة: اختلف المذهب إذا خالط الصبيان رجل هل تسقط شهادتهم لإمكان أن يكون جنبهم أم لا؟ وفيه قولان: أحدهما: سقوط شهادة الصبيان لما ذكرناه من إمكان التخبيب، والثاني: أن شهادتهم ماضية.

المسألة السادسة: إذا اختلفت شهادة الصبيان فشهد اثنان أن هذين قتلاه، وقال المشهود عليهما: بل أنتما قتلتماه فقيل: تسقط الشهادتان وهو الصواب لاختلافهما، وقيل: تكون الدية على عاقلة الأربعة. المسألة السابعة: شهادتهم لكبير أو عليه، المشهور أنها غير جائزة، وأجازها ابن حبيب للكبير وعليه، وأجازها محمد لكبير في القتل ولم يجزها في الجراح. المسألة الثامنة: قال مالك: ليس في الصبيان قسامة، وعنه رواية أخرى أنه يقسم مع شهادة الصبيان. وفي كتاب ابن مزين: يقسم مع شهادة الصبي الواحد في العمد ولخطأ، وصورة ذلك: إذا شهد الصبيان بالجرح فنزا الجرح فمات، هل للأولياء أن يقسموا مع شهادتهم أم لا؟ فيه قولان. المسألة التاسعة: هل يراعى ما يكون بين الصبيان من قرابة أو عداوة فيه قولان: قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة القريب لقريبه ولا العدو على عدوه، وحكى أشياخنا قولاً ثانيًا: أن القرابة والعداوة في شهادة الصبيان غير معتبرة ونص عبد الملك على جوازها مع العداوة. المسألة العاشرة: إذا اتفقت شهادة الصبيان وثبتوا عليها ولم يرجعوا بني على ذلك، فإن رجعوا عنها أخذنا بأول قولهم، ولم يلتفت إلى آخر قولهم. قوله: "وأما شهادة السماع ففيما لا (يتعين) وذلك في أربعة أشياء: النسب والموت والولاء، والحبس والوقف، وقيل في النكاح، وتقادم الملك". (قال المؤلف -رحمه الله-) الشهادة على السماع جائزة داخلة تحت قوله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف: 81] لأن السماع المستفيض يحصل به العلم، فالشهادة به شهادة العلم، ولا خفاء في وجوب العمل بها هذا طريقه إلا أن لخروجها عن أصل العيان اختصت بحال دعت إليه الضرورة فيها فوقفت على هذه الحال دون سائر المواضع وهي الأربعة التي ذكرها القاضي: النسب والموت والولاء والحبس، واختلفت في مسائل تتعلق بهذا.

الأولى: إذا كانت الشهادة على سماع مستفيض يحصل به العلم وتثلج به النفس فهي الأولى في مراتب السماع، وتجوز الشهادة على السماع في الرباع فيما قدم، وإن لم يقع بها العلم نص عليه الشيخ أبو الحسن وغيره من أشياخ المذهب، وهي على ثلاثة أقسام يبقى بها في اليد ما هو تحت اليد ولا ينزع بها ما عليه يد، واختلف هل يؤخذ بها ما ليس عليه يد. قال محمد: ولا تجوز في ذكر الحقوق، ولا في الودائع. المسألة الثانية: إذا حكمنا بشهادة السماع في عفو الأرض أو خراب لا يد عليه، وقضي لمن شهد له به، فهل يفتقر مع ذلك إلى يمين أم لا؟ قال ابن القاسم: يقضي له به بعد يمينه، وقال أشهب: بغير يمين كالشهادة على السماع في الولاء والنسب. المسألة الثالثة: الشهادة على السماع في النكاح مختلف في جوازها. قال سحنون: جل أصحابنا يقولون في النكاح أنه إذا انتشر خبره أن فلانًا تزوج فلانة، ويسمعون الدفاف فله أن يشهد أنها زوجة وكذلك في الموت تسمع النياحة فيشهد أن فلانًا مات، وإن لم يحضر جنازته، وكذلك القاضي يولي ولا يحضر ولايته إلا ما سمع من الناس، فهذا كله تجوز الشهادة فيه على السماع. المسألة الرابعة: اختلف المذهب هل من شرط شهادة السماع أن يسمع من العدول أم لا؟ والمشهور أنه ليس بشرط، فإن نقلوا عن قوم عدول أشهدوهم فهو نقل لا شهادة سماع، وقيل: لا ينتفع بشهادة السماع حتى يعرفوا أن الذين كانوا يسمعون منهم عدول. قال عبد الملك: ولا تجوز من غير أهل العدل من سامعين أو مسموعين أن دار فلان لفلان الغائب (قلت) لأن هذا انتزاع من الحاضر للغائب فتطلبت فيه العدالة قولاً واحدًا، ولا يقتصر في شهادة السماع على شاهدين دون أن يكشف ذلك من غيرهما، فإن

لم يوجد علم ذلك عند غيرهما لم تقبل شهادتهما لأن الأمر المستفيض والمنتشر لا يختص بعلمه الرجال. وتجوز شهادة السماع في الأحباس القديمة. قال مالك: وههنا أحباس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا تعلم الآن عندنا إلا بالسماع. قال محمد بن عبد الحكم: ويجوز أن يشهد على امرأة أنها زوجة فلان إذا كان (يحوزها) بالنكاح، وإن كان تزويجه قبل أن (يولد) كما يشهد أن هذا ابن لها، وإن لم يحضر، قال مالك: ويقضى بها في الولاء المنتشر الذي يقع العلم به مثل نافع مولى ابن عمر. قال ابن الماجشون في المبسوط: أقل ما يجزئ في الشهادة على السماع أربعة. قوله: "وشهادة الأعمى جائزة، وكذلك الأخرس إذا (فهمت إشارته) " وهذا مذهب مالك الذي لا اختلاف فيه عندنا أن شهادة الأعمى جائزة مطلقًا في كل شيء إلا فيما طريقه الرؤية فقط، فأما ما طريقه سماع الصوت أو اللمس أو الذوق أو الشم فكل ذلك جائز عندنا خلافًا للشافعي وأبي حنيفة فإنهما قالا: لا تقبل شهادته إذا تحملها أعمى أو أخرس، والدليل لنا: أن الصحابة والتابعين رووا عن زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد نزول الحجاب، وليس كذلك طريق إلى الصوت وقال -صلى الله عليه وسلم-: (فكلوا واشبوا حتى ينادي ابن أم مكتوم). ولا فرق بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا بالصوت، (وإذا كان للأعمى) وطء زوجته بالإجماع وهو لا يعرفها إلا بالصوت، فشهادته أولى بالجواز، لأن الإقدام على الفروج أغلظ من الشهادة بالحق. قوله: "ومن شهد بشهادة ثم رجع عنها" إلى آخره. الرجوع عن الشهادة

جائز إذا استند إلى وجه صحيح، فأما أن يرجع بإكذاب نفسه أو بدعوى الغلط، ولا يخلو إما أن يرجعوا عن شهادتهم قبل الحكم أو بعد الحكم بها، فإن رجعوا قبل الحكم بها قبل رجوعهم، ولم يحكم بشهادتهم ولم يلزمهم بالرجوع شيء إذا لم يتلفوا شيئًا إلا أن يقرروا بتعمد الكذب والزور، فعلى الإمام أن يعاقبهم عقوبة شديدة وعقوبة شاهدة الزور، وإن رجع الشهود بعد الحكم بشهادتهم غرموا ما تلفوا بشهادتهم بلا خلاف إن كان رجوعهم لإقرارهم بتعمد الكذب، وإن ادعوا الغلط فهل يرجع عليهم بشيء أم لا؟ قال عبد الملك: لا يرجع عليهم إذا ادعوا الغلط بشيء، والمشهود أنهما إذا شهدا بمال، وقالا: غلطنا في ذلك أن الحكم لا ينقض ويغرم الشاهدان المال، ولا يرجع على المشهود عليه، وإنما قلنا: إن رجوعهم بعد استيفاء الحكم لا ينقض به الحكم، لأن رجوعهم إن كان تكذيبًا لأنفسهم فذلك (تفسيق) منهم لأنفسهم، والحكم لا ينقض بقول فاسق، وإن كان عن غلط فيجوز أن يغلطوا في قولهم آخر فليس نقض الأولى بأولى من نقض الآخر، لا سيما وقد تعلق بقولهم الأول حق المشهود له. واختلف المذهب إذا شهدوا بأن فلانًا قتل فلانًا عمد، ثم قتل به فأقروا بتعمد الزور في شهادتهم هل يقتلون (وهو الصحيح نظرًا) وهو قول الأشهب، أو لا يقتض منهم، وعليهم الدية، وهو قول ابن القاسم، ولا خلاف في ادعائهما الغلط أنهما لا يقتلان ولكن يغرمان الدية على المشهور ويغرم أحدهما برجعه النصف، لأنه أتلف ذلك بشهادته. قوله: "ولا يمنع ذلك قبول شهادتهم في المستأنف": يريد ادعوا الغلط، ولم يقروا بتعمد الكذب، لأن الإنسان غير معصوم من الغلط، وإن أقروا بتعمد الكذب فقد شهدوا على أنفسهم بالجرحة والفسق، والفاسق مردود الشهادة مطلقًا.

قوله: "ولو ثبت فسق الشهود بعد الحكم، والاستيفاء بشهادتهم لم يلزم الحاكم بشيء مما تلف بشهادتهم، ولو ثبت رقهم أو كفرهم ضمن" وهذا كما ذكره، والفرق بينهما ظاهر، وهو أن العدالة اجتهادية للحاكم أن يقول: غلب على ظني العدالة بالاجتهاد وهو في الكفر الرق مفرط في اختيار حال الشهود، لأن ذلك ظاهر ليس كالعدالة. فصل: قال القاضي -رحمه الله-: "وإذا تداعى الرجلان شيئًا بأيديهما أو في يد غيرهما مما لا يدعيه لنفسه أو ليس في يد أحدهم حكم به لمن أقام البينة على أنه له" وهذا كما ذكره، وذلك أن التقسيم في هذه المسألة يرجع إلى ثلاثة أشياء إلى اليد وإلى البينة، وإلى صفة الدعوى، لأن ذلك كله يمكن الاختلاف فيه، فنقول: إن كانت الدعوى متساوية، وادعى كل واحد جميعه، فإما أن يكون في أيديهما معًا، أو في (أيد أحدهما) أو لا يد عليه البتة، فإن كان الشيء في أيديهما، أو في يد غيرهما، فأقاما (معًا) البينة عليه حكم به لهما (بعد ايمانهما) إن تساوت البينة في عدالتهما، فإن كان البينة أحدهما أعدل من الأخرى قضي له به، هذا إذا كان في أيديهما معًا أو في يد غيرهما، فإن كان في يد أحدهما فهو لصاحب اليد مع يمينه، فإن أقام الآخر البينة فالبينة أولى من اليد، فإن أقام صاحب البينة أيضًا حكم بأعدل البينتين، فإن تكافأتا، سقطتا وكان صاحب اليد أولى. واختلف المذهب إذا تنازعا عفوًا من الأرض، فقيل: يقتسمانه بمنزلة ما لا بد عليه. وفي المدونة: يبقى كغيرها من عفو بلاد المسلمين، وكذلك اختلف المذهب أيضًا إذا تكافأت البينة في الترجيح بالأكثر، فمذهب المدونة أنه يرجح بالأعدل، ولا يرجع بالأكثر (فروى ابن حبيب) عن ملك أنه إذ استووا في العدالة رجح بالأكثر، واختلف أيضًا إذا أقام أحدهما شاهدين

والآخر رجلاً وامرأتين أو شاهدًا واحدًا، وقال: أحلف معه. فأجرى ابن القاسم الشاهد واليمين مجرى الشاهدين، فإن كان أعدل قضى به مع يمين القائم به، وقال مرة الدار لصاحب الشاهدين ورجحه على الشاهد واليمين. وأما صفة الدعوى فمثل أن يدعي أحدهما جميعه، ويدعي الآخر نصفه، أو يدعي ثلثه. واختلف المذهب أيضًا في كيفية القسمة في هذه الصورة على قولين: أحدهما: أن القسمة على عدد الرؤوس بالسوية، والمشهور أن القسمة على صفة اختلاف الدعوى، وذلك أنه إذا ادعى أحدهما جميعه، وادعى الآخر نصفه، فمدعي النصف قد سلم لصاحبه النصف، ونازعه في النصف (فيأخذ مدعي الجميع ثلاثة أرباعه ونصفه بالتسليم من صاحبه وربعه بحق القسمة) ويأخذ مدعي النصف الربع فقط، وعلى هذا المنهج تجري مسائل الاختلاف في حال الأنصباء على هذين القولين، والصحيح أن القسمة على صفة اختلاف الدعوى لأن مدعي النصف مثلاً مقرًا بأنه لا حق له في النصف الآخر، فكان مدعي الكل قد حازه، ولا مخاصم له فيه، على هذا تخرج المسائل في الأصل، ولو ادعى أحدهما الكل، والآخر النصف، والثالث الثلث فإن قلنا: إن القسمة بينهما كالعدد فلا إشكال، وإن قلنا: إن القسمة على صفة الدعوى قسم بينهم على ستة وثلاثين سهمًا، لمدعي الكل خمسة وعشرون سهمًا، ولمدعي النصف سبعة أسهم ولمدعي الثلث أربعة، وإنما ذلك لتسلم السماع، وتقريب العمل فيه أن يقال لمدعي النصف سهمان وثلث من اثني عشر، ولمدعي الثلث سهم وثلث، فيضرب لتسلم السهام، فتبلغ ستة وثلاثين سهمًا وهكذا على هذا التقدير يقع العمل في مثل هذه المسألة. قوله: "فإن كان مالاً حكم بأعدل البينتين": انظر معنى هذا التقييد بقوله: "فإن كان مالاً" ولعله إشارة إلى مسألة النتاج، وهي إذا شهدت البينة لكل واحد (منهما) أنها نتجت عنده كان تكاذبًا ولا يقضى بشيء من

البينات، وهذا من مواضع التنبيه ونكت الكتاب، والذي ظهر لي الآن فيه هو ما ذكرته. قوله: "ومن ترك (ابنين) فأقر أحدهما بثالث أعطاه ثلث ما في يده": وهذا الإقرار يتعلق به حكمين حكم النسب، وحكم المال، أما النسب فلا يثبت عندنا بإقراره، ويثبت به المال، واختلف المذهب في القدر الذي يلزم المقر أن يعطيه، فالمشهور أنه (يعطيه ثلث) ما بيده، لأن إقراره على نفسه وعلى أخيه فمقتضاه ثلث ما في يده وهو الذي كان يلزمه لو اعترف الأخ الثالث والشاذ أنه يعطيه نصف ما بيده، لأن المال الذي بيده قد أقر لأخيه بنصفه، وكان الأخ الثالث الجاحد ظالمًا لهما فمقصود المسألة: هل يجعل إقراره على نفسه وعلى أخيه، أو على نفسه خاصة، وكذلك لو ترك ولدين فأقر أحدهما بدين على الميت فإقراره مقبول على نفسه وهو شاهد على أخيه إن كان عدلاً فيحلف المدعي مع شهادته، ويأخذ جميعه، وإن كان غير مقبول الشهادة ببعض الإقرار عندنا فيلزمه من الدين ما كان نصيبه أ, لو اعترف أخوه. وقال أبو حنيفة: يلزم المقر جميع الدين في حصته وهو ضعيف في النظر، لأن إقراره على نفسه وعلى أخيه فلم يلزم ظلم غيره، ثم تكلم على اختلاف الزوجين في متاع البيت والرجوع في ذلك إلى العادة فما شهدت العادة أنه (متاع) الرجل فهو له، وما شهدت أنه من متاع المرأة فهو لها، وإن كان مما يصلح لهما فقولان: المشهور أنه للرجل مع يمينه، لأنه رب المنزل، والشاذ أنه لهما بعد إيمانهما وهو قول المغيرة، وسواء كان (هذا الاختلاف قبل الطلاق أو بعده، وسواء كانت) الدار لهما أو لأحدهما، أو بكراء وورثتهما

في ذلك بمنزلتهما، وهذا كله من باب تحكيم العادة، وشهادة العرف وقد قال الله سبحانه: {وأمر بالمعروف} [لقمان: 17]. وقال في قصة يوسف -عليه السلام-: {وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصه قد من قبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبرٍ فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 26، 27] وأمر -صلى الله عليه وسلم- أن تعطى اللقطة لمدعيها بمعرفة العفاص والوكاء، إذ لا يعرفها إلا ربها غالبًا. قوله: "ومن مات عن دين فيه شاهد (وعليه دين) فللورثة أن يحلفوا ويحكم لهم، ثم يأخذ الغرماء (بديونهم) منه، فإن فضل كان للورثة، وإن أبى الورثة أن يحلفوا حلف الغرماء، واستحلفوا" وهذا كما ذكره، وأن الورثة يقومون مقام الموروث، ولو كان الميت حيًا لحلف مع شاهده، فكذلك ورثته فإذا أخذوا المال بشاهدهم ويمينهم قضوا منه الدين، لأن الدين مقدم على الميراث وإن كان الدين مستغرقًا للدين فلا شيء للورثة أن الإرث بعد الدين، فإذا تزاحما فالدين مقدم، فإن امتنع الورثة من اليمين فليس للغرماء إجبارهم عليها، لأن من حق الورثة أن يقولوا لا فائدة لنا في يمين يستحق بها غيرنا، وللغرماء حينئذ أن يحلفوا عندنا إذا نكل الورثة وينزلون منزلة الورثة، وقال الشافعي: ليس لهم ذلك، لأن الشاهد ليس لهم، وإنما قام بحق الميت، وعندنا أنه صار حقًا لهم في المعنى، فإذا حلف الغرماء، وثبت في الدين، وكان فيه فضل (عن الدين) لم يستحق الورثة البقة لنكولهم عن اليمين أولاً وامتناعهم عنها إلا أن يظهر لامتناعهم عذر مثل: أن يقولوا كنا نظن أنه لا يفضل لنا شيء، فلم نر أن نحلف على ما يستحقه غيرنا، فإذا فضل ما نأخذه، فلنا أن تحلف عليه ونأخذه. قوله: "ومن أحلف خصمه، ثم علم أنه بينة أقامها، وحكم له بها" وهذا فيه تفصيل وذلك: أنه إما أن يكون عالمًا بالبينة أو غير عالم، فإن كان غير

عالم بالبينة فلا خلاف عندنا أن له القيام بها بعد أن أحلف غريمه، وإن كان عالمًا بها، فلا يخلوا أن تكون البينة حاضرة أو غائبة وإما أن تكون بعيدة الغيبة، فإن كانت غائبة بعيدة الغيبة وهو عالم بها، فله استحلاف غريمه بلا خلاف، قال مالك: إذا قال بينتي غائبة بعيدة الغيبة لحلفه لي فعلى الإمام أن يحلفه رجاء أن ينكل، ثم أراد القيام بها، فهل له ذلك أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ليس له ذلك، لأنه لما علم بها، وعدل إلى اليمين صار تاركًا لها فمحمل يمينه على الترك لها، وقال مالك وابن وهب في كتاب محمد: له أن يقوم بها. قل به ابن القصار وقال: لأن المدعي لو أقر بعد يمينه لوجب عليه الحق فوجب إذ أقام المدعي البينة في هذا الحال أن يكون له ذلك أصله الإقرار. واختار الشيخ أبو الحسن أن يسأل، فإن قال: إنما أحلف على علمي بالبينة رجاء أن ينكل (ولا أتكلف ببينة) أو لأن ذلك أقرب لأخذ حقي من ضرب الأجل إن ادعى مدفعًا بالبينة، أو تجريحًا أو ليتبين أنه ممن يحلف على الباطل، أو لأن السعي في تعديل الشهود يشق علي، فإنه يحلف على صحة ذلك، ويقوم بالبينة، وإن لم (يذكر) وجهًا كان ذلك تركًا للبينة، وإن أشهد أنه يحلفه لا لإسقاط البينة بل لما ذكرناه من الوجوه قام (ببينته) بلا خلاف. وقال القاضي: "ولو أحلفه عالمًا بها تاركًا لها" لم يكن له ذلك، وفيه خلاف هذا فيه مسامحة منه، لأنه إذا علم أنه تاركًا لها فليس محل الخلاف وإنما الخلاف في الصورة المحتملة، وظاهر كلام القاضي أن الخلاف في محل تقرر فيه الترك لها، وهذا لا قائل به. قوله: "ويحلف الحالف على فعل نفسه قطعًا وعلى فعل غيره علمًا" وهذا كما ذكره. وصورة ذلك: أن يدعي رجل بمال فيقر له به، ويزعم أنه

قضاه فيحلف في فعله على القطع، ولو ادعى على موروثه حلف على العلم أنه قد قضاه، لأنه يصل إلى القطع في فعل نفسه دون غيره وكذلك إذا ادعى عليه في حق له أنه اقتضاه (إياه) فيحلف على القطع في إبطال هذه الدعوى عليه وعلى العلم في حق موروثه فيقول: لا أعلم أنه اقتضاه. ولو حلف في هذه الصورة على البت كان كاذبًا بلا خلاف، لأن القطع في مثل هذا لا يتصور لاحتمال أن يكون موروثًا اقتضاه ولم يشعر. واختلف إذا شهد شاهد (بمال) فنكل المشهود له عن اليمين حلف المطلوب ثم وجد الطالب شاهدًا آخر بذلك الحق. ففي كتاب محمد يستأنف الحكم، ويحلف مع هذا الثاني وإلا رد اليمين فيحلف المدعى عليه ثانية. وروى ابن كنانة عن مالك أنه لا يضم الثاني إلى الأول، ولا يحلف مع الثاني، ويكتفى باليمين الأول ووجود الشاهد الثاني كعدمه، لأنه حق قد استحلف عليه، ولو ادعى عليه (فأحلفه) ثم وجد المدعي شاهدًا واحدًا، فقال ابن القاسم وغيره: يحلف مع الشاهد الواحد ويستحق. وقال ابن كنانة: ليس له ذلك، لأن المدعى عليه قد أسقط بيمينه الحق الذي ادعى عليه به، ولو شهد شاهد بصدقه، أو حبس على الفقراء أو شهد لصغير فحلف الثاني إلى الأول ويقضي بهما، وإذا شهد للصغير بمال حلف المشهود عليه، وترك حتى (يبلغ) الصغير فيحلف الصغير مع شاهده ويستحق، فإن نكل الغريم في هذه الصورة غرم مكانه، وهل يحلف الصغير إذا كبر أم لا؟ فيه قولان. قال محمد: لا يحلف الصغير إذا كبر، وقيل: لا ينتزع الحق من الغريم إذا نكل ولكن يرجى (إلى حال البلوغ)، فإن نكل الصبي بعد بلوغه حلف المطلوب (وإذا شهد شاهد لسفيه حلف معه لأنه كالرشيد في اليمين، فإن نكل

السفيه حلف المطلوب) وبريء، وليس للسفيه أن يرجع بعد إلى اليمين. قوله: "وتغلظ الأيمان (بالزمان والمكان) ": والدليل على (التغليظ) بالزمان قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من حلف عند منبري على يمين كاذبة ولو على شراك من أراك فليتبوأ مقعده من النار). وقد استحلف أبو بكر وعمر عند المنبر وطولب عثمان بن عفان بيمين وجبت له (عند المنبر) فأبى أن يحلف وافتدى من ذلك، لأن المقصود من الأيمان الزجر والردع، وذلك في الأمكنة الشريفة أبلغ، وتغلظ في الدماء واللعان بالزمان لقوله سبحانه: {تحسبونهما من بعد الصلاة} [المائدة: 106] والمراد صلاة العصر. وفي صحيح مسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) فذكر فيهم من حلف بيمين كاذبة بعد العصر، ولا تغلظ بالمكان في الشيء القليل. قال مالك: يحلف في مكانه في أقل من ربع دينار، وحيث يعظم من المسجد الجامع في ربع دينار في سائر المساجد، وتحلف المرأة في بيتها في أقل من دينار، وفي دينار فأكثر في

الجامع، وإن كانت في الشرف أو المرض بحيث لا تحرج نهارًا أخرجت ليلاً، وإن كانت ممن لا تخرج أحلفت في أقرب المساجد إليها. وقال القاضي في معونته: "إذا كانت من ذوي الشرف والقدر جاز أن يبعث الحاكم إليها من يحلفها في بيتها"، لأن في ذلك صيانة لها، واختلف هل يقام الحالف. ففي كتاب ابن سحنون يحلف جالسًا، وفي كتاب محمد قائمًا، وليس في الصحيح إقامة الحالف، ومن حلف جالسًا أجزأه، وهو واسع، وهل تغلظ الأيمان باللفظ أم لا؟ المشهور أنها لا تغلظ، وليقتصر على أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، ولو قال: "والله" أجزأه، ولو قال: "والذي لا إله إلا هو" أجزأه أيضًا، وقيل: لا يجزئه (قاله أشهب في كتاب محمد قال حتى يقول: "والله الذ لا إله إلا هو"، وفي كتاب محمد يحلف بالله الذي أحيى وأمات). وقال ابن الماجشون: "يحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم" ويحلف اليهود والنصارى في كنائبهم حيث يعظمون ويحلف اليهودي ويقول: بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ويقول النصراني: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، ويحلف المجوسي في بيت ناره وغيرها، ومن الكفار من لا يحلف بما يحلف به المسلم لأنه ينكر التوحيد. ثم ذكر أن الافتداء من اليمين والصلح عنها جائز لما روي أن عثمان بن عفان خاصمه يهودي عند عمر بن الخطاب في أربعة آلاف درهم، فتوجهت اليمين على عثمان فأبى أن يحلف وغرم المال، فلما فعل ذلك قال: والله ما له علي شيء، فقال له عمر: ما حملك أحد على أن تحلف، قال: خفت أن تصادف يمين قدر، فيقول الناس: ظلم عثمان اليهودي. قوله: "ومن أراد كتب وثيقة على غيره أملاها المكتوب عليه، لا أن يستنيب صاحب الحق". والأصل في ذلك قوله تعالى: {وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه} الآية [البقرة: 282] والنيابة في ذلك جائزة والله الموفق بفضله.

كتاب الأحباس والوقوف والصدقات والهبات وما يتصل بذلك

كتاب الأحباس والوقوف والصدقات والهبات وما يتصل بذلك الحبس جائز صحيح لازم لا يفتقر لزومه إلى حكم حاكم، على هذا أكثر علماء الأمصار. وقال أبو حنيفة: لا يلزم إلا أن يحكم به حاكم، أو يكون مسجدًا أو سقاية، والدليل لنا أحباس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحباس الصحابة بعده. قال مالك حين تناظر مع أبي يوسف في جواز الحبس: هذه أحباس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقات الخلفاء بعده معروفة عندنا إلى الآن. روى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه عمر بن الخطاب: (أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني أصبت أرضًا بخيبر وهي من أنفس مال أصبته، وإني أريد أن أتصدق بها فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حبس الأصل وسبل التمر). وفي رواية: أن عمر تصدق به وكتب هذا ما تصدق به عمر بن الخطاب صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث على الفقراء وذوي القربى، وفي سبيل الله وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف). ولما ثبت عند

أبي يوسف ما احتج به مالك -رحمه الله- رجع عن قوله إلى قول مالك، واعتقد صحة ما رأى، واعتمد في ذلك على ما اعتمد عليه مالك -رحمه الله-. ونبه القاضي بقوله: "من غير حاجة إلى حكم" على مذهب أبي حنيفة، ويجوز في المحوز (وغير المحوز) أعني المشاع والمقسوم عندنا خلافًا لأبي حنيفة وأبي يوسف حيث منعاه في المشاع كما منعا رهن المشاع فيجوز عندنا في الديار والحوانيت والحوائط والمساجد والمصانع والآبار، والقناطر والمقابل والطرق وغير ذلك، فأما المنقولات كالحيوان والعروض. فحكى القاضيان أبو الحسن وأبو محمد في جواز تحبيسها روايتين المشهور صحة ذلك، وهو مذهب المدونة، والشاذ منعه. قال القاضي أو محمد: ومن أصحابنا من يقول: إن تحبيس الخيل جائز بلا خلاف، لأنها تراد في سبيل الله، وإنما الخلاف في تحبيس غيرها، وفي كتاب محمد استثقل مالك تحبيس الحيوان، وقال في رجل حبس غلامًا على رجل وعقبه قال: أكرهه لأنه ضيق على الغلام، لأنه قد يرجى عتقه، ولعل هذه الكراهية في العبيد والإماء دون غيرهم، ولا يجوز توقيف الطعام، لأن منفعته في استهلاكه، وتوقيف الأشجار للانتفاع بثمرها، والبقر والغنم والإبل لألبانها ومنافعها. قوله: "وعلى رواية الجواز يباع ما يخشى عليه التلف ويستبدل به ولا يباع الرباع بوجه": قلت: اختلف المذهب في الحبس إذا تعطلت منافعه، وذهب الانتفاع به هل يباع أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: جواز بيعه مطلقًا عقارًا كان أو غيره من سائر الممتلكات. والثاني: أنه يباع مطلقًا. والثالث: أنه يباع كل شيء ما عدا العقار، لأنه وإن خرب فيمكن إحياؤه

بخلاف الحيوان الذي يخشى عليه الهلاك. وحكى القاضي أبو محمد وغيره: "أن بيع لحبس إذا خربت جائز، يحكى عن ربيعة قال: وأظن بعض أصحابنا يذهب إليه ولست أتحققه في هذا الوقت" والذي اختاره أئمة المذهب أن العقار لا يباع إذا خرب وتعطلت منفعته، إذ ليس في بقائه إتلاف لإمكان عود العمارة إليه، وإذا منع عبد الملك بن الماجشون وغيره في الحيوان إذا هرم فهو في الرباع أولى، لأن في بيعه إبطال شرط الحبس وقصد الموقف وحلاً لما عقده لأنه أبدًا التحبيس، فكان بيعه على خلاف قصده وقد قال الله العظيم: {فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه} [البقرة: 181]. قال في الواضحة في البعير والفرس والتيس يحبسه للضراب، فينقطع ذلك منه للكبر لا أرى أن يباع إلا أن يكون المحبس شرط ذلك في أصل الحبس، وكذلك في المجموعة عن ابن الماجشون، قال: وإن شرط أنه إن هرم أو فسد بيع واشترى بثمنه غيره، فذلك جائز قال ابن القاسم: إذا وقف الفرس للجهاد عليه، والعبد للصنعة تراد منه فالنفقة في بيت المال، فإن لم يكن بيع، واشترى بثمنه ما لا يحتاج إلى نفقة كالسلاح والدروع ونحوها، قال غيره: لا يجوز بيع ذلك، وإذا انكسر الجذع لم يجز بيعه، ويستعمل في الوقت، وكذلك سائر الأنقاض. قال الشيخ أبو الحسن، والشيخ أبو إسحاق: ولا يباع نقض الوقف، قال: من أصحابنا من يرى بيعه، (ولا) أقول به ولا (يباع الوقف) وإن خرب ما حواليه، قال محمد بن عبدوس: لا خلاف بين أهل العلم أن المساجد لا تباع إذا خربت ودثرت، وبقاء أحباس الصحابة داثرة دليل على

منع بيعها وشرائها ولو أحاطت دور محبسة بمسجد، فاحتاج الإمام إلى توسيع المسجد الجامع لمصلحة المسلمين، فقد أجازوا بيع الدور المحبسة وإضافتها إلى الجامع ليوسع بها فيه، وطريق المسلمين كالمسجد الجامع إذا احتاج الناس إلى توسيع الطريق أيضًا لأن منفعة الجامع وطريق المسلمين أعم نفعًا من منفعة الدور المختصة (المحبسة) حول الجامع والطريق. قال ابن الماجشون: وذلك في مثل جوامع الأمصار دون مساجد القبائل قاله مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ وابن الماجشون. قال مالك فيما هرم من الدواب إذا بيع ولم يكن في ثمنه ما يشترى به، قال: يعان به في فرس السبيل، وإن لم يكن في الثمن ما ينتفع به فرق في سبيل الله، قال: ولا تباع الدور والأرضون وإن خربت وصارت عرصة، وقد كان البيع أسهل. قال مالك في كتاب ابن حبيب في الدور المحبسة حول مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- حين زيد فيه، لم يكن له بد من أن تهدم تلك الدور، واختلف إذا كان الحبس على معين هل يسقط حقه فيما هلك أو يعود حقه في تلك القمة، ويشترى بها مثل الأول وهو الصواب إن شاء الله. قال القاضي -رحمه الله-: "وألفاظ الحبس والوقف ضربان ضرب (مجرد) وضرب يقترن به ما يقتضي التأبيد" وهذا كما ذكره، ومثل ألفاظ المجرد أن يقول: حبست ووقفت وتصدقت، فإذا قال: وقفت هذه الدار فهو صريح في التأبيد، فإن زاد إلى ذلك وقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، فذلك كتوكيد، والاقتصار على لفظ الوقف كاف، لأن مقتضاها عرف التأبيد فإن قال: في وجه كذا، أو حبس، ولم يقل: في وجه كذا، فإن ضم إلى ذلك ما يقتضى الأبيد) مثل أن يقول: حبس وقف أو مخرج مؤبد ولا يباع ولا يشترى، أو

جعله على مجهولين أو موصوفين كالفقراء والعلماء أو بني تميم، أو فلان وعقبه فلا خلاف أن هذا كله محمول على التأبيد، لأن صرفه في المجهولين كزيادة لفظ يقتضي التأبيد. قوله: حبس مؤبد بلا خلاف، وإن لم يضم إلى لفظ الحبس (لفظ آخر يقتضي التأبيد، أو جعله في مجهولين، بل اقتصر على لفظ الحبس) على فلان، أو في وجه كذا، أو على قوم بأعيانهم، ولم يذكر عقبًا فهل يتأبد ذلك أم لا؟ فيه روايتان: إحداهما: أن محمله على التأبيد، ومراجعة مراجع الأحباس، والثانية: أنه لا يتأبد ويصرف في الوجه الذي جعل فيه، فإذا زال ذلك الوجه عاد ملكًا له إن كان حيًا أو لورثته إن كان ميتًا. فرع: إن قلنا: إنه يتأبد فمرجعه مراجع الأحباس فيصرف أولاً في الوجه الذي جعل فيه، فإن انقرض ذلك الوجه رجع حبسًا على أقرب الناس بالمحبس إن كانوا فقراء، كان المحبس حيًا أو ميتًا، فإن كانوا أغنياء رجع إلى أقرب الناس إليهم من الفقراء، وإنما قلنا ذلك لأنه الصدقة على الأقارب أفضل من الصدقة على الأباعد، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج) وقال لأبي طلحة: (اجعلها في الأقربين)، وقال: (خير الصدقة ما كان على ظهر غنى وابدأ بمن تعول) هذا مرجع الحبس

المؤبد بعد انقراض الوجه الذي جعل فيه. قال مالك في كتاب محمد: ويرجع الحبس إلى أقرب الناس بالمحبس رجالاً كانوا أو نساء، إذا كانوا فقراء، فإن كانوا أغنياء قال أقرب الناس بهؤلاء الأغنياء. قال الشيخ أبو الحسن: واختلف في دخول (الأغنياء) والنساء. ففي كتاب محمد الذكر والأنثى فيه سواء، قال: وإن اشترط في التحبيس للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن المرجع ليس فيه شرط ولا هو الذي تصدق بها على من رجعت إليه وإنما هو رجوع اقتضته الأحكام. قال ابن القاسم في العتبية من رواية عيسى: القرابة الذين يرجع إليهم الحبس هم عصبة المحبس. وقال في كتاب محمد: يرجع إلى أقرب الناس من ولد عصبة، واختلف على القول برجوعه إلى العصبة هل للنساء مدخل فيه أم لا؟ ففي كتاب محمد دخولهن في ذلك، وفي العتبية: ليس للنساء فيه عصبة، وإنما يرجع إلى الرجال. قال ابن القاسم: إن كان للمحبس ابنة لم يكن لها شيء، وإنما هو للعصبة، وقال في كتاب محمد: ذلك لكل من لو كانت رجلاً كانت عصبة. قال ابن القاسم: يدخل الجدات والعمات، وبنات الأخ، والأخوات للأب والأم دون الإخوة للأم، وتدخل أمه. وقال مالك مرة: لا تدخل أمه، ولو كان أهل المرجع بنات وعصبة فهو بينهم إن كان فيه سعة وله خطر، وإلا فالبنات أولاً من العصبة. قال محمد: تدخل مع البنات الأم، والجد للأب، والجد للأم، ولا تدخل الزوجة، فإن انقرض جميع أصحاب المرجع كان حبسًا على الفقراء والمساكين، والمقصود أنه لا يورث عن المحبس مجال إن كان مؤبدًا، لأنه لو عاد إليه، أو ميراثًا عنه لم يكن غرضه من الصدقة حاصلاً، وإمامًا لا يتأبد

فحكمه أن يرجع بعد انقراض الوجه الذي فيه ملكًا لمالكه المحبس له لم ينتقل إلى ورثته كسائر أملاكه. قال ابن القاسم: وكل ما يرجع ميراثًا فيراعى فيه من يرث المحبس يوم مات، وأما ما يرجع حبسًا (فلا ولا هم) به يوم يرجع، فاعتبر في غير المؤبد (القرب) يوم الموت، وفي المؤبد (القرب) يوم المرجع، وأما إذا رجع المؤبد إلى من ذكرنا رجع حبسًا لا ملكًا، وصرف الحبس إلى المجهولين كالتلفظ بالتأبيد والتحريم، فإن اقتصر على لفظ الصدقة فقال: صدقة على فلان احتمل أن يريد الحبس أو تمليك الرقبة في غير تحبيس كان ذلك على ما أراده، وإن أراد مضي الحبس جرى في التأبيد فيه ما جرى في الفظ الحبس فإن أطلق (لفظ الصدقة) ولم يضم إليه ما يقتضي التحبيس من ألفاظ التأبيد، أو من صفات المتصدق عليهم فهو على معنى الصدقة لا ينصرف إلى المحبس، فإن ذكر العقب كان ذلك (دليلاً) على التأبيد، فإن قال: صدقة على بني فلان وهو مجهولون لا يحاط بعددهم تأبد ذلك، وكان ذكر صفات المتصدق عليهم قرينة تدل على إرادة التأبيد، إذ لا يعلم انقراض المجهولين فهو كلفظ العقب، ولو قال: صدقة على فلان وعقبه كان تأبيدًا، وحكى ابن عبدوس عن بعض أصحابنا: أنه إذا قال صدقة وعليه) ما عاشوا، ولو يقل حبسًا أنها تكون ملكًا لآخر العقب من رجل أو امرأة يتصرف فيها كيف يشاء، والصحيح أنه حبس ومرجعه مرجع الأحباس، ولو قال: حبس صدقة أو صدقة حبس، فإن ضم إلى ذلك: "لا يباع ولا يوهب" فهو مؤبد بلا خوف، وإن لم يضم إلى ذلك "لا يباع ولا يوهب"، ولا ذكر مجهولين ولا عقبًا. ففي (التأبيد) ثلاث روايات التأبيد

ونفيه والفرق بين أن يقدم لفظ الحبس فيكون محمولاً على التأبيد، أو لفظ الصدقة فلا يتأبد، وقد ذكرنا أنه إذا ذكر مجهولين أو عقبًا كان ذلك قرينة يقتضى التأبيد. قال ابن وهب في العتبية: فيمن حبس دارًا على رجل، وقال: لا تباع ولا توهب، ثم بدا له فقال: هي عليك صدقة، قال: هي له، يصنع بها ما شاء، ولم يره تأبيدًا، ولو قال: حبس على هؤلاء الفقراء، أو على هؤلاء العشرة، وضرب أجلاً أو قال: حياتهم رجع ملكًا إذا لم يذكر العقب، وإنما يذكر معينين، ولو أطلق ولم يسم أجلاً، ولا حياة، فقال مالك مرة: يرجع ملكًا، وقال مرة: يرجع مراجع الأحباس. حكى الشيخ أبو القاسم بن الجلاب أنه إذا قال: حبس على فلان وعقبه، فانقرض العقب أنه يعود ملكًا، ومذهب المدونة: أنه يرجع مراجع الأحباس، ولا يرجع ملكًا، قال محمد: إذا عقب الصدقة فهي حبس إلا أن يقول صدقة بتلا له ولعقبه فيكون لآخر العقب، ولو قال: صدقة على فلان وعقبه ما عاشوا، فهل يرجع بعد العقب مرجع الأحباس أو ملكًا. حكى الشيخ أبو الحسن فيه قولين. قال مالك: ومن حبس على ولده، ولا ولد له فله أن يبيع، وقال ابن القاسم: ليس له أن يبيع حتى يؤيس له من الولد، ومن حبس على ولده، ثم هو سبيل الله فلم يولد له (فله أن يبيع إلا أن يؤيس له في الولد، ومن حبس على ولده، ولا ولد له، فله أن يبيع، وقال ابن القاسم: ليس له أن يبيع). وقال عبد الملك: بل هو حبس، قال الشيخ ابن القاسم: ليس له أن يبيع). وقال عبد الملك: بل هو حبس، قال الشيخ أبو الحسن: القصد بالحبس ولده والمرجع في معنى الاحتياط إن انقرض الولد، فإذا لم يكن له ولد لم يلزمه حبس، ولو يتعرض القاضي لذكر المحبس عليهم وهو ثلاثة أقسام: معين،

ومجهول يترقب انقراضه، ومجهول لا يترقب انقراضه، فالأول أن يقول: على فلان بعينه فهو له، فإن مات عاد ملكًا للحبس، وهو من باب الأعمار، وكذلك إذا قال: على ولد فلان، فهو له ما دام حيًا لأنه بمنزلة فلان، فإذا أراد بالولد الجنس لا واحد بعينه ففيه مسائل. المسألة الأولى: لا خلاف أن ولد الصلب داخل تحت اللفظ إذا قال: حبس على ولدي أو أولادي، فإن كان حبسًا كان على العقب، وعلى مجهول من يأتي من الولد الذكور والإناث من ولد الصلب لدخول الكل تحت لفظ الولد إجماعًا، ولد الذكور من أولاد الصلب كآبائهم دون ولد الإناث، وهل يؤثر البطن الأعلى أو يستوي بين الجميع فيه قولان في المذهب. المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على ولدي وولد ولدي لم يدخل ولد البنات في ذلك لأنهم من قوم آخرين. قال الشاعر: بنونا بنو بناتنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد قال ابن العطار: وكانت الفتوى عندنا بقرطبة أن ولد البنات يدخلون في ذلك، وقضى به محمد بن إسحاق بن السليم، بفتيا أكثر أهل زمانه،

ولو قال: وقفت على أولادي ذكورهم وإناثهم (ولم يسمهم، ثم قال وعلى أعقابهم دخل ولد البنات في ذلك، لأنهم في الأعقاب، وكذلك إذا سمى أولادهم ذكورهم وإناثهم) ثم قال: وعلى أولادهم، فولد البنات يدخلون فيه باتفاق المتقدمين والمتأخرين. قال الشيخ أبو الوليد: إلا ما روي عن ابن زرب وهو خطأ صراح لا وجه له، ولو قال: على بني فلان، فهل يحمل على بنيه لصلبه خاصة أو عليه وعلى بنيهم، وأعقابهم فيه قولان، وكذلك هل يدخل تحته لفظه الإناث أم لا؟ حكى الشيخ أبي الحسن فيه قولين، واحتج من رأى دخل الإناث بقوله تعالى: {يبني آدم} [الأعراف: 31] ولو قال: على ولد صلبي لم يدخل فيه ولد الولد ذكورهم وإناثهم. قال الشيخ أبو الحسن: أما لفظة البنين فإنه يتناول عند مالك الولد وولد الولد وذكورهم وإناثهم، قال مالك: ومن تصدق على بنيه وبني بنيه، فإن بناته وبنات بناته يدخلون في ذلك، ولوى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته، فإن بنات بناته يدخلن مع بنات صلبه. قال القاضي أبو الوليد: والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد ابنته لا يدخلون في البنين (من ولد الصلب الولد من ذكر وأنثى) ولد ذكور الولد عقب آبائهم، وليس ولد البنات عقبًا ذكرًا كان أو انثى، والبنات دنيا وبنات البنين في العقب، وإن قال: حبس على (بني أبي كان لإخوته لأبيه، ويختلف في دخول بنيهم، ولا شيء لإخوته لأمه، ولو قال: حبس على) إخوتي دخل الإخوة للأم مع الإخوة الأشقاء، والإخوة للأب، وإن قال: حبس على آبائي دخل الآباء والأمهات والأجداد والجدات من حيث كانوا، واختلف في دخول العمومة، فقيل: يدخلون لقول الله -عز وجل-: {نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل

وإسحق} [البقرة: 133] ولو قال: حبس على أهلي، قال مطرف في كتاب ابن حبيب: يدخل في ذلك جميع قرابته ورحمه من قبل أمه وأبيه، والأخوال والخالات وبنوهم الذكور والإناث وبنو البنات، وبنات البنات. وقال ابن القاسم: الأهل والآل العصبة والأخوات والعمات والخالات والأخوال، ولو قال: على الذرية دخل ولد البنات. قال الإمام أبو عبد الله: لا خلاف في ذلك لقول الله -عز وجل-: {ومن ذريته داود وسليمان} [الأنعام: 84 - 85] إلى قوله: {وعيسى} فجعل عيسى من ذرية إبراهيم، وإنما هو ولد بنته، ولو قال: حبس على القرابة دخل الأقرب فالأقرب بالاجتهاد. وفي العتبية: يدخل في ذلك ولد البنات، وولد الخالات، وقيل: يدخل كل ذي رحم محرم (أو غير محرم) من قبل الأب والأم أو أحدهما، وهل يفضل الأقرب أم لا؟ قولان: والمشهور أنه لا يفضل وأسعدهم أحوجهم، وقيل: يفضل الأقرب، وفي كتاب محمد: من حبس على ولده الذكور والإناث، وقال في أصل تحبيسه، ومن مات منهم فولده بمنزلته قال: لا أرى لولد البنات شيئًا، والصحيح أن نصه يقتضي دخول ولد البنات، ولو قال: داري حبس على قوم فلان لم يدخل فيه النساء لقوله سبحانه: {لا يسخر قومٌ من قومٍ ... ولا نساءٌ من نساءٍ} [الحجرات: 11] ولو قال: حبس على الأرامل كان الرجل الأرمل كالمرأة لقول الحطيئة: هذا الأرامل قد قضيت حاجتا ... فمن بحاجة هذا الأرمل الذكر ولو قال: حبس على أطفال هل يتناول من لم يبلغ الحلم والمحيض، ولو قال: على شبابهم أو أحدثهم كان ذلك لمن بلغ منهم إلى أن يكمل أربعين سنة، ولو قال: على كهولهم كان لمن جاوز الأربعين، ولو قال: على

شيوخهم كان لمن جاوز الستين من الذكور والإناث، ولو قال: على موالي دخل فيه الذكور والإناث، ويدخل في ذلك موالي أبيه، وموالي ابنه، وموالي الموالي، وأبناء الموالي ويؤثر الأقرب إن كان فقيرًا، وإن كان غنيًا أوثر المحتاج الأبعد على الغني الأقرب، وأما المجهول الذي لا يترقب انقراضه فمثل أن يقول: حبس على الفقراء على العلماء ونحوه من القيد بالوصف، وإن لم يتعين بالاسم. فرع: كره مالك إخراج البنات من الحبس إذا تزوجن. قال في العتبية، وفي كتاب محمد: وذلك من عمل الجاهلية، فإن وقع ذلك، قال ابن القاسم: فالشأن أن يبطل. قال الشيخ أبو إسحاق: ولو أخرجهن بطل وقفه، وروى أبو بكر بن حزم أن عمر بن عبد العزيز مات وهو يريد أن يرد صدقات الناس التي أخرجوا منها النساء، وكذلك إذا شرط أن من تزوجت منهن بطل وقفها. قال ابن القاسم: فإن فات فأرى أن يمضي على نحو ما شرط. قال ابن القاسم: أكره ذلك، فإن كان المحبس حيًا فليفسخه، وإن مات لم يفسخ، وفي مختصر أبي بكر الوقار: وجائز أن يحبس على الذكور دون الإناث، وعلى الإناث دون الذكور، وأن يساوي بين البنات والذكور وأن يقطع البنات بالتزويج، وما شرط فيه من شرط مضى على شرطه، وهذا خلاف ما تقدم، وهو جار على الاختلاف في جواز تفضيل بعض البنين على بعض. قال القاضي -رحمه الله-: "والوقف في الصحة من رأس المال، وفي المرض والوصية من الثلث" وهذا كما ذكره، لأن المريض محجور عليه في حين مرضه ففعله موقوف على الثلث بعد موته بخلاف الصحيح إذ لا حق على الصحيح ولا حجر في ماله (للوارث). قوله: "ومن شرطه خروجه عن يد الواقف وترك الانتفاع به"، فإن أقام في يده حياته أو إلى مرضه الذي مات فيه، فإنه يبطل اعتمادًا على حديث أبي بكر الصديق (أنه نحل ابنته عائشة جداد عشرين وسقًا فلم تقبضه حتى مرض

مرضه الذي مات (منه) فقال لها: لو كنت حزتيه لكان لك وإنما هو اليوم مال وارث) وكذلك إذا بقى الجسد بيد المحبس حتى فلس فهو باطل ويعود ميراثًا إلا أن يبقى ببده بعد الحبس، وهو يصرف منفعته في مصارفها، ولا ينتفع بشيء منها ففي صحة الحبس (أو بطلانه) روايتان: البطلان والصحة، وفيه رواية ثالثة بالتفرقة فإن أخرج الأصل كان الحبس صحيحًا مثل أن يكون فرسًا أو سلاحًا، وإن اقتضى الغلة، ثم صرفها كان باطلاً، وهو مذهب المدونة، ولو حبس ديارًا فسكن بعضها أو دارًا فسكن بيتًا منها بطل الجميع. وقال ابن القاسم: يجوز ما لم يسكنه، ويبطل ما سكنه، وقال غيره: إن سكن يسيرًا منها جاز الحبس كله، وإن سكن كثيرًا بطل كله، وسيجيئ الحبس على ولده الصغير. قال مالك: إذا حبس الكتب ليقرأ فيها أو الخيل ليغزى عليها، ولم يطلب الكتب منها للقراءة ولم يأت وقت إنفاذ (الخيل للجهاد، فبقي ذلك تحت يد المحبس، فالحبس باطل، وعن مالك أنه صحيح) وهذا من الحبس الذي يصح بقاؤه تحت يد محبسه، إذ ليس على معين من الحبس من لا يحتاج إلى حائز مخصوص كالآبار والمساجد، فإذا خلا بينها وبين الناس صح حبسه، ولو حبس دابة للغزو، وكان يركبها إذا عادت إليه ليروضها فمات وهو تحت يده لم يفسد حبسه، ولو كان يركبها كما يركبها المالك لا للرياضة بطل حبسه. قال أبو الحسن بن القصار: وقراءة الكتب المحبسة إذا عادت إليه خفيفة وإن أنفذ بعض الحبس صح ما أنفذ، وإن قل ولو حبس الثمار والحوانيت

وعبيد الخراج، وأخرج ذلك عن يده، وأقام حائزًا بحوزه، وإنفاذ غلاته صح حبسه، وإن بقي في يده ولم يدر هل أنفذ غلاته أم لا؟ بطل. واختلف إذا علم أنه كان ينفد غلته من الوجه الذي حبسه له. ففي المبسوط عن محمد بن مسلمة: الصدقة ماضية، وإن بقيت في يده إذا علم أنه كان يخرج الغلة حيث جعلها، وهذا هو الصحيح الذي اختاره الأشياخ لأنه حبس أنفد فيما حبس له وهو قول المغيرة وروايته عن مالك، وروى عن مالك وابن القاسم أنه حبس باطل، وقال في كتاب محمد: إذا سلم ذلك إلى من يحوزه عنه، والمحبس يقسم غلاته بين أهله جاز، ففرق في هذا القول بين أن يبقى تحت يده أو يسلمه إلى غيره. قال مالك: لا يفتقر الوقف إلى قبول المحبس عليه (إلا أن يكون المحبس عليه) معينًا، فإن كان معينًا فهل القبول شرط في أصل الوقفية أو في اختصاصه به خاصة قولان عندنا مستخرجان من الأصول. قال مالك في كتاب محمد: لو قال: اعطوا فرسي رجلاً سماه، فلم يقبله، قال مالك: إذا كان على وجه الحبس أعطى لغيره حبسًا، وفي كتاب ابن حبيب عن مطرف فيمن أعطى دابة فلم يقبلها المحبس عليه لأجل نفقتها قال: ترجع ميراثًا، فمسألة الفرس تدل على أن القبول شرط في الاختصاص لا شرط في أصل الوقفية لأنه جعل الفرس حبسًا على غيره، ومسألة الواضح عن مطرف تدل على أنه شرط في أصل الوقفية ألا تراه جعلها ميراثًا. قال مالك: ولو تصدق بصدقة فلم يقبلها المصدق عليه حتى مات المتصدق لم يجز لهم قبضها، وكانت ميراثًا (قال) الشيخ أبو الحسن اللخمي: اختلف في موضعين إذا كان المرض بفوز الصدقة هل تخرج من رأس المال إذا فرط في القبض هل تسقط الصدقة أم يخرج جميعها من الثلث أم يكون له ثلثها، فقال مالك مرة: إن لم يفرط في القبض كانت (له) من رأس المال. وقال مرة: تسقط وإن فرط لم تخرج من رأس المال. قال ابن القاسم: ولا من

الثلث. وقال أشهب: يقضي له من الثلث فإن صح قضى له ببقيتها، ولو لم يقم عليه تى مات بفور الصدقة. فعن مالك روايات أحدها: أنه يسقط جميعها، وقال في غير ما موضع تصح من رأس المال وإن فرط لم تصح من رأس المال، ولا من ثلث، وقيل: تخرج من الثلث. قال مالك: ويصح الحبس على الجنين وعلى من (سيولد)، ويجوز الحبس على ولده الصغير والكبير السفيه وقبضه لهم جائز، وحيازته ماضية إذا شهدت البينة على معاينة الحوز، ولا يكتفي الشهادة على الإقرار بالحوز. قوله: "ومن وقف أو حبس ولم يجعل له مخرجًا صح وصرف في وجوه الخير" وهذا كما ذكره. قال مالك: من حبس رباعًا ولم يبين مصرفها قال: يسكنها الولد والقرابة والرحم لقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي طلحة: (أرى أن يجعلها في الأقربين). قال مالك: فيمن قال: حبس في سبيل الله سبل الله كثيرة، وأرى أن يجعل في الغزو، وقال أشهب في المجموعة القياس أن يجعل في أي سبيل من سبل الخير وضع فيه جار، والاستحسان أن يجعل في الغزو. وقال في كتاب النذور: ومن جعل شيئًا من ماله في سبيل الله فأرى أن يباع ويجعل ثمنه لمن يغزوا به، وقسمه الشيخ أبو الحسن ثلاثة أقسام فإما أن يقول: حبس في سبيل الله أو في سبيل الله، أو حبس لا يزيد على ذلك، وذلك كله واسع أن يجعل في الغزو وغيره من وجوه البر، وإن كانت مثله يباع بيع، وجعل ثمنه في الغزو، وهذا حاصل معنى نصوص الروايات، وإن اختلفت ألفاظها.

قوله: "والعمرى جائزة": وهي تمليك المنفعة دون الرقبة عندنا. وقال الشافعي: هي تمليك الرقبة، وثمرة الخلاف إذا مات المعمر فعندنا أنها تعود إلى مالكها المعمر أو إلى ورثته. وعند الشافعي أن المعمر قد ملك بالاعتمار رقبتها فتعود إلى ورثته بعد موته، ولا تعود إلى المعمر ولا إلى ورثته بحال. والحجة له قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أيما رجل أعمر عمرة فهي له ولعقبه ولا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، واعتمد مالك -رحمه الله- على أن مقتضى الإعمار تمليك لمنفعة مدة العمر فهو كالإسكان، وذلك لا يقتضي تمليك الرقبة، لأن تمليك الرقبة يقتضي التأبيد، والعمرة تقتضي اشتراط العمر، لأنه لو قال: ملكتك الرقبة حياتك لم تملك الرقبة بذلك، وكذلك الإسكان تمليك الانتفاع بالمسكن تمليكًا مخصوصًا فهو الذي يسميه فقهاء الأندلس إمتاعًا. ويفرقون بينه وبين العمري، فإن العمري الانتفاع في جمع العمر والانتفاع هو تمليك المنفعة مدة محصورة وتفتقر العمري إلى الحوز كالهبة، وتجوز للمعمر شراء عمراه قياسًا على العرية، ولا يجوز لغيره ذلك، وللمعمر كراؤها سنتين لا زيادة، وقيل: أربعة أعوام كالأحباس، ويجوز لورثه المعمر شراؤها من المعمر، كما كان ذلك لأبيهم، فإن كانت العمرى معقبة فهي كالحبس لا يجوز فيها ابتياع، وإذا أجزنا للمعمر ابتياع عمراه جاز ابتياع ذلك بالعين والعرض والطعام نقدًا أو أجل، ومنعه بعض فقهاء الأندلس بالنسيئة وكأنه رآه من باب الدين بالدين، ولعله مخرج

على مسألة الخلاف بين ابن القاسم وأشهب فيما إذا أخذ خراج دار أو خراج عبد في دين له هل يجوز أم لا؟. ويجوز أن يشتري جزءًا من عمراه، ولو أعمرت امرأة زوجها في دارها مدة الزوجية فطلقها ثم راجعها عادت العمري ما بقيت من طلاق ذلك الشيء، كما التزم الزوج النفقة على ربيبته طوعًا مدة الزوجية، ثم طلق أمها، ثم راجعها، فإن الإنفاق لازم ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء، نص عليه القاضي أبو الوليد بن رشد. قوله: "ونفقة المخدم على المالك، وقيل: على من أخدمه" هذا الخلاف مشهور، والصحيح أنها على المالك، لأن الرقبة (له أعني مالك الرقبة) والنفقة تابعة (للملك) ويتعلق بهذا ذكر النفقة على المحبس إذا كان مما يحتاج إلى النفقة وإصلاحه، إن افتقر إلى إصلاح، والأحباس في ذلك مختلفة فديار الغلة والحوانيت والفناديق، وما كان من ذلك يصلح أو يخرج فتكرى بما تصلح به، ثم يعود، والنفقة على البساتين من غلتها تقسم غلاتها على المحبس عليهم بعد إصلاحها من أثمان غلاتها (مما يحتاج إليه إن كان) وكذلك الغنم والبقر تقسم عليهم ألبانها وأصوافها بعد تعاهدها من غلاتها بما تحتاج إليه إن كان ذلك كله على غير معينين، فإن كان على معينين سلم إليهم، ونظروا في تعاهده كيف يختارون، وينفق على خيل السبيل من بيت المال، وإن لم يكن بيعت، واشترى أثمانها من الكراع والسلام من لا يحتاج إلى نفقة، وينفق على عبيد الغلة من غلتهم، فإن كانوا للصدقة في السبيل فهم كالخيل ينفق عليهم من بيت المال. واختف فيمن حبس دارًا، وشرط على المحبس عليه أن يرمها متى احتاجت إلى الإصلاح، فقال ابن القاسم: ذلك كراء وليس بحبس، ولو نزل ذلك مضى الحبس وبطل الشرط، وقال محمد: يرد الحبس ما لم يقبض. وفي مختصر ابن عبد الحكم: من أعطى رجلاً فرسًا ينفق عليه سنة، فإذا انقضت هو له، على غير ذلك من الشروط أفضل، فإن

وقع جاز. قوله: "ويلزم عقد الصدقة والهبة بالقول ويجبر الواهب على الإقباض" وهذا تنبيه على مذهب أبي حنيفة والشافعي حيث قالا: لا تنعقد إلا بالقبض، وما لم تقبض كان عقدًا جائزًا لا لازمًا. واتفق مالك وجميع أصحابه على أنها عقد لازم يلزم بالقول، وتصح باللفظ من غير قبض، فإذا قال: تصدقت عليك بهذا العبد أو وهبتك هذا الثوب، فقال الموهوب: قد قبلت ذلك فليس للواهب رجوع ويحكم عليه بالإقباض ويجبر المتصدق عليه إذا امتنع منه لقول الله -عز وجل-: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه) ولم يفرق بين الرجوع قبل الإقباض أو بعده وأدرج القاضي الصدقة والهبة تحت حكم واحد في اللزوم، والأمر كما ذكرناه، وإنما يفترقان لأن الصدقة يراد بها وجه الله، والهبة قد يراد بها الثواب (وقد يراد بها وجه الموهوب له) وكان -صلى الله عليه وسلم-: (يهب ويقبل الهبة، وهب لجابر بن عبد الله بعيرًا اشتراه منه، ووهب لعبد الله بن عمر ولأبيه عمر حلة سيراء). أو سواء كان الموهوب معلومًا أو مجهولاً، لأن هبة الغرر

والمجهول والصدقة بذلك جائز، ويستحب أن لا يفعل ذلك إلا بعد المعرفة وصفته خوف الندم عليه إن كان لوجه الله قال فيمن تصدق بميراثه على رجل، ثم تبين له خلاف ذلك، له أن يرد عطيته، وقال محمد بن عبد الحكم: لا رجوع له. قال أشياخنا: إن كان الوارث يرى أن للمورث دارًا يعرفها في ملكه فأبدلها الميت في غيبته بأفضل منها، ولم يعلم المتصدق ذلك، فله أن يرد عطيته، لأن له أن يقول: كان قصدي تلك الدار، وكذلك إذا طرأ له مال لم يعلم المتصدق به حين الصدقة فتمضي الصدقة فيما علم خاصة لا فيما لم يعلم، وإن كان جميع ماله حاضرًا وكان يظن أن ذلك كذا فتبين له أكثر كان شريكًا بالزائد هذا المختار للشيخ أبي الحسن اللخمي. قوله: "وتصح في المحوز والمشاع" هذا تنبيه على خلاف مذهب أبي حنيفة في المشاع الذي لا يمكن قسمته، إذ لا يتصور القبض فيه، وعندنا أنه يتصور حكمًا، وصفة الحوز في المشاع مختلفة فإن كان الجميع ملكًا للواهب أو المتصدق فوهب ذلك أو تصدق به صحة العطية مع بقاء يد الواهب مع الموهوب، ويتنزل الموهوب له منزلة الشريك الأجنبي على الأصح من المذهب وإن لم يكن الجميع ملكًا للواهب فلا إشكال في جواز ذلك، ويحل الموهوب مع الشركاء محل الواهب، واختلف فيها إذا تصدق على ولده الصغير بجزء مشاع من دار أو أرض، وأشهد عليه، وحاز جميعه لنفسه ولولده

ففيها روايتان: إحداهما: إبطال الصدقة، والأخرى: جوازها، وكذلك الهبة. قال مالك في كتاب محمد: من تصدق على ولده الصغير أو على يتيم يلي عليه بمائة من غنمه، ولم (يفرقها) حتى مات فذلك جائز، ويكون شريكًا فله حظه فيها من النماء والنقصان. وقال مالك مرة: إن لم يفرقها أو يسمها لم يجز، قال: وأهل الإبل يسمون الإبل والغنم كما يسمى أهل الخيل الخيل، وأجاز في كتاب محمد: إذا تصدق بنصف داره أو عبده أن تبقى يده مع المتصدق عليه. وفي كتاب سحنون عن أبيه: أن الصدقة باطلة ولا تنم مع بقاء أيديهما عليها. قال ابن القاسم: إذا تصدق بشيء معلوم جاز، وإن كان غائبًا عن الشهود، إذا كان في حجره، ولو تصدق على ولده الصغير وأجنبي أو وهب أو حبس فلم يجز الأجنبي حتى مات المعطي فنصيب الأجنبي باطل (سواء كان صدقة أو وهبته أو حبسًا). واختلف المذهب في نصيب الصغير على ثلاثة أقوال: أحدها: جوازه في الصدقة والهبة والحبس، لأنه لو قام الأجنبي يطلب الحوز كان يد الأب معه نائبًا عن ولده فقد حاز على الولد من هو جائز الحوز له، وقبض له من هو ماضي القبض، والثاني: أن نصيب الولد باطل في الصدقة والحبس والهبة بناء على أن صدقة المشاع لا يتصور (قبضها) إلا بارتفاع يد الواهب، فلو قام الأجنبي يطلب الحوز لرفعت يد الأب عن الجميع، وجعل ذلك على يد الأجنبي يحوز للصغير، والقول الثالث: وهو قول ابن نافع وعلي بن زياد عن مالك لأن ذلك جائز في الهبة والصدقة، وباطل في الحبس من قبل أن الصدقة تقسم، وقد قبض له من هو جائز القبض، والحبس يسلم إلى من يقبضه له أو للكبير لم تجز فيه قسمة. قال مالك في كتاب محمد: إن حاز الأب ذلك لابنه، وعلم أنه منع نفسه من منافعه جاز نصيب الابن، وهذا أسعد الأقوال عندي بالصواب، وأما نصيب الأجنبي فباطل على كل

حال إذا لم يحز، وبقي في يد الواهب أو المتصدق حتى مات. قوله: "إلا أن يهب لولده الصغير فيكون قبض الأب قبضًا له" وهذا كما ذكره. (وكذلك) يحوز الأب لولده الصغير والكبير السفيه، وكذلك لابنته البكر والثيب السفيهة في العقار والعروض والعبيد. واختلف فيما تصدق به عليهم من الدنانير والدراهم. قال مالك مرة: لا يجوز إلا أن يضعها على يد غيره، ولو أشهد على طابعه عليها، ومات وهي تحت يده لم يجز. وقال في كتاب ابن حبيب إذا أشهد عليها جاز ختم عليها أو لم يختم إلا أن تكون وصية. واختلف إذا وهبته غلامًا فكان يخدمه أو ثوبًا أو حليًا فكان يلبسه، فقال ابن القاسم: بجواز ذلك إذا كان العبد يخدم الصبي، وإن كان مع أمه، وقال أشهب: لا يجوز ذلك إلا أن تكون الأم وصية. قوله: "وهبة الثواب جارية مجرى البيع": وهذه الهبة التي هي للثواب جائزة، والدليل على جوازها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهديت له لقحة فطلب صاحبها الثواب فلم ينكر -صلى الله عليه وسلم- ذلك عليه لأنه بيع في المعنى، والموهوب له مخير بن الإثابة أو الرد لأنها معاوضة لا تلزم إلا باختيارهما، والثواب ما تراضيان به، فإذا لم يتراضيا لزمت في ذلك القيمة، وقد قيل: لا يجبر الواهب على قبول القيمة إلا من النظر أو الأمثال فأما هبة الفقير للغني أو الرجل للسلطان أو للعالم أو للصالح فلا يجبر فيها على قبول القيمة، إذ للواهب أن يقول: لو شئت القيمة لذهبت بها إلى السوق، وإنما يلزمه قبول ما زاد على القيمة مما يشهد العرف بأن مثله ثواب. واختلف إذا أثابه عرضًا يبلغ

القيمة هل يلزم الواهب قبله أم لا؟ فيه قولان. والصحيح مراعاة العرف في مكافأة تلك الهبة، لأن العرف كالشاهد، وإذا بنينا على المشهور من لزوم القيمة من الطرفين، وأنه لا مقال فيها لواحد منهما حكم بها على من أباها، فإن امتنع الموهوب من قيمتها وأراد رد عينها فله ذلك ما لم تفت علينها، والفوت مثل الحمل والموت والعتق ونقص البدن، واختلف في زيادة الجسم والسوق هل هي فوت أم لا؟ وفيه قولان عندنا حكاهما القاضي أبو محمد وغيره، ولما ذكرناه من أنها جارية مجرى المعاوضات لم تفتقر إلى حيازة. قوله: "وإذا اختلف المتواهبان وتداعيا الثواب حكم المدعي (الأشبه) " وهذا كما ذكره تحكيمًا للعادة وشهادة بمقتضى العرف كالفقير يهب للغني وللعالم وللصالح أو السلطان والنظر أو الأمثل إذا دل على ذلك دليل الحال، وعنه في هبة أحد الزوجين للآخر روايتان: إحداهما: أن مقتضاها الثواب، والثاني: أنها راجعة إلى مقتضى العرف وهو الصواب، وجعل القول قول الواهب مع يمينه عند الاحتمال، لأن الأصل ملكه فلا ينتقل عنه إلا بيقين. قوله: "ويكره للرجل أن يبتاع صدقته" وهذا كما ذكره، والأصل فيه حديث عمر بن الخطاب (أنه حمل على فرس في سبيل الله (فابتاعه) الذي هو عنده فأراد عمر أن يشتريه فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) وإنما ذلك لأنه أخرجه عن ملكه قربة لله وابتغاء وجهه فينبغي أن يدخره ليومه كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الصدقات ليومها) يريد يوم القيامة. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي:

واختلف في ذلك في خمسة مسائل: الأولى: هل النهي على التحريم أو على الكراهة، وفيه قولان. قال الداودي: ذلك حرام، فإذا نزل فسخ، والمشهور أنه مكروه فإن نزل مضى الثانية هل النهي على الشراء من المتصدق عليه خاصة، أو من صارت إليه مطلقًا فيه قولان عندنا. المسألة الثالثة: هل الهبة في ذلك كالصدقة أم لا؟ فأجازه في كتاب محمد، وفي غيره الصدقة والهبة سواء. المسألة الرابعة: هل تدخل في ذلك الصدقة الواجبة أم لا؟ فيه قولان. والمشهور أن الفريضة في النهي عن ذلك كالتطوع، وفي الناس من لا يرى بذلك بأسًا في الفريضة، وذلك عن عمر وابن عمر وجابر أنهم كرهوا ذلك في الفريضة، وهو قول مالك المشهور عنه. المسألة الخامسة: هل المنافع في ذلك كالرقاب أم لا؟ فيه قولان عندنا، وذلك إذا أخدم عبدًا وأسكن دارًا، ولم يبتل الأصل، وأجازه ابن المواز ومنعه عبد الملك وغيره وهو اختيار الشيخ أبي الحسن إذ لا فرق في المعنى بين الرقاب والمنافع. واختلف فيمن جعل شيئًا من مال الله تعالى، وكان مما لا يتصدق بعينه، وإنما يتصدق بثمنه هل يجوز للمتصدق أن يشتريه أم لا؟ قال مالك في العتبية: من قال في دابة أو عبد: أنا أهديه، هو مخير في ثمنه أن يجعله في هدى. وقال مالك أيضًا في امرأة: جعلت خلخالها في سبيل الله إن شفاها الله فصحت، قال: تخرجهما ولا تحبسهما، وتخرج قيمتها كراهة أن يتملك شيئًا جعله لله أن يعود إلى كسبه اعتمادًا على فرس عمر بن الخطاب. قال مالك: ومن تصدق بجارية على ولده الصغير فتبعتها نفسه، فله أن يقومها على نفسه، وفي كتاب محمد: فيمن تصدق على ابنه بغنم، فلا بأس أن يأكل من لحمها ويشرب من لبنها، ويلبس من صوفها إذا أعطاه ولده ذلك. وقال ابن نافع في شرح ابن

مزين: أكره أن ينتفع بصدقته على ولده كانت أو على أجنبي ولا أحب أن ينتفع بشيء منها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (العائد في صدقته) ولم يفرق، لأن كل ذلك أراد به وجه الله تعالى، فلا ينتفع بشيء منه، ومنع ابن القاسم من تصدق بصدقة أن يأكل من ثمنها أو يركبها، وينتفع بشيء منها أخذًا بحديث عمر -رضي الله عنه-. قوله: "ويستحب للمتصدق على ولده التسوية بينهم في الصدقة والهبة" فإن فضل أو خص (أحدهما) جاز ولم تبطل، والمساواة بين الأولاد في الهبة والصدقة مستحبة عندنا، وواجبة عند أحمد بن حنبل وغيره من أهل الظاهر، والمعتمد في الباب حديث النعمان بن بشير (أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا قال: أكل ولدك نحلته مثل هذا، قال: لا، قال: فارجعه). وفي رواية مسلم: (لا أشهد على جور). وفي لفظ آخر: (لا تشهدني على جور). وفي لفظ آخر: (لا تشهدني إلا على حق). وروى: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). وزاد أبو داود: (أن عليهم من الحق أن يبروك، وعليك أن تعدل بينهم). وقد اختلف الفقهاء في

مقتضى هذا الحديث، فذهب (مالك) والشافعي وأبو حنيفة إلى جواز التفصيل. وقال أحمد بن حنبل: هو باطل يجب فسخه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر برده وسماه جوارًا، وحقق ذلك بقوله: أشهد (على ذلك) غيري، لأنه إذا كان أمرًا لا يرضاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يشهد به فمن ذا الذي يرضاه أو يشهد عليه، والمشهور من مذهب مالك أن التفضيل مكروه، فإن نزل مضى ولم يفسخ. وخرج الشيخ أبو الحسن: أنه إذا تصدق على الذكور خاصة أو على بعض الذكور أنه يبطل إذا لم يشركهم فيه. قال ابن القاسم: يفسخ ما لم يحز، على قوله الآخر يفسخ، وإن حازه (الأب) ما لم يمت الأب (قال ابن القاسم: يفسخ). وفي كتاب محمد: لا بأس أن ينحل بعض ولده وإنما يكره أن ينحل جل ماله، قيل: فإن فعل أترى أن يرد فلم يقل شيئًا، واختلف في صفة العدل إذا كان ذكرًا أو أنثى. قال أبو الحسن بن القصار: العدل أن يعطي الأنثى ما يعطي الذكر، واستحسن ابن شعبان أن يكون على فرائض الله سبحانه. قوله: "وللأبوين الرجوع فيما وهباه للولد ما لم يتعلق به حق لغيره" وهذا كما ذكره وهو في الأبوين مستثنى من الرجوع في الهبة المنهي عنه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الراجع في صدقته كالكلب يعود في قيئه) وإنما استثنى مالك وأصحابه الأبوين لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الأب)، ولقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير: (فارتجعه) فدل ذلك على أن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه، لأنه ماله بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أنت ومالك لأبيك) فكن كالعبد مع سيده، والأم عندنا كالأب لمشاركتها الأب في سبب الولادة هذا أصل المذهب في الأم، وفيه خلاف. قال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب: إن جاز الأب ما وهبت الأم لولدها لم يجز لها أن تعتصر لأنها لا تعتصر ما ولايته إلى غيرها، وكذلك إذا كان (يتيمًا) وإنما ذلك لها إذا لم تخرج العطية عن يدها، ولا يعتصر الجد والجدة عند مالك من رواية ابن القاسم. وروى عنه أشهب في كتاب محمد أن ذلك لهما، وإذا قلنا بجواز اعتصار الأم إذا كان للولد أب، وسواء كان الأب موسرًا أو معسرًا، فإن كان الأب والابن فقيرين فهل للأم أن تعتصر الهبة أم لا؟ قولان، ولو كان الولد صغيرًا فقيرًا لم تعتصر الأم، لأنها صدقة لا هبة (وإذا كان فقيرًا اعتصرت) وعلى قول سحنون: لا تعتصر، ولو كان الأب يوم العطية فلم تعتصر الأم حتى مات الأب كان لها أن تعتصر لأنها لم تكن على وجه الصدقة. وفي كتاب محمد: لا تعتصر بناء على مراعاة يوم الاعتصار لا يوم الهبة. قال الشيخ أبو الحسن: واختلف في اعتصار الأب إذا كان الولد كبيرًا فقيرًا فقيل له: أن يعتصر. ومنع ذلك سحنون إذا كان الأب أو الابنة محتاجين، وقال: وإنما يعتصر الأب إذا كان الولد في حجره أو نائبًا عنه، وله مال كثير ولا يقع الاعتصار إلا في الهبة، وأما في الصدقة لوجه الله فهل يقع فيها الاعتصار أم لا؟ قولان.

المشهور أنه لا يجوز فيها الاعتصار، فإن مرض الأب امتنع الاعتصار في الهبة، وفي كتاب محمد عن أشهب: إذا مرض الأب فله أن يعتصر، والصواب أنه لا يعتصر في المرض لأنه حينئذ يعتصر لغيره، وإذا كان الابن هو المريض فلا أدري، واختلف إذا منع الاعتصار لمرض الأب أو الابن، ثم برئ، وقد كان اعتصر المريض هل يتم اعتصار المانع أم لا؟ قال محمد: ولو اعتصر في المريض ثم صح كان الاعتصار صحيحًا، والصحيح أن اعتصاره في المرض موقوف، فإن مات بطل الاعتصار وإن صح ثبت، وتعتصر الهبة، وإن تغير سوقها بزيادة أو نقصان، واختلف إذا حدث بها عيب هل يمنع الاعتصار أم لا؟ وإن كانت أمة فولدت فله أن يأخذ الأمة دون ولدها ولو غاب عليها الابن، وادعى أنه وطئ كان فوتًا. وقال المخزومي في كتاب محمد: له أن يعتصر إن كان قد وطئ لأن الوطء ليس بزيادة ولا نقص، وإذا تعلق بالهبة حق الغير امتنع الاعتصار مثل: أن تتزوج البنت أو يستدين الابن، لأن الناس إنما داينوه على الهبة. وقال ابن دينار في كتاب ابن حبيب: له أن يعتصر في الابن بعد التزويج ولا يعتصر من الابنة، لأن للابن مخرجًا مما دخل فيه وليس للابنة لأن زوجها يقول لها: إن اعتصرت (منك الهبة) فارقتك، وظاهر كلام القاضي أن تزويج البنت ليس كتزويج الابن لأنه مثل في البنت بالتزويج وفي الابن (بالاستدان). قال ابن القاسم: من وهب لابنه الصغير دنانير فصاغها حليًا فليس له أن يعتصرها، لأنه أحالها عن حالها، ولو كان أرضًا فغرسها أو بناها، كان ذلك فوتًا، وكذلك إذا كانت دارًا فانهدمت إلا أن يعتصر العرصة وحدها، فله ذلك ولو هبه زيتًا أو قمحًا ونحو ذلك مما لا يعرف بعينه، فاختلط كان ذلك فوتًا يمنع الاعتصار وقيل: ليس بفوت.

كتاب الوصايا والمواريث والفرائض

كتاب الوصايا والمواريث والفرائض قال القاضي -رحمه الله-: "كتاب الوصايا والمواريث والفرائض، الوصية مندوب إليها، وفيها احتياط للدين". شرح: الأصل في الوصية قوله -عز وجل-: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 180]، وقال تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء: 11]. قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبين ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة). وقد اختلف الفقهاء في حك الوصية، فقال الجمهور: هي مستحبة. وقال أهل الظاهر: هي واجبة لمن عليه أو له حق، تمسكًا بظاهر لفظ الخبر والصحيح أنها مندوب إليها، لما فيها من التحرز والاحتياط، إذ الإنسان لا يدري متى يأتيه أجله وقسمها الشيخ أبو الحسن اللخمي إلى أقسام الشريعة الخمسة: واجبة

ومحظورة، ومندوب إليها، ومكروهة، ومباحة، فتجب بما قبله من حقوق الله سبحانه مما فرط فيه من زكاة أو كفارة واجبة بيمين أو عتق أو بما قبله من حقوق الآدميين من المعاملات (والمعاوضات) وغير ذلك إذا لم يتقدم الإشهاد على ذلك في حال الصحة، وإن كانت الوصية تقتضي معصية أو حثًا على قطيعة رحم أو نحو ذلك فهي محظورة. وسمعت بعض شيوخنا يحكي عن بعض السفهاء الجهلة في الحقيقة من الأعيان أنه أوصى إذا مات أن ترجم السماء بالحجارة ونحو ذلك أن يوصي بالنياحة وغير ذلك من شئون الجاهلية، فإن اقتضت الوصية صدقة أو نوعًا من أنواع الطاعات كانت مستحبة مندوبًا إليها إذا كان ذلك لا يضر بالورثة، فإن كان المال قليلاً، وكان الذي يرجى من فضل تركه للورثة لما علم من (سوء) حالهم أحسن ما يرجى من الوصية به كانت الوصية بالمال مكروهة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنك إن تذكر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث فإن كان الورثة مياسر لم يكن في الوصية كراهة، فإن تقارب الحال كانت مباحة، وذلك إذا لم تقتض طاعة ولا معصية ولا مضرة على الورثة، وفي قسم المكروه منها أن تكون له قرابة فقراء فأوصى لأجنبي مع وجود القرابة الفقراء، وفي قسم المكروه منها أن تكون قرابة فقراء فأوصى لأجنبي مع وجود القرابة الفقراء، فلا خلاف إن جعلها في الأجنبي أنها مكروهة مع وجود القرابة.

قوله: "وفيها احتياط للدين": يعني أن بها التخلص من الحقوق التي عليه من حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين وبعضهم (يرويه) للمدين هو تصحيف. قوله: "وللموصي في ماله الثلث": لا تجوز الزيادة عليه إلا بإذن الورثة، لقوله -صلى الله عليه وسلم- حديث سعد: (الثلث والثلث كبير). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله أعطاكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم). فإن أذن بعض الورثة في الزيادة على الثلث، ومنع بعضهم منه جاز ذلك في حق من أجازه وامتنع في حق من منعه، لأنها حقوق لهم فمن شاء طلبها، ومن شاء تركها ولا تجوز الوصية للوارث لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله -عز وجل- قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث). فإن أجازها الوارث مضت عند الجمهور خلافًا لمن منع ذلك نظرًا إلى أنها وقعت فاسدة ي الأصل، وعندنا أن وقوعها بصفة الوقف على خيار الورثة لا لصفة الفساد وإذا وقعت الوصية للوارث والأجنبي وقعت المحاصة فيرد من ذلك من ناب الوارث إذا رده الورثة، ويمضي ما ناب الأجنبي، ومن لا وارث له كمن له وارث لا يتعدى الثلث عند جمهور أهل العلم، من أهل العمل من قال له الوصية بجميع ماله وهو قول أبي حنيفة.

ومبنى الخلاف على بيت المال (هل هو وارث محقق أم لا؟ ومذهبا أنه وارث محقق فكما لا يجوز لمن له وارث مجاوزة الثلث، كذلك لا يجوز لمن ورثه بيت المال) وإذا استأذن الورثة في الوصية لوارث، أو في الوصية بأكثر من الثلث جاز ذلك إذا كان في حال المرض المخوف فإن استأذنهم في حال الصحة لم يلزمهم ذلك، والفرق أنهم في حال المرض يملكون الحجر عليه، ولا يملكون ذلك في حال الصحة، فكان حقهم إنما يتعلق بالمال في حال المرض لا في حال الصحة، فإذنهم له في حال الصحة كإذن الأجنبي لا يفيد شيئًا، وإذا استأذنهم (سفرًا فأذنوا له ففي لزوم ذلك كله قولان: أحدهما: اللزوم إذا كان سفرًا بعيدًا مخوفًا، والثاني: نفي اللزوم لأنهم لا ضرورة لهم) على الحجر عليه في هذه الحال، ولأن تصرفه فيها من رأس ماله بخلاف المرض. قوله: "من غير خوف في الحال التي يتعلق لهم حق بمال الموصي" يريد إذا كان الوارث في عيال الموصي، وفي نفقته فيخاف إن لم يأذن له أن يقطع عنه النفقة، أو يكون له عليه دين فيجحف به، أو يكون ذا سلطان فيرهبه، واختلف في الزوجة، قال مالك: لها أن ترجع. وقال أشهب: ليس كل زوجة لها أن ترجع، ولو وهب ميراثه من موروثه لرجل، والموروث صحيح، فهل يلزمه لأنه التزمه بشرط الملك، أو لا يلزمه فيه قولان حكاهما الشيخ أبو الحسن وغيره. قوله: "وليس للمريض المخوف عليه إخراج ماله في غير معاوضة": يريد أن هباته وعطاياه موقوفة، فإن صح لزمته من رأس المال، وإن مات كانت في الثلث (ويجوز أن يشتري ابنه) وإذا كان عبدًا بثلث ماله، وهل له أن يشتريه في مرضه بكل ماله أم لا؟ قولان: المشهور أنه ليس له ذلك وقال محمد بن مسلمة: يجوز أن يشتريه بكل ماله، ولا خلاف في جواز استلحاقه،

ومن أوصى لرجل (بنصيب) أحد بنيه فللموصى له كل المال، وإن أوصى له بنصيب أحد ورثته اعتبر بالرؤوس، وكان له جزء من الأجزاء على حسب عدد رؤوسهم، لأن الأنصباء مختلفة، فليس الأكثر منهما بأولى من الأقل، فلم يبق إلا اعتبار عدد الرؤوس، هذا مقتضى المذهب، ونصوص الروايات. قال القاضي: "وفي السهم والجزء خلاف". فمنهم من قال: يعطي الثمن، ومنهم من قال: يعطى السدس، وقيل: يعطى سهمًا واحدًا مما بلغت سهام الفريضة وتصح وصية السفيه المحجور عليه لتبذير ماله، لأنه إنما منع (لإتلاف) ماله خوف الفقر عليه، والوصية إنما تنفذ بعد موته أمن الفقر عليه، وكذلك المجنون في حال إفاقته، وتجوز وصية الصبي الصغير المميز الذي يعقل القربة، وإن لم يبلغ خلافًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وصح جواز ذلك عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم، هذا إذا كان عارفًا (بوجه القرب) ابن عشر سنين أو (فوق) ذلك بيسير، وروى عنه ابن تسع سنين. قال: ابن وهب: وأصبغ تجوز وصيته إذا عقل الصلاة وهذا أقل ما قيل، وقال ابن الماجشون: إذا كان يافعًا مراهقًا، وجوازها من السفيه (إشعار) بجوازها من الصبي لأن كليهما محجور عليه في مال لحق نفسه. قوله: "وللموصي أن يعين النوع الذي يوصي فيه، ولا يكون للوصي أن ينظر في غيره، وله أن يطلق فيكون (الوصي) وصيًا في كل شيء

يوصى (به) " وهو كما ذكره، لأن الوصي وكيل والوكيل قد يكون مفوضًا إليه، وقد يكون مخصوصًا، وله أن يوصي وصيين كما له أن (يوصي بثلث ماله إلى وصي، وبالنظر في ولده إلى آخر لأن الوصية وكالة، وله أن يوكل في حقوقه كلها وكيلاً واحدًا، وله) أن يوكل عدة وكلاء، فإذا أوصى بنوع مخصوص لم يكن للوصي مجاوزته إلى النظر في غيره، فإن أطلق فقال: أنت وصي عمت الوصية كل شيء (وكذلك) له النظر في المال والولد، وله إن أطلق أن يوصي بما أوصى إليه به أو ببعضه عندنا خلافًا للشافعي. واختلف المذهب عندنا إذا أوصى له بنوع مخصوص، ولم يذكر قصره عليه، ولا أنه ليس له النظر في غيره هل تتعدى الوصية إلى غير ما عين له لأجل التنصيص عليه. حكاه القاضي أبو محمد وغيره عن المذهب، وفيه روايتان. قال مالك: إذا قال فلان وصى فقد استقصى وبالغ، يعني: أنه وصى على المال والولد، ولو قال فلان وصي على مالي دخل الولد، ولو قال: على ولدي وابني دخل المال، وكان وصيًا في الجميع المال والولد، وإذا أوصى وصيين فليس لأحدهما التصرف إلا بإذن شريكه، فإن باع أو ابتاع بغير إذنه فأراد الثاني فسخ فعله نظر فيه السلطان، فإن رآه سدادًا أمضاه، وإن رآه غير سداد رده. قال أشهب: إلا في الشيء التافه اليسير كالطعام والثوب يحتاج إليه اليتيم في غيبة أحد الوصيين، فيشتريه الثاني ولو لم يشتريه الثاني ولو لم يشتره أضر اليتيم، وليكن المال عند أعدلهما ولا يقسمنه، وقال علي بن زياد: إن تشاحا في ذلك اقتسماه، وإذا اقتسامه لم يكن لأحدهما أن ينفرد بالعمل، فإن انفرد فهو متعد، وعليه ضمان جميع المال إن هلك ما في يده وفي يد

صاحبه، لأنه تعدى بالنظر فيما عنده فضمنه وترك النظر فيما في يد صاحبه فضمنه. هذا (نص) الروايات. وإذا أوصى زوجته على أنها لا تتزوج فتزوجت نزعت الوصية عنها إذا شرط الموصي ذلك في وصيته، فإن أوصى زوجته من غير شرط فتزوجت لم تنزع الوصية منها إذا تزوجت، ولكن يكشف عن حالها وحال الزوج، فإن كانت قد عزلت الأيتام في بيت، وأقامت لهم ما يصلحهم فهي أولى بهم، ولو قال الميت: انزعوهم منها إن تزوجت لم ينزعوا منها، لأن الميت لم يقل هي معزولة إذا تزوجت، وإنما قال: انزعوهم منها إن تزوجت لم ينزعوا منها، فإذا كانوا معها في حرز وحفظ وكفاية وحسن قيام فيه (أحق) بهم. قال ابن القاسم: إذا كان المال يسيرًا وهي مكتفية ذات حال لم تنزع الوصية منها وإن كان المال كثيرًا وهي فقيرة نزع منها. قوله: "ولا يترك الفاسق وصيًا" وهذا كما ذكره. قال أهل المذهب: ولا تجوز الوصية إلى غير عدل فهم بما جعل له من النظر، ويرد فعله، لأن المال قد انتقل عن الميت إلى غيره، فلا يجوز أن يليه إلا مأمور ثقة، ولا تجوز الوصية إلى الذمي، وأجاز أن يوصي إلى زوجته النصرانية وأخيه النصراني ليصل بذلك رحمه، والذي يخشى على الأولاد بذلك أعظم مما يخشى على المال، ومما يرجى من ملة الرحم، لأن النصراني لا ينفك عن شرب الخمر وأكل الخنزير، وعبادة الأصنام وتعظيم غير الله. وتصح الوصية من الأب ولا تصح من الأم مع وجود الأب أو وصية ولا مع عدمها. واختلف في جواز وصيتها فيما يرث ابنها عنها، إذا كان يسيرًا كالخمسين دينارًا ونحوها فأجيز ومنع، ومذهب ابن القاسم جواز وصيتها في الشيء اليسير. قوله: "ومن أوصى له بشيء بعينه فتلف فلا شيء له" وهذا كما

ذكره، لأن الوصية إنما تعلقت بشيء معين فتذهب بذهابه، وكذلك الهبة والصدقة، ولا خلاف في ذلك (وهو) كالدابة المعينة المستأجرة إذا ماتت انفسخت الإجارة فيها، فإن تلف ثلثا تلك العين المعينة فالثلث الباقي للموصي إن احتمله كل المال، ولو كانت الوصية لجماعة فمات واحد منهم قبل موت الموصي ولم يقبل ففيها ثلاث روايات عن مالك، فقال مرة: ليس للورثة أن يحاصوا الورثة بنصيب الميت علم الميت بموته أم لا؟ وقال مرة: لورثة الموصي أن يحاصوا أهل الوصايا بنصيب الميت، علم الميت بموته أو لم يعلم، وقال مرة: إن لم يعلم الموصي بموته حاصوا وإن علم بموته لم يحاصوا، لأنه إذا علم فترك الوصية على ما هي عليه رضى بكونه باقيًا على حكم الوصية، وإنما جعل لهم أن يحاصوا على الرواية الأولى، لأن الميت جعل الوصية بين الجميع فلم يستحق الباقي من الموصى لهم نصيب الميت كما لو لم يمت، وأما الرواية بأنهم لا يحاصون فلأن الموصي قد صرف المال إليهم، وأخرجه عن تركته فلم يجز أن يرجع شيء منه ميراثًا، لأن الوصية بإخراجه تناقض ذلك. قوله: "ومن أوصى بنفقة عمره عمر سبعين سنة" هذا مشهور المذهب في التعمير، وقيل: إنه يعمر تسعين سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، والصحيح

هو الأول لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين) فإذا عمر جعل قدر نفقته على يد أمين فينفق عليه شهرًا شهرًا، فإن مات قبل استيفاء ذلك رجع باقي النفقة لورثة الموصي، وإن عاش زيادة على التعمير فهل يرجع على أهل الوصايا فيحاصهم أم لا؟ قولان. المشهور أنه إذا عاش زيادة على التعمير فلا شيء له. وقال أشهب: يرجع عليهم، ومبناه على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ وهذه النفقة في الثلث لأنها وصية فكانت في الثلث كسائر الوصايا والله تعالى أعلم. قوله: "والحامل إذا بلغت ستة أشهر والمحبوس للقود": والزاحف في الصف وراكب البحر في زمن العطب كالمريض المخوف عليه يجب الحجر عليهم، ولا يتصرفون إلا في الثلث إلا فيما يحتاجون إليه من النفقة والكسوة فلا حجر عليهم في ذلك وهو من رأس المال أيضًا، ولا يمنون من التصرف بالمعاوضة إذا لم يكن فيها محاباة. وأشار القاضي إلى الخلاف في راكب البحر في اللجة، وهو بناء على أن الغالب فيه السلامة، وقد قال سحنون في راكب البحر في؟؟؟؟؟: فقد برئت منه الذمة، يعني أنه عاص في الركوب مغرر بنفسه. قال ابن القاسم في راكب البحر في زمان اللجة: حكمه حكم الصحيح. وقال أشهب: حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر. قوله: "وتجب الوصية بموت الموصي وقبول الموصى له بعده" وهذا كما ذكره، فإن الوصي ما دام حيًا فله الرجوع في وصيته، وله أن يغير منها ما شاء إلا التدبير. (قال مالك: وهو الأمر المجمع عليه عندنا الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن للموصي أن يغير من وصيته ما شاء الله التدبير) فإذا مات الموصي قبل قبول الموصى له عادت ميراثًا، ومن أهل

العلم من قال: إن الوصية تدخل في ملك الموصى له بنفس الموت دون القبول وهو أحد قولي الشافعي. والصحيح أنها مفتقرة إلى القبول كالهبة في حال الحياة، ولو مات الموصى له قبل أن يقبل أو يرد فهل لورثة الموصى له القبول والرد كما كان لمورثهم أو تبطل الوصية، وتعود ميراثًا قولان. واختار الشيخ أبو بكر الأبهري أنها تعود ميراثًا، لأنه الأصل، والصحيح أن ذلك حق وجب للموصى له فورثته يتنزلون منزلته. قوله: "وإذا ضاق الثلث عن الوصايا قدم آكدها على ما دونه": هذه مسائل التبدئة، وأول ما يبدأ به من رأس المال كفن الميت وحنوطه وما يلزمه في مواراته، ثم ديون (الخلق) ثم زكاة تحل عليه وهو مريض فيوصى بها، أو لا يوصى فتخرج من رأس ماله (في الحب والماشية، واختلف في زكاة العين إذ علم بها ولم يفرط فيها، فقال ابن القاسم: إن أوصى بها كانت من رأس ماله) وإلا فلا تخرج منه ولا من الثلث وقال أشهب هي من رأس المال أوصى بها أم لا لاتفاقهم على زكاة الحب والماشية، قال محمد في مريض قيل له: أخرج زكاة مالك؟ قال: لا حتى (إن) برئت أخرجتها أنها لا تخرج إلا أن يوصي بها فتكون في الثلث، وقيل: في رأس المال، وقال فيمن عليه هدى تمتع أنه من رأس ماله إلا أن يفرط فيه فلا يكون في ثلثه ولا في رأس ماله، وأول ما يبدأ به في الثلث عند ضيقه صداق (المنكوحة في) المريض إذا أدخل بزوجته، ثم المدبر في الصحة، ثم ما فرط فيه من زكاة أو كفارة، ثم المبتل والمدبر في المرض ثم الموصى بعتقه المعين، فإن فضل شيء تحاص فيه أهل الوصايا. قال أهل المذهب: الموصى به أربعة أنواع: أحدها: ما أوجبه القرآن.

والثاني: ما أوجبته السنة. والثالث: ما أوجبته الموصي على نفسه. والرابع: ما أوصى به ولو يوجبه. فإذا اشتملت الوصية على هذا كله وضاق الثلث عن ذلك ابتدئ بما جاء في القرآن، فإن كان فضل ابتدئ بما جاء في السنة، ثم بالتطوع بعد ذلك، وأوجب الزكاة والعتق عن القتل والظهار والإطعام والنسك وجزاء الصيد وفدية الأداء، وكفارة الأيمان. فإذا اشتملت الوصية على هذا كله قدمت زكاة الأموال ثم الفطر، ثم الهدي، ثم الكفارة على الفطر في رمضان، وهكذا على ترتيب الآكد فالآكد، واختلف في العتق المعين هل هو مبدأ على الزكاة، وهو المشهور، أو الزكاة مبدأة عليه، لأنها من حقوق الله سبحانه وهو قول عبد الملك وكذلك اختلف في كفارة القتل، والظهار، فقيل: هما سواء، وقيل: كفارة القتل أوى لحرمة النفس وإذا قلنا بالتسوية، فقيل: يقرع بينهما، وقيل ذلك إلى الورثة، والأول أصوب، وإن لم يكن في الوصايا شيء مما تضمن القرآن، وجاءت به السنة بدئ بالعتق المعين على سائر الوصايا. وقال أشهب: قد بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهم- قضوا بذلك، ولو أعتق عبدين في كلمة تحاصا، وقيل (يتقارعان) ولو عجل عتق أحدهما بمال والآخر على غير مال بدئ بمن لم يجعل عليه مال، واختلف إذا عجل الثاني ما عليه من المال فقيل: يتحاصان وهو الصواب، وقيل: يقرع بينهما. قوله: "وتجوز الوصية للقاتل وللذمي وللميت إذا علم الموصي بموته" وهذا كما ذكره، ونبه على خلاف الشافعي حيث منع الوصية للقاتل عمدًا

أو خطأ، (ومذهبنا صحة الوصية للقاتل عمدًا أو خطأ) لأنها هبة (فالقتل لا يمنعه) اعتبارًا بحال الحياة، وكذلك يجوز عفو الرجل عن قاتله (عمدًا) ولا يجوز ذلك في الخطأ إلا أن تكون الدية ثلث التركة أو أقل، والفرق بينهما أن الواجب بقتل العمد قود، وليس فيه إخراج مال عن الورثة، والواجب بقتل الخطأ مال، وليس له في المال إلا الثلث، ولو قتله الموصى له عمدًا بطلت وصيته، وإن قتله خطأ لم تبطل وصيته كالميراث وكذلك الوصية للذمي، لأن هبته له جائزة على كراهة لقطع المواصلة بيننا وبينهم بالكفر ولو أوصى لميت علم بموته قضيت منها ديونه وزكاته وكفاراته إن كانت عليه، فإن لم يكن عليه شيء من ذلك كانت لورثته، وهذا أيضًا تنبيه على مذهب الشافعي وأبي حنيفة حيث قالا: لا تصح الوصية للميت بحال، الصحيح ما ذهبنا إليه، لأن الموصي إذا أوصى له وهو ميت، فإنما قصد صرف الوصية في مصالحه، وإنما منعها الشافعي وأبو حنيفة لأن من شرط الوصية تملكها للموصى له، والميت لا يصح تملكه وهو منصوص بالوصية للقنطرة والمساجد وغير ذلك. قوله: "ومن أوصى بنوع من تركته" وهي أنواع كثيرة من عقار، وناض، ورقيق وعروض، وديون فأوصى بجملة الناض لرجل، فأبى الورثة أن يجيزوا فإنهم بالخيار بين أن يجيزوا (أو يخلعوا) جميع الثلث. وهذا كما ذكره لأن للورثة أن يقولوا: لا نأمن أن تتلف الديون والعروض قبل القبض والقسمة، فليس له تخصيص الموصى له بالعين لما في ذلك من الإضرار بنا، ولو كانت التركة كلها صنفًا واحدًا عبيدًا كلها أو دنانير أو عروض كلها، فأوصى منها بشيء بعينه هو الثلث فأقل جاز وليس للورثة أن يقولوا له: لك الثلث شائعًا.

فصل في أسباب التوارث

وإذا فرعنا على ما ذكرناه من أن لهم الممانعة في (التعيين) مع اختلاف التركة فيهم بالخيار كما ذكره القاضي بين أن يجيزوا ما أوصى به أو يقطعوا له الثلث في التركة، واختلفت الرواية هل يقطعون له بالثلث في جميع التركة، أو في الشيء الموصى له به، فقال مرة: إذا لم يجيزوا الورثة قطعوا له بالثلث شائعًا. وقال مرة: يفض الثلث على العين التي أوصى له بها. وجه الرواية الأولى: أنهم يقطعون بالثلث شائعًا أن الموصى تعدى بالتعيين إلى ما ليس له، فوجب رد تعديه فصار في حكم من أوصى بالثلث ابتداء. ووجه الرواية الثانية: أن الموصي لما عين لم ترد الوصية إلا بما عين خاصة ووقوع الشركة في عين واحدة أولى منها في الجميع ويحط ذلك الزائد من الموصى به خاصة، لأنه وإنما جعلنا لهم المقال في (العين التي عينها)، إذ لهم أن يقولوا: هذا الذي عين الميت فيه زيادة على الثلث، فإذا رجعوا إلى تقويمه، وأخرجوا له الثلث جعلوه في العين التي عينها الموصي فيحصل فيه أمران مراعاة (قصد) الموصي بالتعيين، ونفى الضرر عن الورثة بالتعيين، وهذا الذي (اختاره) الأشياخ. فصل قال القاضي -رحمه الله-: "أسباب التوارث ثلاثة: نسب وولاء ونكاح" والعلل المانعة من الميراث ثلاثة: كفر، ورق، وقتل. شرح: الميراث يكون بوجهين: نسب وسبب، فالنسب: الرحم، والسبب: الولاء والنكاح. أما (التوارث) فالأصل فيه آية الفرائض، وقد

تضمنت ذكر ميراث الزوجات والأزواج فتضمنت -إذن- السبب والنسب، والميراث بالولاء ثابت بالإجماع كما قدمناه، وقد كانوا في الجاهلية يتوارثون بالنصرة والهجرة (والمحالفة وورث أبو بكر الصديق حليفًا له في الجاهلية في بني زهرة) فنسخ الإسلام ذلك لقوله تعالى: {وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 75] ولا توارث بين أهل الكفر والإسلام عند جمهور أهل العلم وقالت طائفة من العلماء: يرث المسلم الكافر. وقال به محمد بن الحنفية ومعاذ بن جبل ومعاوية: لأن الإسلام يكون سببًا في المنع والحرمان، إذ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه والصحيح الاعتماد على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم). وفي لفظ آخر: (لا يتوارث أهل ملتين). واتفق العلماء والصحابة والتابعين أن من لا يرث لأجل الكفر لا يحجب إلا عبد الله بن مسعود فإنه حجب بالابن الكافر من يحجب بالابن المسلم وهذا ضعيف، لأن الله أنزله في الميراث معدومًا، فكذلك في الحجب، ولأن المذكور في قوله تعالى: {يوصيكم الله} [النساء: 11] سهمًا هو الذكور في قوله: {فإن لم يكن له ولد} [النساء: 11] حجبا، فلا فرق

بين الحجب والميراث إذًا ولما كان الميراث مبنيًا على التساوي في الحرمة، والحرمة بين الكافر والمسلم والعبد والحر غير متساوية، امتنع الميراث ومن فيه بقية رق كالرق المحض عندنا. وقال الشافعي: يرث ورثته نصيبه الحر، وقال بعضهم: ميراثه لبيت المال لا لسيده والصحيح ما ذهب إليه المهور من أن أحكام الرق غالبة عليه في الشهادة والحدود وغير ذلك. واختلف العلماء في القاتل هل يرث أم لا؟ فمنعه قوم مطلقًا في العمد، وفي الخطأ، وزعموا أن القاتل لا يرث المقتول بحال، وقال قوم: إنه يرث مطلقًا. وفرق مالك بين العمد والخطأ، فزعم أن قاتل العمد لا يرث شيئًا وقاتل الخطأ يرث من المال دون الدية، وإنما فرق بينهما أن قاتل العمد يتهم في استعجال الميراث فمنع منه معاملة له بنقيض غرضه، وهؤلاء زعموا أن الحكم غير معلل بالقتل بنفس كونه قاتلاً عند المحققين من الأصوليين، فالمستولدة تقتل سيدها فتعتق اتفاقًا، ويلزم على مقتضى التعليل أن لا تعتق معاملة لها بنقيض مقصودها، وينتقض أيضًا بالمستحق للدين يقتل من له عليه دين قبل الأجل فعجل دينه فيلزم أيضًا أن لا ينجز معاملة له بنقيض قصده، فلو كانت هذه العلة سديدة على مقتضى التعليل أن لا يعتقا لجاز طرد القول بموجبها في المستولدة، وفيمن عليه الدين، وقال: قدم قوم الحرمان نوع عقوبة ولا عقوبة على الخاطئ، والقائلون وبالفرق ينقسم الخطأ عندهم إلى مباشرة وسبب. فالشافعي عمم الحرمان وأبو حنيفة خصص بالمباشرة، وقال: من حفر بئرًا عداوة فتردى فيه قريب لم يحرم ميراثه، إذ ليس قاتل حقيقة ثم القتل منه ما يصدر من مكلف، ومنه ما يصدر من غير مكلف كالصبي والمجنون، والشافعي عمم الحرمان بقتل الصبي والمجنونة، وأبو

حنيفة قال: لا عقوبة على الصبي والمجنون إذ هما غير مكلفين، وهذه مسائل قد اختلف فيها فقهاء تعلقًا منه بالمعنى المستنبط من النص المعلل به كما تقرر في أصول الفقه. قوله: "ولا يرث الجنين إلا بعد وضعه والعلم بحياته" وهذا كما ذكره، إذ لا ميراث بالشك والصراخ والاستهلال والإرضاع، وطول المكث أمارة على الحياة. واختلف في التثاؤب والعطاس والمرتد مراعى بأحد أحكامه، فإن تاب فله أحكام الإسلام، وإن مات على ردته فماله للمسلمين، ولا توارث بين الغرقى والهدمى، إذ لا ميراث بالشك، وميراث ولد الملاعنة لأمه ولإخوته لأمه، وما بقي فالموالي أمه إن كانت معتقة، وإن كانت عربية فللمسلمين، وقال ابن مسعود: هي عصبة فما بقي عبدها وبعد إخوته فلها، وإن لم تكن هي فعصبتها عصبته، وولد الزنى لا حق بأمه، والحكم فيه كالحكم في ولد الملاعنة). قوله: "ويتوارث توأمها بأنهما (إخوة) لأم وتوأما الملاعنة شقيقان" (أما توأما الزنا فإخوة لأم) لا غير، إذ النطفة نطفة شيطان، فليس للزاني فيها شيء حكمًا، وإن كان له ذلك حسًا، وأما (توأما الملاعنة فهم إخوان لأب وأم لأن لعان أبيهم سقط نسبه منهم دون توارثهم بينهم، هكذا علله القاضي أبو محمد وغيره من شيوخ المذهب وفيه نظر، لأن اللعان إذا قطع نسبهم من أبيهم، فليسا منسوبين إلى أب (فكيف يتوارثا بأنهما إخوان لأب) فحينئذ لا معنى للعان قوله: "ولا يقبل دعوى الأعاجم في السبي

لأنسابهم إلا ببينة"، وهذا كما ذكره، فلو قال القائل منهم: هذا أخي وهذا أبي، أو هذه ابنتي، فلا يقبل قوله في ذلك لأنه يتهم أن يريد بذلك قطع ميراثه من بيت المال، وكل بلدة افتتحت عنوة ثم سكنها المسلمون، وأسلم أهلها فإنهم يتوارثون بأنسابهم التي كانت في الجاهلية كما كانت العرب حين أسلمت، وأما كل قوم تحملوا فإن كانوا عددًا يسيرًا، فإنهم لا يتوارثون إلا ببينة عادلة من أسارى المسلمين الذين عندهم. وأجاز مالك شهادة من دخل عندهم من التجار، وقيل: إذا شهد لهم العشرون رجلاً توارثوا، وإن لم تكن العشرون فما قرب من ذلك، وقال سحنون: لا يتوارثون إلا ببينة عادلة ولو كانوا مائة. قال مالك: ولو طالت المدة وهم متناسبون على ذلك، ولا أحد ممن قدم ينكر ذلك عليهم من أهل موضعهم، فإن ذلك يصير (حوزًا) يتوارثون به وإن لم يكن شهادة، وإذا مات رجل وترك ولدين مسلمًا ونصرانيًا، فادعى كل واحد أنه مات على دينه ولا بينة على ذلك تحالفا، واقتسما ماله. واختلف إذا لم يعلم أصله هل يرجح بصلاة المسلمين عليه، فلم ير ذلك ابن القاسم. وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: إذا كان ذلك بحضرة النصارى فهو قطع لدعواهم إلا أن يكون لهم عذر في السكون، ولو أقاما بينة فتكافتا قسم المال بينهما، وقيل: المال للمسلم إذا كان غير معروف في النصرانية. قوله: "وما فضل عن ذوي السماح للعصبة، فإن لم يكونوا فللموالي، فإن لم يكونوا فلبيت المال ولا يريد على ذوي السهام": وهذه المسألة مشهورة بالخلاف بين سلف الصحابة والتابعين، فعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وغيرهما يقولان بالرد، قال: والجمهور بعدم الرد، وعليه معتمد مالك وأصحابه واتفق القائلون بالرد على أنه لا يرد على زوج ولا

زوجة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الحقوا الفرائض بأصلها فما بقي فلأولى وارث ذكر). قوله: "ولا ميراث لذوي الأرحام": وهذا مذهب مالك وقال أبو حنيفة: بتوريث ذوي الأرحام اعتمادًا على ظاهر الآية: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله} وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم-: (أن رجلاً مات على عهده وترك عمة وخالة، فدعى لجنازته، ثم قال: لا أجد لكما في كتاب الله شيئًا) يعني: العمة والخالة. وفي لفظ آخر: أن جبريل أخبره أنه لا شيء لهما واعتمد مالك في منع ذوي الأرحام على عمل أهل المدينة، إنه لنعم الدليل. قوله: "ويعتبر في الخنثى بالمبال، وفي المشكل نصف الميراثين" وقضى بذلك ال 3 صحابة. قال أهل المذهب: يرث الخنثى بمباله وتكون أحكامه في شهادته ونكاحه ودينه وغير ذلك تابعة للمبال فإن أشكل فله نصف ميراث الذكر، ونصف ميراث الأنثى وفيه خلاف. والخنثى المشكل لا ينكح ولا يُنكح، ولا يكون أبًا ولا أمًا، وقد قيل: إنه وجد من ولد له من صلبه ومن بطنه فإن صح ورث من ابنه من صلبه ميراث الأب كاملاً، والمشكل: هو الذي تجتمع فيه صفات الذكر والأنثى كاللحية والثديين والمبال من كلا السبيلين، فإن بال من أحدهما أكثر كان الحكم له، وقد قيل: إنه يعتبر بعدد الأضلاع. وحكى أبو محمد عبد الحق وغيره من مشايخ القرويين في المشكل: إذا زنى بذكره لم يحد، وإن زنى بفرجه حد، والظاهر أنه يحد اعتبارًا بما ذكرناه من أنه يرث بالوجهين.

قوله: "وإذا اجتمع في الشخص سببان يرث بهما ويرث بأقواهما" وهذا تنبيه على مذهب أبي حنيفة القائل بأنه يرث بالسببين جميعًا، ومذهب مالك أنه يرث بالسبب الأقوى إلا ابن العم يكون أخًا لأم، فإنه يرث بالسببين عندنا الإخوة للأم والعصبة، وكذلك الزوج يكون ابن عم، وكذلك البنت والزوج يكونان موالي كما فسره القاضي -رحمه الله-، وأما الأخت للأب والأم، فقد اجتمع فيها سببان لأن كونها اختًا لأب يوجب لها النصف، وكونها لأم يوجب لها السدس، فإذا اجتمعت القرابتان لم ترث عندنا بالجميع، وورثت بالسبب الأقوى، وقال أبو حنيفة: ترث بالسببين. فصل قال القاضي -رحمه الله-: "والوارثون عشرة أصناف" (من الرجال ومن النساء سبعة) وهذا كما ذكره، أما العشرة فولد الصلب ذكورهم وإناثهم، وولد الابن ذكورهم وإناثهم وإن نزلوا، والآباء وإن علوا والأخ وابن الأخ وإن سفل، والعم وابن العم وإن سفل، والزوج، ومولى النعمة (ومن النساء سبع: الأم والجدة والبنت وابنة الابن وإن سفلت، والأخت كما كانت، والزوجة، ومولاة النعمة) والميراث تعصيب وفرض والفروض ستة كما ذكره القاضي: النصف، ونصفه، وهو الربع، ونصفه وهو الثمن، والثلث ونصفه، وهو السدس. فالنصف لخمسة: لابنة الصلب مع عدم الولد (وولد الولد لقوله -عز وجل-: {وإن كانت واحدةً فلها النصف} [النساء: 11] ولابنة الابن لأنها كابنة الصلب، وللأخت الشقيقة أو للأب لقوله تعالى: {إن امرؤٌا هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصف ما ترك} إلى قوله: {فلهما الثلثان مما ترك} [النساء: 176].

وهذا عام في الشقائق والتي للأب، وللزوج مع عدم الود لقوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} [النساء: 12] والربع فرض صنفين: الزوج مع وجود الولد أو ولد الابن، والزوجة أو الزوجات مع عدمهم لأنه مقتضى النص. والثمن: فرض واحد وهي الزوجة أو الزوجات مع الولد أو ولد (الابن) بمقتضى النص. والثلثان: فرض أربع الاثنتان فصاعدًا من بنات الصلب لقوله تعالى: {فإن كن نساءً فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} [النساء: 11] ومعناه فإن كن اثنين فما فوقهن فلهن الثلثان وهو إجماع الجمهور والاثنتان من بنات الابن، والاثنتان من الأخوات الشقائق لقوله تعالى: {فإن كانت اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} وللاثنتان من الأخوات للأب، وهذا مذهب الجمهور أيضًا. الثلث: فرض صنفين: الأم مع عدم وجود الولد، والإخوة والاثنان فصاعدًا من الإخوة أو الأخوات للأم لقوله تعالى: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء: 12]. وتحصيل الحجب بالأخوين الاثنين عندنا خلاف لابن عباس في قوله: إن الحجب لا يكون إلا بثلاثة بناء على أنه أقل الجمع، ومذهب عبد الملك بن الماجشون وغيره من أصحابنا أن أقل الجمع اثنان، ولا يقتضيه لسان العرب، لأنهم فرقوا بين المفرد والتثنية والجمع. والسدس: فرض سبعة على واحد من الأبوين مع وجود الولد أو ولد الابن وأحد فروض الجد وفرض الجدة والجدات إذا اجتمعت، وفرض بنات الابن مع بنت الصلب، وفرض الأخوات للأب مع الأخت للأب والأم، وفرض كل واحد من ولد الأمر ذكرًا كان أو أنثى، لأنه مقتضى النص. قال القاضي -رحمه الله-: "وكل واحد من الرجال إذا انفرد بالمال أحرزه إلا

الزوج والأخ للأم، وليس في الفساد من يجوز المال كله إلا الموالاة فقط": ثم ذكر الحجب وقسمه إلى حجب نقص وحجب إسقاط واستوفى ذلك كله على أتم وجه وأكمل بيان لا يحتاج إلى مزيد شرح، والقسم العملي من الفرائض مستقل بنفسه غير داخل في العمليات، وقد أفرد الناس له تواليف، وفرائض هذا الكتاب من أحسنها وأكثرها استيفاء، وكذلك فرائض ابن الهندي وغيرها، ومن أراد بسط القول في ذلك أخذه من الكتاب فلا حاجة إلى تكريره هنا والله فوقنا ويستعملنا (عملاً) يرضى به عنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.

كتاب الجامع

كتاب الجامع الجامع: مما اخترعه مالك في تأليفه لتضمنه أنواعًا (مفترقة) وأحكامًا متباينة لا يمكن نظمها في سلك واحد، فجمع لها كتابًا سماه جامعًا، فطرق للعلماء مسلكًا لم يعهد قبله. وأول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال من البلوغ، والنظر الصحيح الموصل إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة ما يجب له، وما يستحيل عليه ويجوز في أحكامه، وذلك بعد التلفظ بكلمتي الشهادة عن اعتقاده صحيح، ونية مطابقة. ومن أوجب الواجبات النظر في الدلائل والبراهين الموصلة إلى معرفة

الحق في كل المطلوب لمن فيه الأهلية لذلك، والتمكن منه، والقدرة عليه، وقد قال تعالى: {وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] ولهذا لم يكن للنفس (الناطقة) شيء (تتحلى) به وتكمل أزين من العلم بالله والفهم عن الله، ومطالعة حكم الله في آفاق العالم الأكبر والأصغر كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} الآية [فصلت: 53]، على ما فيها من تأويل مختلف بني العلماء شرحناه في موضعه، ومن عجز عن النظر، ولم يتأهل لذلك قلد من غلب على علمه وفضله. قال الله تعالى: {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43]. قوله: "والدعاء والذكر (والاستغفار) وقراءة القرآن من أفضل أعمال البر" وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، هو عليه شاق فله أجران). قوله: "والمساجد الثلاثة": منصوص على فضلها وتشريفها، وفضل الصلاة فيها، والبركة في الحرمين مرغب فيها من النبيين الكريمين إبراهيم لمكة، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- للمدينة، والذي استقر من مذهب مالك وعلماء المدينة أن مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- للمدينة، والذي استقر من مذهب مالك وعلماء المدينة أن مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من مكة وا لصلاة في مسجدها أفضل عنده من الصلاة في المسجد الحرام، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف

صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) زاد البغوي وغيره: (فإن الصلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في مسجدي). وفي صحة هذه الزيادة نظر، وهي حجة على مالك والشافعي والمكيين، وقد كره كثير من العلماء سكنى مكة، واختلف تعليل أهل العلم في ذلك، فقال بعضهم: لئلا يتمالؤوا على سكناها، وقال بعضهم: لأن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف الحسنات. قال الله العظيم: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ} [الحج: 25]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة وكانت الجحفة حينئذ سكنى اليهود، ومنزلاً للمشركين حتى يقال: إن ماءها وبي من شرب منه حم) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة). ويحتمل أن يكون على ظاهره وأن ذلك الموضع بعينه يكون روضة

من رياض الجنة، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن منه تبعث الأنوار، وانتشر الهدى والإيمان. وتنزيه القرآن عن الألحان صيانة له عن التشبيه بالشعار وغيرها من كلام المحدثين، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (زينوا القرآن بأصواتكم). وقال له أبو موسى: لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا والمراد حسن الصوت وتزيينه لا إخراجه إلى حد الإطراب والتغني. وقيل لصالح المري: هذه القراءة فأين البكاء، تنبيهًا من الله سبحانه له على أن المقصود من قراءته الخضوع عنده، والتدبر لآياته وتفهم معانيه، وقرأ بعض الطلبة على شيخه ختمة من القرآن، ثم أراد إعادته عليه ختمه أخرى فقال له: يا بني أتتخذ القرآن عملاً اقرأه على ربك في دياجي ليلك. وجعل القاضي قراءته على وجهين خشوع وحزن، وتعظيم على حسب الأحوال التي يقرأ فيها في (مكان) الخلوات وتجويد الألفاظ وغير ذلك،

وذلك مواهب الله سبحانه لأهل التوفيق جعلنا الله منهم بفضله. ولا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو خشية أن يناله العدو، وقد أجازه علماؤنا في الجيش الكثير الذي الغالب عليه الأمان والعز (والنصر). قوله: "وتنزيه المساجد" عن المباحات من أعمال البر وأكبر القرب لأنها بيوت الله المضافة إليها تشريفًا وتعظيمًا لعظمة من نسبت إليه. قوله: "اللعب بالنرد" قال -صلى الله عليه وسلم-: (من لعب بالنرد فقد عمس يده في الخنزير) وكذلك اللعب بالشطرنج لأنه من باب اللهو، والمؤمن إنما خلق لمعرفة ربه، وطاعته، وقد حكى عبن بعض السلف أنه أباح اللعب بها منهم عبد الله بن المغفل وغيره، وبه قال بعض الشافعية، لأن فيه تنبيه على معرفة الحروب، وقد قال مالك: من سعب بها مرة فهو مدمن ولا تقبل

شهادة من أدمن عليها. قوله: "وسماع الملاهي والمغاني حرام" قال الله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علمٍ} [لقمان: 6] قيل: إنه إشارة إلى الغناء، وقيل غير ذلك، والغناء بغير آلة أخف منه بالآلة وللفقهاء في سماعه اختلاف، فمنهم من حرمه، ومنهم من كرهه، ومنهم من أباحه وأن قسمًا منه حرام، وسئل الغزالي عنه ...

§1/1